رواية نجوت بك الفصل الثاني عشر 12 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل الثاني عشر 12 بقلم مي مصطفي
البارت الثاني عشر
الفصل الثاني عشر”حاربتُ لأحميها… فخسرتُها”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
مرت أيام، وفي يوم تحضّر الجميع لاستقبال وفد من اليونان،
وكان على “رفيدة” تجهيز ملفات صفقة الإلكترونيات الجديدة.
في قاعة الاجتماعات، دخل “سليمان” يتقدّم الوفد.
كان من بين الحضور رجل خمسينيّ، عيناه تخترقان الثياب،
نظرته لم تكن مهنية، بل شهوانية، وقحة.
رآها… فابتسم ابتسامة مُريبة.
عينا “رفيدة” تقابلت معه صدفة…
ارتبكت، الذكريات سقطت عليها كحجارة.
نفس النظرة… نظرة مدير الملجأ زمان…
التي لم تفارق كوابيسها.
كان الكرسي الوحيد المتاح… بجواره.
جلست، تبتعد قدر الإمكان،
لكن رائحة نفسه، قربه، وتسلله… كان كافياً لهدم جدران الثبات.
وفجأة… شعرت بشيء يتحسس على ثيابها من ناحية الفخذ!
شهقة صغيرة خرجت منها، وتجمدت في مكانها،
“مش تاني… لا… مش تاني!”
نظرت حولها،
سليمان…
كان هناك، عينيه على الأوراق…
لكن كأنّه أحس بنظرتها المرتجفة.
رفع عينيه إليها…
فامتلأت هي بالقوة، بثوانٍ.
وفجأة… صرخت:
— “ابعد عني!!”
ارتفعت الرؤوس، وساد الصمت.
“سليمان” قفز من مكانه،
ركض نحوها، رأى ارتجاف جسدها، دموعها، وهلعها.
— “رفيدة! في إيه؟! مالك؟!”
نظرت إليه، مشيرة بيد مرتجفة نحو الرجل.
همس لها باستفسار:
— “إيه اللي حصل؟”
قالت بصوتٍ منهار:
— “هو… هو حاول يلمسني بطريقة وحشة…”
سليمان التفت فورًا…
نظره نحو الرجل.
الرجل قال بعصبية، متلعثمًا:
“She is lying! I didn’t touch her!”
(هي كاذبة! لم ألمسها!)
+
اقترب منه “سليمان”، جذب ياقة قميصه بقوة، وصرخ:
“How did you understand what she said if she’s not speaking English?”
(“كيف فهمتَ ما قالت وهي لا تتحدث بالإنجليزية؟”؟!)
+
ثم انفجر فيه ضربًا…
لكمة، وركلة، وعيناه تقدحان الشرر.
“You animal! She’s the age of your daughter! You filthy piece of trash!”
“يا حيوان! إنها في عمر ابنتك! يا قذر”
“عثمان” هرع يحاول تهدئته:
— “سليمان، كفاية! هيموت في إيدك!”
لكن “سليمان” لم يسمع…
قبض على عنقه، ثم نظر إلى “رفيدة”،
وقال بصوتٍ جازم وغاضب:
— “لمسك بأنهي إيد؟!”
صمتت من الرعب،
— “رفيدة! ردي! الوسخ ده لمسك بإيه؟!”
همست ببكاء:
— “الشمال…”
أمسك “سليمان” يد الرجل الشمال…
وبحركة واحدة… كسرها.
صرخة مدوية خرجت منه،
قال بالإنجليزية:
+
“I’ll sue you both! You’ll regret this!”
سأسجنكما ، وستندمان على هذا”
ردّ “سليمان”، وصوته هادئ ومميت:
“You’ll be the only one going to prison.”
“أنتَ وحدك من سيذهب إلى السجن”
+
ثم رماه على الأرض.
+
هدأت القاعة شيئًا فشيئًا بعد انفضاض الجميع، ولم يبقَ بها سوى رفيدة في مكانها، شاردة النظرات، كأن جسدها تجمد في مقعده، وكأن صوت العالم حولها قد خفت.
في الجهة الأخرى، كان سليمان لا يكفّ عن السير، خطواته سريعة، متوترة، ونبرته تموج بعاصفة لا تهدأ، أما عثمان فوقف يُراقبه، ثم قال محاولًا السيطرة على الموقف:
— “إيه يا سليمان؟! إيه اللي عملته ده؟! انت مجنون؟! مااديتش الراجل فرصة حتى يبرر ولا يشرح! يمكن فيه سوء تفاهم؟!”
رمقه سليمان بنظرة حارقة، وردّ فورًا:
— “سوء تفاهم إيه؟! ده واحد قذر.”
تنهّد عثمان وقال:
— “ما يمكن رفيدة فهمت غلط؟ أو بالغت؟!”
نظرت إليه رفيدة بذهول تام. الصدمة في عينيها كانت كافية لتكسر ألف جدار من الكبرياء، لم تصدق أنّه يُشكك بها… تُراه حقًا يراها كاذبة؟!
نقلت نظرها تلقائيًا إلى سليمان، الذي ما إن تلاقى بعينيها، حتى استدار نحو عثمان بغضبٍ حاد:
— “رفيدة تفهم غلط؟! إزاي يعني؟! هو كان ناقص يعتدي عليها قدّامي علشان أصدق؟! ده أول ما رفيدة اتكلمت بالمصري وبصّيت له، أنكر التهمة فورًا! عايز تفهمني إن صدفة يعني؟! فجأة طلع فاهم مصري؟! … ومن غير ما أسمعه أو أديه فرصة يقول حجج وسخة شبهه… أنا مصدّق رفيدة، نقطة ومن أول السطر.”
حاول عثمان يتمالك نفسه:
— “بس انت اتصرفت تصرّف غبي! وخسّرتنا صفقة كبيرة! كان ممكن تتصرف بحكمة من غير ما تبوّظ اللي بنبنيه!”
رمقه سليمان بنظرة اشمئزاز، وقال بحدة:
— “صفقة إيه اللي أضحي برجولتي ونخوتي علشانها؟! انت سامع نفسك؟! الصفقة تتعوض يا عثمان… لكن الرجولة و الكرامة ما يتعوضوش!”
ردّ عثمان، وكأنّه يرمق ظلال الخطر تقترب:
— “دانيل مش هيسكت… مش بعيد تلاقي الشرطة جايه تاخدك دلوقتي حالًا!”
وما إن سمعَت رفيدة الجملة حتى انتفضت من مكانها لأول مرة، وقالت بصوتٍ متهدج:
— “أنا ممكن أعتذرله… وأقدّم استقالتي وأنزل مصر… بس بلاش كده!”
استدار إليها سليمان بغضب مكتوم، وقال:
— “تعتذري؟! لمين؟! ليه؟! هو اللي لازم يعتذرلك يا رفيدة! صدقيني، مش هسيبه، ولازم يندم إنه فكّر يمد إيده عليك أو حتى بصلك بالشكل ده.”
انهمرت الدموع من عينيها، وصوتها يرتعش:
— “أنا مش هقدر لو اتأذيت بسببي… كفاية أوي من يوم ما شوفتني وانت بتجري ورا مصايبي! مش ذنبك تتحمل كل ده… لو الموضوع هيأذيك، أنا عندي استعداد أعتذرله، وأرجع مصر، بس متتأذيش! لو حصلك حاجة أو شغلك اتدمّر بسببي، أنا… أنا عمري ما هسامح نفسي…”
صرخ سليمان من بين غضبه:
— “رفيددددددة!! مصايب إيه وكلام إيه اللي بتقوليه ده؟! أنا قولتلك… محدش هيعتذر ولا هيتنازل غير الحيوان ده!
شغلي ما يشرفنيش أحط إيدي في إيد أشكال زيه!
تولع الصفقة والربح، لو جاية من وراه!
افهمي كويس الكلام ده… وده وعد مني، هو اللي هيعتذرلك، وده أقل حاجة.”
قطع كلامه طرقٌ على الباب، تبعه دخول السكرتيرة وهي تقول بتوتر:
— “فيه شرطة بره… وعايزين يقابلوا المهندس سليمان.”
حدّق عثمان بسليمان بحدة:
— “شوفت؟! مش قولتلك؟! ودّيت نفسك في داهية بإيدك!”
انهارت رفيدة تمامًا، دموعها سالت بغزارة، ثم صاحت:
— “أنا آسفة… أنا ممكن أعتذرله… لو ده هيمنع اللي بيحصل… مش عايزاك تتأذي عشاني… مش هسامح نفسي أبدًا لو حصلّك حاجة!”
اقترب منها سليمان، حبس غيظه بين صدره،تكلم بصوت هادئ حنون لكن حازم:
— “رفيدة… مفيش حاجة هتحصل… وبالنسبة للبلاغ، متقلقيش، هو اللي هيلبس فيه.
أنا سهل أطلع منها، صدقيني.
بس إياكِ… إياكِ تفكري إنك تعتذري، أو تضيعي حقك علشان أي حد، حتى لو كنت أنا!
روحي اقعدي مع ماما ورنا… وساعتين بالكتير وهتلاقيني هناك إن شاء الله.”
هزّت رأسها وقالت:
— “لا…”
لكن لم يكن هناك وقتٌ للرد، إذ خرج سليمان مع الشرطة.
سار عثمان خلفه، وما إن تحرك حتى لحقت به رفيدة تجري:
— “باشمهندس! باشمهندس لو سمحت! خدني معاك!”
نظر لها باستغراب:
— “معايا؟ ليه؟!”
قالت بحزن خافت:
— “المشكلة بسببي… ومش هسيب المهندس سليمان يتعرض لأذى لوحده…”
— “بس هو قالك متعمليش حاجة… وروحي لأهله. مينفعش تيجي القسم.”
أصرّت رفيدة، وعثمان تنهد:
— “براحتك… انتي حرة.”
نزلت معه، وحين اقتربوا من السيارة، ترددت للحظة، ثم قالت بخجل:
— “ممكن لو سمحت أقعد ورا؟”
نظر إليها عثمان بتعالٍ وضيقة:
— “ليه؟! فاكرة نفسك راكبة تاكسي؟! ولا أنا سواقك الخاص؟!”
تجمّدت نظرات رفيدة… سليمان لم يفعل يومًا مثل هذا.
دائمًا كان يتفهّمها، ويحرص على راحتها، ويقول لها ضاحكًا:
“اعتبريني سواق تاكسي، بس المهم تكوني بخير وفي أمان”
همست بخجل:
— “أنا آسفة…”
ثم أضافت:
— “ممكن تديني عنوان القسم؟ وأنا آخد تاكسي …”
نظر إليها باستخفاف، ثم أعطاها العنوان، واستدار بالسيارة دون أن ينتظرها.
وقفت وحدها، والدموع تسبق أنفاسها. تحاول كتم شهقاتها، تحدث نفسها بصوتٍ داخلي مرتعش:
“مش وقته يا رفيدة… مش وقت تنهاري فيه… سليمان محتاجك دلوقتي…”
كان المساء قد أسدل ستاره بثقلٍ، والهواء متخمٌ بشيءٍ لا يُرى… لا يُلمس، لكنه يُشبه الخوف.
وقفت رفيدة أمام قسم الشرطة، عيناها تتأملان المكان وكأنّه خارج حدود عالمها… مبنًى غريب، وجوه غريبة، لغة أجساد مختلفة، ورائحة نفورٍ لا تُخطئها أنفها.
+
ضمت كفيها المرتجفين، وهمست:
— “بسم الله.”
ثم خطت إلى الداخل بخطى لا تشبهها، خطوات خافتة لا تليق بامرأةٍ خاضت النار من أجل غيرها.
ودفعت الباب بخطوات مترددة، تبحث بعينيها القلقتين عن وجهه.
سألت عن مكانه، فأرشدوها إلى الممر الطويل ناحية اليسار.
سارت، حتى لمحته من بعيد، واقفًا مع عثمان، يتحدثان، وملامحه تمور كالموج الغاضب.
رآها، وفي عينيه اشتعلت نظرة غيظٍ وخوف. عضّ على شفته، وكأنه يقاوم نوبة من الغضب المفرط، ثم تمتم بعصبية:
— “إيه اللي جابك هنا؟! أنتي مستوعبة إنتي فين؟ ده قسم! مليان مجرمين وشُبهات! وإنتي لوحدك؟!”
ردّ عثمان وقد رفع يديه:
— “أنا قولتلها يا سليمان، بس هي أصرت.”
استدار إليها سليمان، صوته أعلى مما اعتاد أن يخاطبها به قال بغضب ممزوج بالقلق:
— “لو سمحتي، روحي لأهلي!
أنا قولتلك ساعتين… ساعتين وهبقى هناك، إن شاء الله!”
لكن المفاجأة لم تكن في حضروها، بل في ردّها…
لأول مرة، يشهد منها عنادًا صادقًا، يُشبه الإصرار لا التمرد، إصرار الخائف المُحب:
— “وأنا قولت لأ… مش هسيبك!”
ثم تداركت، وقد احمرّ وجهها خجلًا:
— “قصدي يعني… إنك هنا بسببي… ومش هكون مرتاحة وأنت جوا القسم بسببي.”
قبل أن ينبس بكلمة، قاطعهم صوت المحامي:
— “باشمهندس، يلا ندخل.”
وقف سليمان لحظة، ثم مال نحو أذن عثمان، يهمس له بكلمات من قلبٍ مضطرب:
— “أرجوك… خلي بالك منها، وإياك… إياك تقرب منها أو تلمس .
افتكر بس إنها بنت بلدك، وفي مكان غريب ومخيف زي ده… خليك جمبها من بعيد، بس متقربش.”
ثم دخل، والخوف لا يسكن قلبه على نفسه، بل على تلك الفتاة التي تنتظر خلفه،التي تجلس الآن في الخارج، محاصَرة بعيون لا ترحم، وسط وجوه لا تطمئن.
هي التي تتصبب من القلق، ولا تدري من ماذا تحديدًا تخاف… عثمان؟ المكان؟ العيون؟ أم كلّ شيءٍ معًا؟
في الداخل، بدأت التحقيقات.
صوت الضابط جافّ، ونبرة الاستجواب لا ترحم، والمحامي يُحاول توجيه الحوار ببراعة، و المحامي لمح فجوة في الحوار، نقطة قد تُفيدهم كثيرًا، وقال للضابط:
— “حضرتك، في شاهدة على الواقعة، وهي صاحبة الواقعة … نقدر نستدعيها؟”
+
نظر سليمان إلى المحامي بعينٍ تشتعل وهمس له:
— “إنت اتجننت؟! هتعرضها لأسئلة قذرة؟!”؟!
لكن قبل أن يعترض، كان الضابط قد رفع صوته:
— “ناديلي على الأنسة رفيدة… الشاهدة.”
جاء النداء كصفعة على وجه رفيدة، تجمدت في مكانها، لا تقوى على الحركة.
همس المحامي:
— “دي في مصلحته… اتفضلي.”
شدّت على كفّيها، وهمست مرة أخرى:
— “بسم الله.”
ثم دخلت.
رآها سليمان من بعيد، وعيناه تعاتبها، تلومها، تتوسل إليها في صمت:
“ليه جيتي يا رفيـدة… ليه جيتي؟!”
بدأت وصلة التحقيقات، ونار الأعصاب مشتعلة.
سألها الضابط فجأة، بصوتٍ بارد كالسكين:
— “هو اتحرش بيكِ ليه؟
يعني انتي لبسك كله مقفول، جسمك مش ظاهر، مفيش حاجة تدعو للإغراء… غير عينيكِ، إلا لو…”
توقف، ثم أضاف:
— “إلا لو… واحد من اتنين:
يا إما بتكدبي،
يا إما… كان فيه استجابة منك، أو إغراء حاسّه منك خلاه يتحرك.”
وقبل أن تُدرك رفيدة ما قاله، كان سليمان قد انتفض كمن صعقته النار:
— “حضرتك بتقول إيه؟! الشخص الشهواني مش محتاج لبس مفتوح ولا إغراء علني!
اللي جواه قذارة، هيشوفها في أي ست، حتى لو لابسة خيمة!
وإيه المصلحة اللي ممكن تكسبها رفيدة لو كدبت؟! شهرة؟ سمعة؟ فلوس؟!”
بالعكس ده تشويه لكل ده لو بتكدب!
حاول المحامي أن يهدّئه وهو يهمس:
— “أرجوك، سيبني أنا أتكلم…”
لكن الضابط قاطعه بصرامة:
— ” عامةً إحنا مش في قضية تحرش الوقتي، حضرتك متهم بالضرب وكسر ذراع المدعو دانيل.”
رفع سليمان رأسه وقال بثقة:
— “وأنا بَتهِّم دانيل رسميًا بالتحرش بالأنسة رفيدة محسن البدري،وبوكل المحامي يفتح محضر دلوقتي.”
مال المحامي عليه، وهمس بصوت حذر:
— “بس… مفيش دليل،ولو التحقيق اتفتح بدون إثبات، ممكن ينقلب عليها.”
سليمان رد بسرعة وصوته كالسيف:
— “فيه… فيه كاميرات!”
وبالفعل… أُصدر أمر بتفريغ الكاميرات.
ثوانٍ مرت كأنها دهر، وجاء التسجيل…
الأنفاس محبوسة، والعيون كلها إلى الشاشة.
ظهر دانيل، واقفًا قرب رفيدة، ثم…
يده تتحرك، ببطء وخسة، تمر على ملابسها، وتنزلق قرب فخذها…
قبل أن تهمّ رفيدة بالقيام.
سليمان شهق غيظًا، جسده اهتز، وكأن الدم انفجرت من عروقه.
سليمان لم يتمالك نفسه، قبضته تشددت، وعينيه تقدحان نارًا :
“يارتني قطعت ايده مش كسرتها بس!”
أما رفيدة…
فكانت في لحظةٍ لم تتمنى أن تعيشها قط.
كل العيون مُعلّقة بها، الكل يُفصّل المشهد، كأنهم يُحلّلونها قطعة قطعة…
كأنهم يرون فيها شيئًا آخر غير ما هي عليه.
شعور مزلزل اجتاحها… خزيٌ، إحراج، صدمة، وجل.
وما كان منها… إلا أن هرولت بخطوات سريعة، واختبأت خلف سليمان.
واختبأت خلف ظهره، كأنما تبحث فيه عن دفءٍ يحميها، أو جدار يحجبها عن كل هذا العالم.
وقفت، ووجهها إلى الأرض، والدموع تكاد تحرق وجنتيها… لكنها لم تنطق.
انتبه سليمان إلى حركة رفيدة وهي تختبئ خلفه، واستوعب دون كلام ما تشعر به، كيف كانت العيون تنهشها، وكيف احتمت به وكأن لا أمان في العالم سواه.
تنحنح قليلًا، واستقام في وقفته، ثم لف بجسده ليحجبها تمامًا عن أنظار من حوله، وقال بصوت حازم:
— “لو سمحت، أعتقد خلاص كده…
محضر التحرش اتعمل، والدليل موجود، وأقوالها اتاخدت.
يعني وجودها ملهوش لازمة…
ياريت تسمح بخروجها، ملهاش داعي تفضل هنا أكتر.”
لكن صوته ارتجف حين سمع همستها من خلفه:
— “لا… مش هسيبك… غير لما تخرج.”
استدار إليها، نظراته مشتعلة بالحنق والقلق:
— “انتي بتعندي ليه؟!
مش شايفه شكلك؟ مش شايفه حالتك؟
أنا مش هآمن عليكي تبقي واقفه هنا دقيقة واحدة!”
ثم أكمل برجاء:
— “لو سمحتي، روحي عندي… لأهلي.
أنا… مش هرتاح غير لما أطمن إنك هناك.”
هزّت رأسها بنفي، وشفتيها ترتجف:
— “وأنا… مش هبقى مرتاحة…”
قبل أن يرد، اقترب المحامي منهما، مستغلًا انشغال الضابط بالأوراق، وقال بصوت خافت:
— “باشمهندس سليمان، محضر المهندسة رفيدة ماشي تمام،
وإن شاء الله ياخد جزاءه،
لكن… وضعك انت صعب.
وممكن نستغل قضية التحرش في صالحنا.”
رفيدة وسليمان التفتا إليه بتركيز، وتوجّس.
أكمل المحامي بصوت هادئ، يزن كلماته كمن يسير على حبل مشدود:
— “حضرتك… دافعت عن شرفك، وعن مراتك،
وقتها محضر التعدي اللي عمله دانيل، هيبقى بلا قيمة.”
سليمان رمقه بدهشة:
— “بس… المهندسة رفيدة مش مراتي!”
المحامي ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال بتروٍ ودهاء:
— “حضرتك تتجوزها…
كتب كتاب يعني، وأنا عندي القدرة أسجل العقد بتاريخ أقدم.
ساعتها نعرض القسيمة، وتبقى دافعت عن زوجتك…
والقضية تتحول من جناية… لردّ شرف.”
زمجر سليمان كمن تلقّى صفعة:
— “مش موافق!
الجواز مش لعبة…
شوف حل غير ده!”
لكن المحامي هزّ رأسه بأسف:
— “للأسف… مفيش حلول تانية.
حضرتك متهم، ومفيش أي دافع قانوني نقدمه غير ده،
إلا لو هو سحب المحضر.”
صمت لحظة، ثم…
— “الموضوع في إيد دانيل.”
في تلك اللحظة، تنفست رفيدة بصعوبة، وصوتها خرج متهدجًا:
— “أنا…
أنا هروح أعتذر له…
وأساومه يتنازل عن محضر المهندس،
مقابل إني أتنازل عن المحضر بتاعي.”
المحامي اتسعت عيناه:
— “ده حل ممتاز… لو إنتي متنازلة فعلًا عن حقك.”
لكن قبل أن ينطق أحد، انفجر سليمان بصوت مرعوب وغاضب:
— “أنا مش عامل كل ده…
وأتحبس…
وفي الآخر، انتي تتنازلي عن حقك؟!”
اقترب منها بخطوتين، عينيه تشتعلان:
— “انتي لو عندك استعداد تتنازلي،
أنا مش عندي!
ولو ذرة واحدة!
أنا هجيبلك حقك… وأندمه على اليوم اللي اتولد فيه!
إياكِ…
إياكِ تعمليها يا رفيدة!!”
لكنها نظرت إليه بعينين دامعتين، وصوتها بالكاد يخرج:
— “مفيش حل تاني…
وأنا مش هبقى فرحانة،
وأنت في السجن بسببي…
وحقي يتجاب على حساب حريتك… وعلى ظلمك.”
مد يده إلى وجهه، مسح جبينه بعنف، ثم شد شعره بأصابعه:
— “افهمي بقى!!
بطلي عناد، ما تضيعيش حقك يا غبية!
أنا…
هتصرف، وهخرج، أنا عارف أنا هعمل إيه!”
صوت الضابط قطع الصمت:
— “باشمهندس سليمان،
حضرتك هتبات معانا النهارده،
وبكرا هتتعرض على النيابة،
وحاليًا…
الأستاذ دانيل هنبدأ نحقق معاه ونتخذ الإجراءات القانونية ضده.”
ارتسمت على وجه رفيدة صدمة، كأنما جدران القسم بدأت تضيق.
قالت للضابط، بصوت خافت، تكاد تخفيه أنفاسها:
— “لو سمحت… محتاجة أتكلم مع الأستاذ دانيل.”
نظر إليها سليمان بذهول:
— “إنتي إيه؟!
مفيش فايدة؟!”
ثم صاح دون أن يشعر:
— “إيه حرام عليكِ!!”
ووضع وجهه في كفّيه، ثم شدّ شعره بقوة، ينفجر داخليًا:
— “افهمي بقى!
افهمي!
بلاش تضيعي نفسك!
أنا هخرج منها…
بس انتي لا… متعمليش كده!!”
نظرت إليه، بنظرة واحدة، كفيلة بأن تسقطه أرضًا.
نظرة لم تكن غاضبة، بل مكسورة، خذلان يتسلل في سكون:
— “أنا آسفة…
بس لأول مرة…
مش هسمع كلامك.”
واستدارت.
قال خلفها، بصوت مبحوح:
— “رفيدة…أقسم بالله،لو اتنازلتي،لأكون قاطع معاكي…أنا وأهلي.”
توقفت لحظة، دموعها تنهمر، ثم التفتت إليه، وقالت، كأنها تنزع قلبها من بين أضلعها:
3
— “أنا كنت متأكدة…إنها هتكون فترة،والدنيا هتاخد فرحتي بالدفا…والأمان اللي لأول مرة حسيته،وترميني تاني…للوحدة،
وللقسوة.”
تنفست، وكأنها تخنق نفسها:
— “أنا متعودة عليهم،
فـ مش خسارة كبيرة…قد خسارتك وأنت في السجن…وأنا السبب،وفي حل…قدامي.”
ثم مشت ببطء، ورحلت.
وسقط سليمان على الكرسي،وجهه بين كفّيه،
وصوته لا يُسمع، لكن جسده… كان ينفجر من الغليان والعجز.
—————————————
+
*حبيت يكون الحوار بدل انجليزي وبعده الترجمه والقارئ يتوه أو يحس بملل،فَـ خليت الحوار كله عامي.
لكن هما في لندن والكلام مع أي حد غير مصري فـ هما عادي بيتكلموا انجليزي.
+
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)