روايات

رواية نجوت بك الفصل العاشر 10 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل العاشر 10 بقلم مي مصطفي

 

البارت العاشر

 

 

الفصل العاشر “حين أزهرَ الدفءُ في صقيع القلب”

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-
قام “سليمان” بخفّةٍ هادئة، وفتح الكرسي الجانبي للكنبة ليُهيئه كسرير مؤقت. أشار لـ”رنا” أن تساعده:
— “إعدّلي رجليها كده، خليهم في وضع مريح شوية، وهاتي بطّانية غطيها بيها… أنا هقوم أروح الشقة التانية وآخد شاور وأغيّر هدومي.”
ثم نظر إليهما بثبات:
— “ولو حصل أي حاجة… من غير تردد، نادوا عليا فورًا، ارفعوا النقاب عن وشها شوية علشان النفس. ولما تصحى، خلوها تاكل وتاخد العلاج وتريح جوه.”
قالت “رباب” بصوت خافت:
— “مش هتاكل يا حبيبي؟.”
ابتسم وهو يومئ برأسه:
— “لا يا أمي، شبعان الحمد لله.”
ثم ترك المكان وغادر، بينما كانت “رباب” تعدّل وضع “رفيدة” على الكنبة، وتُغطيها بلُطف، وتُزيح النقاب قليلًا عن وجهها، ثم جلست تُطالعها بعينٍ دامعة، متألمة لحال تلك الفتاة المُنكَسِرة.
مرّت الساعات… حتى جاء منتصف الليل، والهدوء يُخيّم على المكان.
وفجأة، ارتجّ البيت على صرخة حادة:
— “سيبوني!! ابعدوا عني!! أنا مليش ذنب… معملتش حاجة!!”
نهضت “رنا” و”رباب” مُسرعتين، ليجدا “رفيدة” تصرخ وتنتفض في مكانها، تهز رأسها بعنف، وتبكي بحرقة، وقد دخلت في نوبة هستيرية غريبة.
ركضت “رباب” نحوها تهدهدها وتحاول احتواءها، بينما كانت “رنا” تُمسك بيدها الأخرى، تصرخ بفزع:
— “رفيدة اهدي! حبيبتي انتي في أمان!”
في تلك اللحظة، كان “سليمان” في شقته يراجع العمل على حاسوبه المحمول، حين سمع الصراخ…
وقف فجأة، قلبه خفق بقوة، وركض نحو الباب دون تفكير، نزل الدرج مسرعًا، وطرق الباب بعنف،فتحت رنا الباب
— “سمعت صوت صريخ… حصل إيه؟!”
— “معرفش يا أبيه! صحت فجأة من النوم وابتدت تصرخ، زي ما أنت شايف!”
تجاوزهما بخطواته القلقة، وما إن اقترب حتى رأى “رباب” تقف حائلًا بينه وبين “رفيدة”، فسارع إلى القول:
— “نزّلي النقاب يا ماما .”
فعلت “رباب” ما طلبه، وانزاحت طبقة القماش عن وجهها الباكي.
اقترب منها وجلس على الأرض أمام الكنبة، بصوتٍ هادئ، دون أن يلمسها:
— “رفيدة… فيه إيه؟ أنا هنا جنبك… أهدي، مفيش حد هيقربلك، انتي في أمان… خلاص، خلاص.”
شيئًا فشيئًا، هدأت وتيرة أنفاسها، وكأن صوته امتد لها من خلف الضباب، فبدأ جسدها يستجيب، وفي غفلة من الجميع، وبدون وعي، ألقت نفسها على كتفه، وعيناها مغلقتان، ودموعها تنساب كالسيل.
تفاجأ “سليمان”، لكنه لم يتحرّك، في حين شهقت “رباب” و”رنا” من المفاجأة، لكنهما أدركتا فورًا أنها لا تعي شيئًا.
همست “رفيدة” بصوت مرتجف:
— “كلهم أذوني… أنا مش عايزة أعيش… أنا تعبت… ابعدوا عني…”
كان “سليمان” مأخوذًا، لا يعرف ماذا يفعل؟ كانت يدها الصغيرة مشتبكة في طرف قميصه، ممسكة به كطوق نجاة.
فهمس لها بصوت رخيم:
— “أنا جنبك… محدش هيقربلك… ولا هيأذيكي تاني، صدقيني…”
اقتربت “رباب” بهدوء، وأزاحت يدها من على قميصه برفق، وسحبتها إلى صدرها، تحتضنها بحنان الأم، وهي تربت على ظهرها وتهمس:
— “اهدي يا قلبي… خلاص، مفيش حاجة فوقي كده”
ثم… فجأة، فقدت “رفيدة” وعيها، وانهارت في حضن “رباب” كدمية مُرهقة.
صرخت “رباب”:
— “يا لهوي! رفيدة!!”
نهض “سليمان” و”رنا” نحوها، وارتفع الصراخ، وقالت “رنا” بذعر وهي تهزّها من فوق النقاب:
— “فوقي! فوقي يا رفيدة!”
قال “سليمان” بسرعة:
— “أنا هديكم ضهري… ارفعوا النقاب ورشوا شوية ميّة على وشها، .”
امتثلوا، وبالفعل، رُشّت المياه، وتحركت “رفيدة” قليلًا، قبل أن تهمس بصوت مبحوح:
— “آه… دماغي…”
“سليمان” قال:
— “رنا، نزّلي النقاب بسرعة.”
— “نزلته يا أبيه.”
اقترب منها، وناداها:
— “رفيدة… انتي كويسة؟”
فتحت عينيها ببطء، لتجد الجميع يُحدّق فيها بخوف ولهفة، فقالت:
— “فيه إيه؟”
ردّ الجميع في صوت واحد:
— “انتي كويسة؟”
همست:
— “أيوة… حصل إيه؟”
قالت “رنا”:
— “انتي مش فاكرة؟”
هزّت رأسها:
— “مش فاكرة… آخر حاجة لما دخلنا البيت، وطنط رباب خدتني في حضنها.”
قاطعهم “سليمان” وهو يُغلق الموضوع:
— “خلاص… مفيش حاجة. رنا، ساعديها تدخل تغير وتاكل وتاخد علاجها، وتنام، تمام؟”
— “حاضر يا أبيه.”
— “خليها في أوضتك النهارده، وانتي نامي في الأوضة الإضافية، علشان رجلها ترتاح.”
قالت “رنا”:
— “بس الأوضة الإضافية مش نظيفة يا أبيه… وبعدين انت عارف، مش بعرف أنام غير في أوضتي.”
ثم همست له:
— “ممكن هي تنام في أوضتك؟ كده كده انت مش بتستخدمها اليومين دول، وعلى ما ننضّف الأوضة التانية.”
قالت “رفيدة” بإحراج ودموع:
— “أنا آسفة على اللخبطة دي… ممكن أنام على الكنبة، هي مريحة والله.”
قاطعها “سليمان” بحزم:
— “لا طبعًا، ازاي يعني؟”
قالت “رباب”:
— “خلاص، منعًا للإحراج… أنا هبات مع رنا أو في أوضه سليمان، ورفيدة تنام في أوضتي، براحتها.”
رفيدة حاولت تردّ، لكن سليمان قاطعها كعادته:
— “كلام ماما هو اللي هيمشي… يلا يا رنا.”
حين نهضت “رفيدة” متعبة من آثار الانهيار، ساعدتها “رنا” على النهوض، بينما “سليمان” وقف يُتابعها بعينين لا تنزعان عنها الحنو، لكنه، وفجأة، استدار وقال بنبرة هادئة:
— “أنا هدخل أوضتي أجيب حاجة”
ثم غادر المكان بخطواتٍ محسوبة، دون أن يلتفت.
كان يعلم جيدًا أنّ جسدها الواهن، الخارج لتوّه من نوبة عنيفة، لا يقوى على التوازن، وأنّ ملابسها قد تكون قد زُحزحت أثناء نومها العنيف… وكان من الحياء والكرامة ألا يبقى واقفًا، احترامًا لحُرمتها، وتقديرًا لخصوصيتها.
دخل غرفته، وأغلق الباب، وأخذ نفسًا عميقًا كأنّه يُبعد عن قلبه اضطراب اللحظة، تاركًا للنساء مهمة مساندتها، متحفظًا على وجوده حيث لا ينبغي لرجل أن يقف.
ساعدتها “رنا” على النهوض، وساعدتها على تبديل ثيابها، ودخلت لتتناول طعامها بهدوء، ثم تناولت الدواء، وسرعان ما غفت في النوم.
خرج الجميع من الغرفة بعد أن تأكدوا أنها نامت، ووقف “سليمان” عند الباب يسأل بصوت منخفض:
— “نامت؟”
قالت “رباب” وهي تمسح دمعة سالت على خدّها:
— “أيوة يا حبيبي… البنت مدمّرة، يا حبة عيني… حسبي الله ونعم الوكيل في كل اللي أذاها.”
قالت “رنا” بتفكير:
— “واضح إنها اتعرضت لأكتر من حد أذاها… بس غريبة، ازاي مش فاكرة اللي حصل؟”
تنهد “سليمان”، ثم قال بصوت خافت:
— “دي حالة اسمها اضطراب ما بعد الصدمة…. يعني، نفسيتها اتعرضت لهجوم أو خوف شديد، ممكن غالبًا دي صدمة نفسية كبيرة… والمخ بيحاول يحميها، فبيمسح حاجات من الذاكرة. بتبان في شكل كوابيس، نوبات فزع، رد فعل هستيري على أي تريجر بسيط… مش بإيدها .”
سكت لحظة، ثم قال بنبرة فيها أسى:
— “التعامل معاها محتاج صبر… واحتواء، ودايمًا تحس بالأمان. مفيش ضغط، مفيش أسئلة كتير. أهم حاجة نحسّسها إنها مش لوحدها، وإننا معاها.”
أومأت “رباب” برأسها بتأثّر، وقالت وهي تمسك بيده:
— “ربنا يجازيك خير، يا ابني.. كويس إنك جبتها هنا معانا”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية مرام وجوري وتاليا - قصر السلطان الفصل السابع عشر 17 بقلم إيمان شلبي

+

 

 

توالت الأيام…
توالت الأيام على “رفيدة”، وهي مقيمةٌ في بيت “سليمان” مع أهله، وكأنما كُتِب لها أن تتذوّق دفء العائلة لأول مرة. كانت أيامًا لم تعرف مثلها قط؛ رأت فيها الحنان، وعاشت فيها لحظات لم تتخيل يومًا أنها تخصّها. لكن… كان في أعماقها خوفٌ صامت، ينهشها بلا هوادة.
خوفٌ من أن يكتشفوا حقيقتها.
أنها يتيمة… تربّت في ملجأٍ بلا أمّ ولا أب، بلا حضنٍ ولا عنوان…
خافت أن يروا في عينيها ما رآه كثيرون من قبل: نظرة الاشمئزاز… أو ذاك الشعور الخفيّ بالعار.
قرّرت أن تصمت، أن تُخفي ماضيها، فقط لتحتفظ بتلك المشاعر الجديدة التي بدأت تدفئ قلبها البارد منذ سنين.
“رنا” و”رباب” أحبتاها بحق، وكانت سببًا في بهجة غريبة عمّت أركان البيت.
لكن في الليل…
كانت الكوابيس تطلّ عليها من ظلال ذاكرتها.
تصحو مذعورة، تصرخ أحيانًا، تتوسّل في نومها بكلمات مبعثرة:
— “متسبونيش… لا، ابعدوا عني… أنا مأذيتكوش!”
أما “سليمان”، فظلّ ملازمًا شقته، يحترم وجودها وحرمتها، وقد راعى راحتها بأقصى ما يملك من رقيّ.

+

في ليلة فك الجبيرة، كان العشاء يجمعهم جميعًا.
قال “سليمان” وهو يمدّ يده بالخبز:
— “بُكرا إن شاء الله هنفك الجبس. جهزي نفسك يا رفيدة، ورنا وماما كمان، علشان هنخرج على الساعة خمسة.”
ردّت “رنا” بحماسٍ طفولي:
— “أووووه أكيد يا أبيه! دي فسحة كل أسبوع! أنا عايزة تعويض عن التلات أسابيع اللي فاتوا. ورفيدة تشوف جمال لندن، أكيد يا عيني متفسحتش، كانت مفحوته في المشروع!”
خفضت “رفيدة” عينيها وقالت بإحراج:
— “لا، ملوش لازمة… إن شاء الله أفك الجبس وأروح على السكن، علشان أبدأ الشغل من بكرا. وشكرًا قوي على ضيافتكم… ربنا يعلم إن الأيام دي كانت من أسعد أيام حياتي.”
قالت “رباب” وهي تمدّ يدها لتربت على يدها:
— “متقوليش كده يا حبيبتي… ربنا يعلم أنا حبيتك قد إيه! حسيّت إنك بنتي، والله، زي رنا بالظبط. خلينا نتفسّح سوا، ونقضي اليوم سوا. مش عارفه ايه عجبك في السكن؟ ناس غُرب ومكان مفيش فيه حد تعرفيه
قالت “رفيدة” بنبرة اعتذار:
— “أنا آسفة يا طنط… مش هقدر. ومينفعش باشمهندس يفضل بعيد عنكم ومنفصل ومش واخد راحته في بيته بسبب وجودي.”
أجاب “سليمان” بنبرةٍ جادّة:
— “مين اشتكالك؟ أنا مش مضايق من وجودك في بيتي، يا رفيدة.”
لكنها قاطعته سريعًا، كأنما تُغلق الباب قبل أن يُفتح:
— “معلش… كده هبقى مرتاحة أكتر.”
تنهد ثم قال وهو ينهض:
— “تمام… بس بالنسبة لموضوع الفسحة… ده مفيش فيه مفر. هتيجي معانا، خلاص.”
بعد لحظات، وجه كلامه لـ “رنا” وهو ينهض:
— “تعالي يلا، فيه حاجة في الشقة محتاجاك فيها.”
ومضت “رنا” معه نحو شقّة “سليمان”، وهناك أدركت أن “المهمة” كانت كيّ القمصان الخاصة به.
وبينما كانت تمرر المكواة على القماش الأبيض، قالت وهي تنظر إليه:
— “تعرف يا أبيه… أنا مستغربة من حاجة.”
كان “سليمان” منشغلًا بملفّات العمل، يراجع الأوراق دون أن يرفع عينيه:
— “من إيه؟”
ردّت وهي تنظر إلى اللاشيء، كأنها تحاول أن تشرح شيئًا لا يُقال بسهولة:
— “يعني… رفيدة قاعدة معانا حوالي تلات أسابيع. موبايلها مرنش ولا مرة. لا حد من أهلها كلمها، ولا صحابها.
وكمان… كل يوم كوابيس، بتصوت، وبتقول كلام يخوف: متسبونيش… لا، ابعدوا عني… أنا مأذتكوش.
فيه حاجة، أكيد فيه حاجة ورا كل ده.”
أغلق “سليمان” الأوراق أخيرًا، ونظر إليها بثبات قائلاً:
— “كل واحد عنده حكايته، يا رنا.
ومتضغطيش عليها بفضولك اللي هيقتلك، لما تحب تتكلم، هي هتحكي من نفسها.”
ضحكت “رنا” وقالت:
— “ماما قالتلي نفس الكلام.”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية صغيرة في قبضتي الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم آية عيد

+

 

في اليوم التالي، تمام الخامسة مساءً…
كان الجميع على أتمّ الاستعداد.
خرجت “رفيدة” من الغرفة ترتدي فستانًا واسعًا من قماش شتوي ناعم، بلون كحليّ رصين، ونقاب أسود أنيق يخفي ملامح وجهها ما عدا عينيها.
أما “سليمان”، فقد اختار طقماً كاجوال شتويًا بسيطًا، سروالًا داكن اللون، وسترة صوفية رمادية تعلوها معطف بلون الفحم، وقد بدا في كامل أناقته وهيبته.
ساعدت “رنا” رفيدة على النزول من السلم خطوةً بخطوة، تمسك يدها كأنها تخشى عليها من النسيم، حتى وصلا إلى السيارة.
وقفت “رباب” قرب الباب الأمامي قائلة:
— “هاتي رفيدة تقعد قدام، علشان رجلها تبقى مرتاحة، الكرسي ورا هيكون زانق عليها.”
أجابت “رفيدة” بسرعة، بنبرة خجولة حازمة:
— “لا لا يا طنط، مينفعش! حضرتك اقعدي قدام… أنا هرتاح ورا برضو، هو واسع ومريح، وهقدر أمِّد رجلي.”
أصرت “رباب”، لكن “رفيدة” تمسّكت برأيها، حتى اضطُرّت الأم أن ترضخ لرغبتها، وجلست هي في المقعد الخلفي، خلف كرسي “سليمان”، بينما جلست “رباب” إلى جواره.
نظر “سليمان” سريعًا في المرآة الجانبية، ثم أمسك بذراع الكرسي الأمامي الخاص به، وأعاده قليلًا إلى الأمام، حتى يُفسح لرفيدة مساحة خلفه.
قال باهتمام:
— “مرتاحه كده؟”
هزّت رأسها بالإيجاب دون كلام.
ضحكت “رنا” وقالت ممازحة:
— “نسيت يا أبيه! لو كنت أعرف، كنت جيت أنا مكان رفيدة، وهي تقعد مكاني. أبيه، ما شاء الله، طويل ورجليه طويلة… دايمًا بيرجع الكرسي ورا ويحبسني!”
ضحكت “رفيدة” بخجل وهي تحاول التحرك قليلًا، ثم قالت:
— “رجع الكرسي وخد راحتك.”
ردّ عليها بجديّة وهو ينظر في المرآة بعين لا تحتمل نقاشًا:
— “ارجعي مكانك… قعدتك في النص مش مريحة، وكمان مش أمان.
أنا مرتاح كده… لو سمحتي، ارجعي مكانك.”
أطاعته دون اعتراض، وكأن نبرة صوته كانت أمرًا خفيًا من نوع آخر.
قال “سليمان” بصوتٍ واضح:
— “بسم الله…”
ثم بدأ في ترديد دعاء الركوب والسفر، وردّد الجميع من خلفه، لتتحرك السيارة نحو المستشفى.
عند الوصول، ترجل الجميع، ودخلوا إلى قسم العظام، حيث كانت الطبيبة بانتظارهم.
“سليمان” كعادته، ظلّ في الخارج، يراقب الأبواب بعينٍ لا تهدأ.
أما “رفيدة”، فبمجرد أن رأت أداة فك الجبس، شحب وجهها كأنها رأت وحشًا.
قالت بذعر:
— “لا لا… مش عايزة أفكه! رجلي… لا!”
قالت “رنا” بلهجة مطمئنة:
— “اهدي، متقلقيش. هي عارفة شغلها، ومش هتعورك.”
لكن “رفيدة” تابعت بانفعال:
— “لا! أنا خايفة… مش عايزة أفكه، خلاص!”
احتضنتها “رباب” بسرعة، وقالت:
— “متخافيش يا حبيبتي، تعالي في حضني… غمّضي عينيكي، ومتبصيش عليها… متفكريش في حاجة خالص.”
فعلت كما قيل لها، ووضعت رأسها في صدر “رباب”، بينما الطبيبة أمسكت برجلها استعدادًا للفك.
لكن ما إن دوّى صوت الجهاز، حتى انتفضت “رفيدة” وسحبت ساقها، وأطلقت صرخة عالية.
قالت الطبيبة، بالإنجليزية:
— In such cases, I’ll have to call a male nurse to hold her leg firmly while we remove the cast.
(في مثل هذه الحالات، سأستدعي ممرضًا نظرًا لقوته البدنية لتثبيت الساق أثناء فك الجبس.)
صرخت “رفيدة”، بسرعة وبرفض واضح:
— No! I don’t want anyone to touch me!
(لا، لا أريد أن يلمسني أحد!)
ثم التفتت إلى “رنا”، وقالت بلهفة:
— “رنا! امسكي رجلي! أنا مش عايزة حد غريب يلمسني!”
قالت “رنا” مطمئنة وهي تمسك يدها:
— “حاضر، حاضر. انتي مش محتاجة حد يمسكك أصلًا! اهدي واطمني… متقلقيش، صدقيني مش هيحصل حاجة، والدكتورة عارفة هي بتعمل إيه.”
تمتمت “رفيدة” وهي تبكي:
— “غصب عني… غصب عني، دي حاجة لا إرادية…”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية عانيت لأحبك الفصل الأول 1 بقلم فاطمة محمود

+

في الخارج، كان “سليمان” يراقب، فرأى ممرضًا يهمّ بالدخول إلى الغرفة.
وقف الممرض أمام الباب، فاعترضه “سليمان” بجسده.

+

قال سليمان:
— Sorry sir, you can’t enter. There’s a patient inside.
(عذرًا، لا يمكنك الدخول، هناك مريضة بالداخل.)
قال الممرض وهو يقترب:
— I was called by the doctor to assist.
(لقد استدعَتني الطبيبة للمساعدة.)
“انعقد حاجبا “سليمان”، وقال بشيء من الحدة:
— Assist with what exactly?
(المساعدة في ماذا بالضبط؟)
— The patient is scared of the machine, and we usually hold the leg to avoid injury.
(المريضة خائفة من الجهاز، ونقوم عادةً بإمساك الرجل لتجنب إصابتها.)
هنا اشتعل وجه “سليمان” غضبًا:
—ضاق صدر “سليمان” من الفكرة ذاتها، وانطلقت كلماته بحدّة واضحة:
— No, that’s not acceptable. The patient is veiled and very conservative. It’s not appropriate for a man to touch her like that.
(لا، هذا غير مقبول. المريضة منتقبة ومحافظة جدًّا. لا يليق أبدًا أن يلمسها رجل بهذه الطريقة.)
تجرّأ الممرض وقال ببرود:
— I’m sorry, but sometimes it’s necessary. We have to follow procedure.
(أنا آسف، لكن أحيانًا يكون ذلك ضروريًّا. علينا اتباع الإجراءات.)

+

قال “سليمان” بصرامةٍ نهائية لا تقبل نقاشًا:
— Thank you. That’s enough. Stay right here. You’re not going in.
(شكرًا لك. هذا يكفي. ابقَ هنا، لن تدخل.)

+

ثم تقدّم نحو الباب، وطرقه طرقًا هادئًا، ثم دخل بعد أن أُذِن له، وعيناه تشتعلان بالقلق والغضب النبيل.
دخل الغرفة، فوجد “رفيدة” تبكي في حضن “رباب”، بينما “رنا” تمسك يدها وتهمس لها.

+

اتجه نحو الطبيبة وتحدث عن عدم سماح الممرض بـ المساعده ووضح رأيه.
ثم اقترب من “رفيدة”، وقال بنبرة هادئة لكنها حازمة:
— “بصي… لازم تهدي. متقلقيش خالص، صدقيني، مفيش حاجة هتأذيكي. خمس دقايق وكل حاجة هتخلص.
أنا منعت الممرض من الدخول… بس بخوفك ده مش هنعرف نعمل حاجة، وساعتها… الممرض هيدخل.”
هزّت رأسها بعناد ودموعها تنهمر:
— “لا… مش هسمح بكده ولا أنت هتسمح.”
قال، كأنما يخوّفها لترضى، وهو يعلم تمامًا أنه لن يسمح بشيء مما قال:
— “لو فضلتي كده، مش هقدر أمنعه… مفيش حل غير كده.”
صرخت برجاء:
— “خلاص! خلاص… أنا مش هحرّك رجلي… بس محدش يلمسني.”
أومأ برأسه واتجه إلى الطبيبة، وقال:
— She’s ready now, doctor.
(هي جاهزة الآن، دكتورة.)
وأدار لها ظهره، بينما “رفيدة” تعلّقت بـ”رباب” من جانب، وبـ”رنا” من الجانب الآخر.
دوّى صوت الأداة، فتشنّج جسدها، وبدأت تبكي من الخوف.
قال “سليمان” بصوت حنون، من خلف ظهره:
— “اهدي… اهدي يا رفيدة. أنا هنا…، مفيش حاجة هتحصل، كله هيكون بخير، بس خلّيكِ ثابتة.”
وكأن صوته كان حبلاً تنتشله من الغرق.
هدأت، استسلمت، ومرّت اللحظة.
وأخيرًا…
قالت الطبيبة:
_ Finished
— “انتهينا.”
خرج الجميع، متجهين إلى السيارة من جديد.
الفسحة بدأت، لكن في قلب “رفيدة”… كانت رحلة أخرى قد بدأت — رحلة الثقة والأمان.

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *