روايات

رواية روح الفصل الثاني 2 بقلم نور الشامي

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية روح الفصل الثاني 2 بقلم نور الشامي

البارت الثاني

الفصل الثاني
روح
كانت أروقة المستشفى تضجّ بأصوات الخطوات السريعة، وصفير أجهزة الإنذار، ورائحة المطهرات التي تخترق الروح قبل الأنف. كانت روح تجري في الممر الطويل، شعرها المبعثر يتطاير خلفها، وصوتها يعلو بنحيبٍ مخنوق:
ميرااا… بنتي… فين بنتي… ميرا
اصطدمت بممرض، ثم دفعت الباب المؤدي إلى قسم حفظ الجثث، غير آبهة بصرخات الموظفين خلفها. ووقفت أمام الطبيب وهي تلهث، والدموع تتساقط بلا انقطاع:
بالله عليك… أنا أمها… وريني هي فين… وريني بنتي.. ابوس يدك يا حكيم
حاول الطبيب أن يهدئها، لكن نظرة الانكسار في عينيها كسرت تردده، فأومأ برأسه وأشار إلى الداخل. وخطت خطوات بطيئة، كأن قدميها تغوصان في بحر من الجمر، حتى وصلت إلى السرير المعدني البارد. ومددت يدا مرتعشة، وأزاحت الغطاء الأبيض عن الوجه الصغير… كان شاحبا ساكنا، كدمية فقدت الحياة. فـ شهقت روح شهقة كأنها انتزعت من أعماق روحها، ثم ارتمت على جسد ابنتها تضمه بكل ما بقي لها من قوة:
اصحي يا ميرا… بالله عليكي جومي… متسبينيش لوحدي… أنا جيت أهو… متروحيش وتبعدي عني يا بنتي بالله عليكي
لكن البرودة التي تسللت إلى كفيها كانت أقسى من أي رد، فأجهشت ببكاء مرّ، يهز جدران المكان. حاول الممرضون إخراجها، وهي تقاوم كالغريقة التي يتم انتزاعها من آخر نفس وحين خرجت، وقعت عيناها على سالم، زوجها، واقفا عند باب الممر ووجهه شاحب يختلط فيه الغضب بالحزن، وإلى جواره رانيا، بثوبها الأنيق ونظرتها القاسية. اندفعت روح نحوه، تمسكه من ياقة قميصه بعنف وهي تبكي وتصرخ :
إنت ال جتلتها… إنت السبب… إنت موت بنتك… جتلت بنتك ربنا ينتجم منك… ربنا ينتجم منك يا سالم
وقف سالم مذهولا وكأن الكلمات أصابته في مقتل، لكنه لم ينطق. أما رانيا، فدفعتها بعصبية، وهي تقول بحدة:
ابعدي عن جوزي يا قليلة الربايه… وبنتك التانية عندنا، احترمي نفسك بدل ما أخليكي تتحسري عليها كمان
كادت روح تسقط من قوة الدفعة، لكن يدا قوية أمسكتها قبل أن ترتطم بالأرض فـرفعت بصرها لتجد أمامها وجها تعرفه جيدا… ركان، ابن عمها، يقف بصلابة، وخلفه أربعة من رجاله بملابس سوداء. الصدمة انعكست في عيون الجميع، حتى روح نفسها. فاقترب منها، وعيناه تحملان مزيجا من الغضب والجدية، وصوته منخفض لكنه نافذ:
البقاء لله يا بنت عمي
نظرت إليه بدموع تسيل بلا توقف، وهمست بصوت مبحوح:
بنتي ماتت… والتانية هتموت معاهم… أنقذها بالله عليك… وبعدها اجتلني لو عايز… انا موافجه اموت بس هات بنتي و
لم تكمل، فقد غامت الدنيا أمام عينيها، وسقطت فاقدة الوعي بين ذراعيه وحملها ركان دون تردد، ثم التفت ببطء نحو رانيا وسالم، وعيناه تلمعان بوعيد صريح:
حضروا كفنكم… علشان مشكلتكم دلوجتي بجت معايا أنا
ثم خطي خارج المستشفى، وحراسه يحيطون به، بينما الصمت الثقيل يخيم على المكان، وكأن تهديده لم يكن مجرد كلمات، بل وعد مكتوب بالدم وبعد عدت ساعات كانت السماء رمادية، والهواء مثقل برائحة التراب الرطب، حين تجمّع الناس عند حافة المقبرة. سالم يقف وسط جمع من الرجال، عيناه غائرتان، وملامحه متصلبة، بينما النعش الصغير يستعدون لإنزاله إلى جوف الأرض. لكن قبل أن ترفع الفأس الأولى لفتح القبر، ظهرت سيارتان سوداوين توقفتا عند المدخل، ونزل منهما ركان، وبجواره ابن عمته أمجد، وخلفهما عدد من الحراس بملابس داكنة ونظرات حادة ووقف ركان أمام سالم، وصوته ثابت وقاطع:
البنت دي هتندفن في مدافن عيلة الجسار
رفع سالم رأسه بغضب وردد:
لع… ومش من حقك… دي بنتي، وأنا ال أدفنها مكان ما أنا عايز
لكن قبل أن يرد ركان، كان صوت طفولي يهتف من بين الحاضرين، بنبرة بريئة ممزوجة بالخوف:
ايوه يا عمو… بلاش تدفن ميرا أختي اهنيع… علشان بابا وحش… متدفنوهاش عنده
التفتت الأنظار إلى الطفلة، التي كانت رانيا تمسك بيدها بإحكام. حاول ركان أن يقترب منها، لكن رانيا وقفت حاجزا، تشد الطفلة إلى جانبها. وقبل أن تكتمل لحظة الشد والجذب، تقدمت فتاة طويلة القامة، بشعر أسود مسدل وملامح قوية… كانت ميرا الكبيرة، ابنة عم ركان وروح وسحبت الطفلة من يد رانيا بعنف، ثم صفعتها صفعة مدوية جعلت وجوه الحاضرين تتجمد من المفاجأة، وهي تقول بنبرة حادة:
الرجالة عندنا مش بيمدوش إيدهم على البنات… بس البنات بيمدوا. وإنتي… ليكي حساب لوحدك، وده هيكون معايا أنا. وواضح إنكم افتكرتوا إن بنت عمي لوحدها… فحبيتوا تعذبوها. بس أنتو متعرفوش إنها من عيلة الجسار… والعيلة دي مش بتسيب ولادها… حتى لو هما سابوها
وفي تلك اللحظة، تقدم ركان وأمجد، وحملا النعش الصغير بأيد ثابتة، واتجها به نحو وجهتهم بينما رجالهم يفتحون الطريق وسط صمت ثقيل فـ وقفت رانيا تلهث من الغيظ، والتفتت نحو سالم تصرخ بعصبية:
شايف بيعملوا إي؟! إنت ساكت ليه؟! اتصرف
لكن سالم اكتفى بالنظر إليها نظرة باردة، قبل أن يدير ظهره ويمشي، تاركا صوتها يتلاشى في هواء المقابر الكئيب وفي المساء كان الليل ثقيلا فوق بيت آل الجسار، والهدوء الذي يخيّم على الممرات لا يقطعه سوى صوت عقارب الساعة وهي تحفر في الصمت ثانية تلو الأخرى. في الغرفة، كانت روح غارقة في سبات مضطرب، ملامحها شاحبة، أنفاسها متقطعة، وكأن جسدها يرفض الراحة رغم الإعياء. حتي فتحت عينيها ببطء، فاستقبلها سقف تعرفه جيدا… لم تصدق في البداية، لكنها حين أدارت رأسها حولها، تجمدت أنفاسها. هذه غرفتها القديمة، كما تركتها الستائر نفسها بلونها الكريمي الباهت، الخزانة الخشبية التي تحفظ بين طياتها رائحة طفولتها، حتى المفرش المطرز على السرير، ما زال هناك، وكأن السنوات لم تمر فرفعت جسدها من الفراش، تتأمل المكان بعينين تملؤهما الدهشة والارتباك. ثم تمتمت بصوت مبحوح، تبحث عن أي حياة:
ميرا… ليان … فينكم يا بنات؟
خرجت من الغرفة بخطوات متعثرة، رأسها يلتفت في كل اتجاه، لكن الرد الوحيد كان صدى صوتها بين الجدران. قلبها بدأ يضرب بعنف، وكل خطوة تقربها من حافة الانهيار ووصلت إلى المطبخ، والذكريات تتزاحم في عقلها، كأن كل زاوية فيه تذكرها بوجع لم يندمل. عيناها وقعتا على سكين وضعت بإهمال على الطاولة. لم تفكر كثيرا… مدت يدها المرتعشة، قبضت على المقبض، ورفعت النصل نحو معصمها والدموع تحجب عنها الرؤية، وفكرة واحدة تسيطر عليها اللحاق بابنتها…. لكن فجأة، يد قوية أمسكت بها بعنف، سحبت السكين من قبضتها ورمتها على الأرض لتصدر صوتا معدنيا حادا. قبل أن تستوعب ما يحدث، صفعة مدوية ارتطمت بخدها، أفاقتها من دوامة اليأس كان ركان الذي يقف أمامها، وجهه مشدود، عيناه تقدحان غضبا مرددا بنفاذ صبر:
كفاية تهور بجااا…. فوقي مستنية تخسري إي تاني أكتر من ال خسرتيه بسبب غبائك وتهورك
تراجعت خطوة للخلف ويدها تمسك خدها، ودموعها تنهمر بلا توقف:
بنتي ماتت… والتانية… مش هشوفها تاني… خلاص… كل حاجة راحت.
اقترب منها وصوته خفيض لكنه محمل بالصرامة:
ـ بنتك التانية نايمة دلوجتي… وموجودة اهنيه معايا
رفعت رأسها فجأة، عيناها تتسعان بصدمة وهتفت :
بجد؟! فين هي؟! و… إزاي
ابتسامة باهتة مرت على شفتيه، لكن عينيه ظلتا قاسيتين:
مش هتشوفيها غير لما ترجعي لعقلك… ونصفي حسابنا معاكي… ومع الكلب ال أبوكي مات علشان جوازك بيه.
كلماته انغرست في قلبها كسكاكين جديدة، وملامحه لم تمنحها أي فرصة للرد. أمسك بيدها، وسحبها عبر الممر بخطوات واسعة، وهي تحاول اللحاق به، أقدامها حافية على أرضية الرخام الباردة. حتي توقف أمام باب غرفتها دفعه بكتفه، وأدخلها، ثم نظر إليها بحدة:
نامي وارتاحي… أحسن، علشان الأيام الجاية مفيهاش راحة.
القي ركان كلماته أغلق الباب خلفه، وصوت خطواته يبتعد في الممر. بينما وقفت روح لثواني، تستند بظهرها إلى الحائط، ثم انزلقت جالسة على الأرض، ضمت ركبتيها إلى صدرها، ودفنت وجهها بين ذراعيها، تبكي بصمت متواصل. كان البكاء هذه المرة بلا صراخ، بلا نحيب… مجرد انكسار ناعم، كأنه نزيف بطيء لا يتوقف. وفي الخارج، كان ركان يقف عند نهاية الممر، يحدق نحو باب غرفتها المغلق، ملامحه قاسية، لكن خلفها ظل غامض من القلق… قلق لم يسمح له بأن يظهر، لا لها ولا لأي شخص آخر.
وفي يوم جديد كان الصباح قد تسلل بخيوطه الباهتة إلى أروقة قصر آل الجسار، لكن الهدوء الذي يفترض أن يصاحب الفجر كان غائبا تماما. في البهو الواسع، حيث الأعمدة الرخامية تعكس الضوء الشاحب، كان ركان واقفا بثبات، كتفاه مشدودتان، وعيناه تضيقان بغضب لا يهدأ وأمامه، جلس سالم، زوج روح، على الأرض، وظهره منحني ووجهه يحمل آثار ضرب حديث وقطرات الدم سالت من زاوية فمه، وأنفاسه متقطعة كمن خرج من معركة خاسرة. خلف ركان، اصطف الحراس في صمت مهيب، عيونهم لا تلتفت إلا لأوامره وأشار ركان برأسه إلى أحدهم، فانصرف بخطوات سريعة، ثم عاد بعد لحظات وهو ممسك بذراع روح. كانت متعبة، عيناها متورمتان من بكاء الليل، وملابسها غير مرتبة. توقفت عند العتبة، وعيناها تتسعان حين وقعتا على سالم. ارتجفت شفتاها وكأن الكلمات خانتها، بينما قلبها يدق بعنف، فهذه أول مرة تراه منذ سحب منها ابنتها وألقاها إلى الشارع. فـ مد ركان يده فجأة، وجذبها نحوه بقوة، ووضع في يدها شيئا باردا جعل أصابعها تنكمش غريزيا… مسدس معدني، ثقيل الوزن، وصوت ركان يخرج كالرعد في البهو:
مش دا الكلب ال فضحتينا عشانه؟ مش هو السبب ال خلى أبوكي يموت من قهرته
هزت رأسها في صدمة، الدموع تتجمع في عينيها:
أنا… أنا آسفة… آسفة يا ركان.
اقترب منها خطوة، وصوته يزداد صلابة وعيناه تشتعلان بنار لا تهدأ:
هتجتليه بإيدك.
شهقت وهي تتراجع نصف خطوة:
لا… مش هجدر… مستحيل أعمل اكده.
ارتفع صوته فجأة، كالسوط يجلد قلبها:
يا هو يموت… يا بنتك تموت… اختاري.
ارتجفت أنفاسها، والأرض شعرت بها وكأنها تهتز أسفل قدميها:
بنتي… لا يا ركان… بالله عليك بلاش.
لكن ركان لم يزح عينيه عنها، ولم يترك يدها، بل ضغط المسدس أكثر في قبضتها وصاح:
يلااا… خلصينا.
كانت أصابعها المرتجفة تلامس الزناد، ودموعها تحجب عنها الرؤية، ونظراتها تتأرجح بين وجه سالم المنكسر وملامح ركان الصارمة، حتى بدا العالم كله يضيق من حولها وفجأة اطلقت عليه رصاصه اصابته فورا و انهارت تماما وشهقتها انكسرت وسط دموعها، لكن في لحظة لم يفهمها أحد… استدارت بكل عنف نحو ركان، ورفعت السلاح نحوه مباشرة، ودوى صوت الرصاصة في أرجاء القصر، لينتهي كل شيء في ومضة واحدة.و

 

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى