روايات

رواية لحن الأصفاد الفصل الثاني عشر 12 بقلم أسماء

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية لحن الأصفاد الفصل الثاني عشر 12 بقلم أسماء

 

 

البارت الثاني عشر (حلم طويل)

 

 

❞ٱريدُ دفنكِ تحت ألف أرض…
لكني قد أجلس بعدها فوق قبركِ أبكي للأبد!❝
3
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيڤادا|كوخ الصخور
كان جسده يحترق، أدركت أن حمى قوية تفترسه، و في حال كتلك، لن يتمكن من الإتيان بخطوة واحدة نحو أي مكان، بل لن يكون في مقدوره حتى ثني نفسه و القعود بمحله…
إرتعشت أنفاسها ساحبة يديها عن صدره ببطء، و مضت تلك الرعشة تغلف جسدها بأكمله، و هي تلامس جيب بنطاله الأيمن، ذرفت الدموع لما لمست شيئًا معدنيا باردًا تماما كقلادة الصليب، و إهتزًَ ذقنها بينما كانت تفتكه منه، و تحبو بلهاث نحو الباب، إستغرقت وقتًا في إيجاده، لكنها لم تستطع تجاوزه، لم تجرؤ حتى على رفع يدها و غرز المفتاح داخل القفل، الرجل المرمي خلفها كجثة محمومة ظل متمسكًا بها، لم يتحرك من نقطة سقوطه، و لم يلاحقها كما تعود، و لم يقبض على خناقها، لكنها شعرت بحضوره يبقيها رهينة لديه، كانت حرة لأول مرة، و مع ذلك أحست بقيود متوحشة تمنعها من النفاذ!
شهقت بيأس، و ضربت الأرضية بقبضتيها، فأحدثت المفاتيح قرقعة مجلجلة، فقدت رغبتها في الرحيل، أجهشت بكاءً للحظات، و ودَّت لو تطلق صرخة تكسر سكون الصحراء، لم تتخيل يومًا أنها بعد شهور عذاب طويلة ستملكُ فرصة النجاة من قبضة سجَّانها… و أنها من جهة ٱخرى لن تملك القوة لإستغلالها!
أدركت أن تركه هناك يحتضر… لا يعني شيئًا سوى أنها قتلته بملء إرادتها، و لن يجعلها سوى نسخة ٱخرى عنه، و هذا ما ستموت قبل أن تدعه يحدث!
إلتفت خلفها، و بدأت مسيرة الزحف عكس الباب، سيطرت على رعشات أطرافها، و حولت الزحف إلى حبو أسرع، و بلغت جسده مجددًا، لتكتشف شاهقة أن حرارته ماضية في الإرتفاع على نحو مخيف!
“هذا ليس جيدًا!”.
تمتمت متحسسة وجهه، و أضافت بصوت مهزوز و دموعها تتساقط مبللة لحيته:
“مهما كانت أعماقك، سأمد لك العون؛”.
تذكرت إستيقاظها صباح نفس اليوم على مشهد إحتضانه لبطنها كأن الآلام التي تنبضُ برحمها تدوي بروحه! فعاودت التمتمة هذه المرة و هي لا تعرف كيف إستطاعت أن تبتسم من بين دموعها:
“لن أترككَ يا ريغان، لأنك لم تتركني!”.
+
كان دارك محمومًا إلى حد لا يسمح له بالحركة و تسهيل الأمر عليها، غير أن إدراكه لما يحري حوله لم يغب كليا، و كان أشبه بالخيال أن يغمغم آنذاك بكلمات مبهمة…
لم تضيع روكسان وقتًا في تفسير ما لفظه، في غضون ثوانٍ أصبحت خلفه، أمسكت ذراعيه، و حاولت بكل قوتها سحبه صوب غرفته، فإستلقاؤه على السرير أفضل له من البقاء طريح الأرضية القاسية، غير أنها حالما جربت ذلك، تأوهت و سقطت قربه محتضنة أسفل بطنها بيديها، الألم في رحمها ومض بشكل رهيب شلَّ حركتها فجأة، و دفع الكلمات من بين أسنانها بمرارة:

“يا للسموات! هل أنتَ رجلٌ أم فيل؟ ما أثقل وزنك!”.
5
و رغم فكاهة ما قالته، إلا أنها لم تشعر برغبة في مد شفتيها و الضحك، على أن ما سمعته من فم دارك كان مغايرًا و كاسرًا حقيقيًّا للحظة الألم و اليأس تلك:
“أخرجي… البيتزا… لا تدعي هذا البيت… يحترق! تكفيني كارثة واحدة… تحت سقفي!”.
4
تجمدت و هي ترفع رأسها الذي نكسته منذ قليل ألمًا، و إنتفض كما لو أنها ترى فمه يقول ذلك، أدهشها أنه لا يزال مدركًا لما حوله رغم إشتعال جسده حرفيا، لكنها قطعت على نفسها الإنغماس في الدهشة، و أسرعت تلوح بذراعيها في الهواء باضطراب بحثًا عن الفرن، بينما كان صوته يتردد ثانية و بنبرة خفيضة تتقطع:
“لا… تتجرأي… على إحراق… يديكِ!”.
7
بعدما نجحت في إنقاذ البيتزا قبل أن تتفحم… أيقنت روكسان أن دارك فقد قوته الجسدية فحسب، إدراكه السليم يُعجبُ له، دنت منه بفم ملتوٍ، و همست بعجز:
“آسفة!”.
تدلى شعرها متساقطا كسهام ليلية من على كتفيها البيضاوين، و تكومت أطرافه الناعمة فوق صدره الجريح كما لو أنها تجفف دمه، فداعبت إبتسامة غريبة شفتيه و هو يعقِّبُ بصوت خافت و ممزق يشبه تكتكة الساعات:
“اللعنة على حواسي… إن لم يكن هذا… شعركِ روكسان!”.
4
فيما واصلت هي أسفها كأنها هي التي تسببت له بتلك الجروح:
“أنا آسفة حقا! أنتَ ثقيلٌ جدا، و أنا أضعف من أن أنقلكَ إلى سريرك!”.
“دثِّريني به، دارك… يقدِّسُ الأشياء القاتمة!”.
“يبدو أنكَ ستبقى لبعض الوقت ممددًا هنا، لكنني أعدكَ أن أبحث عن شيء أضمد به جروحك!”.
ظنت لوهلة أنه فقد صوابه، لأنه كان يردفُ بكلمات غير منطقية، و أبعد ما يكون عن مجرى حديثها و مبعث قلقها، غير أنها أدركت مدى وعيه بما يلوكه لسانها حين غمغم مقطبًا حاجبيه فوق عينين إنفتحتَا نصف فتحة تقريبًا:
“ضمديني بقبلة… الآثم داخلي أدمن… مذاق طهارتكِ!”.
15
لأول مرة لم تنفذ روكسان لعمق كلماته، و لم يبدُ النفاذ إليها الشيء الأهم حينها، ما عليها فعله هو التحرك و البحث عن صندوق الإسعافات، و لحسن الحظ أن إدريك ترك حقيبة أدوية حين زار الكوخ مؤخرًا بنية معالجتها!
«كم أنت رحيم أيها الرب!».
حين عثرت روكسان على الحقيبة قرب سرير دارك، شعرت كما لو أن باب الفردوس فُتِحَ أمامها، إحتضنتها للحظات دامعة، و عادت بها إلى نقطة الصفر دون أن تتساءل حتى لمن تعود! فيمَ سيهم ذلك طالما المهم هو ما تكتنزه الحقيبة من أمل لنجاته؟!
“يبدو أنكَ بارعٌ في مراوغة الموت دائما… دارك ريغان!”.
تمتمت بتلك العبارة عند رأسه و يداها محشورتان داخل الحقيبة تفتشان بلهفة عن الضماد، و لأنها عمياء لعمر طويل، كانت حواسها الٱخرى تعمل بكفاءة عالية لا تصدق، عن طريق الشم ميزت البخاخ الخاص بتعقيم الجروح، تناولت لفافات الضماد و المقص تأخذ منها ما يكفي لإيقاف نزيفه، و بأصابعها الرشيقة إستطاعت لفَّ شاش الضماد حول كل جرح في وقت قياسي، شاعرة خلال كل ذلك بومضات آلامه و هو يضمرها خلف جسد جسور و مكابر!
“ضمدي جسدي بجسدكِ، أنا ناقمٌ على المسافة بيننا!”.
1
هل تستطيع صفعه ليكف عن ترديد تلك العبارات المارقة؟! لا! لا تستطيع! لا تستطيع أذيته الآن بأية حال، رغم إستحقاقه للأذى بكل أشكاله! لكن ليس و هو فاقد لجذوة قوته و لا يفرقُ شيئًا عن ساق الطاولة!
3
“لا تشوش تركيزي أيها القاتل المنحرف، أحاول التمييز بين هذه الزجاجات، يجبُ حقنكَ حالاً بمضادات حيوية و لا أعرف أي واحدة هي المناسبة!”.
1
“لاكريموزا!”.
“ماذا؟”.
“كانت هناك لاكريموزا مختلفة في عينيكِ! …موتٌ مختلف! …جنازةٌ يُشيَّعُ فيها بصري إلى مثواه الأخير…!”.
5
أفلتت الزجاجات بعدما فشلت في معرفة الأنسب للحقنة، و إنهارت إلى جواره معاودة البكاء، بكاء الرحمة، بكاء تسلل لعقله الباطن، و جعله يمد يده متحسسا بطنها، و يرتجلُ كلمات مختلفة للأكابيلا المظلمة:
«مليء بالدماء ذلك الجسد…
مليئة بكِ تلك الدماء…
حين يخرجُ دارك ريغان كي يُحاكَم»
“توقف!”.
غطت أذنيها بقوة تشعر ببأس شديد يلتهم صدرها، لكنه إستمر، حتى كممت فمه بكلتا يديها تتوسله كي يكفَّ عن جلد إنسانيتها أكثر، المشاعر داخلها تتلاطم، الأسف يتعمق، و الألم يستفحل بكل إنش منها:
“كفى! أريدُ الإبتعاد عنك، لكنني لا أريد قتلك، و ها هو بقائي مثل العدم، أنا عاجزةٌ عن إنقاذك… و أنتَ تجعل الأمر أسوء!”.
شعر دارك كما لو أن كل عظمة بجسده تهشمت، كان مسحوقًا بأتم معنى الكلمة، و كل ما يسري تحت جلده هو فقط… الألم و الإحتراق، و مع ذلك… أجبر نفسه على تحريك يده نحوها، لف أصابعها بجهد حول عنقها، و سحب رأسها ليقترب من رأسه، تعرف على بصمة أنفاسها، رغم صورة وجهها المشوشة في عينيه آنذاك، ثم تحدث قرب شفتيها المهزوزتين:
“سبق و قلتُ… ضمديني بقبلة… لكنكِ لعينة أتعرفين؟”.
3
حارت جوابًا، أي نوع من البشر هو، إنها أكيدة من عدم إتزانه، لا ريب أنه بحاجة لزيارة مصح نفسي قريبًا… إن عاش بالطبع!
صمت دارك لبعض الوقت مبقيًا روكسان حبيسة قبضته، لكنه لم يكن يضغط على عنقها بعنف، كان خائر القوى بكل الأحوال، و يكتفي بأنفاس حادة ترجُّ صدره بوتيرة مماثلة لتسارع نبضات قلب روكسان، و أما هي، فقد وجدت لأول مرة راحة في الإقتراب منه، كان ذلك أغرب شيء تعيشه، كأنه ليس دارك الذي عرفته لشهور طويلة، كأنه ليس القاتل القاسي الذي إختطفها عنوة، و هدد بأخذ عفتها و إنتهاك جسدها كيفما بدا له و أنَّى شاء! كأن من يتمدد على الأرض تحتها الآن مجرد رجل جريح يتنفس بحدة… و نبضه يضعف شيئًا فشيئًا!
تحركت أصابعه على بشرة عنقها بنعومة، فخدر ذلك اللمسُ المرهفُ حواسها، و جعلها تستعذب عطر أنفاسه الذي إقتحم فمها، و كادت تفقد رشدها و تسلمه شفتيها برضاها لولا رنين هاتفه المفاجئ!
ضربة حظ! هذا ما فكرت فيه روكسان و هي تستخرج الهاتف من جيبه مستبشرة، أيًّا يكن المتصل، لا ريب أنه يعرف دارك و لا يريد له الموت، لذا قررت أن تضغط على الشاشة عشوائيا حتى تلتقط صوتًا ما!
“دارك!”.
“دارك في خطر! نزف كثيرًا، و ليس في مقدوري فعل أي شيء له!”.
كان إدريك هو المتصل، و دون حاجة للتخمينات، أدرك من تخابره على الطرف الآخر، فكر أنها آذته بشكل ما لتخلص نفسها، فكزَّ على أسنانه و هو يتجه نحو سيارته مباشرًا بإستجوابها:
2
“ما سببُ النزيف؟”.
“لا فكرة لدي! فقط أسرع… إنه يموت!”.
“أين أنتما؟”.
أخذت نفسًا قصيرًا و أجابت شاعرة بدوار عابر:
“جلُّ ما أعرفه أننا… في كوخ وسط الصحراء!”.
دعس دواسة البنزين بعنف شاكرًا أنهما لا يزالان هناك، و كشر معلقًا:
“إنه أكثر مكان أعرفه!”.
ضاعف من سرعته متجاهلاً إتصال سيريا الذي تدخل على الخط، و أضاف ببرود يرافقه حتى في أسوء المواقف:
“إبقي معي على الخط، و إبحثي عن حقيبة طبية سوداء تركتُها هناك!”.
أخيرًا أدركت روكسان أن محدثها طبيب، بل لا ريب أنه الطبيب نفسه الذي كان له الفضل في إعادة دورتها الشهرية لمجراها الطبيعي، فإحترمته في أعماقها رغم أنها تجهل ماهية صلته بعالم دارك المظلم، ربما هو ليس ذلك الطبيب النبيل، ربما هو نذل آخر من أنذال المافيا، هي لا تعرف، و لا يهمها أن تعرف، ما يهمها الآن ألا تشهد موت دارك، هي حقا لا تملك فكرة لِمَ يمكن أن يدمرها مشهد موت الشخص نفسه الذي ينوي قتلها يومًا ما!
“هل تسمعينني؟!”.
لاحظت أنها شردت في اللحظة الخطأ، فأجابت بضيق نفس:
“الحقيبة معي…!”.
“ممتاز! هل تجيدين إعداد حقنة مضادة للإلتهاب ريثما أصل؟”.
«لستُ متأكدة!»
خاطبت نفسها سرًّا و هي تتحرر من قبضة دارك و تفتح الحقيبة مجددا، ثم قالت تخاطب إدريك بلهجة مترددة:
“ربما يمكنني المحاولة! أساسًا سبق و فعلت… و لكن فشلت بسبب عدم تمييزي بين الزجاجات”.
إشتد فكَّاه مذكرًا نفسه أنها لا تبصر، و عاد للحديث هذه المرة بصوت أكثر هدوءًا و برودة:
6
“لا نفع من تلك الزجاجات، إنها مجرد جرعات لحالات الزكام و الحمى المتوسطية، ستجدين علبة كرتون بحجم القبضة، داخلها كبسولات، تلك هي المضادات، إحقنيه في الوريد بواحدة فقط!”.
2
إزدردت ريقها و هي تحفظ التعليمات، قبل أن يسألها مجددا… و لكن بقلق محسوس:
“هل هو في وعيه؟”.
“قال أشياء مجنونة حتى الآن!”.
“إذن لا خوف عليه، طالما هناك جنون… هناك دارك!”.
حقنت روكسان دارك متبعة إرشادات الطبيب، توقعت أن يوقع صفعة على وجهها أو أن يحطم أسنانها بلكمة حالما تغرز الإبرة في وريده، و الحق أنها إضطرت للمسه ببطء و تركيز حتى تتحسس نبضه في مكانه الصحيح، غير أن دارك كان قد بدأ يفقدُ إدراكه، و بدأت الحمى تبتلعُ ما تبقى من وعيه و شعوره، فتركته أشبه بميت بين يدي رهينته و تحت رحمتها، و كم هي غريبة الحياة ما إن تقلبُ الأدوار فجأة!
سمعت لاحقًا صوت سيارة تفرمل خارجًا، فابتسمت بسخرية يداخلها فرح لذيذ و ألم مقيت، و تمتمت:
“أترى يا خادع الموت؟ لم أكن مخطئة إذ وصفتكَ بالمراوغ! حتى أنا خدعتني و جعلتني أنقذك!”.

ساعات مضت…

حتى بأحلامه اللعينة تفرضُ نفسها! إن لم يكن هذا الذي يغلفه الآن هو ظلام الغرفة، فلا بد أنه شعرها! رفع جفنيه ببطء يشعرُ و كأنه رأى حلمًا طويلاً… بطول حياته، حتى إعتدل بصعوبة في جلسته على السرير، و أيقن أن صراع الموت و الحياة يخلف ذلك الشعور السرابي المثبط!
حسنا، ربما أخطأ بتقدير زمن الحلم، لكنه لم يكن مخطئًا بشأنها، كان شعر روكسان بقربه بالفعل، لكن هي لم تكن كذلك، رأى إدريك فقط يقفُ عند نهاية السرير يرتدي فوق طقمه الرمادي الباهت برودًا قاتلاً، و لم يكن لها حوله أي وجود!
قبض على خصلاتها المقصوصة لاعنًا تلك الصحوة، ليته هلك قبل أن يرى ذلك، لا معنى لشعرها إن لم يكن متصلاً بها، و ستبدأ الجحيم لو أن ما يفكر فيه قائم!
1
“هل حررتَها؟”.
ضيَّق عينيه موجها ذلك السؤال المقتضب لإدريك، فجمع هذا الأخير قبضتيه معا خلف ظهره، و قال دون أدنى شعور:
“ماذا لو فعلت؟!”.
باتت نظرة دارك قاتمة كالخصلات في قبضته، و جاء جوابه أكثر قتامة:
“حينها سأنسى أنكَ عرَّابُ أوجاعي، و سألعنكَ ما حييت!”.
تجاوز إدريك الشظية التي إخترقته بفعل ما سمع، و أردف بنظر ثاقب:
“ما الذي تفعله دارك؟ هل تنتقمُ من داجيو… أم تقعُ في شيء آخر؟!”.
5
كان السؤال الأرعب بالنسبة لأي سفاح في الويد، غير مسموح للسفاحين أن يقعوا سوى في حب أسلحتهم و أعداد قتلاهم، و إن وقعوا بشكل آخر، فالأفضل أن تكون وقعةً في شِراك الموت!
و الجميع يحفظ تلك القاعدة الشهيرة:
«السفاح ميت إن وقع في يد الشرطة أو في حب علوي!»
1
على أن دارك تصرف بغير إكتراث كعادته، و لم يغير مسار نظراته الحادة و هو يسأل بإصرار:
“أين أخذتها؟”.
أفرج إدريك عن أنفاس طويلة، و جلس على مقعد في الزاوية مجيبًا:
“إلى الغرفة المجاورة، وضعها ليس أفضل منك، لذا هي بحاجة للراحة!”.
إستغرب دارك في قرارة نفسه قرار إدريك بإبقاء روكسان رهن الكوخ، لكنه لم يواصل مناقشته في ذلك الخصوص، تنفس بهدوء لبعض الثواني، ثم عقد حاجبيه، و غير دفة الحديث إلى شيء أكثر إزعاجا من فكرة إختفائها:
“هل كانت بحاجة لقص هذه الخصلات أيضا؟”.
“أنا طبيب، و لستُ مصفف شعر، حين تستفيق… إسألها لِمَ أرادت تغيير مظهرها فجأةً؟!”.
1
أنهى إدريك عبارته، و أخذ يطرق ذقنه بأنامله مسافرًا بخياله لإتصالات سيريا التي رقص لها هاتفه، اللعينة! أمرها بعدم الوقوف على قدميها المصابتين، لكنها عصته كما تفعل منذ صغرها، برقت عيناه السوداوان يتذكر كيف لمحها لثوانٍ تطلُّ من النافذة سرًّا، لتلاحق بعينيها سيارته و هي تغادر باحة المنزل!
و من هناك… ومض الألم أسفل صدر دارك حين هم بمغادرة السرير، فتراجع عن المحاولة، و ظل ساكن الحركة للحظات يفكر في مشهد إسترجعه من حلمه الطويل، كأنه سمع روكسان تطالبه بإفلات شعرها! ما كان ذلك؟ هل كان حلمًا حقا؟
1
لمس القلادة التي لا تزال حول عنقه، و تحرر صوته مجددا:
“كيف علمتَ بإصابتي؟”.
“عليكَ أن تمتنَّ لرهينتك!”.
كانت من النوادر أن يبتسم إدريك، لكنه فعلها و بدا جميلاً جدا و هو يستطردُ بخبث:
“إعذِر زلَّة لساني، أنتَ لا تمتنُّ أبدًا، أليس كذلك يا دارك؟”.
و في ظل صمت تام من دارك، أضاف الآخر ملقيًا نظرة على ساعة يده:
“لنرَ ماذا سيكتبون عن جرائمكَ لليوم الماضي على صفحات الجرائد، في النهاية… حققتَ المستحيل… و حطمتَ رقم «جينيوس» القياسي، لكن… هل سيكون مقالاً وطنيا برأيك؟ «سفاح لاس فيغاس يحمي المدينة من شرور عصابة شوارع بمِشرط»؟ أم أنهم سيكتبون عن الأمر بعاطفية؟ أنتَ تعرف أن الصحافة هم مافيا الحبر، لا يتركون شيئًا للصدفة، و يستطيعون شمَّ رائحة المرأة في حياة أي رجل، و هذا لن يعجبَ الميغا!”.
ليس ذلك بالجديد عليه، أوراق إدريك الخاصة بارعون في الجوسسة، و يزودونه بأدق تحركات أفراد الويد طبقا لما تنص عليه مواثيق عمل المنظمة!
“ما الفرق الآن؟ الميغا بأسرها… لا تعجبني!”.
توقع إدريك ردًّا مشابهًا منه، فأسقط بصره نحو الصليب على صدره، و علق بدهاء:
“أرى بجلاء ما الذي يعجبك! لكن حذارِ يا دارك…”.
نهض عن مقعده و تابع مسويا بدلته:
“بعض الأشياء التي نرتديها ندفع ثمنها مرتين!”.
تبادلا نظرة ذات معنى خاص، ليتابع إدريك و هو يخطو بتؤدة:
“و بعض الجثث لا نستطيع إخفاء رائحتها و لو دفنناها عميقًا!”.
إحتدت نظرة دارك، عرف بما يرمي إليه إدريك، لا ريب أنه وقف على حقيقة ما جرى منذ ساعات… أو نصفه ربما، و مضى مخاطبه يوضح بدهاء ليس غريبًا عن رجل مثله و في مركزه:
“قتل عصابة شوارع من أجل قلادة ثمينة قد يبدو جزءً من عملنا كسفاحين للويد، لكن… قتل مارغريت فارغاس كان حركة عبثية لا طائل منها، أخبرني! لأجل أي شيء لعين قد تقتلُ عمتها!”.
كان ذلك آخر ما سمعته روكسان و هي تسترق السمع من خلف الباب، و من هول الصدمة التي تلقتها… سقطت دفعة واحدة، و لم تعرف ما إذا كانت فقدت الوعي… أو فقدت شيئًا أكبر!
3
أمضت بعد ذلك وقتًا عصيبًا من الصراخ و البكاء، و تطلب إخماد نيران غضبها و حزنها إبرة مهدئة من إدريك، لأنه لو لم يسيطر عليها لحطمت الكوخ فوق رأسيهما، لكن حتى بعدما إستفاقت و هدأت، ظل الغضب يطل من عينيها المنهكتين، و إستمر الحزن يلوي شفتيها، صحيح أنها حبستها في القبو طويلاً، و لم توفر فرصة لإهانتها كونها مجهولة الأب، لكنها كانت الشخص الوحيد الذي تنتمي إليه، الفرد الأخير من العائلة، كانت مارغو عمتها… و هذا كل ما إستطاعت التفكير به، قالت لها مرارا أن شقيقها أحضر امرأة حامل من ملهى ليلي، و كانت تلك أمها… المومس و الراقصة الإباحية «روزالين» هكذا دون لقب، فقط روزالين أو «روزا» كما كان يناديها هو، ثم تخلى عنهما و لم يعد، و الأرجح أنه كان يجهل بحمل روزا، لأنها لطالما رددت ذلك في أذن روكسان الطفلة!
كم كان مثيرًا للضحك و البكاء في آن… أن يستعيد هو عافيته في ظرف يومين، و تبدو هي شاحبة كالموتى دون أن يطالها جرح واحد من جروحه، أدرك دارك أخيرًا أنها قصت ذلك الجزء من شعرها بينما كان يمسكه بقسوة خلال هذيانه، أشاح عنها لفترة طويلة، ثم وجد نفسه يجلس أمامها كأنها كتلة طاقة جاذبة لا تتركه لحال سبيله، أو لعله هو من يمسك و لا يفلت!
2
و قبل أن ينطق بشيء، شعرت روكسان بحضوره، فتمتمت بتعاسة عارمة:
“سمعتُ مرة عن ريح عصفت بغصن فكسرته، و ظل على الأرض منسيًّا، لا الريح إعتذرت، و لا الشجرة إنحنت و لملمت ما كُسِر منها! الآن أنا أرى بجلاء أنني ذلك الغصن المكسور… و أنت الريح العاتية التي تكسر و تمضي دون إعتذار، و لكن… ٱنظر لما فعلتَه الآن… لقد إقتلعتَ كل الشجرة… و لم يعُد لي جزء أعود إليه…!”
6
كان يعرف أنها تشيرُ لعمتها، فرد العائلة الأخير! يا له من فرد تفتخرُ به! ما بالها؟ لقد أراحها من عجوز قذرة كانت تستحق الأسوء بنظره!
أشعل سيجارة و دخن لأول مرة بعيدا عن وجهها، ثم علق بغموض:
“ربما أنا ريحٌ لا تعتذر، لكنها تحمل ما تكسره!”.
نفث ما إمتصه من دخان ثانية في إتجاه معاكس لها، ثم إلتفت إليها مضيفًا:
“والدكِ السافلُ جِذعٌ متعفِّن، و عمَّتُكِ كانت أشدَّ قذارة، العودُ لهما أسوء من الموت، البقاء معي أفضل قدرٍ لكِ يا روكسان!”.
1
“لتقتلني في النهاية… صحيح؟!”.
عقَّبت بسرعة، فترك دارك فاصلاً طويلاً من الصمت و هو يأخذ مجتين متتالتين من السيجارة، قبل أن يردَّ بلهجة قد تبدو في أذن شخص لا يعرفه جيدا… جميلة:
“من يدري؟ ربما أحتفظ بكِ لأسباب خاصة!”.
6
إمتعضت مردفة في حدة:
“لستُ ملكًا لك!”.
“ماذا أنتِ فاعلةٌ ببيتي إذن؟ لماذا لم تركضي بعيدًا حين كانت الفرصة سانحة؟”.
أجابت بثبات:
“عفوًا، لا أحب قتل نفسي!”.
فاستفهم رافعًا حاجبيه:
“المعنى؟”.
و ها هي تجيبه بنفس الثبات:
“أين تريدني أن أركض؟ هنا؟ وسط أميال شاسعة من الكثبان الرملية و الصخور التي لا أستطيع إبصارها؟ حتى إن لم تفترسني وحوش نيڤادا الضارية و لم تقتلني برودة ليلها القاسية، فحتما ستقضي علي شمسها الحارقة حالما ينقشعُ الظلام! هذا إن لم نفترض أن معذِّبي سيلحق بي و يعيدني إلى نقطة الصفر!”.
تمددت أطراف شفتيه في شبه إبتسامة، فقط من أجل كلمة «معذبي»، و علق معلنا نهاية سيجارته:
“سمعتُ منحرفين كثُر يحصرون جاذبية النساء في صدورهن المشدودة و أردافهن البارزة و خصورهن الضيقة، لكن تبا لكل ذلك أمام جاذبيتكِ أنتِ! أتعرفين ما الذي يُميِّزُكِ يا مصيبتي…؟”.
1
إلتقط سيجارة ٱخرى مستأنفًا قوله:
“…الطريقة التي يعمل بها عقلكِ اللعين!”.
تجاهلت جنون عباراته، و سألت مغيرة الموضوع تماما بينما كانت تصفه في أعماقها بالمعتلِّ نفسيًّا:
“لم تقل لي! هل إستفاق من غيبوبته؟”.
لم يكن من الصعب أن يحزر من تقصد، من غير والدها الحقير؟!
“ليس بعد!”.
“لماذا لم تجهز عليه و هو في هذه الحال؟ لن يقاومك صحيح؟ هو الآن أضعف من جناح بعوضة!”.
2
ها هي ذي مجددا تجرب النفاذ لعقله عبر الكلمات، و اللعنة إن تركها تنجح في مسعاها!
“لم يجعل الأمر سهلاً علي، و أنا عادلٌ في رد الجميل!”.
أرادت أن تضحي بعين و ضرس كي تعرف فقط ما الكارثة التي إقترفها داجيو في حق أمه؟! سحبت هواءً كافيًا لرئتيها مسترسلة في أسئلتها:
“هل من العدالة أن تقتصَّ من شخص لم يؤذك أبدًا!”.
“إذا كان هذا الشخص يحمل جينات من أذاني و دمه… أليس هذا كافٍ لأفعل به ما أشاء؟!”.
1
ظن أنها ستلجأ للصمت بعد ذلك، لكنها فاجأته بصوت عذب و هي تتقلب بين الحزن و الرحمة و الكره قائلة:
“لكنك تحمل قلبًا قاسيًا… و مع ذلك بقيتُ معك و حاولتُ إسعافك… أليس هذا كافٍ لتخلي سبيلي؟!”.
إنحنى عليها حتى شعرت أنه ليس سوى ظلمة حالكة قد حلت فوق رأسها، و لم يكن واردًا أبدًا أن يسألها ذلك!
“كيف ترينني… روكسان؟!”.
إرتبكت للحظة، ثم أجابت بغصة:
“هل الأعمى يرى؟!”.
غضب لتلك الإجابة، يا لها من سافلة كأبيها! أنَّى لها أن ترى روح غابريال و بيته إذن؟! كال لها نظرة كانت لتزلزل كيانها لو أنها أبصرتها، و حشرها بين ذراعيه حشرًا عنيفًا مرددا في وجهها بوحشية سافرة:
5
“و هل السفاح يرحم؟!”.
جاهدت لتتحمل عناقه القاسي، و قالت ما جعله يثق أن لسانها قد يؤجج النار و قد يخمدها في ذات اللحظة:
“نعم! إذا إستطاع أن يحمي قلادة دين… و يوقف ألم حائض… سيجد طريقه نحو الرحمة!”.

 

 

0 0 votes
Article Rating
____

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x