روايات

رواية نجوت بك الفصل الاول 1 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل الاول 1 بقلم مي مصطفي

 

البارت الاول

 

الفصل الأول ” أولى ندبات الروح”

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-

1

كان الليل في أوجه، والسماء تمطر بمرارةٍ كأنها تشارك الأرض ذنبًا لا يُغتفر…الريح تلفح الوجوه وتخترق العظام، والشوارع خالية إلا من صدى الخطوات وصرير الأبواب المرتجفة.
توقّف رجل، لم تُحدّد ملامحه بفعل الظلام،
توقفت قدماه أمام بوابة حديدية صدئة، يعلوها لوحٌ باهتٌ كتب عليه:
“دار الرحمة لرعاية الأيتام”
في حضنه، طفلة صغيرة، بالكاد تتجاوز الرابعة. ثيابها خفيفة لا تليق بليلةٍ كهذه، وعيناها نصف مغمضتين من شدة التعب والبرد، وشعرها الأسود قد ابتلّ حتى التصق بوجهها.
أمسكها من ذراعها وسحبها بغلظة، وضعها على الدرج الإسمنتي أمام الباب، دون أن يرمقها بنظرة حنان، أو حتى شعور ذنب.. وقفت لثوانٍ مذهولة، لا تفهم شيئًا، ثم مدت يدها الصغيره المرتعشة ناحيته وهمست بصوت واهن:
“بابا… أنا بردانة.”
لم يلتفت.. لم يجب.. فقط أدار ظهره، وخطا مبتعدًا، كأنّه يودّع حذاءً باليًا لا يصلح للسير.
زحفت الطفلة حتى التصقت بالباب، أراحت رأسها على الخشب البارد، وانكمشت على نفسها… كانت ترتجف، ولا تدري هل من المطر أم من الرحيل.
مرّت ساعات كأنها دهر، حتى فُتح الباب فجأة، وخرجت منه امرأة في منتصف العمر، تلف كتفيها بشال صوف سميك، تحمل بيدها مصباحًا صغيرًا.
توقفت حين لمحت الطفلة، رفعت حاجبها بتعجّب ثم تمتمت:
“إحنا رجعنا تاني لرمية العيال؟”
اقتربت منها، وانحنت لتفحّصها
“قومي يا بت… قومي يا أختي، انتي اسمك إيه؟”
الطفلة لم ترد، فقط رفعت عينيها ببطء، شفتاها تتحركان بصمت، ولم يصدر منها صوت.
نادت المرأة بصوت عالٍ:
“يا بنات! يا هدى! تعالوا شوفوا دي…”
اجتمع ثلاث نساء أخريات، بدأوا يفحصون الطفلة، يفكّون معطفها المهترئ، بحثًا عن أي شيء يدل على هويتها….وفجأة، انتبهت إحداهن إلى سلسلة فضية صغيرة تلتف حول عنقها، مخبأة تحت ملابسها الداخلية.
سحبتها بفضول وقالت:
“آه، أهي… فيها اسم رُفَيدة.”
قالت أخرى بلا مبالاه:
“بس كده… حطّوها في عنبر البنات الجداد، التختة اللي ورا، جنب الحيطة.”
وما إن دخلت الصغيرة إلى المبنى حتى اختفى صوت المطر، ليبدأ صمتٌ آخر…
صمت الجدران الباردة، والقلوب الأبرد.
—————————————————————-
عاد في آخر الليل،، وقد بلّلت المطر معطفه، وعيناه فارغتان من أي أثر للندم. خلع حذاءه بجفاف،،، واتّجه إلى المدفأة وهو ينفض عن يديه برودة الطريق. لحقت به زوجته الثانية، وقد اتّقدت عيناها بلهيب الفضول والشماتة.
-“رمتها؟”
قالتها بسرعة، دون حتى أن تسأله عن حاله.
أجاب دون أن ينظر إليها:
“أه، رمتها قدّام باب الملجأ ومشيت.”
ابتسمت بخفة منتصرة، وجذبت طرف الشال حول كتفيها وهي تقترب:
“كده الصح… البت دي من وهي صغيرة شكلها بيجيب المصايب… حلوة بشكل مش طبيعي، وكل اللي بيشوفها يبصلها بطمع! كانت هتكبر وتقلب علينا، تشوف نفسها بجمالها وتلبسنا العار.”
لم يرد، فواصلت بقسوة أكبر: “أنا شفت نظراتهم ليها، وهي لسه عندها كام سنة! أهو خلّصنا منها وهي لسه ماوعِتش… البت دي لو كملت كان هيبقى جمالها ده نقمة عليك، وهتجيبلك البلاوي.”
زفر زفرة طويلة وقال:
“من يوم ما ماتت أمها وأنا مش طايقها… البنت طلعت شبه أمها، ودي حاجة ماكنتش عايز أفتكرها كل يوم.”
ضحكت زوجته ضحكة قصيرة، وقالت:
“خلاص، خلّصنا منها، ونبدأ من جديد… وأجبلك ولد، لا بيجيب عار ولا وجع دماغ…ويشيل إسمك ويشرفك”
أشعل سيجارته، وأدار وجهه نحو النافذة، بينما صمت ثقيل خيّم على الغرفة، كأن شيئًا ما أُلقي في الظلام… ولم يعد.
———————————————————–
ركعت المشرفة بجوارها، وضعت يدها فوق جبينها فوجدته كالجمر.
“البنت دي سخنة نار… شكلها بقالها كتير تحت المطر.”
نادت على زميلة كانت تمرّ في الممر الخلفي:
“يا صباح، تعالى ساعديني! فيه طفلة جديدة كانت مرميه بره!”
اقتربت صباح ونظرت إليها بقرف ظاهر:
“وليه بنلمّ العيال دول؟ مش كفاية علينا اللي جوه؟”
لم تردّ المشرفة، بل حملت رُفيدة بين ذراعيها وهي تتمتم:
“دي صغيرة أوي… متعديش الأربع سنين.”
كانت الطفلة تهمس بضع كلمات متقطعة، كأنها تتكلّم مع شبح لا يُرى:
“متضربنيش… مش همسك المعلقة… مش هلعب تاني…مش هاكل شوكولاته ”
دقات قلبها خافتة، ورعشة جسدها لا تهدأ.
دخلوا بها إلى الداخل، إلى غرفة صغيرة رطبة في الواقع هو مخزن قديم فُرشت أرضيته بحصير خشن.
وضعتها المشرفة بلا مبالاه، وأشارت لصباح:
“هاتيلي شال تقيل وميّة دافية.”
“ماشي يا أُستاذة، بس البنت دي شكلها جايبة وراها مصايب.”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية نبضات عاشق الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم Lin Naya

+

 

حين فتحت عينيها، لم يكن أمامها سوى سقف رمادي باهت، يتدلّى منه مصباح خافت يتأرجح مع هبّات الهواء. نهضت ببطء، رأسها يئنّ من الحمى، وشفتيها جافتان من العطش. لم تفهم أين هي، ولا متى جاء بها أحد إلى هذا المكان الغريب.
تلفّتت حولها، فوجدت نفسها في غرفة واسعة، تتناثر بها الأسرة الحديدية، وقد انكمشت فوقها أجساد صغيرة مثلها. صمتٌ مشحون يملأ المكان، كأن الجدران نفسها تهمس بأسرار لا تُقال.
من خلف الباب الموارب، سمعت صوت امرأتين تتحدثان:
– “لقيتيها فين؟”
– “مرمية قدّام الباب… شكلها بنت حرام، محدش سأل عنها لحد دلوقتي.”
– “الله يسهّل بقى… الدار بقت زريبة لمّ فيها اللي ملهوش ضهر.”
لم تفهم معنى الكلمات… لكن نبرة القسوة انغرست في صدرها. شعرت أن الجملة – بنت حرام – رغم جهلها بمعناها، تحمل شيئًا يشبه اللطمة.
دخلت امرأة طويلة ممتلئة الجسد، تحمل منشفة وبضعة ملابس، وقالت بنبرة لا تخلو من التذمّر:
– “يلا يا حلوة، قومي، هنحمّيكِ ونلبسك.”
كانت رُفيدة تقف ساكنة تحت المياه الفاترة، ترتجف. المرأة تنظفها كأنها تغسل شيئًا تالفًا… لا تُحادثها إلا بأوامر مقتضبة، ثم تُجففها وتُلبسها ثوبًا بسيطًا رمادي اللون باهت ومهتري.
سحبتها من يدها وقادتها إلى ساحة صغيرة خلف المبنى، فيها بعض الأرجوحات الحديدية والعربات البلاستيكية، وهناك أطفال يلعبون، يركضون، يضحكون.
وقفت رُفيدة تراقبهم. قلبها يخفق رغبةً في القرب، فاقتربت من طفلتين جالستين على الأرجوحة.
– “ألعب معاكو؟”
نظرت إليها إحداهن من رأسها حتى قدميها، وقالت بنفور:
– “إنتي مين أصلاً؟ محدش يعرفك.”
انسحبت رُفيدة بهدوء… حاولت مرة ثانية مع طفل آخر، لكنه تجاهلها.
ثم اقتربت منها مجموعة من البنات، أكبر منها قليلًا، رمقنها بنظرة حادة:
– “إيه شعرك ده؟! كأنك بنت ناس.”
– “شوفي لونها… بيضا أوي وجميلة !”
– “وشعرها ناعم وكثيف… إحنا شعرنا عامل زي الليفة.”
– “أكيد جاية من بيت ناس أغنيا… دلوقتي بقيتي زينا، يتنسي شكلك ده وتبقي بشعة !”
ضحكن بصوت مرتفع، ثم ابتعدن.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية عشق القيصر الفصل الحادي عشر 11 بقلم شيماء صبحي

+

لم تكن الأيام تمضي، بل تتساقط فوق رأس رُفيدة كأحجار، كل يوم يحمل وجعًا جديدًا. منذ اللحظة الأولى التي رفضها فيها الأطفال، صار وجودها كالغصة، لا يُبتلع ولا يُتجاهل.
وفي صباح باهت، بينما كانت الجموع تتجمّع في فناء الدار، انفجرت الأصوات في عنبر البنات المشرفة ، وهدى ــ إحدى المشرفات ــ تبكي بحرقة وهي تشير إلى صندوق صغير بجوار سريرها:
“الحلق الدهب بتاعي! الحلق بتاع ماما… اتسرق!”
اجتمعت المشرفات بسرعة، وسألت إحداهن بغضب:
“مين دخل عندك؟ مين لمس حاجتك؟”
هدى رفعت عينيها، ومسحت دموعها، وقالت بتردد:
“أنا… أنا شُوفت رُفيدة عند سريري امبارح، كانت بتقلب في الحاجة.”
رُفيدة انتفضت من مكانها، اقتربت بتوتر وقالت:
“لا! أنا… أنا كنت بدوّر على العروسة بتاعي، بس مفتحتش حاجة!”
لكن قبل أن تُكمل، انطلقت أصوات الأطفال:
“أيوة! إحنا كمان شُوفناها!”
“هي بتِحب تبص في حاجات الناس!”
“كانت ماشية تبص على الدواليب كلها!”
عيونهم مليئة بالغيرة، وقلوبهم تبحث عن وسيلة تخلّصهم من جمالها الملفت، وشعرها الكثيف الطويل، وبشرتها البيضاء النظيفة، وسط عالم من الرؤوس المحلوقة والملابس المتشابهة.
حتى الرجل الذي سرق الحلق فعليًا – يُدعى سراج – كان يقف معاهم، يهز رأسه ببطء:
“أنا شوفتها… كانت عند الدولاب.”
كذبة واحدة، ثم تبعتها أخرى… ثم انهال سيل من الظلم.
المشرفة صرخت فيها:
“بتسرقي؟ ده لسه مكملتيش أسبوع! إنتي جايه لينا بشَرّ! قوموا هاتو العصاية!”
حاولت رُفيدة أن تشرح، أن تبكي، أن تقسم…
لكن لا أحد أراد أن يسمع.
ضُربت ضربًا شديدًا. كل ضربة كانت تُسكت صوتها، وتكتم أنفاسها، وتعلّم قلبها الصغير أن العدل ليس موجودًا هنا.
وبعد الضرب، جاءت العقوبة الأكبر… الحبس.
دُفعت داخل غرفة التخزين، باب صدئ يُغلق خلفها، لا نور، لا بطانية، لا رحمة.
جلست على الأرض الباردة، ودموعها تسيل بلا صوت. فهمت أن الحقيقة لا تنجو دائمًا، وأن الضعفاء لا يُصدَّقون.
لكن في مكانٍ ما في صدرها، وُلد شيء صغير… مؤلم، لكنه حيّ.
قضَت رُفيدة ليلتها في الغرفة المظلمة، لا يُسمع فيها إلا أنفاسها المتقطعة، وصوت المطر المتساقط على السقف المعدني الصدئ، كأن السماء تبكي معها. كانت تتكوّر في ركنٍ بارد، تحاول أن تضم نفسها، أن تحمي قلبها الصغير من التهشُّم.
في الصباح، فُتح الباب.
دلفت مشرفة شابة تحمل صينية فيها قليل من الحساء البارد، وضعتها بصمت، ثم همست:
“اطلعي يلا ،الأوضة دي محتاجينها.”
لم تجرؤ رُفيدة أن تسأل، أن تعترض، أن تنظر حتى.
نهضت بخُطا ثقيلة… جسدها يؤلمها، لكن ما كان يؤلم أكثر هو الشعور:
أن أحدًا لم يصدّقها.
أن كل الأعين صارت تخافها، أو تكرهها، أو تتجنّبها.
أن اسمها صار يُهمس به في الأركان، مصحوبًا باتهامات وسخرية.
منذ ذلك اليوم… تغيّرت.
لم تعد تُحاول الاقتراب من أحد.
حين تضحك البنات في زاوية، تبتعد.
حين تُوزّع الألعاب، تختار البعيد منها، وتلعب وحدها.
وحين تنام، تفعلها بهدوء، كأنها تحاول أن تُخفي وجودها.
حتى المشرفات لاحظن:
“البنت دي سكتت خالص… كانت بتحاول تدخل وسطهم، دلوقتي مبتنطقش.”
لكن ما لم يعرفه أحد، أن تلك الليلة لم تكن استثناءً.
فلم تكن تلك المرة الأولى التي تُضرب فيها ظلماً، ولا الأخيرة التي تُزجّ فيها في غرفة باردة تُغلَق أبوابها عليها وحدها.
تكرر المشهد بأشكال مختلفة… مرة لأن إحدى البنات اتهمتها بالكذب، ومرة لأنها “ردّت بعينها” على مشرفة، ومرة بلا سبب على الإطلاق سوى أن الغيرة من جمالها كانت تكفي لتشعل نار الاتهام.
صارت الضربات مألوفة، والعزلة عادة، والصراخ جزءًا من الليل.
وهي… لم تعد تبكي.
بل فقط تنكمش، تسند ظهرها للجدار، وتنتظر انتهاء العاصفة.
صوت الخطى في الممرات صار يُرعبها.
والعيون، حتى العادية منها، تُخيفها.
شيئًا فشيئًا، بدأ الرُهاب يسكن عينيها.
صارت تخشى الأيدي الممدودة، ولو كانت للسلام.
تخشى الجلوس في جماعة، ولو للّعب.
وتتجنّب أي نظرة قد تُفسَّر خطأ.
رُفيدة ما عادت طفلةً… صارت جُرحًا يمشي على قدمين.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية شهاب وغزال - غزالة الشهاب الفصل الثالث عشر 13 بقلم دعاء احمد

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *