روايات

رواية بين الحب والإنتقام الفصل السادس عشر 16 بقلم نور الهادي

رواية بين الحب والإنتقام الفصل السادس عشر 16 بقلم نور الهادي

 

 

البارت السادس عشر

 

بيت بسيط، جدرانه قديمة، ورائحة الخبز فيه كانت دايمًا بتفكره بالدفا.
كان علي وقتها عنده ٢٠ سنة، راجع بالليل بعد ما خلص شغله في محل بقالة صغير بيشتغل فيه وقت متأخر.
فتح باب البيت بهدوء… بس أول ما دخل، وقف مكانه مصدوم.
الدخان مالي البيت، خنقه أول نفس، وقلبه بدأ يدق بجنون ورمى شنطته
صرخ بأعلى صوته وهو بيجري جوا:
ـ منى!
جرى علي ناحية المطبخ وهو بيصرخ:
ـ منى!
ما لقاش حاجة… خرج بسرعة برا، وصوته بيتقطع من القلق:
ـ منننى!!
فضل يدور في كل الأوضة، لحد ما عينه وقعت عليها… كانت قاعدة في ركن أوضتها، جري عليها علي، وهو بيقول بخوف:
ـ منى! في إيه؟
رفعت إيدها المرتجفة، وأشارت ناحية المكواة.
بصّ علي في الاتجاه اللي أشارت عليه، واتصدم…
المكواة مولعة في التيشيرت بتاعه، واللي بقى ملزوق في السجادة، والنار بدأت تنتشر!
جري بسرعة، فصل الفيشة وسحب المكواة بعيد، وفتح الشبابيك عشان الدخان وريحة الحريقة يخرجوا.
التفت ناحيتها وقال بصوت عالي لكنه مليان وجع:
ـ مين قالك تشغّلي المكواة يا منى؟!
كانت البنت جميلة… ملامحها رقيقه ناضجه كأنها أنثى شابة، لكن عينيها وتصرفاتها كانوا زي طفلة صغيرة، لا تتجاوز التلات سنين.
قرب منها علي وقال بهدوء وهو بيحاول يسيطر على خوفه:
ـ يا منى، أنا سايبك نايمة… قولتلك متقربيش من حاجة.
استني لما أرجع من الشغل.

 

 

قالت بصوت متقطعـ ا… آسفة يا علي.
قال بنبرة حزينة لكنه غاضب:
ـ انتي عارفة اللي عملتيه ده غلط؟
النار مش لعبة، المكواة دي ناااار يا منى!
مش عارفة تقعدي هادية لحد ما أرجع؟
قالت بخوف:ـ أنا…
صرخ فيها علي من كتر التوتر:
ـ انتي إيه يا منى؟! انتي إيه؟
قعد علي على الأرض، وضرب بإيده على ركبته بضيق… كان القلق والخوف لسه ماليه.
قامت منى بهدوء، كأنها طفلة بتخاف من عقاب والدها.
راحت ناحية المكتب، جابت ورقة صغيرة، وقربت منه بخطوات مترددة.
مدّت إيدها ليه، فرفع علي عينه وبصّ في الورقة…
كانت رسمة بسيطة: شاب لابس قميص مهندم، وبنت صغيرة واقفة جنبه وفرحانة.
رسم بريء جدًا، لكنه مليان إحساس.
وعلي، رغم إنه عمره ما حب الرسم، إلا إنه دايمًا كان بيفهم لغة منى من خلاله.
كان مكتوب فوق الرسمة بخط طفولي:
“أحبك أخي”
بصلها علي، وفهم كل حاجة من غير ما تتكلم…
هي كانت بس بتحاول تكوي له القميص عشان يفرح بيها.
قالت منى بصوتها المتقطع وهي بتقرب منه بخجل:
ـ ع… علي يكون حـ… حلو.
تنهد علي، ومدّ إيده يمسح على شعرها بحنان:
ـ كنتي بتعملي كده عشاني؟
بس ده خ..طر يا منى… النا..ر مؤذية، فاهمة؟
سكتت وهي باين عليها الحزن، شكلها كبير، لكن تصرفاتها طفلة لسه مش فاهمة الدنيا.
قالت بنبرة ضعيفة:
ـ علي… مش زعلان مني؟
قال علي بنبرة حازمة لكنها هادئة:
ـ ما تعمليش كده تاني يا منى، تمام؟
أومأت له بطاعة، وحطت إيدها على قلبها كعادتها، كأنها بتديله عهد مقدس.
ابتسم علي بخفة، لأنه هو اللي علّمها الإشارة دي، وكان عارف إنها لما توعده كده، عمرها ما بتخلف وعدها…
منى ما بتكذبش، قلبها صادق زي طفلة ما تعرفش الشر.
لكن علي لاحظ فجأة احمرار في إيدها، مسكها بخوف وقال بسرعة:
ـ إيه ده؟! إيه اللي حصلك؟
اتألمت منى لما لمسها، فبصّ لها علي بقلق أكبر:
ـ ده من المكواة، صح؟
خفضت عينيها، وما نطقتش… خافت يتعصب منها.
تنهد علي بضيق وقال بنغمة عتاب فيها وجع:
ـ منى…
رفعت إيدها الصغيرة وحطتها على بقها، بمعنى “ما تتكلمش”، كأنها هي اللي بتطمنه دلوقتي.
قام علي بهدوء، جاب مرهم من الصيدلية الصغيرة اللي عنده في الأوضة، ورجع قعد قدامها، وحط المرهم على جرحها برفق شديد، صوته ناعم وهو بيقول:
ـ بتوجعك؟
هزّت راسها بالنفي، وابتسمت بخفة وقالت:
ـ علي خايف على منى؟
بصلها علي بعين مليانة حنان وقال:
ـ أنا… مش بخاف على حد غيرك يا منى.
ابتسمت، وظهر لؤلؤ أسنانها البيضاء، ابتسامة بريئة وجميلة، خالية من قسوة الدنيا اللي دايمًا وجعتهم هما الاتنين.
———
في ليل اليوم التالي، كان علي خارج من البيت في هدوء، رايح شغله.
الكل نايم، والشوارع ساكتة، حتى صوت الهواء كان خفيف كأن الدنيا كلها نايمة إلا هو.
وفجأة، سمع صوت بيناديه من بعيد:
ـ عااااالي!
وقف مكانه بدهشة، لفّ وعيونه اتسعت…
كانت منى واقفة عند الشباك، بتشاور له بحماس.
اتوتر علي وقال بصوت عالي شوية:
ـ منى! ادخلي فورًا!
انكمشت من رد فعله، خافت، فتنهد علي وحاول يطمنها، عمل بإيديه علامة إكس، وهي الإشارة اللي علمها ليها دايمًا بمعنى “خطر”.
رجعت منى شوية للورا، واختبأت نصها خلف الشباك، لكنها فضلت تبصّ عليه من بعيد وهي بتشاور له بخجل.
غصب عنه، ابتسم علي وقال بنبرة حنونة بلغة الاشاره:
ـ نامي يلا يا منى.
أومأت بابتسامة صغيرة، وقفلت الشباك…
بس علي وهو بيبعد، لاحظ ظلها لسه واقف ورا الزجاج، كأنها مش ناوية تنام قبل ما تشوفه ماشي.ضحك بخفة منبرائتها انه مش هيشوفها كده
وفجأة، سمع صوت من وراه:
ـ شكلها بتحبك قوي يا علي.
اتلفت بسرعة، لقى عم جمال، راجل مسن لابس جلباب رمادي، بيبتسم له.
قال علي وهو بيرد عليه بودّ:
ـ إزيك يا عم جمال؟
ضحك الرجل العجوز وقال:
ـ بخير يا ابني… رايح تصلي الفجر جماعة؟
ابتسم علي وقال بأسف:
ـ للأسف، هصلي في المحل، عشان متأخرش… صاحب المحل بيتضايق لو اتأخرت.
مشوا سوا في هدوء على الطريق، وعين علي كل شوية تبص على شباك منى بقلق.
هو عارف إنها ما بتعرفش تتصرف لوحدها…
ولو فضلت صاحيـة، الخطر أكبر، لكن لو نامت، بيبقى مطمن شوية.
منى كانت زيه تمام… طفلة في جسد كبير، تعبث أحيانًا، لكنها ما تعرفش غير البراءة.
قال عم جمال وهو ماشي جنبه بهدوء:
ـ أختك منى عاملة إيه يا علي؟
رد علي بابتسامة خفيفة:ـ بخير الحمد لله.
سكت شوية، وبص له وقال:ـ هي متجوّزة؟ ولا مخطوبة؟
منى كانت أكبر من علي بثلاث سنين، يعني عمرها حوالي ٢٢ سنة.
هزّ علي راسه وقال:
ـ لا، عمرها ما ارتبطت قبل كده.
قال عم جمال وهو بيحاول يكون لطيف:
ـ آه، أصل قليل لما بشوفها بتخرج… دايمًا الباب مقفول عليها.
تنهد علي وقال بجدية:
ـ ماينفعش تخرج لوحدها،. لازم أكون معاها.
بصّ له عم جمال بنظرة فيها شفقة وقال:
ـ من ساعة ما جيتوا الحي ده، وانتو منعزلين عن الناس… بقالكم كام سنة كده؟
رد علي بهدوء:
ـ تمانية تقريبًا.
سأله عم جمال باستغراب:
ـ ليه كده؟ فين أهلك؟
قال علي بنبرة حزينة وهو بيبص في الأرض:
ـ أنا ومنى أيتام… أبونا وأمنا ماتوا وإحنا صغيرين، واللي ربّتنا كانت جدتنا.
قال عم جمال:
ـ وراحت فين هي كمان؟
تنهد علي وقال بصوت منخفض:
ـ اتوفت… كنا عايشين في بيتها، بس لما حصل هدم في المدينة، نقلونا هنا.
هزّ عم جمال راسه بأسف، وقال:
ـ طب وإنت يا ابني… مش بتدرس؟
قال علي:
ـ كنت واخد الثانوية، بس ما كملتش.
سأله الراجل العجوز بدهشة:
ـ ليه يا ابني؟باين عليك ذكى اوى
رد علي ـ المسؤولية كبيرة… لازم أشتغل عشان منى. يمكن أرجع أكمل دراستي، ويمكن لا… الله أعلم.
ضحك عم جمال بخفة وقال:
ـ بس شكلك كده يدي إنك الكبير، مش هي!
ما شاء الله، سابق عمرك يا ابني.
قال علي ـ منى أكبر مني بثلاث سنين، يا عم جمال.
رد عم جمال وهو بيهز راسه: ـ عارف… راوية، مراتي، كانت قعدت معاها قبل كده.
قبل طبعًا ما تبقى بتقفل الباب عليها بالشكل ده.
بس بصراحة، اليوم ده كانت منى خايفة جدًا، ومراتي ما كانتش تقصد تتطفّل، صدقني.
قال علي وهو مطمنه:
ـ عارف يا عم جمال، منى قالتلي وقتها.
ابتسم الرجل العجوز وقال بصوت فيه شجن:

 

 

ـ أنا ومراتي ربنا ما أنعمش علينا بنعمة الخلفه… الحمد لله على كل شيء.
بس منى كانت أول مرة تنسب حد ليها، وتقول عليها بنتها
سكت علي، وابتسم ابتسامة هادئة، وهو يتذكّر كلام منى القديم، بصوتها الطفولي وهي بتحكي له يومها:
> “طنط راوية طيّبة أوي… لعبت معايا، منى حبتها، بس مش أكتر من علي.”
وصوت عم جمال قطعه من التفكير وهو بيقول وهو واقف عند باب المسجد:
ـ بلاش تحبسها يا علي… أنا عارف إنك خايف عليها، بس السجن حتى لو بحب… بيفضل سجن.
بصّ له علي بعين حزينة وقال:
ـ يا عم جمال، العالم بره متوحّش، ومنى… منى زي الملاك.
سكت لحظة، صوته بدأ يرتجف وهو يكمّل:
ـ أنا خوفي عليها مش منها خوفى من الناس
تنهد وهو بيفتكر – زمان… كانوا البنات بيتريقوا عليها، ويتنمّروا بسبب إنها أحلى منهم…أنا مش عايز كلمة تجرحها تاني.
اتنفس علي بعمق، ورفع عينه للسما وقال بهدوء مبحوح:
ـ منى عندي الدنيا كلها…
منى الحياة اللي أنا عايش عشانها.
ابتسم جمال ابتسامة بشوشة وقال:
ـ ربنا يخليكم لبعض يا علي، ويحفظهالك من ولاد الحرام.
رد علي بإخلاص:
ـ يا رب.
بص جمال في ساعته، وقال وهو يضحك بخفة:
ـ يلا يا ابني اجري، أنا أخرتك أوّي…
لف على فصاحة به جمال – اجرى، دانا ياما جريت في شبابي.
ابتسم علي ثم ركض فعلًا وهو بيلوح بإيده، وجمال فضِل باصص له بابتسامة راضية، قبل ما يخلع حذاءه ويدخل المسجد وهو بيسمّي باسم الله.

في السوبرماركت، كان علي واقف ورا الكاشير، بيرتّب الحسابات.
دخل ولد صغير ماسك إيد أمه، وكان بيقول لها بحماس:
ـ عايز أدفع أنا يا ماما!
ضحكت الأم وقالت له بلطف:
ـ ماشي يا حبيبي، خُد الفلوس.
مدت له الفلوس، والولد راح لعلي، سلّمه النقود وهو رافع راسه بفخر طفولي.
ابتسم علي وهو بياخد منه الفلوس، ومد له توفي محبّة صغيرة، الطفل بصّ لأمه مستأذنها، فقالت له بإشارة خفيفة:
ـ خُدها، قول شكراً.
قال الطفل وهو سعيد:
ـ شكرًا!
خرجوا من المحل مبسوطين، دخل رجل طويل، ملامحه فيها جدية وقال ـ الحنية كويسة، بس بحسها مش لايقة عليك يا علي.من ساعة ماشوفتك وانت غضبان، بتتحوّل لشيطان رجيم.
رفع علي عينه قال ـ إزيك يا أستاذ إسماعيل؟
قال إسماعيل وهو بيقف جنب الكاونتر بابتسامة بسيطة:
ـ بخير يا علي، بحب فيك حاجة جدًا… إنك بتتعامل مع الزباين بطريقة تخرجهم مبسوطين من عندنا، وده أهم من أي حاجة.
رد علي وهو بيكمل ترتيب البضايع:
ـ لما اتخانقت يومها، كان عشان شُباب جايين بيضايقو بنت، وده طبيعي، مش شيطان ولا حاجة زي ما بتقول.
ضحك إسماعيل بخفة وقال بنبرة أبوية:
ـ أنا مقدّر شهامتك، بس برضو يا ابني… متجبش المشاكل لنفسك، خلّيك في حالك.
سكت علي، ماردش، لكنه فعلا مش بيدافع عن حد بس وقتها افتكر منى مكانها فقلبه ولع
كتم أنفاسه وقال بهدوء:
ـ ممكن أمشي دلوقتي؟ الساعة بقت واحدة، وأنا المفروض كنت همشي من ١٢، بس استنيت حضرتك.
قال إسماعيل وهو بيقلب في الورق:
ـ آه امشي، بس استنى…
مد إيده بورقة مالية وقال:
ـ خد يا علي.
بصّله علي باستغراب:
ـ إيه ده يا أستاذ إسماعيل؟
قال إسماعيل بابتسامة صافية:
ـ إنت قعدت ساعة إضافية، وده حسابك. وبعدين، إنت بتتعب كتير وشايل معايا المحل على كتافك. خد يلا وامشي، عشان متتأخرش.
علىـ متشكر، تصبح على خير.
رد إسماعيل:
ـ وانت من أهله يا ابني.
خرج علي من المحل وهو بيحط الفلوس في جيبه،
الطريق كان هادي والليل ساكن كأنه بينصت لأنفاسه.
لما وصل البيت، فتح الباب بهدوء ودخل.
مفيش صوت… لا حركة… بس سكون مطبق.
قال بصوت واطي:
ـ منى؟
مفيش رد.
راح ناحيّة أوضتها وفتح الباب بهدوء.
كانت منى نايمة، وملامحها غارقة في براءة طفلة، ناعمة، كأن الزمن وقف عندها.
قعد علي على طرف السرير، وحط الشنطة اللي كان جايبها، جواها شوية حاجات بسيطة ليها.
مدّ إيده ومسح شعرها بحنية وقال بصوت خافت:
ـ عارف إني حارمِك من حاجات كتير… ومقيّد حريتك، بس غصب عني والله.
اتحرّكت منى في نومها، وببطء فتحت عينيها.
لما شافته، ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت بصوت متقطع:
ـ ع… علي.
ابتسم هو كمان وقال برقة:
ـ صحيتك؟
وسّعت له مكان جنبها، وشاورت له بإيدها كأنها بتقوله “تعالى”.
مد إيده، ومدد جنبها بهدوء.
حضنته منى بكل براءة، كأنها طفلة بتدور على الأمان وسط عالم قاسي.
رغم إنها الأكبر، إلا إن الحياة كانت ظالماها…منحتها جمال انثى، لكن سرقت منها اكتمالها.
قالت منى بصوت واهي وهي بتدفن راسها في صدره:
ـ عايزة أخرج.
رد علي وهو بيطبطب على ضهرها:ـ هنخرج النهارده… نتعشى بره، ماشي؟
بصت له منى بعنيها الواسعة، حضنته أكتر وقالت بصدق طفولي:
ـ على معايا؟
ابتسم علي وقال:
ـ وأنا معاكي يا منى… دايمًا.
باظلها العناق باكتافه الضخمه وكأنه إنش من قطعه ضلع فىىصدره يخبأها داخل قلبه من جديد

وفجأة…
قفزت الذكريات في عقل علي كأنها سيل جارح،تحولت تلك الذكريات إلى ذكرى أخرى.. صورة قديمة غارقة في الألم،
على كان الدم يغطي هدومه،والسماء بتصرخ بالرعد…
عاصفة مرعبة بتخبط في كل شيء، كأنها بتشارك حزنه وغضبه.
كان علي بيحمل منى على دراعيه،
جسدها ساكن… بارد…
والدم بيقطر منها بغزارة،
كل خطوة بيجريها كأنها حرب ضد القدر نفسه.
صرخ بصوت مبحوح:
ـ ليه عملتِ كدهـ منى! افتحي عينِك
صوته بيتكسر مع كل حرف،

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية عانيت لأحبك الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم فاطمة محمود

 

أنفاسه متقطعة، ووشّه ممزوج بالمطر والدموع والدم.
الطريق كان طويل ومليان طين
-انا اسف
كان صوته مبحوح يرتجف أعين تملأها الذعر والدموع القاهره
وقع علي وهو شايلها، بس خاف تقع معاها،
فاحتضنها فورا بجسمه كله، يخبّيها من وجع الأرض ومن برد الدنيا.
الناس حوالينهم بيبصوا بخوف،لكن ولا حد قرب يساعد…
كأنهم بيشوفوا مشهد من فيلم، مش إنسان بيموت قدامهم.
استند علي على ركبتيه،
حضنها أكتر،
الدموع سالت من عينيه،
اختلطت بدم المطر… وبدم منى.
كانت اللحظة دي فراق حياته…مش بس موت أخته،
دي اللحظة اللي مات فيها هو كمان — من غير ما يدفن.
————–
ليفيق علي فجأة، يعود من دوامة الذكريات إلى واقعه المرير
واقف أمام جثتها التي ظل يحتمي بها وكانه معاهد بعهد قطعَه لها منذ خمسة عشر عاماً.
انحنى أمام الجسد، نظراته غارقة في الانكسار؛ عيونٌ لم تظهر من قبل إلا في تلك اللحظة، تقرأ في الوجع ما لا تقوى الكلمات على حمله.
سالَت دموعه بغزارة وهو ممسكٌ بيدها المتجمِّدة، التي اشتعلت ثلجاً تحت قبضته. ولم يشعر بالبرودة، او الالم بل كان يمسك بها وكانه يتدفى فيها
كان يظن أن قلبه تجمّد معها، فإذا به ينزف حنيناً بدل الدم: دموعه كانت كأنها نُزيف من قلبٍ لا يزال ينبض بالألم.
اقترب رضوان بخطوات بطيئة، وقف على بُعد خطواتٍ قليلة، وعيناه ثابتتان على علي، قال بصوت هادئٍ مُحشوٍ بالتهديد:
ـ بصّ لها كويس يا علي… ده انتقامك وهدفك الحقيقي. بصّ على اللي هتعمله.
لم يجب علي بكلمةٍ واحدة. بقي صامتاً، يداه ممسكتان بيدها، والعالم من حولهما خافتٌ من أن يُحرّك هذا الصمت أي حركة — كأن اللحظة نفسها تنتظر قراراً لم يُكتب بعد.
اقترب رضوان بخطوات بطيئةـ يوم ما اتفقت معاك كان اتفاق واحد — تدمير بدران في عينك. كانت النار اللي جواك قادرة تشغل حرب عالمية، بس دلوقتي شايف النار اتهمدت.
وقف قدّام ثلاجة الجثة، وبصّ لها نظرة طويلة قبل ما يكمل:
ـ التلاجة دي… أنا كنت بدفع عشان تحفظ جثة أختك فيها، بعيد عن أي انس أو جن يشوفها.
نظراته اتجهت لعلي، لملامحه اللي ما بقتش بتعرف نفسها:
ـ كنت بتيجي هنا، لكن رجلك اتغيرت؛ من ساعة ما بقيت تنسى حقيقتك، الشخصية المزيفة بقت تسيطر عليك.
لمس رضوان ودن علي بقربه، كلامه همس لكنه موجع:
ـ فوق يا علي… اعرف نفسك الحقيقية، اعرف انت مين وهدفك كان إيه.
ـ عيلة بدران؟ دي ممكن تكون وسيلة، بس مش عيلة.
أشار برأسه للجثة وقال بصوت مملوء سخرية وتهديد:
ـ بصّ لها كويس يا علي. بصّ قد إيه انت بتدفع هنا علشان تحافظ عليها لحد ما تاخد حقها وتنتقم للي عملوا فيها كده، وصلّوك انت وهي لهنا…
عيون علي ما زالت عالقة في الجسد الثلج، وكأنه يحاول يقرأ بين ثناياه وعدًا أو سببًا للوجود. رضوان جمع كلامه بصرامة أخيرة:
ـ لو كنت نسيت شكلها… هل هتضيع حقها؟ هل اللي انت بتعمله يستاهل إنك تتراجع عن معاناتها ومعاناتك؟ تضمن إن وعد هتكفيك بحقك أختك ودم.ها… جوابك هيحدد مصيرك
قال رضوان ذلك وخرج، ساب علي جوّه لوحده، وعيون رضوان تلمع بالدموع كأن نارًا داخليّة بتشعل قلبه. انحنى ظهره كما لو أنّ ثقل العالم عليه، همس في نفسه:
ـ حقك هيرجع.
رجعت عيناه تلمعان بنار الكراهية والدمار، وصار صوته قاضياً وحازماً:
ـ اللي عمل فيكي كده… هخليه يركع. هخليه يكفّر بوجود ربه علشان يسامحه. هخليه يتمنى ما اتولدش، وما يعيشش إللي هعيشهوله.
نزلت دمعة من عينه، ويده بقت مثلجة كايدها، بقت زرقاء من البرد أو من الجُرح. قعد جنبها تاني، وكأنه جثة بتحتضن جثة، سكون المكان مغشى عليه بوجع قاتل. ما تحرّك من هناك.
كان في المكان إنسان حي، لكن جوّه كان كله ألم وحريق وقهر — ظلم وانتقام مولع. رنّ تليفونه باسم “وعد”، لكنه ما ردّش.
قضى علي يومًا كاملًا جنب ثلاجة الجثة مقفول الباب عليه لم يخرج
ورضوان ظل واقف برة، لحد ما فتح الباب ورجعت الدنيا شوية: علي طلع منها، ورضوان بصّ له بتمعّن. كانت ملامح علي قد تغيّرت — حاجة في عينه رجعت لها رشدها، بقت زي ذئب جريح صاحي. رضوان لَمَح في وجهه حزمًا جديدًا، فسأله
ـ ناوي على إيه؟
ردّ علي بصوت بارد، كأنه يعلن عهدًا لا يُنقَض:
ـ المرة الجاية وقوفك في وشي… هتبقى إعلان رسمي إنك عدوي.
وقف رضوان قدّام علي، بنبرة هادئة لكنها كلها تهديد:
ـ أنا كنت بحاول أرجّعك لنفسك.
ردّ علي بصوت بارد ومافيه أي تردد:
ـ أنا وإنت عارفين كل واحد عايز إيه. ولو انت عدّيت حدودك وعملت حاجة من دماغك، مش هتردد — هأتخلّص منك.
قالها ومشي، ورضوان واقف يبصّ له وهو مش متوقّع الرد ده. كان عايز يرجّعه لطبيعته، للشموخ اللي كان فيه زمان، علشان هدفه ما يتهدّش، لكن واضح إن علي بقى أشدّ وأشرس من أي حد كان يتخيّله.
———
فى الفيلا دخل علي، وكان رجّالته واقفين عند الباب. تخطاهم بخطوات سريعة، دخل لجوه. أول ما قابل مالك، كان الأخير بيرن عليه.
لفّ مالك وشافه، وقال بنبرة فيها توتر:
– علي بيه… كنت فين؟
ما نطقش علي، وتقدّم منه فجأة، ونزل ببوكس قوي على وشه خلّى مالك يترنّح من قوته.
لسه مالك بيتعدل، قال بضيق:
– عليي..!
لكن علي رفع مس.دسه فى وشه، ومالك اتصدم، عيونه اتسعت وهو شايف نظرة القتل فى عين صاحبه.
قال مالك بصوت متقطع:
– بتعمل إيه يا علي؟
رد عليه علي بنبرة مليانة غضب وكراهية:
– خاين.
سحب الزناد ببطء، ومالك بصله بقوة وقال وهو بيحاول يفهم:
– هتقت.لني؟ فهمني على الأقل! أنا خونتك في إيه؟ مش مستحق حتى تفهمني قبل ما تموتني؟
قال علي وهو بيقرب أكتر:
– إنت عارف كويس اللي عملته.
في اللحظة دي دخل سيف بسرعة، عيونه راحت بينهم بشك وقلق.
قال – علي بيه؟
رد مالك بسرعة، وهو بيبص له من غير ما يزيح عينه عن علي:
– ارجع يا سيف، ملكش دعوة… دي خناقة بين اتنين صحاب.
نظر له علي وقال بصوت منخفض بس مليان تهديد:
– حذّرتك تتكلم عنها.عرفتك باللي بعمله بعيد عن عين الكل… لأنّي كنت مستأمنك، ومعرفش إنك الخاين اللي رضوان معيّنه ينقله كل حاجة بعملها!
مالك رفع صوته وهو متوتر:
– أنا متكلمتش عنك يا علي! مجبتش سيرتك، لا إنت ولا هي! صدّقني، أنا…
قاطعه علي بغضب:
– أنا مبصدّقش خونة! ومتحاولش تكدب، لأن مفيش غيرك يعرف عنها حاجة!
اتدخل سيف بخطوة للأمام وقال بحذر:
– علي بيه، أرجوك اسمعني بس…
رمقه علي بنظرة قاسية وقال مهددًا:
– لو اتكلمت، هتحصله إنت كمان.
هتف مالك بسرعة وهو بيحاول يبعد سيف بإيده:
– خليك بعيد يا سيف! قولتلك، دي بيني وبينه.
بص لعلي وقال بنبرة فيها وجع:
– علي… عارف إنك مضايق، بس والله سِيرتها مجتش على لساني مع حد! مش أنا اللي قلت لرضوان، والله ما أنا!
بصله على قال مالك – رضوان حط حد من رجّالته بين رجّالتنا… هو اللي دور ونقل كل حاجة.
رفع صوته شوية وهو بيقرب: – كان بيتجسّس عليك في كل حاجة لما بتكون هنا معاك؟
حاول يبرر مالك اتنفس بصعوبة وقال – أنا حتى مكنتش أعرف بحملها، مكنتش أعرف إنك هتعلن وتجوزها… إنت معرفتنيش أي حاجة من دي يا علي! فأنا ازاى الى قولت لرضوان
علي كان واقف صامت، عيونه مهيبة ومرعبة لدرجة خلت المكان كله يسكت.
مالك بصله وقال بنبرة فيها صدق وتعب:
– علي، أنا متعاهد من زمان، من أول ما كنت واحد من رجالتك، إني أحميك… الشغل بينا اتقلب من “وفاء عمل” لـ “وفاء صحوبية”.
علي رفع حاجبه وقال ببرود:
– عرفت منين إن في حد من رجالة رضوان؟
رد مالك – عشان مسكته وهو بيكلمه، بينقله كل حاجة بتحصل.
هنا علي أخفض سلاحه بهدوء، وسيف تنفّس الصعداء أول مرة من ساعة ما دخل.
قال علي بصوت حازم:
– هاته حالًا.

 

 

سيف مشي فورًا، من غير حتى ما يستأذن مالك.
قرب مالك من علي وقال بنبرة حذرة:
– حصل حاجة؟
علي بصله بنظرة جامدة وقال:
– خليك مكانك… لحد ما أتأكد من حقيقة كلامك.
اتراجع مالك باحترام ووقف في مكانه، وبعد لحظات رجع سيف وهو ماسك راجل مربوط من إيده ورجله.
أول ما شاف علي، الراجل رجله اتخبطت في الأرض من الرعب، حاول يفلت، بس سيف جرّه قدامه بالعافية.
بصله علي نظرة طويلة وصوته نزل غليظ ومهيب:
– إنت اللي نقلت لرضوان معلومات عني؟
الراجل نفى بسرعة وهو بيترجّى
علي قرب منه خطوة وقال :
– اتكلمت عنها؟ كنت بتتجسّس عليا لدرجة إيه بالظبط؟
سحب مالك الشريط من على بُقّ الراجل، فالتقط أنفاسه وقال بخوف:
– محصلش يا علي بيه، والله أنا مخلص ليك!
بصله علي ببرود يسبق العاصفة وقال:
– شوفتها معايا.
سكت الراجل وكانه بيفتكر، عيونه اتسعت، وبص لعلي بخوف قاتل انه وقعه ف الكلام.
قال علي بصوت هادي لكنه مليان غضب مكتوم:
– كنت ممكن أسامحك على إنك نقلت معلومات…
بس إنت اتعدّيت حدودك، ودخلت هنا وهي موجودة!
عمر علي سلاحه، والراجل قال بسرعة وهو بيترجّاه:
– والله ما كنت مركز معاها، مكنتش بشوفها!
أنا بس كنت بسمع حديثكم…
قبل ما يكمل، دوّى صوت الطلقة.
كتمت الرصاصة صوته، واخترقت دماغه في لحظة.
اتسعت عيون سيف ومالك من الصدمة، بصّوا لعلي بعد ما شافوا سرعة فعله اللي وصلت للقتل.
عودة إلى الواقع
رجع علي فيلا بدران خطواته كانت هادئة لكنها تحمل ثقل التفكير اللي جواه.
ولما طلع على أوضته، وقف فجأة…
باب الأوضة اتفتح، وخرجت منه رانيا.
لما شافته، وشّها اتلوّن، وابتسمت ابتسامة مرتبكة.
نظر لها عليّ بنظرة حادة وقال ببرود:
– كنتي بتعملي إيه عندي؟
اتلخبطت رانيا وقالت بسرعة:
– مفيش، كنت بتأكد من تنظيف الخدم للأوضة.
رفع حاجبه، وبص في ساعته:
– الخدم بينضفوا الصبح… معتقدش إنك بتفكّري فيّي بعد نص الليل عشان بس تراجعي شغلهم.
بلعت ريقها وقالت بنبرة فيها محاولة للسيطرة:
– قولتلك كنت بتأكد من النظافة، عشان انت موسوس منها… ومش عايزة حاجة تضايقك وانت عريس.
بصلها عليّ شوية، وبعدين ابتسم ابتسامة خفيفة وغامضة:
– لو كده… شكراً يا رانيا على اهتمامك بيا.
ابتسمت وقالت وهي بتلف:
– تصبح على خير يا علي.
لكن قبل ما تمشي،
إيده امتدت بسرعة،
ومسك إسورة إيدها وشدّها لورا بحركة عنيفة،
اتقلبت رانيا واتفاجئت من قوته.
قالت بانفعال وهي بتحاول تفلت:
– علي! بتعمل إيه؟!
اقترب منها، وصوته نزل غليظ وهادي في نفس الوقت:
– افتحي إيدك… مش عايز تجيلى الحالة لو لمستك وخدتها غصب عنك.
قالت بسخرية خفيفة رغم ألمها:
– لدرجة دي التلامس عندك صعب؟
قال علي بصوت منخفض لكنه حاد:
– معاكِم
رانيا باستغراب:– يعني إيه؟!.. أوعى، سيبني يا علي، إيدي وجعتني! مفيش حاجة معايا!
لكن عليّ شدّ على الإسورة أكتر، ضغطها بقوته لحد ما فتحت كفها غصب عنها.
وقع شيء صغير معدني، التقطه بسرعة من غير ما يرد عليها.
اتراجعت رانيا بخوف وقالت بانفعال:
– كانت عندك بتعمل إيه؟!
بصلها عليّ بنظرة جامدة وقال بهدوء قاتل:
– تصبحي على خير يا رانيا.
لكنها ما سكتتش، قالت – بيعمل إيه عندك لوجو شركة رضوان الشافعي؟!
عليّ وقف،ثم رفع عينيه ببرود عجيب وقال:
– وانتي عايزة إيه بالضبط يا رانيا؟
قالت بعصبية واضحة:
– أوراق تعاقد شركتك في أمريكا مع شركة رضوان… ده معناه إيه؟
رضوان عدو كبير لينا، والكل عارف بكده! وأولهم إنت!
ابتسم عليّ – معاكي حق… رضوان عدو لينا، بس الكلام ده… ما بيتطبقش عليكي.
– قصدك إيه؟!
اقترب منها بخطوات بطيئة وقال بنبرة غامضة:
– عرفتي لوجو شركة رضوان الجديد منين يا رانيا؟
حاولت تخفي ارتباكها وقالت بسرعة:
– مش حاجة صعبة، أي حد ممكن يعرفه…
قاطَعها عليّ بابتسامة جانبية:– اللوجو لسه منزلش للعامّة…إلا لو انتي بتدوري بنفسك وبتتابعي تطورات شركته.
صوت أنفاسها ارتجف وهي تقول:
– قصدك إيه يا علي؟ ما توهّشنيش، وقلّي معنى اللي شوفته ده إيه؟!
وقف عليّ قدامها، نظراته سكنها في عينيها بثبات،
وصوته نزل بنغمة باردة تخفي خلفها العاصفة:
– انتي اللي هتقولّي، يا رانيا… معنى ده إيه.
قال علي “بعيدًا عن إنك دخلتي وفتّشتي ورايا بقالك فترة، وأنا ساكت، بس متوصّليش إنك تاخدي حاجة من عندي…”
رانيا وقالت:”لو مكنتش دورت، مكنتش عرفت خيانتك لبدران!”
ابتسم علي بسخرية، وقرب منها خطوة وقال بنظرة ثاقبة:
“خيـانتي أنا؟ ولا إنتِ؟”
تجمدت مكانها، قالت بعصبية:
“إنت بتقصد إيه؟!”
قال علي ببرود:
“رضوان عدوّ واضح لينا، وكونه عدوّ لازم أدرسه كويس… والتعاقدات اللي شفتيها دي مجرد أوراق اختبار، لا أكتر ولا أقل.”
هزّت رانيا راسها بعدم تصديق:
“مش هبلع الكلام ده يا علي، الورق واضح وصريح.”
قال علي وهو يعدّل ساعته كأنه بيختم الحوار:
“دي حاجة ترجعلك… بس أوعى تدوري ورا رضوان تاني، وقتها بدران هيشك إن الخيانة مش من برّه… من جوّه.”
قالت رانيا بغضب:
“اتكلم عدل، قصدك إيه؟!”
ردّ عليها بنبرة جافّة، قاطعة:
“قصدي إن لو دخلتي أوضتي تاني… متلوميش غير نفسك.
ده أول تحذير… والآخير.”
صمتت رانيا للحظة، وهو دخل أوضته وقفل الباب في وشها.بصّت للباب، وشدّت قبضتها وقالت بغيظ مكتوم:
“أقطع إيدي لو ما فيش حاجة كبيرة وراك يا علي… وده مش من دلوقتي، من زمان أوي.
ولو فعلاً صح… تبقى كارثة على بدران.”
——–
كان علي واقف تحت المية، نازلـة على جسمه بتغسل تعب الأيام عنه…
غمض عينه، لكن اللي شافه ما كانش سكون…
كان مشهد وعد، قدامه، بنفس النظرة اللي عمره ما قدر ينساها، وهي بتقوله بصوت مكسور:
“متأذينيش في غيرتي يا علي… وقف جوازك منها، حتى بعد كل اللي عملته فيا، أنا جيالك وبقولك كفاية اللي بتعمله.”
مدّ إيده ومسح وشه، لكن الذكرى التانية خبطت في عقله بقوة…
وعد كانت ماسكة إيده، بتحطها على بطنها، ودموعها بتنزلق بصمت:
“ده ابنك انت…والله حامل منك… مفيش حد قربلي غيرك، لو شاكك، اتأكد… بس بالله عليك، بلاش تأذيني أكتر من كده.”
افتكر اللحظة دي… إحساسه لما لمس بطنها، والنبض اللي حسه هناك، كأنه بيحس بروحه جوّاها… جزء منه بيتكوّن.
تنفس بصعوبة، وفتح عينه بحدة، المية نازلة من شعره على صدره وكتافه، بتغطي ملامحه الجامدة.
افتكر نظرتها الأخيرة، المكسورة، قبل ما يطردها بعد ما طفح الكيل…
كانت النظرة دي كفيلة تقتله من غير ما تلمسه.
هي مش هترجعله…
هو اللي كسرها، وكسّر كل حاجة بينهم.
رفع راسه للمية وقال بهمس كأنه بيكلمها:
“الوقت الحالي بس يا وعد…
الوقت ده وقتي أنا.”
——-
في المكتب كان يوسف لسه في الشركة، الأضواء الخافتة منعكسة على شاشة اللاب توب اللي قدامه.
قاعد يراجع العرض الإعلاني الضخم لمشروع شركتهم الجديد، مشروع بيضم صور المهندسين، والمخازن، ومشاهد من مصانعهم، وتصميمات للسفن الحديثة اللي هتكون واجهة المؤسسة الدولية.
كل حاجة كانت بتتضبط بعناية… إعلان افتتاح هيمثل نقلة عالمية.
أنهى يوسف آخر تعديل، وسحب نفس سيجارته ببطء، نفث الدخان للأعلى وهو بيقول لنفسه بابتسامة رضا:
“هانت… كلها كام يوم، والحلم يتحقق.”
الحفل المنتظر… الحدث اللي هتهتز ليه الساحة كلها، كان خلاص على الأبواب.
رنّ تليفونه فجأة، قطع عليه لحظة انتصاره.
مد إيده بسرعة ورد:
– “ألو.”
جاءه الصوت من الطرف التاني متلهف:
– “لقيتها يا باشا.”
يوسف شدّ نفسه للأمام وقال بحدة:
– “فين؟”
الرد جاءه بهدوء غريب:
– “في فيلا في زايد… تبع بدران بيه.”
استغرب يوسف من الكلام… إزاي راحت هناك؟!
الفيلا دي ممكن أبوه يشوفها فيها، بس واضح إنها ما لقتش مكان تاني تروحه.
قفل المكالمة بسرعة، خرج من المكتب، ركب عربيته، واتجه على طريق زايد.
كان المطر لسه بينزل خفيف، وهو سايق بيبص في تليفونه، يسمع فجأة ارتطام قوي على الزجاج الأمامي.
رفع عينه… قطرات المطر كانت بتخبط بإيقاع غريب، كأنها أنفاس حد بيدق على الباب.
شغّل المسّاحة، لكن الإيقاع زاد.
الصوت بقى أشبه بقرع طبول الحرب.
وفجأة…
تحولت القطرات العذبة قدامه إلى دم.
اتسعت عينه من الصدمة، كل المطر اللي بينزل على العربية بقى نوافير دماء، بتتصارع فوقه، بترتطم بالزجاج، تصنع صوتًا مخيفًا…
كأن الحق نفسه بيستأذن بالدخول.
أصبح الدم يحيط بيه من كل ناحية، والنور الأحمر بيعكس على وشه من ضوء الطريق…
ثم ظهر وميض قوي جدًا قدامه!
يوسف لفّ الدركسيون بسرعة، حاول يتفادى العربية اللي كانت جاية، بس فقد السيطرة…
العربية انحرفت بقوة وارتطمت في شجرة على جانب الطريق.
الصمت ساد.
صوت المطر بقى طبيعي تاني.
يوسف فتح عينه، الدم بينزل من جبينه، والمطر العادي بينزل بلطف على الإزاز.
ولا دم، ولا أصوات، ولا نوافير…كله اختفى كأنه هلوسة واقعية جدًا
لكن المطر دايمًا كان تذكار…تذكار سنوي لشيء ما، لذكرى محفورة جواه، صوتها الأنثوي بيرن في عقله كل ما المطر ينزل:
– “السما بتمطر.”
– “بتحبي المطر؟”
وقتها، كانت عيونها البنية المسحوبة بتبصله بابتسامة بريئة – “بحبه.”
رفعت راسها للسماء، والمطر بينزل بخفة على وشها، وقالت كأنها بتردد حكمة متوارثة:
– “المطر يعني الفرج… والفرج من عند ربنا… فتح أبواب السما، ورفع الظلم، ونزول الحق للمظلوم.”
ابتسمت بعدها، وضاقت عينيها وهي بتبصله، وقالت:
– “قالتها جدتي زمان.”
كانت جملة بسيطة، لكنه ما قدرش ينساها أبدًا.
فضلت الجملة دي عايشة جواه، كل مرة يشوف فيها أجواء الشتاء “اللعينة” — زي ما بيسميها هو — بيرجع يسمع صوتها.
***
وصل يوسف الفيلا أخيرًا، ونزل من عربيته، الدم اللي كان نازل من راسه نشف على خده، وقف لحظة قبل ما يدخل، يتنفس العمق الثقيل في صدره.
فتح باب الفيلا، دخل جوه…
سكون غريب بيملأ المكان، نادى – “وعد؟”
لم يسمع يوسف صوتها.
نادى مرة تانية بقلق واستغراب – “وعد؟”
مافيش رد.
طلع الدرج وهو ينادي تاني، صوته بيختفي جوه السكون الكئيب.
وقف قدام أوضة باين إنها متوضبة بعناية.
دخل جوه ببطء، نظر حواليه…
كل شيء في مكانه، مرتب، هادي، بس خالي من الحياة.
خطواته كانت بطيئة لحد ما عينه وقعت على كوباية شاي أخضر على الترابيزة الجانبية.
مسكها بين إيده — كانت باردة، وباين إنها معمولِة من ساعات.
ده معناه إنها كانت هنا فعلًا…
لكن السؤال: فين راحت؟
خرج يوسف من الأوضة، عيونه بتتحرك في كل زاوية كأنه بيدوّر على طيفها،
بس الفيلا كانت صامتة كأن فيها حدث حصل قبل ما ييجى
——-
فى اليوم التالى استيقظ علي فجأة، فزعان، عيونه مفتوحة على الآخر، أنفاسه متقطعة.
رفع عينه للسقف وهو لسه بيستوعب الحلم اللي صحاه.
مسح وشه بإيده الثقيلة، قام من على السرير بخطوات مرهقة.
مد يده ناحية القنينة اللي على الكومود، فتحها وشرب منها جرعة كبيرة.
الخمر كان بيحرق حلقه، لكنه محتاجه… محتاج يسكت بيه الضجيج اللي جواه.
خبط الباب.
دخل مالك نظر لعلي اللي كان قاعد على طرف السرير، عيونه شارده.
قال مالك – “مالك يا علي؟”
رفع علي عينه له، وقال وهو بيحاول يسترجع نفسه من الكابوس:
– “حلم… متشغلش بالك.”
بص مالك للكباية اللي فإيده وقال – “بتشرب على غيار ريق؟”
على– “عادة اضطريت عليها… بس هتوقف قريب.”
بصله علي بثبات وقال:– “قول، جاي ليه؟”
مالك– “بعت الدعوات بالأسماء زي ما قلت يا علي، ناقص تقوم وتجهز نفسك لبُكرة… كتب كتابك.”
رفع علي عينه له، نظره كان بارد كأنه بيرفض الكلمة من جواه.
مالك – “أنا هقابل رضوان النهارده، بعتلك مسدج بيأكد فيه على الخطة… شكله خايف تغدر بيه.”
علي قال
– “خليه خايف… ده اللي أنا عايزه.”
قال مالك:– “يعني متطمنوش؟”
رد علي بابتسامة جانبية وهو بيلبس قميصه:
– على قد ما تقدر.”
خرج مالك وسابه لوحده،
علي بدأ يبدل هدومه، قلع التيشيرت وهو بيتجه ناحية الدولاب…
وفجأة الباب اتفتح من غير استئذان،
دخلت نادين بابتسامة كلها ثقة.
قالت وهي بتقف في النص بخفة:
– “كنت عارفة إنك مش هتكون نايم، خصوصًا في يوم زي ده.”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية اسير عيوني الفصل الأول 1 بقلم آية عيد

 

 

رفع علي نظره ببرود وقال:
– “فيه باب يا نادين.”
بصيتله باستغراب وقالت:– “المفروض أخبط عليه؟ خلاص يا علي، بكرة هتكون جوزي… الباب مش هيبقى بينا بعد كده.”
قربت منه بخطوات بطيئة، والكلام بيطلع منها بإغراء متعمد:
– “مقلتليش… آخر البُعد ده إيه؟”
مدت إيدها ناحية كتفه، منغير ما تلمسه وتنتظر ان تلمسه…ةبص على ورا شاف يوسف معدى مسك إيدها، خلاها تلمسه بنفسه.
نظرت له نادين بدهشة، قالت
– “علي…”
قال علي – “تقدري تلمسيني.”
دق قلبها بعنف، ابتسمت بخفة،
قربت منه أكتر واحتضنته بحماس وقالت بصوت متهدج:
– “متعرفش كنت مضايقة إزاي من بعدك…”
وفي اللحظة دي، كان يوسف واقف، عيونه مثبتة على المشهد قدامه…
علي واقف قُرب نادين، واللحظة اللي بينهم كانت كفاية تخلّيه يصدّق إن شكوكه السابقة كانت مجرد أوهام.
نزلت نظرة يوسف عنهم ببطء، شد نفسه وسار بخطوات ثابتة، كأنه بيحاول يهرب من مشهد وجعه أكتر مما ريّحه.
علي لمحه وهو ماشي، نادين بعدت عنه بخفة،
مدّت إيدها تمسح على وشه، وقربت تبوسه،
لكن علي وقفها بيقول بصوت مبحوح متماسك:
– “كفاية.”
نظرت له نادين باستغراب:– “مش فاهمة؟”
قال علي – “لما تبقي مراتي.”
سكتت نادين لحظة، نظرتها كانت مترددة، لكن في النهاية ابتسمت بخفة وقالت:
– “ماشي يا علي… اللي تشوفه.”
وقربت من الباب وأضافت بدلع فيه تهديد لطيف:
– “بكرة حفلة كتب الكتاب، وبعدها الفرح… كنت جاية أفكّرك بس، عشان لو فكّرت تهرب… هجيبك.”
ابتسم علي ابتسامة ميتة، من غير كلمة.نادين خرجت بابتسامتها الواثقة،
وسابته واقف لوحده في نص الأوضة، أنفاسه بتتقطع، عروقه ظاهرة في رقبته…كأنه الهواء نفسه بقى ضده.
دخل الحمّام بخطوات سريعة،فتح الميه بعنف، خلى الموج ينهال عليه،
غسل وشه، لكن ولا حاجة اتغيّرت…فضل ينظر في المراية، في وشه، في كل إنش من جلده لمسته، ثم وقف تحت الدش، والمية بتضرب جسمه بعنف.
بدأ يفرك نفسه كأنه بيحاول يزيل حاجة مش بيشوفها غيره، كأن لمستها حفرت علامة جوه جلده.
أنفاسه كانت مضطربة،وصدره بيتحرك بسرعة غريبة…مجرد فكرة إنه لمسها كانت كفيلة تخنقه،بس علي… علي كتم كل ده،وصمد كعادته، كأنه بيتعذب بصمت… وممنوع عنه حتى حق الصراخ.
نزل يوسف السلالم وعقله مليان صور متداخلة من اللي شافه فوق.في نفس اللحظة، قابلته رانيا في الصالة، اتخضّت أول ما شافته وقالت بقلق:
– “إيه ده؟! إيه اللي في دماغك يا يوسف؟ ده دَم!”
مدّت إيدها على رأسه، والقلق مالي ملامحها.
يوسف تراجع وقال بهدوء:
– “خَبطة خفيفة يا ماما، متقلقيش.”
لكن عينيها كانت بتقوله إنها مش مصدّقة.
قال بسرعة، وهو بيحاول يغير الموضوع:
– “المهم… بابا فين؟”
قالت رانيا باستغراب:
– “بدران؟! مرجعش من امبارح.”
يوسف وقف لحظة، الاستغراب باين على وشه:
– “يعني مشفتيهوش خالص؟”
هزّت رانيا راسها وقالت:
– “يمكن في الشركة.”
رد يوسف – “لا، أنا كنت هناك لحد بالليل… يمكن خرج مشوار، على العموم أنا رايح الشركة هشوفه.”
قالت – “رايح فين؟! مش المفروض تحضيرات الحفلة شغالة؟”
يوسف قال:– “حفلة؟ إحنا عندنا حفلة فعلًا… بس حفلة من نوع تاني.”
سكت لحظة، ونبرته بقت هادية وباردة:
– “الافتتاح؟ أيوه… أعتقد علي هيقدر، ما هو حاطط فرحه في ميعاد أزمة الصراحة.”
ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة ومشي.
————
في اليوم التالي،
كانت الحديقة تتحول إلى لوحة راقية استعدادًا لحفل بسيط لكنه أنيق.
الجرسونات بيجهزوا الطاولة الطويلة اللي هيتكتب عليها عقد القران،
الزهور البيضاء متوزعة بدقة، والموسيقى الهادية بتملأ الجو.
وقف علي قدام المراية وهو بيظبط جاكت بدلته،
صوته ثابت، لكن عيونه فيها بُعد غريب.
دخل مالك عليه وهو يلهث – “كنت فين كل ده؟!”
ردّ علي بهدوء وهو بيربط زرار الجاكت:
– “الطريق؟”
قال مالك بابتسامة باهتة:
– “متأخرتش صح؟”
علي رفع نظره له وقال بابتسامة خفيفة فيها حذر:
– “لسه بدري يا مالك… كل حاجة لسه بتبدأ.”
رنّ تليفون علي.مدّ مالك إيده وخده منه وهو يقول:
– “هيكون معايا لحد ما تخلص اليوم.”
اومأ علي بتفهم، ثم خرج من الغرفة.
قابله يوسف وجهًا لوجه، قال:
– “شكلك عريس بجد.”
تجاهله علي من غير تعليق وسأله مباشرة:
– “فين؟”
ردّ يوسف – “لو بتسأل عن بابا، فأنا من اول امبارح مشفتهوش
بصله على باستغراب قال يةسف بيكمل-بس ماما قالتلى انه جه الصبح ونام فكتقلقش يعنى انت الوحيد الى مش بيسيبه لوحده
من وقت حادثة وعد، وبدران بقى قليل الكلام كأنه شخص تاني.
دوّى صوت ضوضاء خفيف من أسفل، فاتجه علي ناحية السلم ونزل بهدوء.
المساء كان عتم، والإضاءة في الحديقة خافتة، راقية، كلها ذوق وهدوء.
شاف نادين واقفة بالفستان الأبيض رقيق، ملامحها كلها فرحة وابتسامة كبيرة وهي تبصله.
جنبها كانت رانيا، واقفة بنظرة غريبة تجمع بين المراقبة والحيرة.
قرب علي بخطوات ثابتة وقال لنادين:
– “نزلتي بدري؟”
ردّت بابتسامة خفيفة:
– “الشيخ جه والناس كمان… انت اللي اتأخرت.”
بص علي في ساعته وقال بنبرة جامدة:
– “أنا متأخرتش.”
نظرت له رانيا بنظرة كأنها بتحاول تقرأ وِشّه، أما نادين فتنهدت وقالت بابتسامة متصبرة:
– “ماشي يا علي.”
تحركت رانيا وسابتهم سوا.نظرت نادين لعلي جه المصور اقترب منهم وقال بلُطف:– “صورة، من فضلكم.”
لفّت نادين إيدها حوالين دراع علي، وابتسمت
بص لها علي لحظة، ثم نظر للمصور وابتسم ابتسامة باهتة، كأنها مجرد رد فعل مشاعر ميّتة.
لكن وِشّ علي ما كانش وِشّ عريس،كان وِشّ راجل واقف وسط المعادلة الغلط،
كان الجميع يوجّه أنظاره ناحية علي ونادين، والابتسامات مرسومة على الوجوه.جلس العروسان أمام الشيخ، اللي فتح دفتره الكبير ورتب أوراقه، ثم سحب منديله يمسح عرقه الخفيف قبل ما يبدأ.
نادين كانت بتبتسم لرانيا، نظرة فيها فرحة وأخت بتشارك أختها اللحظة المنتظرة.في اللحظة دي، دخل بدران بخطوات واثقة، وجلس جنب علي.
نظر له علي، فابتسم بدران وقاله
– “نسيت إن أنا اللي هجوزهالك يا علي؟…وبس ده ما يمنعش إنك أخويا قبل أي حاجة… ولا اى
ردّ علي بابتسامة – “أخويا يا بدران.”
بدأ الشيخ في قراءة الفاتحة، وصوته الهادئ سيطر على المكان…
لكن عيون علي ما كانتش بتتابع الكلام، كانت معلّقة في البعيد.
شاف مالك جاي بخطوات سريعة، ملامحه متوترة.
اقترب منه وهمس – “تليفونك.”
– “ماله؟ مش المفروض معاك؟”
رد مالك – “مكنش قصدي أفتحه، بس جاتلك مكالمة من وعد من الصبح… وبعدها بعتتلك مسج صوتي.”
علي -هاته
قال مالك بتوضيح -انا بعرفك بس عشان متقولش انى مقولتلكش…كمل ونشوف الموضوع بعدين
– “التليفون فين يا مالك؟”
مالك بص له، وبعدين للناس اللي بدأت تبصلهم مستغربة إنهم بيتهامسوا وسط الكلام المقدس.
مدّ التليفون ليه ولسا هيقوله متقومش لكن علي قام. وقفه يوسف قال
– “رايح فين يا علي؟”
رد علي – “هعمل مكالمة…”
بص له يوسف وقال باستغراب:
– “هو ده وقته يا علي؟ مكالمات في نص كتب كتابك؟”
لكن علي ما ردش وبعد بدون اهتمام لكلامه، فتح التليفون مكالمة فائتة.
رقمها.اسمه خرج من بين شفايفه بصوت خافت:
– “وعد…”
فتح الرسالة، ضغط على التسجيل.جاله صوتها… كان غريب، متكسر، فيه وجع ما سمعهوش قبل كده.
– “مبروك يا علي… على جوازك منها.”
نَفَسه تقطع، وملامحه تجمدت.
كأن الهواء نفسه اتسحب من حواليه.
استمر التسجيل…
– “واضح إنك مشغول… حياتك مهمة برضو، أهم من حياتي أنا.”
سكتت ثواني، وبعدين صوتها رجع أهدى… أخطر:
– “وأنت بتسمعني دلوقتي، هكون أنا في حتة تانية… في مكان انت مش فيه.”
صوتها الموجوع بقى أوضح، حاسم، لا يشبه وعد اللي يعرفها:
– “اديْتك كلمة… وأنا هوفي بيها. كنت ضعيفة في اللي فات، بس دلوقتي… بثبتلك إني قوية زي ما كنت بتقول.”
لكن التسجيل كمل، يخترق روحه زي سكين:
– “هسيبك يا علي… هبعد عنك للأبد. هخلص نفسي من اللي أنا فيه… من العذاب اللي أنا ما اخترتوش.”
قلبه وقع في صدره، أنفاسه اتقطعت.
كانت الجملة الأخيرة كالطعنة:
– “حكايتنا ما خلصتش يا علي… حكايتِي أنا ابتدت دلوقتي…
أنا وعد…نفسها اللي كنت بتقولها بحبك،نفسها اللي بتقولك دلوقتي… إنك قتلتها.
إنت قتلت وعد…الحِمل اللي كان عليك انتهى…سلام… يا علي.”
الصوت توقف، لكن الصدى لسه بيرن في ودانه،الصدمة كانت باينة على وش علي، لونه اتغير في ثانية، وعينيه اتسعت كأنه شاف كابوس قدامه.
في لحظة، جرى قدام الكل بدون ما ينطق بكلمة.
نادين وقفت مذهولة:– “علي!”
صوتها اتكسر، بس هو ما التفتش…ما شافش حد، كأنه الدنيا كلها اختفت من حواليه.
الكل وقف بدران ليةسف– “شوف رايح فين فورًا!”
يوسف ما ترددش، جري وراه بسرعة.
خرج علي من المكان كله بخطوات متوترة وسريعة، عينيه تايهة، أنفاسه متقطعة.الحراس قربوا منه باستغراب، لكن ما استنّاش حد منهم، فتح باب عربيته بعنف، ركب، وضرب على البنزين بأقصى سرعة.
في اللحظة دي خرج مالك وهو بينادي:– “علي! استنى!”
لكن علي ما سمعش…العربية اندفعت قدامه بسرعة مجنونة، كانت هتخبط مالك لو ما رجعش بسرعة لورا.
وقف مالك مصدوم، عيونه متسعة، بيبص للعربية اللي اختفت عن الأنظار وهو بيهمس بخوف:– “إيه اللي جرالك يا علي؟…”
كان علي سايق بجنون، رجله مضغوطة على البنزين لآخره، والعربيات حواليه بتزمر بهستيريا.عينيه متشنجة، والتليفون في إيده بيرتعش من كتر ما بيحاول يتصل. فتح الخط، لكن الصوت الآلي قتله من جوه:
“الهاتف الذي طلبته غير متاح حاليًا…”
رمى تليفونه بضيق – “وعد! لا… استنينى!”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية انتقام السلطانة الفصل الأول 1 بقلم شهد وائل

 

 

الطريق قدامه ضبابي، عقله بيجري وبيرسم ما لا يمكن توقعه
الهواء بيصفّر حواليه، وصوته بيتهدج من الخوف،كل لحظة بتمر كانت بتزيد سرعته كأنه فهد بيجري ورا طيفها.
عيونه فيها لمعة غريبة… خليط بين الرعب والجنون.ما بقاش شايف الطريق، ولا بيسمع صوت العالم.
وفجأة…ظهر كمين قدامه، والضابط بيرفع إيده يشاورله يوقف.
لكن علي ما شافش…دخل في الحواجز بعنف، صوت التصادم دوّى والناس اتجمدت مكانها.
الكل اتصدم، عيونهم بتلاحق العربية اللي طارت من الكمين كأنها هاربة من الموت.
بس الحقيقة… الموت كان هو اللي بيطارد علي.
وصل علي الفيلا وهو سايق بجنون، فرمل قدام البوابة ونزل قبل ما العربية حتى توقف كويس، جرى فورا للداخل
لكن قبل ما يتحرك خطوه…صوت ارتطام مرعب دوّى في المكان، حاجه وقعت من فوق — وارتجت الأرض تحت رجليه كأن زلزال ضرب فجأة.
تصلّب مكانه، أنفاسه اتقطعت، وكل حاجة حواليه سكتت.وكأن الزمن توقف
لفّ ببطء… عينه بتترجّف، ووشه اتبدّل للون رمادي من الخوف.
نظره وقع على عربيته…
كانت متهشمة بالكامل، والسقف غارق في الدم.
وفوقها…
جسد مرمي، شعره منسدل ودمه بينزل على الزجاج المهشّم.
اتجمد علي.
ما قدرش يتحرك ولا حتى يتنفس.
الهواء اختفى، وصوته مات في حلقه.
عيونه فتحت على الآخر، سقطت الكلمة من بين شفايفه، ومعاها وقع كل شيء جواه.
قلبه توقف لحظة… وروحه كأنها انسحبت منه.
كانت هي… وعد.
بين الحب والانتقام

 

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *