رواية نجوت بك الفصل الثالث 3 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل الثالث 3 بقلم مي مصطفي
البارت الثالث
الفصل الثالث “صوتٌ لا يُخيف”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
وافقت، وهي لا تدري أن تلك الرحلة لن تغيّر فقط طريقها… بل حياتها بأكملها.
وصلت رفيدة إلى مطار لندن، تخفي خلف نقابها ألف شعور، وتحمل في قلبها ألف خوف. كانت شفتاها جافتين، وعيناها تبحثان عن الأمان في كل الوجوه العابرة. كانت الرحلة طويلة، مرهقة، لكن ما ينتظرها أكثر وطأة. وقفت بين الخمسة المتفوقين من طلاب البعثة، وعيناها لا تفارق الأرض.
اقترب منهم رجل أشقر، تبدو عليه ملامح اللطف:
“Welcome to the UK! Follow me please.” “مرحبًا بكم في المملكة المتحدة! تفضلوا باللحاق بي.”
+
سارت معهم ببطء، تنظر من نافذة الحافلة الكبيرة، تتأمل الأبنية المتراصة والسماء الرمادية والمطر الرقيق الذي ينقر الزجاج. شعرت بأنها في كوكب آخر، كل شيء غريب… وبارد.
وصلوا إلى مبنى السكن المخصص، وكلٌّ منهم دلف إلى غرفته المستقلة. حملت حقيبتها، وأغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم أسندت ظهرها إليه، وأطلقت زفرة طويلة.
غرفة نظيفة، مرتبة، لكن الوحدة فيها تضج. جلست على السرير، ودفنت وجهها في كفيها. لا أحد تعرفه هنا، لا أمان، ولا صوت مألوف… فقط صدى أنفاسها المتسارعة.
في اليوم التالي، وصلت إلى شركة “ميكاترونكس العالمية”، وهي من كبرى شركات الهندسة والتكنولوجيا، حيث سيخوض المتدربون أسبوعًا حاسمًا من التقييم.
كان الحضور مُهيبًا، ورفيدة تجلس في نهاية الصف، لا تتحدث، لا ترفع يدها، لكن عينيها تلتهمان الشرح.
“Each of you will be assigned an individual prototype task. By the end of the week, the best among you will get a hiring recommendation.” “سوف يتم تكليف كل منكم بمشروع خاص. وفي نهاية الأسبوع، سيتم ترشيح الأفضل للتوظيف.”
تسلّمت رفيدة الورقة التي تحمل فكرتها. قرأت المطلوب منها، وشعرت بحماسة خفية تُزاحم رهابها. أخيرًا، شيء يمكنها أن تبرع فيه دون كلام.
كانت تعمل بعد انتهاء الدوام، تستغل كل دقيقة، بينما الآخرون يغادرون سريعًا.
كانت “ندى”، إحدى الطالبات المصريات معها، تراقبها. شعرت بالغيرة تكاد تشتعل في صدرها، وتهمس في نفسها:
“هي فاكرة نفسها هتكسب؟ ده أنا هعلّمك الأدب، وهخليكي تتأخري وتفشلي.”
في ذلك اليوم قرب إنتهاء الدوام، كانت رفيدة على وشك إنهاء جزء كبير من مشروعها.. واتجهت إلى المخزن لأخذ قطعة إلكترونية لازمه لمشروعها لإنهائه والعمل عليه ليلاً في السكن،،تتبعتها ندى وأغلقت الباب من الخارج ودفعت المزلاج بهدوء ثم ابتعدت كأن شيئًا لم يكن… وهمست بضحك:
“روحي كمّلي شغلك بقى يا شاطرة.”
غادرت، وبينما كان الطلاب الآخرون يهمّون بركوب الحافلة، سأل السائق: “Where’s the veiled girl? The one with the black long coat?” “أين الفتاة المنتقبة؟ التي ترتدي المعطف الأسود الطويل؟”
ندى ردّت بسرعة: “She left earlier. I didn’t see her today.” “هي غادرت مبكرًا. لم أرها اليوم.”
أكد الجميع أنها لم تكن معهم منذ فترة، وافترضوا أنها غادرت بالفعل.
في الداخل، كانت رفيدة تدق على الباب: “افتحوا! حد هنا؟ أنا جوه!”
لكن لا صوت يُجيب. حاولت مرارًا وتكرارًا فتح الباب، لكنه كان مغلقًا بإحكام.
مدّت يدها إلى هاتفها فلم تجد إشارة، ثم تذكرت أنها لا تملك أرقامًا لأي زميل أو مشرف.
الساعة تمر ببطء. البرد يتسلل إلى أطرافها. ارتجفت يداها، واصفرّ وجهها، ثم فجأة…
توقّف صوت المولد، وغرقت الغرفة في ظلام دامس.
تجمّدت في مكانها، وأنفاسها تتسارع. كانت الكوابيس القديمة تنهض من رقادها. شهقة مكتومة تسبق صرخة مفزوعة:
“الحقوني! افتحوا بالله عليكم! أنا خايفة أوي! مش بحب الضلمة! افتحواااا!”
صوت بكائها كان أشبه بانهيار…
صراخها من قلب سنوات من الخوف المكبوت…
البرق أضاء الزجاج لدقيقة، ورأت ظلها يرتجف…
الذكريات هجمتها…
صوت المطر، البرق، الرعد…
الشارع أمام الملجأ…
عبوة صغيرة بيدها، وباب يُغلق خلفها…
نفس العتمة… نفس البرد… نفس الوحدة.
انهارت على الأرض… تضع يديها على أذنيها… ترتعش وتبكي.
على بُعد طوابق، كان سليمان، مهندس ثلاثيني الطلّة، قوي البنية، ذو لحية خفيفة وعينين حادتين، يهمّ بالنزول على قدميه بعد تعطل المصعد.
“Electricity is out due to the rain. Backup generator malfunctioned.” “التيار الكهربائي انقطع بسبب الأمطار. والمولد الاحتياطي به عطل.”
أخبره الأمن، فأجاب ضاحكًا: “Well, I missed my morning workout. I guess now’s a good time.”
“فاتتني تمارين الصباح. أظن أن الوقت قد حان لتعويضها.”
بينما كان يهبط، سمع صوت بكاء مكتوم، وهمهات مذعورة تنبعث من طابق المخزن.
توقف.
صوت أنثوي… وبالعربية.
كانت خطواته تتسارع نزولًا على السلالم، يلهث صدره من الجهد، لكنه لم يبالِ، فما سمعه قبل لحظات لم يكن صوتًا عاديًّا. كان بكاءً ممزوجًا برجفة… بهمهمة مرتعشة خرجت من بين شفتي روحٍ معلقة على خيطٍ من الرجاء.
+
توقّف فجأة عند الدور الثالث عشر، وقد خفتت الأضواء تمامًا. لم يكن من شيءٍ يرشد خطاه إلا ضوء هاتفه المتقطع. أمال رأسه نحو اليمين… نحو باب المخزن الحديدي، وصوت البكاء صار أوضح… أقرب.
اقترب بخطوات حذرة، ورفع صوته، قائلًا
– في حد جوه؟! سامعاني؟!
ردّت فورًا بصوت مختنق:
“أيوه! أنا جوه! افتحلي! بالله عليك! أنا مرعوبة أوي!”
+
وسط صمتٍ قاتمٍ وذُعرٍ لا يُحتمل، كانت “رفيدة” تتحسّس طريقها المرتبك في ظلامٍ دامس، حتى دوّى في أذنيها صوتٌ رجوليّ، دافئٌ على نحوٍ غريب، لم يهزّ خوفها، بل هدّأ من روعها، كأنّ فيه شيئًا مألوفًا، مطمئنًا.
+
– “أرجوك ساعدني… أنا بخاف من الضلمة أوي… خرجني من هنا”.
قالتها باكية، بصوتٍ مرتجفٍ تُخفي فيه ذعر السنين، وكأنّها تنزف من الداخل.
توقّف قليلاً، كأنّه يلتقط أنفاسه مع نبرة الخوف في صوتها، ثم قال بلطفٍ ممزوج بالحزم:
“اهدي، اهدي… هفتحلك أهو”.
اقترب من الباب، حاول إدارة المقبض، ثم صدمه الواقع:
“مفيش مفتاح في الباب… غريب”.
بدأت تبكي بحرقة، وكأنّ أبواب الحياة أُغلقت كلها:
“خرجني، أرجوك… أنا خايفة، خايفة أوي”.
صوته عاد أكثر حنوًا، كأنّه يحاول أن يبني لها جدارًا من الأمان بكلماته:
“متخافيش… صدقيني هخرجك، أنا هنا، سامعاني؟ اهدي بس، ثقي فيا”.
أخرج هاتفه بسرعة، تفحّصه، ثم زفر بضيق:
“مفيش شبكة… طيب، هنزل أجيب الأمن، معاهم نسخ احتياطي من المفاتيح”.
لكن صوته لم يكن كافيًا ليمنحها الطمأنينة، بل فجّر فيها رعبًا دفينًا، فصرخت بهستيريا:
“لااا! متسبنيش! أرجوك… أنا خايفة! متسبنيش لوحدي”.
وفجأة… دوّى الرعد وومض البرق، فاختلّ توازنها النفسي تمامًا، وانهارت أمام الذكرى التي لا تفارقها: صوت الرعد حين تُركت على باب الملجأ، كانت لا تذكر من تلك الليلة سوى البرد… والصوت… والصمت القاتل.
صرخت مجددًا، بدأت تهلوس وتردد كلمات غير مفهومة، عيناها زائغتان، تنكمش على نفسها وكأنّها تهرب من الزمن.
اقترب من الباب، وصرخ:
“أنا هسيبك أنزل أجيب حد يفتح الباب!”
، قالها بحزم، محاولًا اختراق حاجز الانهيار.
لكنها لم تسمع سوى كلمة واحدة: “هسيبك”.
صرخت بحدّة أكبر: “لااا! أرجوك لا!”.
عاد صوتُه هادئًا، حاسمًا:
“طب اهدي… أنا جنبك أهو، مش هسيبك، وهطلعك، بس لازم تهدي الأول”.
بكت وقالت:
“الضلمة هنا وحشة أوي… والموبايل فصل، مش عارفة أفتح الفلاش”.
قال باطمئنان:
“غمّضي عنيكي… أنا واقف عند الباب، اهدي، أنا هنا مش هبعد”.
ثم حاول صرف تركيزها:
“انتي مصرية؟”.
أجابته بدهشة:
“أيوه… وانت مصري؟ أنا ماخدتش بالي خالص!”.
ضحك بخفة: “أكيد من البعثة اللي بتتدرب هنا؟”
– “أيوه! عرفت منين؟”
– “أنا مفيش حاجة معرفهاش”.
بدأت تتنفس ببطء، تدريجيًا، كانت كل كلمة منه تسحبها من قاع الخوف إلى سطح الأمان.
لاحظ نبرة صوتها المرتعشة، فسأل:
“مالك؟ صوتك بيرتعش كده ليه؟”.
قالت بصدق:
“أنا بردانة أوي…”.
قال بإصرار:
“مينفعش تفضلي كده… اسمعي، أنا هنزل مش هتأخر، أوعدك. غمضي عنيكي، وعدي من 1 لـ100، قبل ما توصلي هكون هنا، صدقيني”.
قالت بعيونٍ دامعة:
“أرجوك متتأخرش… أوفي بوعدك”.
ابتسم رغم توتره:
“حاضر، بس اهدي… متخافيش”.
ثم ركض بسرعة نحو السلالم، يقفز درجات دفعة واحدة، أنفاسه تتسارع، وقلبه يخفق بتوتر.
وصل للأمن، وقال بالإنجليزية:
– “Please, I need the spare keys for the electronics storage. Fast!”
أجابه الحارس باستغراب: “Sir? What happened?”
– “There’s a trainee stuck inside, no keys, no power. Quick, come with me!”
بحثوا في الصندوق:
– “Found it! Let’s go!”
في الداخل، كانت رفيدة تُعدّ: 95…
فجأة، دوّى صوته من خلف الباب:
“ها، وصلتي لكام؟”.
ضحكت وسط دموعها:
“95! انت جيت بجد؟”
– “لا، لسه هناك”.
– “لقيت المفتاح؟”
وقبل أن يجيب، وصل رجال الأمن، أعطوه المفاتيح، وفتح الباب.
ورآها للمرة الأولى…
كانت منتقبة، لا يظهر منها سوى عينيها… لكن عينيها كانتا رواية كاملة من الدهشة والحزن والجمال.
ورأته… وجهه مغمور بضوء الفلاش، تعرّفت عليه دون خوف، كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها رجلاً ولا تشعر بالرهبة… حتى سمعت خلفه صوتًا خشنًا، فاستدارت ورأت رجال الأمن، نظراتهم فضولية، ثقيلة، ارتبكت.
تراجعت للخلف، وكأنّ جسدها يختبئ خلف سليمان. كانت لا تعرفه، لكنها وجدته الأمان الوحيد.
تفاجأ بتصرّفها، لكنه فهم.
قال بسرعة بالإنجليزية: “Thank you, you can go now. I’ll handle it from here”.
ثم التفت إليها وقال بهدوء:
“فتحتلك أهو… ووفيت بوعدي”.
قالت والدمع لا يزال في عينيها: “شكرًا… ربنا يجزيك كل خير،مش عارفه أشكرك إزاي”.
– “الكهرباء لسه مقطوعة، والمولد فيه عطل… مضطرين ننزل ع السلم”.
نظرت إليه بدهشة:
“حضرتك نزلت وطلعت العشر أدوار دول في دقيقتين؟!”
ضحك وهو يلهث: “نفسي اتقطع… بس وعدت وكان لازم اكون قد كلمتي”.
بدؤوا النزول، وكان الظلام يخيم. كادت تسقط بسبب عباءتها الفضفاضة، فاندفع وأمسكها بسرعة، كانت في حضنه لثوانٍ، تراجعت مرتبكة، وقالت: “آسفة…”.
– “ولا يهمك، خدي الموبايل، نوري بالفلاش”.
فجأة توقفت:
“استنى! أنا نسيِت شنطتي وورق المشروع في المكتب!”.
– “مفيش مشكلة، نرجع نطلعهم سوا”.
– “بس مش عارفة احنا في أنهي دور… كنت بستخدم الأسانسير”.
– : “احنا في الخامس”.
ترددت، ثم قالت بصوتٍ خافت: “ممكن حضرتك تفضل هنا؟ أنا ممكن أطلع لوحدي الدور السابع…. بس ممكن اخد الموبايل”.
نظر إليها، فهم قلقها، وقال:
“أكيد مش هسيبك، يلا”.
وصلوا المكتب، دخلت، جمعت أغراضها، ثم قالت: “أنا خلصت”.
اشتعلت الكهرباء فجأة،
قال وهو يبتسم: “كده نركب الأسانسير بقى”.
ركبا، وصمتت تُتمتم بالدعاء، وقلبها ينبض بشكرٍ لله.
خرجوا، كانت السماء قد أظلمت، والمطر ينهمر.
قالت لنفسها:
“هروح إزاي؟ مفيش تاكسي… وأنا مش عارفة الطريق”.
جاء صوته من خلفها:
“يلا”.
– “يلا إيه؟”.
– “أوصلك… مش هسيبك دلوقتي أكيد تروحي لوحدك”.
– “لا شكرًا… مش لازم…”
– “مفيش نقاش”.
ترددت، ثم قالت: “بصراحة… أنا مش عارفة السكن فين… كنت بعتمد على العربية اللي بتوصلنا”.
تفاجأ: “نعم؟ ازاي؟ مش المفروض تعرفي مكان سكنك؟”.
أطرقت رأسها، ثم بكت: “معرفش…”.
قال بلطف: “طب هاتي الموبايل، نشحنه، ونكلم أي حد من صحابك”.
ناولته الهاتف، وحاول توصيله، ثم سأل:
“فين أرقام زمايلك؟”
أجابت ببكاء: “مش عندي… معرفش حد فيهم”.
رفع حاجبيه باستغراب:
“ازاي؟! مش من نفس البلد، وبقالكم شهر؟”.
أطرقت رأسها ولم تجب.
قال بحزم داخلي: “فيه حاجة منعها تتعامل معاهم… بس مش وقت الكلام ده دلوقتي”.
قال لها: “هتصرف”.
بدأ يتّصل بالمشرف، ثم المسئول، ثم السائق. من مكالمة لأخرى حتى حصل على العنوان.
التفت إليها: “يلا، قولتلك هتصرف”.
قالت بخجل: “شكراً… تعبت حضرتك معايا… ممكن تكتبلي العنوان؟ وأنا أركب تاكسي”.
+
– “هنرجع تاني ونجادل؟ تعالي اركبي… اعتبريني سواق تاكسي النهارده”.
ركبت بجواره، وكل الطريق تعيد اليوم في ذهنها، مستغربة كيف وثقت به… فقط.
وصلوا أمام السكن.
قال: “حمد لله على السلامة، وصلنا”.
قالت بإمتنان: “شكرًا… بجد مش عارفة أقولك إيه”.
قال بابتسامة: “ولا شكر على واجب، ده حتى انتي بنت بلدي”.
ابتسمت، شكرته، غابت عن عينيه، وظل واقفًا، يرقب ظلّها حتى اختفى.
ثم أدار محرك السيارة… ومضى.
+
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)