رواية لعنة الصعيد الفصل السادس 6 بقلم نور الشامي
رواية لعنة الصعيد الفصل السادس 6 بقلم نور الشامي
البارت السادس
الفصل السادس
لعنه الصعيد
كانت تركض في الممرات المظلمة حافية القدمين، وشعرها يتطاير حول وجهها كأطراف لهب يتمايل في الريح، وهي تصرخ بأعلى صوتها:
كمال… كمال استني
لكن كمال لم يلتفت خطواته ظلت ثابتة، متجهة نحو الظل، حتى اختفى تماما في آخر الرواق، تاركا خلفه برودة مرعبة… وصدى اسمه يتردد في قلب عالية. التي تجمدت مكانها لحظة ثم اندفعت راكضة نحو غرفته، أنفاسها متقطعة، وذراعها ترتجف وهي تدفع الباب بقوة ودخلت الغرفة، لتجده لا يزال هناك… شهاب… مسجى على السرير و جسده ممدد كجثة وعيناه مغلقتان، لا حراك فيه فـ اقتربت منه بسرعة، وركعت بجواره، تهزه برفق أولا ثم بعنف وهي تصرخ:
شهاب! بالله عليك فوق…… جووم في اي… شهاب.. جووم مالك
لم يكن هناك أي استجابة. فقط جسده الساكن، ونبضات قلب عالية التي كانت تتسارع في ذعر مطبق وجلست إلى جواره على الأرض، وجهها غارق بالدموع، والهمس يخرج منها كأنها تكلّم نفسها:
ـ”أنا شوفت كمال… والله العظيم شوفت كمال بعنيا… وكان جدامي… مش عارفة دا حلم ولا جنون… جووم بالله عليك
وفجأة انفتح الباب بهدوء، ودخلت يمنى. خطواتها خفيفة، لكن وجهها كان مشدودا، وصوتها خرج هامسا:
متخافيش… أنا اهنيه يا عالية.. اهدي اي ال حوصل
رفعت عالية عينيها نحوها، عيناها تلمعان بالرعب وهي تهمس بصوت مبحوح:
انا شوفت كمال… كان جدامي… ولما جريت وراه اختفي … شوفت كمال بعنيا يا يمنى جسما بالله
تجمدت يمنى وحدقت فيها لحظة، ثم همست بدهشة:
وانا كمان شوفته… والله كنت فاكراه خيال أو حلم… بس شكله مش اكده
شهقت عالية والتفتت نحو شهاب وهي تقول بانفعال:
شهاب تعبان… ومش بيتحرك خالص… حاولت أصحيه مش راضي… أنا مش فاهمة حاجه
اقتربت يمنى من السرير بسرعة، وجلست إلى جواره، وامسكت معصمه، وضغطت برفق ثم قالت بجدية:
النبض كويس… كل حاجه طبيعية… يمكن بس نايم… هو أوجات بياخد منوم لما بيبجى تعبان نفسيا
نظرت إليها عالية بدهشة وهمست:
بياخد منوم ليه عاد بياخده ليه؟… وإحنا هنعمل إي دلوجتي
أشاحت يمنى بنظرها قليلاً، ثم قالت بنبرة هادئة لكن حازمة:
سيبك من كل دا دلوجتي… المهم تسمعيني… لازم تكوني جاهزة علشان في حاجه أهم جاية
رفعت عالية حاجبيها وقالت بتوجس:
حاجه إي عاد
اقتربت يمنى أكثر وهمست:
عزه … عزة هتوصل مصر بكرة
تجهم وجه عالية، وتمتمت دون فهم:
مين عزه دي كمان مش فاهمه
أجابت يمنى بصوت خافت:
بنت خالة شهاب… كانت مرته… واطلجوا بعد شهر واحد محدش عارف السبب، ولا حتى هو بيرضى يتكلم عنه… بس ال أعرفه إنها بتحبه جدا… وال أعرفه أكتر إنها مش سهلة خالص
نظرت إليها عالية بقلق وقالت:
يعني إي مش سهلة … وبعدين هو كان متجوز كمان
هزت يمنى رأسها وقالت بجدية:
يعني تخلي بالك منها… البنت دي مش مستقرة، وشكلها راجعة علشان تلعب لعب تقيل… وأنا هحاول ألاجي طريجة أدخل بيها البيت دا، وأجعد جمبك شوية وأكون معاك… بس دلوجتي لازم أخرج قبل ما حد يلاحظ حاجة
ثم نهضت سريعا، وألقت نظرة أخيرة على شهاب، قبل أن تهمس لعالية:
خلي بالك من نفسك… وخلي بالك من شهاب… ومن عزة
القت يمني كلماتها وغادرت الغرفة كما دخلت، بصمتٍ ثقيل، وتركت عالية وحدها وفي صباح رمادي مشوب بالصمت…فتح شهاب عينيه ببطء و الألم يضغط على رأسه كأن حديدا يطوق جمجمته فرفع يده ليمسك جبهته يغمض عينيه مرة أخرى من شدة الدوار… لكنه ما لبث أن فتحهما سريعا حين شعر بيدٍ صغيرة دافئة تمسك يده فـ نظر بجانبه ووجدها… عالية… كانت جالسة على الأرض رأسها مسنود على طرف السرير و عيناها مغمضتان، أنفاسها ناعمة، ويدها لا تزال ممسكة بكفه، كأنها لم تتركه طوال الليل. ملامحها منهكة، وشعرها منسدل على كتفها بعشوائية، لكنها بدت له… بريئة. نقية فـ رمش بدهشة، ثم تراجع قليلا، ينظر إليها باستغراب، لم يتخيل أن يجدها على هذا الحال…فـ اقترب منها أكثر ولمس وجهها بهدوء، أصابعه تلمس وجنتها بلطف، كأنه يتحسس شعور الأمان…وفجأة، تحركت ملامحها، وفتحت عينيها بسرعة، فانتبه وسحب يده في
توتر ورفعت عالية رأسها بسرعة، وقلبها يخفق وهي تهمس بلهفة:
انت كويس؟! اي ال حزصلك؟!”
مسح شهاب على وجهه بتعب وقال بصوت منخفض:
انا كويس… بس يمكن من كتر التفكير والتعب… جسمي مبجاش مستحمل.
حاول شهاب ينهض من على السرير، لكنه ما إن وقف حتى تمايل جسده بشدة وكاد يقع، فصرخت عالية:
حاسب…. اجعد… متتحركش شكلك لسه تعبان
أسرعت عاليع إليه، أمسكت بذراعه لتسنده، وشعرت بثقله عليها، لكنه رفع عينيه ونظر في عينيها مباشرة…نظرة غريبة… تحمل شكرا، وشيئا آخر لم تفهمه فـ توترت عالية بسرعة، وسحبت يدها من ذراعه بخجل وهي تهمس:
احم… حمد لله علي سلامتك
جلس شهاب على طرف السرير، يلتقط أنفاسه، ثم قال بنبرة هادئة:
لو عايزه تخرجي… أو تشوفي أهلك… اخرجي.
نظرت عاليه إليه بدهشة ولهفة، وقالت بفرحه:
بجد والله
شهاب بضيق:
بس السواج هو ال هيوصلك ويرجعك… وبلاش تعملي مشاكل، يا عالية
أومأت بسرعة، ولسانها يسبقها من الفرح، لكن فجأة تذكرت… فتغير وجهها وقالت بقلق:
ـاستنى… في حاجه مهمه لازم أطولها… أنا… أنا شـ—
وقبل أن تكمل انفتح الباب فجأة، ودخلت والدته. كانت تقف بملامح مشدودة وصوتها حاد وهتفت:
عزه وصلت… تحت
التفت شهاب ببطء، ووجهه تغير تمامًا، وصوته خرج غاضبا:
هي إي ال جابها بجا ان شاء الله.. حد جالها تيجي اصلا
سعاد وهي ترفع حاجبها:
يعني إي؟! دي بنت أختي… وجاية تطمن علينا، مش أكتر. يلا انزل
ثم التفتت إلى عالية، ونظراتها تشتعل بالغضب مردده :
وإنتي… مش عايزاكي تنزلي… ولا تشوفيها اصلا! عزة مش هتحبك .. فـ ياريت بلاش تضايجيها
وقبل أن تتحدث عاليه كان شهاب قد وقف، وخطا نحو والدته بخطوات ثابتة، ونظرة قاطعة تتوهج في عينيه، ثم قال بصوت واضح و نبرته لا تحتمل نقاشًا:
أنا مش هنزل غير بيها. دي مرتي. ودا بيتي. وال مش عاجبه… الباب واسع يتفضل يمشي
تجمدت والدته في مكانها تنظر إليه بذهول، وشفتيها ترتجفان من فرط الغضب، لكن شهاب لم يمنحها فرصة للرد بل أضاف بصوت أكثر صلابة وهو يشير بيده نحو الباب:
انزلي انتي… ولما نكون جاهزين، هننزل إحنا
استدارت الأم وهي تغلي من الداخل والشرر يتطاير من عينيها، وغادرت الغرفة بصمت ثقيل، يكاد يسمع له صوت أما شهاب، فالتفت نحو عالية التي كانت تقف في مكانها بذهول وارتباك و اقترب منها وقال بصوت منخفض، لكنه مملوء بالصرامة:
جهزي نفسك… ولو عزة جالت كلمه، ردي عليها بعشرة. وافتكري دا كويس
ثم أدار ظهره وخرج من الغرفة، تاركا وراءه أبوابا مفتوحة على احتمالات لا تحمد عقباها… وعالية… كانت تقف في مكانها، تتنفس بصعوبة، يدها على صدرها، وكأنها تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة، لم تكن تدري من تخشاه أكثر…
عزة…. أم شهاب أم نفسها التي بدأت تشعر بشيء يتغير وفي مكان اخر في زاوية مكتبه الواسع، كان أمين يقف خلف مكتبه الفخم، يتقلب في الأوراق المتناثرة أمامه بجنون، عيناه تائهتان ويده ترتجف وهو يهمس لنفسه:
ـ “يا نهار إسود… دول عايزين يموتوه… دول فعلا بيحاولوا يخلصوا منه…
كانت أنفاسه تتسارع، وكأن صدره يضيق عليه من هول ما يقرأ. وفجأة، انفتح الباب، ودخل رجل في منتصف العمر يحمل ظرفا في يده، مده إليه قائلاً بهدوء:
دي نتيجة التحاليل ال حضرتك طلبتها
أمسك أمين الظرف بلهفة ومزقه بسرعة، وأخرج الأوراق بعصبية. وما إن وقعت عيناه على أول سطر، حتى اتسعت حدقتاه، وارتعشت يده. تسمر في مكانه، وكأن الكلمات قد سحبت الهواء من رئتيه وفي تلك اللحظة، انفتح الباب مجددا ودخلت نريمان، تحمل على وجهها ملامح التحدي والقرار، وقالت ببرود:
أنا حضرت شنطة هدومي… وقررت أمشي
رفع أمين عينيه إليها ببطء، ثم أغلق الأوراق بيد مرتعشة، ووقف واقترب منها بخطوات سريعة وامسك يدها بقوة، ونظراته تكاد تشتعل غضبا وهو يهتف:
انتي فعلا عايزة تطلجي؟ ولا بتهربي
نظرت إليه بدهشة واستغراب، ثم سحبت يدها وقالت بانفعال:
اهرب من إي؟! هو أنا عاملة عاملة
صرخ امين بصوت كالرعد، كأن صبره انهار وهتف :
آه أخوكي بياخد حاجات هتموته! ومش بياخدها من الشارع! حد من البيت هو ال بيديهاله! ومش بعيد تكون أمك!
صرخت نريمان بغضب، والدموع بدأت تلمع في عينيها:
انت اتجننت؟! إزاي تجول اكده؟! فيه أم تموت ابنها
صمت أمين لحظة، ثم اقترب منها أكثر، وحدق في عينيها وهو يتمتم بمرارة:
شهاب مش ابنها أصلاً… إنتي وكمال بس ولادها… شهاب ابن مرت أبوكي الأولى
تراجعت نريمان خطوة كأن الكلمات صفعتها وشهقت وهمست بصوت مخنوق:
ازاي يعني؟! إنت بتجول إي؟! دا مش حقيقي
هتف أمين بعصبية أكبر، وقد بلغ الغضب مداه وردد :
والله لو اكتشفت إنك تعرفي حاجة من كل ال بيوحصل دا… أنا مش بس هطلجك… أنا هجتلك
ثم أشار إلى الباب بعصبية، وصوته يقطر حدة:
عايزة تمشي؟ بالسلامة… يلا امشي
واستدار بخطوات حادة، وخرج من الغرفة، تاركا نريمان واقفة وحدها، ملامحها شاحبة، ودموعها تنزل في صمت. وبعد عدت ساعات عند شهاب في قاعة الجلوس الواسعة، تجمع الجميع حول الطاولة الكبيرة المزينة بالهدايا المغلفة، والأنفاس معلقة في انتظار ما ستفعله عَزة….. كانت تقف بثقة في منتصف الغرفة، تبتسم ابتسامة غامضة وهي توزع علب الهدايا واحدة تلو الأخرى، وكأنها توزع قدَرا لا مجرد هدايا مردده:
ـ “دي ليكي يا نريمان، ودي لـ خالتوا سعاد… ودي لـ أمين.. بس هو فين مش عايز يشوفني كالعاده
قالت عزه ذلك بنبرة ساخرة وضحكت ضحكة خفيفة وأخيرا، توقفت أمام شهاب ومدت له علبة صغيرة مغلفة بورق أسود وأحمر، وقالت بابتسامة خافتة:
دي ليك… واحشتني اوي على فكرة
نظر شهاب إليها ببرود وأخذ العلبة دون أن يفتحها، وقال بنبرة مختنقة:
شكراً
ثم التفتت ببطء نحو عالية، التي كانت تقف في الخلف، تحاول أن تبقي رأسها مرفوعا رغم التوتر، فاقتربت منها عَزة، ومدت لها علبة بيضاء صغيرة، مزينة بشريط أحمر قاتم وهتفت:
ودي ليكي… ياريت تفتحيها قدامنا
ترددت عالية لحظة، ثم نظرت إلى شهاب، الذي أومأ لها بخفة، فمدت يدها بتوتر وأمسكت الهدية، وبدأت تفتحها ببطء، تحت أنظار الجميع وما إن رفعت الغطاء، حتى تجمدت مكانها…. كانت سكين صغيرة موضوعة بعناية داخل العلبة، نصلها ملطخ بلون أحمر قاتم كأنه دم… ما إن رأتها عالية حتى شهقت ورجعت إلى الوراء بخطوات مذعورة، فسقطت العلبة من يدها، والسكين ارتطمت بالأرض بصوت حاد، شق سكون الغرفة فـ صرخ شهاب بعصبية وهو يخطو ناحيتها:
اي دا؟! إنتي مجنونة ولا اي عاد ؟!”
رفعت عَزة حاجبها ونظرت إليه باستخفاف وهي تقول بنبرة باردة:
دا ال تستحقه… دي مجرمة. قتلت كمال… وكان المفروض تموت مش تتجوزها
تقدم نحوها شهاب، وعيناه تتوهجان غضبا، وقال بصوت قاطع:
انتي ملكيش صالح…. وأنا حر… وجوازي منها مش معناه إني حاببها
ثم أضاف بمرارة:
ـ “أنا بكرهها… وبكرهها أكتر من أي حد قابلته في حياتي… بس متنسيش ال كمال عمله في جوزها… وأنا في جميع الحالات ناوي آخد بتار اخوي منها بس محدش منكم ليه صالح
ضحكت عزة ضحكة خافتة، مملوءة بالسخرية، واقتربت منه خطوة وهمست:
بجد؟… دا ال انت فهمته … بس الحقيقة غير كده يا شهاب
ثم أخرجت هاتفها من حقيبتها بهدوء، ومدته إليه وهي تقول:
الحقيقة إنهم كانوا مرتبطين… وهي فعلاً كانت بتحبه… خد، اتأكد بنفسك.
أخذ شهاب الهاتف بتردد وضغط على الشاشة، وبدأ الفيديو.
كانت اللقطة واضحة… عالية تقف في مكان معزول، وكمال أمامها….. كان يمسك يدها.. يقبلها ببطء، بينما هي تهمس له:
أنا بحبك يا كمال… عمري ما حبيت حد غيرك
ثم ضمته إلى صدرها… كأنها كانت تودعه، أو كأن قلبها لا يرى أحدا سواه وارتعشت يد شهاب، وسقط الهاتف من يده، وعيناه لا تزالان معلّقتين بالشاشة التي انطفأت فجأة… كأنها أطفأت قلبه معها وفجأه و
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية لعنة الصعيد)