روايات

رواية نجوت بك الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم مي مصطفي

 

البارت الثاني والعشرون

 

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-
انتهت السهرة، ودخلت رباب إلى غرفتها، وتبعتها رنا، تاركتَين رفيدة وسليمان وحدهما.
كان سليمان يحتضنها برفق، أصابعه تعبث بيدها بحنانٍ كأنه يكتب عليها قصيدة صامتة، وعيونهما غارقتان في بعضهما.
همس بصوت دافئ:
— “ده من أجمل أيام حياتي… وأكتر عيد ميلاد مميّز ليا… عمري ما هنساه.”
ابتسمت رفيدة وفي صوتها حبٌ وامتنان:
— “أنا كنت عايزه يكون مميّز… وتفضل ذكرى
متتنسيش.”
ثم أمالت رأسها قليلًا، وفي ملامحها مكر طفولي:
— “مش عايز تعرف باقي المفاجآت؟… ولا هديتي؟”
نظر إليها بدهشة:
— “هو مش البوكس الأسود ده؟” وأشار نحوه.
هزّت رأسها بالإيجاب، لكنها أضافت:
— “آه… بس لسه فيه.”
زاد استغرابه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة مصحوبة بضحكة قصيرة.
قالت بعينين تلمعان:
— “كنت محتاجة أعملك حاجة بإيدي… حاجة تكون ذكرى لينا… وتحفظ حكايتنا.”
— “حمستيني جدًا… طب فين هي؟”
— “استنى هنا… هجيبها.”
غابت قليلًا في الغرفة، ثم عادت تحمل شيئًا مغلّفًا بقماش مزخرف أنيق، وقدّمته له.
— “إيه ده؟… كتاب ولا إيه؟”
أشارت بعينيها نحوه:
— “افتح… وشوف.”
فتح التغليف، فوجد دفترًا مُزيَّنًا بعناية، يعلوه اسماهما مكتوبان بحروفٍ أنيقة: “سُلِيمان و رُفيدة”.
ضحك بفرح:
— “بكسرة بردو؟”
أجابته وهي تضحك:
— “بكسرة بردو.”
— “ده شكله تحفة… بجد… هاند ميد؟”
— “أيوه… دي حاجة اسمها جورنال… أنا بحب الرسم جدًا… وكنت طول عمري أبحث عن أفكار زي دي… وحبيت أعملك حاجة مختلفة بإيدي.”
— “خرافة… الكتاب باين من عنوانه فعلًا… متحمس أشوفه.”
فتح الصفحة الأولى، وبدأ يقرأ المقدمة، ومع كل جملة، كانت ابتسامته تزداد، ودقات قلبه تتسارع، حتى شعر بحرارة في عينيه.
المقدمة:
“إلى الرجل الذي جاء دون موعد، فربك قلبي إليه قبل أن أعرف معنى الالتقاء…
إلى من صار اسمه في قلبي نشيدًا، وصوته مأوى ألوذ به من ضجيج الدنيا…
لم تكن مجرّد شخصٍ عابر، بل كنتَ الأمان الذي ظللت أبحث عنه دون أن أسمّيه، والسكينة التي هبطت على قلبي المرهق فجأة، فأيقنت أنّك لستَ صدفة.
معك شعرتُ أنّ الخوف يغادرني، وأنني مهما وقعت أستطيع أن أنهض ما دمتَ هنا.
هذه صفحاتي إليك، لا تحمل حبرًا فحسب، بل تحمل دقاتي، دموعي، وضحكاتي، ولحظاتٍ ظللت أحملها في قلبي وأخشى أن أقولها.
أردت أن أُهديك شيئًا لا يصدأ، لا يُمحى، ولا يُقاس بثمن… أردت أن أُهديك قصتنا كما رآها قلبي.”

+

 

 

قلّب الصفحة التالية، فإذا برسمٍ معبّر لفتاة في ظلام المخزن، ويد خفية تمتد من خلف جدار لانتشالها من العتمة، وإلى جانبها كلماتها:
أول لقاء
“لم يكن لقاؤنا كغيره من اللقاءات… لم أرَك أول الأمر، بل سمعتك.
كنتُ وحيدة، غارقة في عتمة المخزن، محاصَرة برائحة الغبار وبثقل الصمت الذي يخنق الأنفاس. كان قلبي يركض مذعورًا، ويدي ترتجفان في ظلامٍ بدا بلا نهاية، وأذناي تتحسّسان أي صوتٍ كأنه تهديد.
لطالما ارتجفت من نبرة أي رجل… حتى مرّ صوتك.
كان الوحيد الذي لم يزرع في صدري خوفًا، الوحيد الذي اخترق العتمة دون أن يجرحني، الوحيد الذي شعرت معه وكأنني أتنفس بعد غرق طويل.
لم يكن سؤالًا عابرًا أو نبرة رسمية، بل كان امتدادًا ليدٍ غير مرئية تنتشلني من الغرق.
في تلك اللحظة، أدركت أن جدران المخزن لم تعد تضيق بي كما قبل، وأن هناك مأوى ما دام صوتك قادرًا على الوصول إليّ.”

+

توالت الصفحات، وكل واحدة منها تحمل لوحة وألوانًا تنطق دون صوت، وكلماتٍ تصف مشاعر وأحداثًا جمعتهما.
حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة، فرفع عينيه إليها، فإذا بها تبتسم وتقول الكلمة التي انتظرها طويلًا:

+

— “بحبك يا سُلِيمان… بحبك يا أماني… بحبك يا أجمل نعمة وعوض من ربنا.”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية سمراء احتلت كياني الفصل السابع 7 بقلم أميرة محمد

+

لم يتمالك دموعه، وجذبها إلى حضنه بقوة كأنما يخشى أن تفلت منه، ثم قضيا بقية الليل يتحدثان عن مشاعرهما وأحلامهما، حتى غلبهما النعاس على الأريكة، وهي بين ذراعيه، وهو يطوّقها كمن يحرس كنزًا لا يفرّط فيه، وهي تتشبّث به كمن وجد نجاة عمره.

+

مع الفجر، جاءت رباب كعادتها، ورأت المشهد، فابتسمت ودعت لهما من قلبها، قبل أن توقظهما برفق.

+

كانت الأيام تمضي مسرعة، حتى انقضى الشهر، وبدأ العدّ التنازلي للنزول إلى مصر استعدادًا لحفل الزفاف.
وصلوا إلى بيت “سليمان” في القاهرة، وبدأ الأهل يتوافدون، وكلّهم شوق للتعرّف على “رفيدة”.

+

ارتدت “رفيدة” فستانًا صيفيًّا من قماش الشيفون، يزدان بفراشات بيضاء وأخرى بلون الموف الغامق، فوق أرضية من الموف الفاتح. كان الفستان بلا أكمام، يكشف ذراعيها الناصعتين بكرم، ويظهر جزءًا من عنقها وصدرها، وينتهي أسفل الركبة قليلًا، تاركًا ساقيها مكشوفتين.
كان شعرها الطويل، بلون الشوكولاتة الممزوج بخصل ذهبية، ينسدل على كتفيها بانسياب ناعم، وقد ارتدت صندلًا أبيض بكعب قصير. بدت، في أقل وصف، فاتنةً تأسر النظر.

+

خرجت من غرفتها إلى الصالة، فرفع “سليمان” رأسه من هاتفه حين سمع وقع خطواتها. وقع بصره عليها، فتسمر لحظة، ثم همس مدهوشًا:
— “يا وعدي على الجمال…”
لكن لحظة الإدراك تلتها شرارة الغيرة، فهبّ واقفًا، وقال بصوت متوتّر:
— “ثواني كده… هو ده اللبس اللي هتقعدي بيه قدام قرايبنا؟”

+

 

 

 

ارتبكت “رفيدة” من حدة نبرته، وأجابت بصوت منخفض:
— “أيوه… ماما اللي اختارته.”

+

ابتسم بسخرية، وعاد يتحدث بنبرة لاذعة:
— “يا روح ماما… أنا جوزك، وما لبستيش قدامي حاجة كات ولا بالمنظر ده! اللبس ده مش هتطلعي بيه قدامهم.”

+

كانت “رباب” قد خرجت من المطبخ على أثر صوته المرتفع، وسألته:
— “إيه؟ صوتك عالي كده ليه؟”
أجاب وهو يضع يده على خاصرته:
— “ده إيه ده إن شاء الله؟”
— “إيه؟”
— “ده لبس تقعد بيه معاهم يعني؟”
أجابته “رباب” بهدوء:
— “وفيها إيه يا ابني؟ كلهم ستات وبنات، ودي قعدة علشان يشوفوها ويتعرفوا عليها.”
اشتد صوته وقال:
— “أهو قولتي! يتعرفوا عليها… إيه دخل اللبس في التعارف؟”
ابتسمت “رباب” بخفة وقالت:
— “وفيها إيه علشان يشوفوا مراتك وجمالها؟”

+

لكن “سليمان” قاطعها بعصبية، ونبرة غيرة واضحة:
— “أنا مراتي مش للفُرجة… ومش كل واحد يفضل يبص ويفصص فيها وبعدين يروح يحكي عن جمالها! رفيدة هتدخل تغيّر اللبس، وتلبس حاجة محتشمة، ومفيش حاجة من جسمها تظهر… وكمان بحجاب.”
رفعت “رباب” حاجبها ساخرة:
— “وعلى إيه؟ ما تخليها بالنقاب بالمرة!”
هز رأسه قائلًا:
— “لأ… أنا مش متشدد للدرجة دي، ولا ديكتاتوري.”

+

كانت “رفيدة” منذ الصباح متوترة، تخشى الجلسة مع أهله وما قد تتضمنه من أسئلة عن حياتها. وما إن وجدت في هذا الجدال مخرجًا من المواجهة، حتى اغرورقت عيناها بالدموع وقالت بصوت مرتعش:
— “أنا مش هقعد مع حد!” ثم اندفعت إلى غرفتها.

+

تفاجأ الاثنان، ولحقها “سليمان” مسرعًا، ودخل ليجدها تبكي بشدة. جلس قربها وقال بحنان ممزوج بقلق:
— “بتعيطي ليه بس؟ أنا عارف إنك مش هتكوني مرتاحة، وأنا ما بحبش حد يشوف حاجة من جسمك، حتى لو ست… النفوس مش مضمونة.”
رفعت رأسها والدموع على وجنتيها:
— “أنا أصلاً مش مرتاحة فيه من الأول، بس ماما صمتت فافتكرت ده العادي… أنا مبعرفش حاجة عن القعدات دي، ومن أول اليوم وأنا متوترة وخايفة.”
اقترب منها أكثر، ووضع يده على وجهها:
— “مالك يا قلبي؟ خايفة من إيه؟”
ترددت وهي تقول:
— “لما نقعد، ويبدأوا يتكلموا ويسألوا عن أهلي وحياتي…”
فقاطعها بهدوء وثبات:
— “ما تشيليش هم أي حاجة وأنا موجود. ملكيش دعوة برأي ولا بكلام أي حد… ومتىرديش أنا موجود…خليكي واثقة في نفسك وفي حبي ليكي. أنا عايز رفيدة المهندسة الشاطرة، اللي حاربت ووصلت لمكانة محدش يوصلها بفلوس و لا بنفوذ الدنيا. خليكي فخورة بنفسك… دايمًا بصي في عيني، هتلاقي الدعم.”
عانقته عناقًا طويلًا، ثم قال مبتسمًا:
— “يلا… أنا اللي هختارلك اللبس.”
اختار لها بلوزة كتان بيضاء مرسوم عليها فراشات باللون الأزرق الفاتح، مع جيبة من اللون نفسه وحزام أبيض، وحجاب يجمع اللونين. ارتدت الطقم، وبدأ الأهل بالتوافد، بينما كان “سليمان” و”رباب” و”رنا” يستقبلونهم.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية سيطرة ناعمة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم سوما العربي

+

 

سأل الحاضرون عن العروس، فذهب “سليمان” ليأتي بها. طرق الباب وهي ترتدي حذاءً بكعب عالٍ، فأذنت له بالدخول، فابتسم قائلًا:
— “إيه القمر ده… أبسط حاجة بتجمّلك.”

+

جلسوا جميعًا في الصالة، والهمسات تدور بين الوجوه المترقبة. كان سليمان يجلس إلى جوار رفيدة، يمسك يدها، وذراعه الأخرى على كتفها في حماية ظاهرة، بينما هي تلوذ بالصمت ووجنتاها مشتعلة بحمرة الحياء.
بدأت التعارفات: هذه عمته، وتلك خالته، وتلك زوجة خاله… حتى تقدّمت ملك، ابنة خالته، وفي عينيها بريق غيرة وحقد دفين، نطقت بلهجة متعمدة لإحراجها:
— “وانتي بقى أهلك كانوا موافقين إزاي تقعدي مع سليمان في بيته قبل الفرح؟ هما فين صحيح؟ مش شايفة لا مامتك ولا أختك ولا أي حد معاكي هنا نتعرف عليه!”

+

كلماتها سقطت على قلب رفيدة كالصاعقة، فجسدها ارتجف وقبضت أصابعها بقوة على يد سليمان، وكأنها تتشبث بآخر طوق نجاة. مدّ هو يده الأخرى على كتفها يربّت في هدوء، ثم قال بثبات:
— “رفيدة… يتيمة.”

+

ساد الصمت، وانطلقت بعض الآهات المتعاطفة: “الله يرحمهم”.
لكن عمته سألت بفضول:
— “ومفيش حد من أهلها… عمتها أو حد من قرايبها معاها؟ يعني مينفعش بردو تكون لوحدها كده.”

+

شعرت رفيدة بأن أنفاسها تتسارع، وقلبها يدق بعنف، وأدركت أن الأسئلة لن تتوقف. قطعت الطريق على سليمان قبل أن يرد،وقد قررت قطع أي تبرير، وقالت بصوت متماسك رغم ارتجافه:
— “أنا يتيمة من الكل… اتربيت في ملجأ.”

+

تسارعت شهقات الدهشة، لكن نيفين، أم ملك، بادرت بصوت ممتلئ ازدراء:
— “ملجأ!!! بقى أنت ترفض تتجوز بنتي بنت الحسب والنسب، وتروح تتجوز واحدة الله أعلم بنسبها… منعرفش ليها أصل ولا فصل… بنت حرام تتجوز بنت…”
قفز سليمان واقفًا، عينيه تقدحان غضبًا:
— “خالتووو… الزمي حدودك! اللي بتتكلمي عليها دلوقتي دي مراتي!”
لكنها لم تصمت:
— “مراتك واحدة متربية في ملجأ، الله أعلم اتربت إزاي! دي اللي تأمن عليها عرضك وتبقى أم ولادك؟!”

+

تدخلت رباب بحدة:
— “نيفين… مسمحلكيش تغلطي فيها! رفيدة بنت مفيش منها اتنين، وتربيتها ولا غلطة!”

+

ردت نيفين باستهزاء:
— “هي عملت لكم إيه؟ عاملة ليكم عمل ولا إيه؟ إنتي إزاي توافقي سليمان على الجوازة دي؟ دي واحدة متشرفش!”

+

رفعت رباب رأسها عاليًا:
— “مسمحلكيش تتكلمي عن بنتي كده! رفيدة تشرف أي حد!”
تجمدت نظرات نيفين:
— “بنتك؟!!”
اقتربت رباب من رفيدة، وأخذتها من حضن سليمان إلى حضنها، وهي تقول بعاطفة حادة:
— “أنا أتشرف ببنت زي رفيدة تكون بنتي قبل ما تكون مرات ابني… بنت بميت راجل، مكافحة، مجتهدة، وملتزمة وعارفة دينها كويس.”
قهقهت نيفين بسخرية:
— “دين إيه وشرف إيه! إنتي مستوعبة كلامك؟ إيه يخلي أهل يرمو بنتهم كده غير إنها بنت حرام… والعرق دساس!”
صرخ سليمان بصوت يرتجف من شدة الغضب:
— “كفاية لغاية كده! مسمحلكيش تشككي في شرف وأدب مراتي! أنا اخترت رفيدة زوجه زي ما ديني قال: أهم شرطين الدين والأخلاق، ودول عندها وكفاية! النسب ييجي بعدهم! وأنا علاقتي بيها مش بأهلها ولا بماضيها! ومسمحش بكلمة تتقال على مراتي، واللي يتكلم عليها يزعل، مهما كان مين! مراتي خط أحمر… أظن كلامي واضح!”

+

 

رفعت نيفين صوتها:
— “شايفة ابنك بيكلمني إزاي؟ وعلشان خاطر مين؟”

+

أجابت رباب بصرامة:
— “علشان خاطر مراته… شرفه وعرضه، اللي إنتي قاعدة بتشككي فيه! وأنا قبل سليمان، اللي هيقول ربع كلمة عن بنتي رفيدة… هيزعل مني أنا قبل ما يزعل من سليمان!”

+

شهقت نيفين بدهشة:
— “بتختاريها على أختك؟ أختك اللي من لحمك ودمك؟! بتختاري واحدة بنت حرام، وتربية ملجأ وشوارع، عليا أنا؟!”

+

هنا، شعرت رفيدة أن الأرض تدور بها، وضغطت كفيها على أذنيها، وصرخت بصوت مبحوح:
— “كفاية… كفااااية… كفااااية!! مش عايزة أسمع صوت حد! حرااام عليكم!”

+

ثم أطلقت آهة طويلة وانطفأت قواها، فسقطت مغشيًّا عليها في حضن سليمان الذي كان يحاول تهدئتها.
رباب وسليمان حاولا إفاقةها بلا جدوى. انحنى سليمان فوقها، صوته يرتعش:
— “رفيدة… رفيدة فوقي بالله عليكي!”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية جاسر وشربات - قصة لا تنتهي الفصل العاشر 10 بقلم دينا

+

رباب، والدموع تنهمر:
— “فوقي يا بنتي… حقك عليا… أنا آسفة… آسفة!”

+

لكن أنفاس رفيدة كانت بطيئة، ووجهها احمرّ على نحو مقلق. التفت سليمان برعب وهو يصرخ:
— “رنااا… رنااا… نقاب بسرعة ليها، وحصليني على العربية!”

+

حملها بين ذراعيه، يركض بها نحو الباب، ورباب تركض خلفه، تجلس معها في السيارة وتضعها على حجرها، تحاول إفاقتها، لكن لا حياة لمن تنادي.

+

كانت أنفاس “سليمان” تتسابق مع عقارب الوقت، يطوي الممرات ركضًا، ويداه ترتجفان وهو يضم كفَّ “رفيدة” الباردة إلى صدره، كأن دفء قلبه وحده قادر أن يعيد إليها الحياة.
دخلت إلى غرفة الفحص بيضاء الجدران، وتسلَّل القلق إلى عظامه حتى ظنَّ أنه لن يغادره أبدًا. دقائق قليلة، لكنها كانت كعمر كامل، خرج بعدها الطبيب بملامح جادّة قائلاً:
— “انهيار عصبي حاد… هتحتاج راحة تامة وجلسات دعم نفسي، وإلا هتتكرر الأزمة ومخاطر أعنف.”

+

كاد “سليمان” أن ينهار هو الآخر، وغامت عيناه بدموع لم يعرف لها طريقًا من قبل، فيما تراجعت “رباب” إلى الجدار، تضع كفيها على وجهها، تتمتم بانكسار:
— “يا ريتني ما أصريت ننزل نعمل الفرح في مصر… أنا السبب… أنا السبب.”

+

لكن “سليمان” قطع اعترافها الحارق بصوت متهدج:
— “اللوم مش هيفيد… المهم دلوقتي نكون جنبها.”

+

ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة العلاج. جلست “رفيدة” في العيادة النفسية، تحيط بها عيون ثلاثة لا تفارقها: “سليمان” الحارس الصامت، و”رباب” التي تسند كتفها بحنان، و”رنا” التي تملأ الفراغ بابتسامات دافئة. ومع كل جلسة، كانت روحها تعود إليها ببطء، مثل زهرة تفتّحها الشمس بعد شتاء طويل.

+

وفي مساء هادئ، جمعتهم جلستهم المعتادة، فقالت “رفيدة” بنبرة ثابتة رغم وميض الحزن:
— “مش هقدر أعمل الفرح في مصر… حتى لو محدّش اتكلم، نظراتهم تكفيني. كفاية عليّا إنكم جنبي… ده أكبر فرح ليا.”

+

ابتسم “سليمان” وهو يضع يده على يدها، يحدّق في عينيها بعمق:
— “لا يا روحي… إنتِ مش أقل من حد. شوفي نفسك في عيوني وبس.”

+

لم تفهم حينها ما كان يخطط له، حتى جاء ذلك اليوم. أضاءت القاعة بألوان الفرح، وزُيِّنت بأزهار بيضاء تعانق عبيرها. دخلت “رفيدة” بثوب يليق بملكة، و”سليمان” ببدلة رسمت على وجهه وسامة لم ترها من قبل. ضحكت، بكت، ورأت في عيون الحاضرين احترامًا لا شفقة. كان العرس وعدًا جديدًا بالحياة.

+

بعد أيام، حملها “سليمان” إلى دهب، حيث البحر يهمس بأسرار العشّاق، والرمال الذهبية تترك أثرها على أقدامهما كختم أبدي. كانت الليالي هناك قصائد من الحنان، والأيام شرفات مفتوحة على السعادة.

+

ثم عادوا إلى لندن، لكن هذه المرة لم تعد “رفيدة” وحدها. كان بيتهم مليئًا بأصوات الضحك، برائحة القهوة في الصباح، وبحضور عائلة اجتمعت على دفء واحد. كانت الحياة أخيرًا تبتسم، بعد أن جفَّت دموعها لآخر مرة.

+

وفي أُمسية جلسا في شرفة البيت بلندن، حيث المطر الخفيف يلامس الزجاج كأنّه موسيقى هادئة تُمهّد للكلمات الأخيرة. أمام “رفيدة” الجورنال الذي حمل حكاياتها منذ أول لقاء، أوراقه تعبق برائحة الورق والحبر والذكريات.
كان “سليمان” يجلس قبالتها، يراقب ملامحها وهي تُمسك القلم بيد ثابتة، وعينيها تمتلئان بذلك البريق الذي لا يراه إلا هو.

+

أخذت نفسًا عميقًا، ثم بدأت تكتب، وحروفها تتساقط على الصفحة كقطرات المطر:

+

“كنتُ أظنُّ أنّ الحياة لا تمنح قلبًا مثقوبًا إلّا مزيدًا من الريح، وأنّ الفقد إذا استوطن الروح فلن يُزهر فيها شيءٌ بعده. لكنّ الله ـ بلطفه الذي لا يُدرك ـ مدَّ لي يده من بين الركام، وأرسل إليّ عوضًا يُشبه الدعاء حين يتحقق، والنجمة حين تسقط في كفّك قبل أن تطفئها. لم يكن طريقنا خاليًا من الألم، لكنّه كان ممتلئًا بالرحمة، بالطمأنينة التي تَكسو الروح حين تجد وطنها الأخير. واليوم… وأنا أكتب آخر سطر في هذه الصفحات، أبتسم بيقين وأهمس: نجوتُ بكَ.”

+

أغلقت “رفيدة” الجورنال برفق، ورفعت عينيها إلى “سليمان” الذي كان يبتسم لها ابتسامة تحمل كل ما بين السماء والأرض من أمان. مدّ يده، أخذ يدها بين كفّيه
ابتسمت، وألقت رأسها على كتفه، والمطر في الخارج يواصل عزفه، كأنّ الكون بأسره يوقّع على نهاية الحكاية.

تمت..

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *