رواية اجنبي مغرم الفصل السابع 7 بقلم الهام رأفت
رواية اجنبي مغرم الفصل السابع 7 بقلم الهام رأفت
البارت السابع
حرصت بالقدر الكافي على الأمانة التي بحوزتها، ولم تنظر قط إليها الفترة الدابرة حتى وهي بمفردها؛ لكن اليوم حثها شيء داخلي للاطمئنان عليها. فتحت السيدة زبيدة قفل الصندوق الذي خبأته في جوف الأريكة بغرفتها، وذلك حين تركها الجميع وغادروا. وقعت عيناها على ما يحويه وانبلجت طلعتها في راحة جلية وهي ترى الأموال بنفس هيئتها. لامستهم بكفها وهي تبتسم محبورة فعددهم كبير ومنظرهم يثلج الصدر، ثم أغلقت الصندوق في إحكامٍ ودسّته كما كان داخل الأريكة وقامت بترتيبها كأن الأمر عاديًا، ثم جلست على طرف تختها تفكر وهي تحدق بها في شرود، فمنذ أخذتهم وهم معها، وتخشى معرفة أحد بأمرهم، وذلك ما يجعل الخوف حليف أيامها الماضية والقادمة، وتخشى أن يصيبها مكروه بسببهم، فغمغمت في وجلٍ:
-أنا حاسة إن وجودكم هنا هيقلب عليا، ربنا يسترها
اقشعر بدنها ثم نهضت لتتحرك خارج الغرفة بعلامات قلق طغت عليها، ثم توجهت للصالون لتجلس على الأريكة بنفس حالتها، وهي في أوج جموحها جاء أدريان على بالها، تخللت الراحة لقلبها، فهذا الشاب وقت رأت قوته وهي تستبشر خيرًا؛ خاصةً أنه سيكون بجانبها وقتما تحتاج إليه. فخاطبت نفسها تطمئنها:
-قدري جنبي، وإن شاء الله هخليه في مصر على طول طالما قال إنه يتيم وقرايبه ملوش صلة بيهم.
ثم اعتزمت التحدث معه فهو الآن بشقته الجديدة، نهضت من مكانها ثم سارت ناحية طاولة الطعام لتجلب هاتفها المسنود فوقها، وحين اتصلت به وأجاب عليها، خاطبته في ود:
-قدري يا ابني لو مش هتعبك، ممكن تطلعلي عاوزاك في موضوع مهم……..!!
*****
قضت ساعات بنفس حالتها وبنفس إصرارها في إنكار ما اتهمها الجميع به، فهي لن تقبل أن تلوّث سُمعتها وسُمعة أهلها بجُرمٍ شنيعٍ كهذا بسبب طيشها وعدم مسؤوليتها، وذلك ما جعل المحقق يغضب من رؤيتها تقف أمامه صلبة، قوية، عنيدة هكذا، ثم نهض من مكانه وسط نظراتها نحوه، والتي لم تُظهر فيها الخوف مطلقًا رغم الرعب الذي يغوص بداخلها من القادم، فالمسألة باتت في منظورها حيـاة أو مـوت، فإن اعترفت قد انتهــت.
وقف المحقق بجانبها يطالعها بنظرة شمولية، فهي رغم بساطة ما ترتدية كانت مُلفتة ومميزة، يستنكر بداخله أن صاحبة ذاك الوجه الجميل تفعل ذلك، فسألها مترقبًا:
-إنتِ ممسوكة متلبسة، يعني إنكارك هيخلي موقفك أصعب!
أرادت شهد أن تعلن سخريتها من حديثه، فإن اعترفت لن يحلو بالطبع موقفها وظلت كما هي صامتة، ذلك ما جعله يصل لقمة حنقه من برودها، فسألها ممتعضًا:
-ساكتة ليه؟!
هنا خرجت من دائرة سكوتها وأجابت في صلابة عكس ما بداخلها:
-أنا قولت اللي عندي، أنا معملتش حاجة، دا افتراء، الست عندكم كويسة محدش لمسها، أبقى عملت كده إزاي!
-بس الممرضات اعترفوا إنك كنتِ هتجهضيها
رد في حزم فابتلعت ريقها وهي تدافع باستماتة عن نفسها:
-أنا معرفش بيقولوا كده ليه، تلاقي حد بيكرهني مسلّطهم عليا.
فور أن نطقت شهد جملتها بعفوية، انتبهت لتلك النقطة، لما لا، ربما أحدهم كَادَ لها تلك الورطة التي انغرست فيها دون انتباهٍ أو حذرٍ منها، وعلى الفور تذكرت آية وكريم، فقد تغيرا معها الفترة الماضية وتخاصموا، وهنا فهمت مكرهم المُحاك ضدها، وانتوت أن تأخذ حقها منهما بطريقة شرسة ولن يشفع ندمهم.
تعب المحقق من الجدال معها وقد فاض به فقد مر وقت طويل وهي كما هي، ثم دار حول مكتبه ليجلس على مكتبه وهو يقول في جد:
-مش هتبلغي حد من أهلك يشوفولك محامي!
حدقت به ولأول مرة يلمح خوفها، فقالت رافضة:
-أهلي ملهمش دعوة، أنا هنا وبقول معملتش حاجة.
أدرك نقطة ضعفها فقال مُصرًا:
-أهلك لازم يجوا، وبنفسي هبلغهم.
سئمت شهد من ذلك المحقق الحقير وودت البصق في وجهه، جاءت لتعترض لكنه قال في مكرٍ زادها رعبًا:
-وبالمرة نشوف الست اللي عاوزة تجهضيها هتقول أيه…….!!
*****
تلجلج في الرد حين طلب الزواج من ابنته الوسطى، لم يتخيل الحاج منصور ارتباط ابن أخته الأكبر بابنته ورد بالأخص، وحاول جاهدًا أن يتذكر أي موقف يجعله يقتنع بتلك الزيجة فلم يجد، ولذلك استنكر وتفاجأ في ذات الوقت. فنظر له حسين الجالس أمامه مستشفًا ما يدور بعقله، فهو أيضًا لم يتوقع أن تكون ورد هي الزوجة المنتظرة، ولم تدُم دهشته كثيرًا حيث قرر أن يرتبط بها لفترة قليلة وينهي المسألة، ثم انتبه لخاله يخاطبه مبهوتًا:
-أنا افتكرت هتتكلم في شهد، على أساس الكبيرة وإنتوا لايقين على بعض.
لم يجد حسين كلمات مناسبة يوضح بها سبب طلبه، لكنه وجد نفسه يقول:
-أنا بقول ورد أفضل، وهي كمان موافقة وعارفة إني جاي أخطبها.
وضعت السيدة هنية صينية المشروبات على الطاولة الصغيرة وقد أخفت ضيقها من حديث حسين، فنظر لها الحاج منصور وقد أدرك ما بها رغم هدوئها، وجلست معهما دون التفوه بكلمة، فنظر الحاج منصور لـ حسين وقال:
-اللي تشوفه يا حسين، طالما إنت وورد متفقين خلاص
زيف حسين بسمة تعبيرًا عن مسرّته بموافقته، وقال:
-إحنا هنعمل الخطوبة على الضيق كده، وحضرتك طبعًا عارف ظروفي دلوقتي، فالشبكة بعدين.
يطرح حسين ما عَمد عليه ليس كونه لا يريد جلب شيء لها، بل لأن الأمر لن يدوم طويلًا ولا يريد الدخول في مسؤوليات غير مُجدية. وذلك ما استشفته ورد التي تختلس النظرات من بعيد وتتابع في اهتمام ما يحدث واغتاظت بشدة، ولكنها تريثت لتستغل فترة الخطبة لصالحها، ثم انتبهت لزوجة أبيها تخاطبه:
-أوعى يا حسين بسبب الكلام اللي طالع على ورد دا اللي مخليك جاي تتقدملها!.
أخرجت السيدة هنية ما في جُعبتها من ضيق، فكونه رفض ابنتها أثار استياءها، ولم تجدد مبرر لتفضيل الأخيرة سوى ذلك، فابنتها جميلة ولا يوجد ما يُعيبها، فنظر لها الحاج وقد لفت الأمر انتباهه، فربما جاء لخطبتها لهذا السبب؛ لكن اعترض حسين قائلًا:
-لا الموضوع ده ملوش دعوة، أنا لسه حتى بدور على اللي طلّع الكلام ده على ورد ومش هسيبه
ثم وزّع نظراته عليهما في ترقب وقد ارتاح قليلًا، بالأخص أن ما حدث معه في تلك الليلة لم يعرف به أحد، فكبحت السيدة هنية حنقها وصمتت، بينما قال الحاج في ود:
-أنا موافق عليك يا حسين واللي تختارها من بناتي، أنا هلاقي أحسن منك فين، دا أنت تربيتي
خرجت السيدة هنية عن صمتها مرة أخرى وقالت بنبرة جافة:
-والحاجة زبيدة مجتش معاك ليه، خير؟!
سألت بذلك لإدراكها عدم موافقتها، فقد أحبت شهد له وليس غيرها، فنظر لها حسين متوترًا فهو لم يخبرها بالأمر لأنه لن يستمر، فرد مُختلقًا سببًا ما:
-تعبانة، والمرة الجاية هتيجي معايا!
-سلامتها يا حسين؟!
تساءل الحاج في قلق، فخاطبه حسين معللًا:
-تعب بسيط مش حاجة كبيرة، أنا بس قولت آجي أشوف رأيكم وكده في الأول.
تبسّم الحاج وقال:
-رأيي معروف يا حسين، يلا نقرأ الفاتحة.
تهللت ورد التي تقف على مقربة وودت أن تصرخ فرحًا ثم أخذت تقرأ معهم الفاتحة، بينما تجهّمت ملامح السيدة هنية حزينة على ابنتها، ثم أدركت جمال ابنتها وأنها سوف تجد الأفضل لها.
هتف حسين مترددًا:
-ورد طلبت مني أروح معاها عزا جدتها لو معندكش مانع.
رحب الحاج مسرورًا:
-يا ريت، دا أنا كنت محتار هتروح وتيجي إزاي، إنت ابن عمتها وبقت في مقام خطيبتك.
اختنق حسين من ذاك الجو ثم نهض معتزمًا الذهاب الآن فقال:
-طيب هاخدها دلوقتي ونمشي، يا ريت تنادولها
قبل أن يرد أحد عليه كانت ورد كالبرق قد حضرت لتقف بجانبه وبسمتها تصل لأذنيها، فنظر لها حُسين مدهوشًا، هتفت مبتهجة بشدة:
-أنا لابسة وجاهزة يلا يا حسين نمشي
أدرك تصرفاتها الولودية من أفعالها فزفر بقوة وأشار لها أن تتحرك أمامه، فأومأت في طاعة وهي تسبقه ناحية الباب، فخاطب الحاج حسين في تكليفٍ:
-خلي بالك منها يا حسين، ومتقولش لحد هي مين؟!
كل ذلك يعرفه حسين فقال متفهمًا:
-متخافش يا خالي، زي ما أخدتها هرجعها
ثم سار حسين مخلّفًا ورد وتاركًا خاله وزوجته في الخلف يتابعان خروجهما، فخاطب الحاج زوجته في راحة:
-حسين باين عليه ميال ليها، شايفة خايف عليها إزاي
نظرت له السيدة شزرًا بفمٍ ملتوٍ ولم تعلّق، لكن انتبها الاثنان لـ ورد وحسين يتحدثان مع أحدهم عند الباب، فتحركا ناحيتهما مهتمين، وحين وصل هتفت ورد مصدومة:
-ألحق يا بابا، شهد مقبوض عليها……….!!
*****
-هو غاب كده ليه؟!
تساءلت السيدة زبيدة مع نفسها المتحيرة من غياب أدريان كل تلك المدة عند البقال، فقد طلبت أشياء بسيطة. تأففت بشدة ثم خرجت للشرفة لرؤيته فالبقالة بالأسفل ولا داعي لكل ذلك.
أسندت كفيها على السور ونظرت للأسفل وهي تفتش عليه بين المارة، وقعت عينيها عليه وهو يتقدم ناحية العمارة ويبدو أنها جلب المطلوب، خاطبته متعجبة:
-شهّل يا قدري!
نظر للأعلى ثم سألها في عدم فهم لما نطقت به:
-ماذا؟ هل تريدي شيئًا آخر؟!
أدركت أنه لا يفهم كلامها، فتذكرت جملة في ترجمة مسلسل أجنبي، فنطقتها في حماس:
-هلُم يا رجل، لقد تأخرت!
أومأ متفهمًا ثم دخل المبنى بما يحمله، بينما ولجت السيدة زبيدة للصالة لتفتح الباب له. لم تنتظر كثيرًا حيث تفاجأت به أمامها، صُدمت من رشاقته رغم جسده السمين، ثم أحبته فلطالما يفاجئها ببروعه في بعض الأحيان، خاطبته في لطف وهي تمد يدها:
-هات يا حبيبي وريني!
أعطاها المشتريات مترددًا في ذلك، ففتحت السيدة الكيس وعقدت جبينها مما تراه، رفعت عُلبة من البسكويت وسألته في غرابة:
-أنا قولتلك هات بسكويت؟!
هز رأسه نافيًا فاندهشت قائلة:
-ولما هو كده جايبه ليه؟!، أنا قولت عاوزة زبدة
أخفض نظراته وهو يقول متأسفًا:
-الحقيقة لقد نسيت اسمها، ولكنني أعرفها، فطلبت منه أنا يعطيني (Butter)، ولكنه لم يفهمني
كشّرت طلعتها وهي تسأله:
-أيه البتر ده يا بني؟!
-زُبدة!
جاوب بتلقائية فزادت حيرتها لتقول منفعلة بعض الشيء:
-ودا ماله ومال البسكويت!
أخذ البسكويت منها وجعلها تشاهد ما دوّن عليه، قال:
-البسكويت مكتوب عليه باتر
اغتاظت السيدة ولم تتحمل، فيبدو أنها سوف تبذل مجهودًا شاقًا معه، ثم شهقت حين فتح علبة البسكويت وشرع في تناولها دون خجل، رمقته في ضيق من بروده ثم سألته ممتعضة:
-فين الـ ٢٠٠ جنيه اللي أديتهالك؟!
أخرج من جيب بنطاله عشرين جنيهًا ثم ناولها إياها وهو يمضغ البسكويت، أخذتها منه مصدومة، سألته وقد فاض بها:
-ليه، جبت أيه؟
جعلها ترى ما بداخل الكيس وقال وسط نظرات سخطها:
-لقد اشتريت بعض الحلوى لي ولكِ
تجمدت السيدة لبعض الوقت تفكر كيف تتصرف معه، فهي بالطبع لن تتطاول عليه رغم الرغبة المُلحّة بداخلها في صفعه بقوة، ثم خطر على بالها أمرًا وقررت تنفيذه لتسترد ما لها، ثم حلّ عليها المكر المخبأ بداخلها حين سألته في ظلمة:
-مش عاوز تغيّر دولارات يا قدري يا ابني……….!!
*****
بلغ القصر الخاص بالسيد منير غالب، فهو كما يُعرف بجدها الذي يتبرأ منها، صف حسين سيارته بعيدًا حينما لمح سيارات فارهة تدخل وتخرج ومنعًا من لفت الأنظار إليه. قبل نزوله لمح حزن ورد الذي ما زال عليها، فسألها:
-خلاص بقى خالي هيروح يشوف مالها، وإن شاء الله يطلع الموضوع بسيط.
نظرت له بقسمات مكفهرّة وقالت:
-كان المفروض نروح معاه نشوفها، دا إنت حتى معزمتش عليه تروح إنت معاه
زفر بقوة وقال في نفور:
-أنا خوفت أروح معاه القسم، دول عارفني أنا وأمي، مش بعيد يقولولي فين أمك!
لوت فمها من تبريره السخيف، فتأفف قائلًا وهو يهم بالترجل:
-يلا خلينا نخلص من الموضوع ده كمان!
ترجلت هي الأخرى مستاءة وأُجبرت نفسها على الصمت، ثم بهيئة مبهورة تطلعت على القصر، تناست ما بها قبل قليل وحلّت الرهبة هيئتها، فلحظات فقط وسوف ترى أمِّها وأهلها، ثم سارت ببطء ناحية البوابة متوترة، وكلما تتقدم للداخل تزداد انبهارًا وحماسًا، ومن خلفها حسين الذي همس لها مُعجبًا:
-شايفة عايشين إزاي!
تأملت ما حولها في نظرات حرمان، فمن المفروض أن تكون هنا بينهم، وملأ الحقد قلبها ثم فكرت أن تتخلى عن فكرة وجودها هنا وتترك المكان، لكن أرادت رؤية والدتها، ربما تُعلمها بمدى الحق المسلوب منها، وتلومها على تركها هكذا، ثم أكملت طريقهــا للداخـل..!!
بصالة القصر، كانت تجلس لميس وسط بعض النسوة أصحاب المراكز المرموقة، كانت تبكي في صمت ويظهر عليها الحزن الشديد، وقعت عينا ورد عليها وسخرت في نفسها، هي في هذا السن وتفتقد والدتها، فماذا عنها هي؟، التي لم ترها سوى مرات معدودة. تحركت ورد ناحيتها ولم تعرف ذاك البرود والعدائية التي ظهرت عليها. بينما أحسّت لميس بشعور غريب دفعها لأن تنظر أمامها، شعور الأمومة الفطري، فتقابلت أعينهن في نظرات مطوّلة، منها المشتاقة ومنها اللائمة، ثم دون وعي نهضت لميس لتقابلها بوجهٍ مبتسم، يخالف حالة الحزن التي كانت عليها، فمن انتبه لذلك تملكت منه حيرة عجيبة.
وقفت ورد أمامها جامدة، متقلبة المشاعر، فالتي أمامها والدتها التي انجبتها، وشعرت بالغُربة المفاجئة، ولم يغمرها الحنين كما المتوقع، فقد اعتادت على غيرهـا.
على النقيض لميس التي أعلنت شوقها ومحبتها حين ضمتها بقوة لتحظى الأخيرة ولو لفترة ضئيلة بسفح حنانها، فضمتها ورد كتجاوبٍ اعتياديٍ مع الموقف، فهي ما زالت تحمل العتاب لهـا. ابتعدت لميس قليلًا عنها وقد تحوّلت كليًا، فالفرحة ظهرت عليها، خاطبتها في ود:
-عاملة أيه يا حبيبتي؟!
-الحمد لله!
اقتضبت ورد في ردها ثم أردفت في جمود:
-البقاء لله!
جعلتها لميس تجلس بجانبها، وحين أدركت نظرات البعض حاذرت في إظهار معاملة مُغايرة تثير الشك، الأمر الذي ضايق ورد من نكران وجودها، ثم جلست بجانبها في صمت، كسرته لميس التي همست لها في حنوٍ:
-وحشتيني قوي، طمنيني عنك!، بتقضي يومك إزاي، فيه حاجة مزعلاكِ، قوليلي يا حبيبتي!
توالت استفهامات لميس في لهفٍ واضح لمعرفة مجرى حياة ابنتها بعيدًا عنها، وذاك العطف جعل قلب ورد يلين تجاهها، وودت البقاء معها، فأحسّت لميس بابنتها وتمنّت هي الأخرى ذلك. كسا وجهها علامات الغِيرة والحنق حين قالت ورد كابحة تمردها:
-أنا مبسوطة قوي، مع بابا منصور وماما هنية……!!
……………………………………………………….
في أحد الجوانب بذات الصالة الفسيحة جلس حُسين مع الرجال محاولًا تجنب الأحاديث مع أي أحد، خاصةً أن هناك من يناظره بأعين مستفهمة، وجاهلة لهوية ذاك الشاب الجالس بينهم. تفاجأ حسين بأحدهم يجلس بجانبه يرتدي حلة سوداء أنيقة، ومن طلعته انتبه لصغر سِنه، ربما هو بنفس عُمره أو أكبر قليلًا، سأله الشاب مهتمًا:
-حضرتك مين؟!
تنحنح حسين فقد توقع ذلك السؤال من أحدهم، قال:
-أنا جاي أعزي لميس هانم، أنا مهندس ميكانيكي وهي بتصلح عربيتها عندي.
-سيف، قاعد كده ليه؟!
أدرك حُسين اسم الشاب حين استدعاه آخر، فنهض سيف متجهًا ناحية أمجد الذي يناديه، خاطبه متأففًا:
-هو كل حاجة سيف، عاوز أيه؟!
زجره أمجد في حنق:
-مش لازم تقابل الناس معايا، ولا كله عليا.
-وأنا مالي
-لا كنت أنا اللي ملزوم!
همس أمجد مزعوجًا، فتأفف سيف وقال:
-هو الجو الخنقة دا هيفضل كتير؟!
تجاهله أمجد ثم وجّه بصره تجاه حسين، فحصه بنظراته ثم سأل في جهل:
-مين اللي كنت بتكلمه ده، ابن حد نعرفه؟!
نظر له سيف أيضًا فشعر حسين بالتوتر، جاوب دون اهتمام:
-دا واحد أختك بتصلح عربيتها عنده!
لم يهتم أمجد هو الآخر ثم جذبه من ذراعه قائلًا:
-فيه حاجة عاوز أقولك عليها!
-حاجة أيه؟!
– سمعت بابا من شوية بيقول إن مرات عمك كتبت أملاكها لبنت لميس الكبيرة…….؟!
*****
أخفضت رأسها في خزي من نظرات والدها المصدومة، كذلك والدتها التي ما أن علمت حتى أخذت تبكي وتنوح، والأدهى من ذلك هي إعلان ندمها عن إنجاب فتاة مثلها. فبكت شهد بحرقة ولم تتحمل تلك النظرات من والديها. نظر الحاج منصور لها في خيبة أمل، ولم يتحمل رؤية الأصفاد بيدها، انحنى ظهره في تلك اللحظة ولم تعد تحمله قدماه. حين رأته شهد هكذا عادت لصلابتها وخاطبته في ألم:
-أنا معملتش حاجة يا بابا، أنا مظلومة!
باستماتة كانت شهد تُصر على موقفها، لم ولن تعترف بشيء، فالموت أهون لها من ذلك. ومن ردها القوي عاد الحاج منصور يضع ثقته بها، فوجّه حديثه للمحقق وقال:
-أنا بنتي متعملش كده!
تعجب المحقق من إصرار تلك الفتاة، فالجميع يشهد ضدها، وهي كما هي، فزفر بقوة وقد وصل لقمة ملله من عنادها ومن الموضوع برمته، فقال مستاءً:
-كلهم اعترفوا عليها، حتى البنت اللي كانت عاوزة تجهضها، برضه اعترفت.
نظر الحاج منصور لها منتظرًا أن تقول شيء ولم تفعل، فعاود النظر للمحقق الذي قال في جد:
-أنا مضطر اتحفّظ عليها، الأفضل شوفلها محامي يدافع عنها، على الأقل حتى يخفف الحكم عليها.
أغمض الحاج عينيه في أسى فقد ثبطت ابنته ظنه وخاب أمله فيها، ربتت زوجته السيدة هنية على ظهره لتخفف عنه وعينيها على ابنتها تلومها على تلويث اسم أهلها وقد خجلت من كونها ابنتهـا. فأمر المحقق العسكري بأن يأخذها للحبس بعد أن حكم عليها بأربعة أيام على ذمة التحقيق، هنا انفجرت شهد مرة أخرى تبكي وتعلن أنها ليست الفاعلة، ووالدها الحاج يستمع لها في قهر غطى على معالم وجهـه. أخذته السيدة هنية للخارج وهي تمسك بذراعه، ولم تجد ما تقوله له، فنطق الحاج بعد فترة صمت حتمية:
-يلا نشوفلها محامي يا هنية!
-منك لله يا شهد، يا خسارة تربيتي فيكِ
هتف السيدة بذلك في كراهية من ابنتها الهوجاء، ثم استأنفت مغلولة:
-يلا إحنا يا حاج وسيبك منها
قالت ذلك من غيظها، لكن بداخلها لا تريد السيئ لها وودت ألا تغادر المكان دونها، فنظر لها الحاج مستنكرًا ذلك وقال:
-مش معقول هروّح وأسيب بنتي كده
نكست رأسها مكسورة القلب والكرامة، قالت مبتئسة:
-مش عارفة أقولك أيه؟ آدي أخرة حرية البنات، مش كان زمانك مجوزها!
ثم تذكرت قبول حسين بأختها دون غيرها، وارتابت أن حسين اختار الأخيرة لسوء أخلاق ابنتها ولم يعلن عن ذلك، فشعرت السيدة بوخزة في قلبها، فمن تعبت وسهرت لتربي تجني ثمار فاسدة بعكس ما توقعت.
بينما أعلن الحاج منصور تهكمه من كلامها حين قال:
-هو فيه حد هيرضى بيها بعد اللي حصل ده، زمان الحتة كلها عرفت وفضيحتنا على كل لسان.
رددت السيدة متحسّرة:
-الدكتورة الحلوة اللي بتفشخر بيها، هي اللي جابت لينا العار وحطت راسنا في الطين.
تنفس الحاج محاولًا الهدوء، فالوقت ليس للنوح والبكاء، وعمد أن يقف بجانب ابنته للنهاية، والبحث عن محامي مُحنّك لها، ثم تذكّر بأن زوجته السابقة تعرف شخصًا داهية، فلمعت عيناه وقرر مُجبرًا أن يطلب منها المساعدة لأول مرة بعد انفصالهما، فابنته عنده الأغلى، قال في عزيمة:
-أنا هروح أشوفلها محامي، مش هقف كده………!!
*****
لمحت في عينيه وطلعته الكئيبة حزنًا كبيرًا، هي تتابعه في اهتمام حين جاء وجلس أمامها هكذا، وكأي أم غلبها هاجسها لتعلن قلقها عليه، فسألته بنبرة حنون:
-أيه يا رامي يابني، حد مزعلك يا حبيبي؟!
نظر لها بأعين مشدوهة، فبالطبع لن يخبرها عما بداخله، وذلك حين علم بنية أخيه في الزواج من الفتاة التي اختارها وخطط لحياته المستقبلية وهي معه. لم يعرف ماهية الشعور اللعين بداخله، فقد تضايق من نفسه كثيرًا وهو يعيد التفكير فيها مرة أخرى، وعاب على نفسه كثيرًا. ولعدم شك أمه بشيء قال:
-اتخانقت مع واحد في الجامعة، بس متخافيش الموضوع مش كبير.
ارتاحت السيدة قليلًا لكن قالت مستنكرة:
-طيب زعلان كده ليه بقى؟!
زيّف بسمة بصعوبة وهو يرسم على وجهه فرحة مزيفة، قال:
-خلاص يا ست الكل مش زعلان!
هي كأم شعرت بأن الأمر ليس كذلك ولم تضغط عليه في البوح بما في خاطره، فتبسّمت قائلة:
-أنا عاملة أكل هتاكل صوابعك وراه، قول يلا كلم قدري يجي أحطلكم الأكل
حين نطقت اسمه تذكرت الورقة النقدية التي أعطاها لها، فأخرجتها من جيبها وقالت مبتهجة:
-خد غيّرلي دي بالمرة من فهمي الحلاق!
حدق رامي بالورقة النقدية فئة المائة دولار مقطّب الوجه ثم أخذها منها، نظر لها مندهشًا واستفهم:
-جيباها منين؟!
سأل بذلك رغم يقينه لمصدرها؛ لكنه أحب أن يتأكد أكثر، فجاوبت السيدة بكل هدوء:
-من قدري، هغيّرهاله وأديله تمنها
ثم أكملت في نفسها الماكرة:
-بعد ما أخصم الـ ٢٠٠ جنيه بتوعي.
أومأ رامي في طاعة ويظهر عليه الخمول، فهتفت السيدة تحمّسه على النهوض:
-قوم يلا غيّرها، ومتنساش تجيب قدري، من وقت ما لقي الشقة قاعد فيهــا……….!!
*****
شلح ثيابه وظل بشورت قصير يغطي بالكاد فخذيه، أحس أدريان بالاستجمام، فمنذ جاء هنا لم يجلس بوضعٍ مريحٍ كهذا، ثم تسطح على الأريكة التي ابتاعها له حسين اليوم مؤقتًا لحين تجهيز الشقة.
تمطى بذراعيه كمن أوقع جبل من على كاهله، ثم انتبه لرنين رقمه المصري، على الفور أجاب حين علم بهويته، فهتف متهللًا:
-Andrew is my loyal friend
-(أندرو صديقي الوفي!)
أدرك أندرو بأن صديقه بخير من نبرته المرحة، ففطن أنه نفّذ المطلوب منه فهتف:
-Looks like you’ve accomplished your mission.
-يبدو أنك انجزت مهمتك
جاوب نافيًا في ضيق طفيف:
-I haven’t done anything yet, it seems like it will take longer
-لم أفعل شيء إلى الآن، يبدو أن الأمر سيأخذ وقت أطول.
ثم سأله في جد:
-When will you come, I want you with me?!
-متى سوف تأتي، أريدك معي؟!
-Don’t worry, two days and I will be in Egypt!
-لا تقلق، يومان وأكون في مصر!
تساءل أدريان متوجسًا:
-Did anyone know I was here?!
-هل علم أي أحد بوجودي هنا؟!
رد الأخيرة متفهمًا المسألة:
-Everyone is asking about you, but I told them that you are in Russia
-الجميع يسأل عنك، لكن أنا أبلغتهم أنك في روسيا
-You have to be careful, I want to end the matter quietly
-عليك أن تكون حذرًا، أريد أن أنهي المسألة في هدوء
-It will happen, trust me!
-سوف يحدث، ثق بي!
نطق أندرو بذلك في ثقة تامة لتنفيذه لتلك المهمة، ثم قطع حديثهما قرع الجرس، توتر أدريان ثم نهض من مكانه. أنهى مكالمته سريعًا ثم تحرك عند الباب، سأل في ترقب:
-مَن؟!
-افتح يا أدريان أنا رامي!
تأجج ارتباك أدريان فبالتأكيد لن يفتح له كذلك، فرد عليه في حذر:
-انتظر قليلًا سوف ارتدي ملابسي.
نطقها وهو يركض لارتداء ملابسه، بينما وقف رامي عند الباب يستنكر خجله منه فهو رجل مثله. ثم هتف فيما معناه بصوتٍ عالٍ جعل أدريان يبتهج:
-خلّص وأطلع علشان هنتغدا سوا، متتأخرش…….!!
*****
وقفت بجانبه في حديقة القصر تمتص منه الأمان وهي بينهم عندما التقت به، ولأول مرة تجرّأت وأمسكت بيده، دُهش حسين من فعلتها ولم يحبذ الأمر، فحاول ترك يدها ووقف ثابتًا وهو يلومها:
-ميصحش يا ورد كده!
شعرت ورد بالألم من ذلك، ثم نظرت له في حزن، قالت:
-قريب هنتجوز، مش قريت فاتحتي.
-إنتِ صدقتي نفسك، ما إحنا متفقين
أشاحت ورد بوجهها للناحية الأخرى مزعوجة منه، فانتبه أمجد لها وهي واقفة مع نفس الشاب الذي رآه بالداخل، ابتسم في لؤم فهو يعرفها جيدًا، ولم يصدق أنها هنا بنفسها، لاحظ سيف نظراته تلك نحو الفتاة التي رآها منذ حضرت، فأظلم عينيه وهو يسأله:
-عجباك؟!
نظر له أمجد شزرًا وهتف:
-الحلوة دي أنا خالها!
بعد لحظات عدم فهم أدرك سيف أنها ابنة لميس ابنة عمه، ثم تجاهل أمجد نهائيًا ليتطلع عليها دون خجل ويتأملها بدقة، فخبطه أمجد في كتفه مزعوجًا من وقاحته. استاء سيف من حركته غير المهذبة وزجره:
-اتلم يا أمجد!
-أنا اللي أتلم!
هتف أمجد جملته منفعلًا، فنظر له سيف وقال واثقًا:
-على فكرة بقى، البنت دي أنا شوفتها أول ما دخلت وعجبتني، علشان كده روحت أكلم الشاب اللي شوفته، فكرتها قريبته.
ثم استأنف ببسمة خبيثة:
-وطالما عرفت هي مين سبيني أنا بقى اتصرف معاها، وأروح أسلم عليها كمان.
أمسك أمجد بذراعه ليمنعه مُحذرًا:
-اللي بتعمله ده غلط، لميس مش عاوزة شوشرة، لأن بابا لو عرف بوجودها هيطين عيشة الكل.
لم يقتنع بذلك فاستفهم متهكمًا:
-دي هتورث مرات أبوك، يعني غصب عنه هيعرف بوجودها
بدت نظرات أمجد غير مفهومة وهو يعلنها صراحةً في سخرية:
-عمك هيعترف بيها، ادعي بس لما يشوفها ميخلصش عليها..!!
اقتربت منهما في حرس، وتلك الاحترازية الظاهرة منها كانت تضايق ورد بشدة، فهل حقًا تخجل منها أن ماذا يخالجها بشأنها؟. وقفت لميس أمامها مبتسمة وهي تتأمل ابنتها التي كبُرت، كانت تشبهها في صباها، بل أجمل منها بطلعتها الناعمة، وغمرتها السعادة فها قد أصبحت شابة، وابتسمت من رؤية حجابها بعكس حياتها هي. مدت لميس يدها بعقد من الألماس قد جلبته من أجلها، رفعته لتجعلها ترتديه وهي تقول:
-جدتك كانت موصياني أديهولك.
ثم شرعت في إحكامه حول عنقها، كانت ورد تريد الرفض، لكن هناك ما منعها ولم تعرف لما كانت سلبية هكذا في إعلان استيائها منهــا.
تأملت لميس وجهها عن كثبٍ حين انتهت، ولمعت عيناها بوميض فرح افتقدت بريقه منذ ابتعدت عنها، خاطبتها فى ود:
-عاوزة أشوفك كتير يا ورد، رقمي معاكِ كلميني على طول.
لم تبدي ورد موافقة أو من عدمها واستمعت لها فقط، فنظرت لميس لـ حسين وأعجبت به وبوسامته، ودون سؤال كانت تعرف هويته من ملامحه، فخاطبته في لطف:
-إنت أكيد حسين، شبه خالك خالص
تصنّع حسين بسمة مجاملة وهو يرد:
-أهلًا بحضرتك!
نظرت له ورد ورغبت في إعلان ما حدث اليوم، فوجّهت حديثها لوالدتها وقالت:
-حسين كمان خطيبي!
لم تعرف لميس لما تضايقت، ربما أحبت شخصًا أفضل لها، شخص بنفس مستواها، وبداخلها قررت التحدث مع منصور في الأمر، فهي لن تقبل به حتى إن كان الأجمل وهو من تحبه، وحتى لا تلقى ابنتها نفس مصيـرهــا……………………………………………..!!
يُتبع
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية اجنبي مغرم)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)