روايات

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الأول 1 بقلم ياسمين عادل

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الأول 1 بقلم ياسمين عادل

 

البارت الأول

 

مُـفـتتـح…

ظلام دامس، وكأنها ستائرًا سوداء غطت المدينة بأكملها، حتى ضوء القمر في ليلتهِ السابعة عشر لم يكن كافيًا لإنارة هذه الأرض المظلمة، وحتى أغلب الشوارع نائية خالية من الناس، بسبب حظر التجوال الذي فرضتهُ الجهات الأمنية بصفة خاصة جدًا على هذه المدينة، بعدما وقعت حادثة الثأر التي راح ضحيتها خمسة رجال من أشداء القوم في إحدى القُرى. وبينما هذه الأجواء المريبة تسيطر على مشهدنا، إذا بها تسير على التعرجات الأرضية بصعوبة بالغة، بعدما انقطع حذائها البالي الذي ارتدتهُ وهي تركض من المنزل فرارًا. استمعت لصوت سيارة تأتي من خلفها، فتوقفت على الفور ونظرت بعيناها الغارقتين في الدموع، فإذا به عربة صغيرة عبارة عن دراجة نارية عليها مجسم للجلوس تقل الأفراد من مكان لآخر (توكتوك). أشاحت إليه بكلتا ذراعيها ليتوقف، فـ تطاير حجاب رأسها دون وعي منها لينكشف شعرها في الهواء، ثم عبثت نسمات الليل الباردة بشعيراتها المتطايرة. لحظات وتوقف سائق العربة، لينظر إليها في تفحصٍ مرتاب وهو يسألها بلكنتهِ الغريبة :
– بتعملي إيه هنا الساعة دي ياست؟!.
ازدردت ريقها وهي تهتف بصوتٍ تقطع من شدة حالتها المتعبة :
– ممكن توصلني للمركز ربنا يخليك يارب.
ثم ترددت في إخبارهِ حول تجردها من أية مبالغ مالية:
– بس… آ.. يعني انا مش معايا فلوس دلوقتي.
تفحص هيئتها جيدًا قبل أن يرد بـ :
– تعالي اركبي.
استقلت مكان الجلوس خلفه بعجالةٍ وهي تقول :
– شكرًا..
اقتاد عربته بها وهو ينظر من حين لآخر عبر المرآة الجانبية، فبزعت في عيناه الناظرة نحوها بوادر الطمع فيها. ضمت ذراعيها لصدرها مستشعرة في نظراتهِ شيئًا يخيفها أكثر، حاولت تجاهل هذا الشعور المتمكن منها، إلا إنه سيطر عليها بالكامل، مما دفعها بطلبه في التوقف على الفور :
– آ.. نزلني هنا.
ماطلها قليلًا ليقول :
– مش قولتي عايزة المركز.. ولا فيه حاجه مخوفاكي مني.. متقلقيش ده انا أمان خالص و….
صرخت في وجهه بعدما لمحت تلك الإبتسامة اللزجة على محياه أثناء الحديث، وقد تيقنت من سوء نواياه حيالها، خاصة وأن الأجواء تُهيئ له أي فعلة دنيئة قد يفكر فيها :
– وقـف هـنا.. نــزلــنــي هــنا بـقولك.
توقف بها فجأة وهو يهتف بصوتٍ تعمد ألا يكون مرتفعًا :
– خـلاص يا ولـية انتي جايه تفضحيني هنا بالذات!.. أنزلي يا ختي نزلت الميا في زورك.. شكلك عامله عملة كبيرة أوي وهتوديني معاكي في نصيبه.
ترجلت في عجالةٍ غير مصدقة إنها نجت منه، ثم نظرت حولها بعينان باحثتان، لم تجد في المحيط سوى ذلك القصر العتيق الذي تعرفه جيدًا، أشهر قصر في القرية بل بالمدينة كلها، قصر آل “العزيزي”.
تأففت بإختناقٍ وكادت الدموع تنهمر من عيناها وهي تهمس بصوتها الضعيف المتقطع :
– يعني ملقتش غير الحتة المقطوعة دي اللي أنزل فيها!! وجمب القصر ده كمان!.. يارب أعمل إيه دلوقتي، ماليش حد أروحله ولا حد ينجدني.
وبدأت تجهش بالبكاء وهي تستعيد في ذاكرتها الظلم الواقع عليها من أقرب الأقربون، من هم من دمها!.. فـ تضاعفت مرارة حلقها، وتوهجت بشرتها بالدموع الساخنة وهي واقفة محلّها، حتى أحست بشئ يلمس أقدامها، فقفزت من مكانها صارخة ونظرت للأرض، فإذا به جرذ صغير، ارتعبت أكثر وراحت تركض وتعدو لأي مكان بعيد عنه، حت وجدت نفسها أمام بوابتهِ، تقف قبالة رجال الحراسة الذين يحاوطون المكان، ترآت لأحدهم فتقدم منها يسأل بخشونةٍ صارمة :
– انتـي مين وبتعمـلي إيـه هنا؟.
انبحّ صوتها وكأنه انقطع، حاولت أن تردف بأي شئ ولكن دون جدوى، فـ تنحنحت وهي تمسح آثار الدموع العالقة على بشرتها وهي تقول بصوتها الخافت :
– عايزة أقابل صاحب البيت… آ.. القصر،. صاحب القصر.
قطب الحارس جبينه ودنى منها خطوة ليسألها في جديةٍ :
– انتي مين وعايزة الباشا بخصوص إيه؟.
ابتلعت ريقها بصعوبة ٍ حتى كاد يسد حلقها، ثم أجابت في رهبةٍ :
– موضوع شخصي.. قوله بس إني عايزاه.
نظر لزميلهِ الواقف على مقربةٍ منه، ثم هتف بـ :
– شوف الباشا لو وافق يقابلها.
عاد الحارس يتفحصها بنظراتهِ المدققة، بينما هي ترتجف بقوةٍ تعجز عن جمحها أو السيطرة عليها، تفرك في أصابعها بتوترٍ وهي تحس بطفيفٍ من البرد، حيث إنه هواء الخريف البارد في شهر تشرين الثاني. وقفت هكذا لحظات طويلة مملة، حتى اشتدت عليها عضلات ساقيها، وأحست كأنها تبدأ في الشعور بالألم. استرقها من أوج شعورها ذلك هذا الصوت الأجش المرتفع وهو يهتف بـ :
– أتفضلي أدخلي.
انفتحت البوابة الألكترونية لترى نصب عينيها المدخل الرخامي الفسيح في منظر راقي مهيب، وكأن القصر في مكانٍ بعيد لا ينتمي لتلك المدينة القديمة في طرازها. قدمت خطوة وأخرت أخرى، وفي عقلها بعض الشتات، هل تستمر في خطوتها أم تعدل عنها قبيل أن تتورط فيها بالكامل. في النهاية أيقظها صوت الحارس من أفكارها وهو يهتف بـ :
– أنجزي يامدام.. هتدخلي ولا هتمشي؟.
تخطت أعتاب البوابة حتى باتت بداخل الحِصن، وقالت بخفوت يتناسب تمامًا مع هيئتها المرتعبة :
– هـدخل.
أشار لها الحارس كي تتحرك من خلفه آمرًا إياها :
– اتفضلي معايا.
سارت من خلفهِ في صمتٍ شديد، وأثناء السير انقطع حذاء قدمها اليسرى حتى انسلت منه فجأة، فـ عضت على شفتها بتحرجٍ وأنحنت كي ترفعها عن الأرضية، ثم أسرعت في خطاها كي تلحق به دونما تتأخر في السير. من مسافة خمسة عشر مترًا استطاعت أن ترى ذلك الطيف، ثم تحول لظل، ثم تحول لجسد رجل يقف أمام باب القصر ويداه عالقة في جيوب سروالهِ الأزرق، ينتظر حضورها بين يديهِ ليعلم سبب زيارتها المفاجئة، وسر الأمر الشخصي الذي ستتحدث بشأنهِ. استشعرت رجفةٍ سرت في سائر جسدها حالما تبينت لها بعضًا من ملامحهِ الجادة، بدا لها وكأنها سرقت النوم من عينيهِ وأيقظته في تلك الساعة المتأخرة، لحظات وكانت تقف أمامهِ مباشرة، تفصل بينهما عدة درجات يقف هو عليها، تسارعت أنفاسها وهي ترى استطلاعهِ المدقق لهيئتها المريبة، كان جلبابها الأسود ملطخ بالتراب، قدمها العارية قد أصابها بعض الوسخ، ملامحها المرهقة تنمّ عن الرحلة الطويلة التي اجتازتها كي تصل إلى هنا. وأخيرًا ترك ذلك الرجل الطويل تفحصه لها ونظر لوجهها لحظتين قبل أن يسألها في حزمٍ :
– في إيه؟؟.. مين انتي وإيه هو الموضوع الشخصي اللي عايزاني فيه!.
انتظر جوابها بينما عيناها تفرّ من النظر إليه، تحس شعورًا غريبًا كلما تلاقت نظراتهما، بينما لم يطيق هو انتظارًا لذلك الصمت الممل، فـ تأفف منزعجًا وهو يكرر سؤاله بشكل أكثر حِدة :
– وبعدين!.. هنفضل واقفين هنا طول الليل ولا إيه؟.
استجمعت شجاعتها المبعثرة، واختطفت زفيرًا عميقًا لأحشائها ليخرج صوتها الأنثوي الممشوج بخليط من الذعر والضعف :
– أنا جيالك عشان تحميني، انت الوحيد اللي تقدر تقف في وشهم.
قطب جبينه في استغراب من كلماتها المبهمة وسأل في فضول :
– مين دول؟.
فرّت عبرةٍ من طرفيها وهي تصرح بهوية ظالميها :
– من أهلي.. عمي وعياله.
تحركت أقدامهِ ليهبط درجتين من السلم متسائلًا :
– انتي بنت مين؟.
أطبقت جفونها في وهنٍ وهي تجيب :
– أنا من عيلة الطحان.
التمعت عيناه فور سماعهِ أسم عائلتها المعروفة في المدينة كلها، ثم سألها في رتابةٍ :
– بنت مين فيهم؟.
تنهدت بقنوطٍ وقد أنهكها الإجابة على تساؤلاتهِ الكثيرة، فـ انفجرت صارخة في وجهه وقد بدأت الدموع تنهمر من عينيها :
– هتحميني لحد ما يطلع الصبح وأروح المركز ولا آخدها من قصيرها وأمشي!؟.
لحظتين.. لحظتين فقط استغرقهما في التفكير، وبدون إطالة كان يفسح الطريق أمامها ليشير إلى خادمتهِ الواقفة على مسافة ليست ببعيدة :
– خدي الهانم لأوضة من بتوع الضيوف يا عبير.
ترآت لها تعابير وجهه بوضوحٍ أكبر بعدما تسلطت الإضاءة وجهه، لم تنظر إليه مطولًا بل أشاحت عيناها عنه وهي تشكر صنيعهِ الكريم :
– شكرًا.. هما كام ساعة بس وهمشي على طول.
نظر الغريب في ساعة يدهِ ليجدها الثانية بعد منتصف الليل، فـ ذمّ على شفتيهِ وهو يعاود النظر نحوها قائلًا :
– براحتك.
لاحظ تعرجها البسيط وهي تسير حتى صعدت الدرجات الأربعة، تتبعتها نظراتهِ الفضولية حتى استقبلتها الخادمة و آوتها بالداخل، فـ أصرف عيناه عنها وهو يشير لأحد رجال الحراسة كي يقترب، ثم أمرهُ بـ :
– قبل طلوع الشمس تكون عرفت دي بنت مين في بيت الطحان وإيه قصتها مع عمها وعياله.
أومأ الحارس رأسه متفهمًا، ثم استدار منصرفًا لتنفيذ أمره بعجالةٍ، في حين طالعت عينا ذلك الغريب حركة الصقور من حولهِ، وقد فكّ وثاقهم من أجل جولةٍ حرة لهم في أنحاء القصر القريبة، وفكرهِ منشغلًا عن تلك المجهولة التي استضافها، وحول الأحداث المترتبة على تلك الإستضافة المفاجئة؟!.. هل يقبل بها صاحب البيت أم يزجّ بها خارج أسوار قصرهِ؟.
*************************************

 

^^ليلة في منزل طير جارح^^
الفصل الأول :-

“أحيانًا بداية الفوضى تخلق لحياتك عالم جديد.”
_____________________________________
غرفة مرتبة بنظامٍ راقي، وألوان هادئة غلبت على جدرانها العالية، ووسط كل ذلك قطع الأثاث الثرية العتيقة موضوعة في أماكنها گالتحف الفنية التي تأسر عيناك.
كانت “رحيل” تتطلع للغرفة التي استُضيفت بها بنظراتٍ أكثر دقة، وسط كل ما تعيشه من ضوضاء تسيطر على كيانها وحواسها أجمع، إلا إنها أحست بشئ من الراحة هنا، بعدما تأكدت إنها لن تسقط صريعة أسرهم، على الأقل حاليًا. غالبها الشعور بالنعاس بعد ليلة طويلة ومرهقة قضتها بين غيابات الظلام وعلى الطرق المتعرجة والصعبة، قضتها بين مشاعر الذعر والخوف حتى استنزفت كامل طاقتها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تريح ظهرها على الفراش الطريّ الوثير، وتطلق العنان لجفونها كي تنغلق لساعاتٍ طويلة دون أن تشعر بأي شئ من حولها، وكأنها تخدرت بالكامل فلم تعد مداركها تحس شيئًا على الإطلاق.
***************************************
كان صباحًا سيئًا، يتكرر مرة كل عدة أشهر، حيث اضطرابات واسعة تضرب بقوتها البورصة المصرية فتطيح ببعض الأسهم والشركات إلى أسفل سافلين، وتتسبب بخسائر فادحة تهدد الإستثمار في مصر. صفق “مراد” الحاسوب الشخصي بعدما تطلّع على أخبار الصباح المشؤومة، ثم نهض عن مكانه متناولًا هاتفهِ ليقوم ببعض الإتصالات التليفونية التي من دورها الحدّ من تطور المشكلة. نظر في ساعة يدهٍ، فإذا بها العاشرة والنصف صباحًا، تأفف مضجرًا وهو يبعد الهاتف عن أذنه بعدما فشل في الإتصال بسبب ضعف جودة شبكة الإتصال بالمنطقة كلها، ثم خطى نحو الخارج بتسرّع وهو يتمتم بـ :
– يعني ده وقت ميبقاش في شبكة يعني!.
واجه الخادمة بالخارج، فسألته :
– أجهزلك الفطار يا سي مراد؟.
أومأ رأسه بالموافقة، فعادت تسأله بترقبٍ :
– طب والضيفة اللي عندنا!.. احضرلها لقمة تاكلها؟.
قطب جبينه مندهشًا من سؤالها، گمن نسى الأمر تمامًا :
– ضيفة إيه؟؟.
– الضيفة اللي عندنا من عشية امبارح، اللي جت بالليل وهي لا مؤاخذة هدومها مبهدلة و…..
تذكر للتو من تقصد :
– آه آه.. أطلعي اسأليها ولو كده اعملي حسابها في الفطار.
– أوامرك.
انصرفت من أمامه بينما كان يتفحص هو شبكة هاتفه بعدما خرج من القصر، فإذا بها بدأت تجمع نقطتين كاملتين، فبدأ يعيد محاولاته كي يقوم بذلك الإتصال الهام.
************************************
لقد انقلبت الدار كلها رأسًا على عقب، وكأنها حالة طوارئ وتفشّت في جميع الأرجاء. راح “حسين” يدور في المنزل كله گالمجنون، وصوته الجهوري يصدح في كل مكان :
– أكيد انتي اللي وراها يا مرات عمي.. طفشتي بنتك مننا، طفشتيها من أهلها اللي ملهاش غيرهم.
كانت “جليلة” تجلس في مقعدها دونما حراك، تعابيرها جامدة لا توحي بأي رد، وصوتها لم يخرج بكلمة واحدة تدافع بها عن نفسها أمام تلك التهمة التي قذفها بها كل قاطني الدار، حتى وقفت أمامها سيدة الدار “سعاد”، تلك السمينة التي توشحت باللباس الأسود ورابطة الشعر شديدة السواد، وراحت تتهمها بأعلى صوتها :
– ما تنطقي يااختي ولا واكلة سدّ الحنك؟؟.. انتي اللي هربتي البت قبل ما ابني يكتب عليها النهاردة مش كده!.
زفرت “جليلة” أنفاسها الملتهبة وهي تنهض عن مكانها، ثم عقدت كفيها سويًا وهي تجيب بكل ثبات :
– آه يا سلفتي.. أنا اللي هربت رحيل قبل ما تقع في جوازة هي مش عايزاها.. بنتي حرة وحقها تختار حياتها، هي مش عبدة عندكم.
انفجرت “سعاد” في وجهها، وكادت تتهجم عليها لولا وقوف ابنها الكبير “حسين” بينهما :
– كسر حُقك انتي وهي يا ولية ياخرفانة، أمال عايزة إيه ؟.. تدور على حل شعرها وتمشي على كيفها بعد ما جوزها مات!!.. لأ ياختي احنا معندناش ولايا يقعدوا من غير راجل يحكمهم!.
ثم رمقتها بنظراتٍ محتقرة وتابعت بنبرة وضيعة :
– وخصوصي بقى بنتك اللي وشها مكشوف.
اهتاجت “جليلة” بعدما طال صبرها أكثر من اللازم، وهدرت بصوتها تدافع عن ابنتها الغائبة والتي ستصبح لقمة سائغة بين أسنان “سعاد” وبناتها وزوجات أبنائها:
– أخرسي قطع لسانك، أوعي تغلطي في بنتي ولا تقولي عليها نص كلمة.. بنتي برقبتكم كلكم وانتي عارفه ده كويس، ومش هكرر كلامي مرتين يا سعاد.. بنتي مش هتجوز واحد متجوز اتنين ومعاه خمس عيال يا حببتي.
ثم نظرت نحو “حسين” المقصود بتلك الكلمات، وتابعت :
– وبالذات لو ابنك الحيلة حسين.. ابعدوا عننا بقى وسيبونا في حالنا، ولو عليا مش عايزة اشوف حد فيكم ولا انا ولا بنتي، هسيبلكم البلد كلها عشان ترتاحي.
ضرب “حمدي” الأرض بعصاه فـ انتبه الجميع ونظر نحوه، فوزع الأخير نظراته المحتقنة بين زوجته “سعاد” وبين زوجة أخيه “جليلة” قبيل أن يهتف بـ :
– الكلام ده مش عندنا ياست أم رحيل، بنتك لازمها راجل تعيش في طوعه، ومفيش أنسب من أخو الغالي الله يرحمه عشان يحلّ محله.
حاولت “جليلة” أن تُهدئ من تشنجها، وأردفت بهدوء :
– إنت واحد حجيت بيت الله يا حج وعارف الحلال والحرام، وانا بنتي مش راضية بالجوازة دي.. هو عافية ياناس!.
قطب “حمدي” جبينه مستهجنًا استعانتها بالدين في تخليص ابنتها من قبضتهم :
– وإيه الحرام في السُترة ياأم رحيل.. دي سترة الولايا أمر من ربنا، واحنا عايزين نستر بنتك.
انفعلت “جليلة” من جديد وهي تقول :
– وانا بنتي مش عريانه يا حج عشان تسترها.. ومش محتاجين منكم غير حق ربنا.
تجلّت تعابير الغضب المقيت على وجهه المجعد العجوز، وتحولت نبرتهِ اللينة لأخرى حازمة وبلهجة قاطعة كان يسألها مترقبًا الجواب :
– حق إيه اللي بتكلمي عنه!.
صارحته “جليلة” بالسبب الحقيقي وراء وجودهم هنا :
– ميراث بنتي في جوزها، المرحوم مش سايب شويه ياحج و……
قاطعها “حمدي” وصوت صياحهِ المدوي يتجلجل في أرجاء البيت كله :
– ورث إيه وكلام فاضي إيه!!.. من أمتى يا مرات أخويا الحريم بتورث؟؟.
ارتفع حاجبيها بذهول من صراحتهِ المقززة، والتي حرمّت تشريع المولى عز وجل لتوريث النساء، بينما تدخلت “سعاد” وهي تضع يدها في خصرها وترمقها بتهكمٍ ساخر :
– ياكش تكوني فاكرة بتك (بنتك) هتمسك الفاس وتزرع الأرض!!.. صحيح ما هي قادرة وتعملها!.
تلاشت “جليلة” التحاور مع تلك الجاهلة الحقودة، وتقدمت خطواتها البطيئة من “حمدي” وهي تستجديه بهدوء :
– ورحمة ابنك يا حج متظلمش بنتي، ده حسن الله يرحمه ميرضاش بكده.
أشعلت نار الغضب في رأسه أكثر وأكثر، لا سيما بعد ذكرها أسم ولدهِ المتوفي، والذي ترك في صدره غصة لم تزل بعد، فـ راح ينفث عن ذلك الغضب بالصراخ في وجهها :
– ظلم إيه اللي هظلمه لبتك يا ولية انتي!.. لو رحيل مش هتجوز ولدي حسين وحياة الغالي ما هتشوف مني أبيض ولا أسود، احنا معندناش نسوان أرامل يخرجوا برا العيلة.. ولا عمرنا ملكّنا الحريم مالنا وأرضنا، اللي في راسك ده تنسيه وتعقلي البت وترجعيها، بدل قسمًا عظمًا لأكون مرجعها بأيدي جثة وساعتها محدش يلوم عليا.
انقبض قلبها مع ذلك التهديد الصريح، وتصلبت عضلات لسانها فلم تقوى الرد عليه، هي تعلم قدرته المتجبرة وإنه يستطيع إيذاء ابنتها بدمٍ بارد، ولن يرمش له جفن حتى. ازدردت ريقها وعيناها على الفراغ، حتى مسامعها لم تلتقط ذلك التلقيح الشامت من “سعاد” والتي لم تتوقف عن التفوه بالكلمات المزعجة والجارحة، وكل ما يشغل عقلها هو ما ستفعله بعدما تسدد الطريق أمامها وأمام ابنتها، كيف ستنجو بها من بين براثن عائلة زوجها بأقل خسائر، وبدون أن تتأذى “رحيل” من جحود قلوبهم على الأقل؟!.
***************************************
أنهت طعامها كاملًا ولم تُبقي منه شيئًا، فـ بعد أن قضت واحدة من أسوأ الليالي التي قضتها على الإطلاق تناست تمامًا أمر الطعام، وإنها بحاجة ماسّة لشحن طاقتها من أجل مواجهة عائلة الطحان بكل ما أوتيت من قوة. نهضت عن مكانها لتنظر عبر النافذة الزجاجية المُطلّة على حديقة القصر، فـ استعادت ذاكرتها ليلة أمس حين لجأت لصاحب القصر كي ينقذها ويأويها على الأقل ليلة واحدة، حتى تعيد ترتيب الخطوات التي ستخطوها لحماية نفسها وأمها من بطش عمّها الجاحد، ذلك الرجل المستبد الذي يريد تزويجها قِسرًا من ولدهِ الأكبر حسين عوضًا عن زوجها الفقيد. حررت “رحيل” تنهيدة حارّة وهي تبتعد عن النافذة، وبداخلها تراكم اليأس الذي تحاول مواجهتهِ كل يوم بعزيمة من فولاذ، لئلا تخضع لهم كما خضعت هي ووالدتها منذ سنين طويلة. جلست على حافة الفراش وهي تهمس بين ثناياها الجريحة :
– ياترى بكرة مخبي إيه!.
طرقات على الباب جعلتها تقف في مكانها وهي تقول :
– اتفضل.
دلفت إليها “عبير” كي تحمل صينية الطعام :
– محتاجة أي حاجه تانية ؟.
فوضعت “رحيل” يدها على شعرها المكشوف وهي تطلب منها بتحرجٍ :
– ممكن طرحة أو إيشارب عشان بس أغطي شعري.
أومأت “عبير” رأسها وهي تحمل الصينية مرددة :
– من عنيا.
وخرجت من الغرفة، فـ أغلقت “رحيل” الباب من خلفها وعادت تجلس بنفس مكانها، حتى خانتها دموعها وبدأت تنسال في صمت من عينيها الذابلتين، مستشعرة حجم الظلم الواقع عليها والذي أتاها من أولئك الذين يسمون (العائلة)، لقد كانت هي ووالدتها أولى ذبائحهم بدون أن تأخذهم بهم شفقة ولا رحمة، فقط لأنهن نسوة لا جدار لهن ولا حامي، فلم يستوصوا بهم خيرًا، ولم يردوا لهن أمانتهن ولم يكرموهن. أرخت “رحيل” ظهرها على الفراش وتركت جفونها تغطي عيناها المملوءة بالدموع حتى أفرغت كل ما فيها، ورغمًا عنها غفت مجددًا، وكأنها طوال الليل لم تهنأ بنومٍ عميق.
***************************************
دخلت سيارتهِ الفارهه ذات الماركة العالمية الشهيرة لأرض القصر، لتشقّ طريقها بين دفتّي الرواق المشجر خلف سيارة الحراسة التي تؤدي مهمتها في حمايتهِ، ثم ترجل أحدهم ليفتح له باب السيارة الخلفي، لينزل عنها وهو يأمره بـ :
– هات الشنط وطلعها على فوق.
– أمرك يا باشا.
نزع عن عيناه نظارة الشمس الأنيقة وهو يصعد درجات القصر الرخامية، ثم دلف مستقبلة إياه خادمته الوفية “حِراء” :
– حمدالله على السلامة يا هاشم بيه، نورت القصر والله.
نظر “هاشم” من حوله باحثًا عن شخص ما بعينه، ثم سألها بدون إطالة :
– مراد فين؟.
فأشارت نحو الخارج :
– لسه خارج من شويه يتكلم في التليفون ومدخلش تاني.
خرجت “عبير” مهرولة من ذلك الممر المؤدي لغرف الخدم، حاملة وشاح الرأس الأسود بين يديها، وسرعان ما توقفت بمكانها مطأطأة رأسها وهي ترحب به :
– حمدالله على السلامة يابيه.
دقق “هاشم” أنظارهِ على ما تحمله وهو يسألها بإقتضاب :
– بتجري كده ليه وإيه اللي في إيدك ده!؟.
– دي طرحة كده هطلعها للضيفة عشان تغطي شعرها.
تغضن جبين “هاشم” وعاود النظر لـ “حِراء” وهو يسألها بحزمٍ :
– ضيفة مين؟؟.. مين موجود في قصري وانا معرفش!.
توترت “حِراء” من لهجتهِ الحادة تلك، وقبيل أن تنفجر منه عصبيتهِ الوشيكة كانت تجيبه بصراحة :
– في ضيفة بايتة هنا من امبارح.. وأستاذ مراد اللي أمر نستضيفها.
بالفعل بدأ ينفعل وبرز ذلك على صوته المرتفع :
– ما شاء الله، وانا آخر من يعلم ولا إيه!!.. مــيـن دي ؟.
تنحنحت “حِراء” وقد أسبلت جفونها في حرج منه، حيث إنها موكلة بإطلاعهِ على كل شئ يدور في قصرهِ وها هي قد قصرت في مهامها :
– دي واحدة من بيت طحان، وشكلها كده جاية مستنجدة.
مجرد ذكر أسم تلك العائلة كان مؤشرًا باردًا، كأنه اندهش قليلًا من هويتها، أو ربما اندهش لأنها لجأت لقصرهِ هو تحديدًا، لجأت لـ “هاشم العزيزي” المعروف بعداوتهِ الشديدة لـ آل الطحان…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى