روايات
رواية في حضن الغرباء الفصل الثامن 8 بقلم أمل عبدالرازق
رواية في حضن الغرباء الفصل الثامن 8 بقلم أمل عبدالرازق
البارت الثامن
(حمزة يلمح بعينيه الصورة تاني، لكن يسكت. قلبه بيقول قولها، بس لسانه ساكت…)
ينطق أخيرًا: لو كان في فرصة… تعرفي أكتر عن والدتك… تحبي؟
مريم (تتردد لحظة، وبعدين ترد بصوت هادي، شبه مهموس):
يعني إيه؟
تعرف إيه ومش عايز تقولهولي؟
ولا بتتكلم كده وخلاص؟
(حمزة يبتسم ابتسامة باهتة، ويحاول يغيّر نبرة الحوار):
أنا بتكلم كده وخلاص… بس كمان بحاول أقولك في حاجات في الحياة بتتغير فجأة…
ناس كنا فاكرينهم راحوا، نكتشف إنهم حوالينا بس إحنا ماكناش شايفين.
مريم (عينها تلمع):
أنا تعبت من التغييرات اللي بتكسر مش بتبني.
تعبت من الآمال اللي بتبدأ بـ “تخيلي لو…” وتنتهي بولا حاجة.
حمزة (بهدوء):
عارف… بس في فرق بين الخيال والوهم،
وفي فرق بين الحقيقة اللي مستنّية فرصة تطلع للنور…
والكذبة اللي بتتكرر لحد ما نصدقها.
(مريم تبص له شوية، وبعدين تقوله):
لو في أي حاجة تعرفها عن أمي…
قول.
حتى لو وجعتني.
حمزة: لا لا أبدًا، بس أنتِ متعرفيش أي معلومة عنها
مريم (تبص له بدهشة): عن مين؟
حمزة: عن والدتك.
مريم (تسكت لحظة، وبعدين تقول بنبرة فيها تسليم): هعرف منين؟
مافيش حد اتكلم معايا عنها.
ولا حد حتى كان بيرد لما أسأل.
كل اللي عندي صورتها… بس ولا مرة حسيت إني قادرة ألمس حكايتها.
(حمزة يومئ برأسه بهدوء، وما يقاطعهاش.)
مريم (تكمل بصوت واطي):
بس… أنا شُفت حلم غريب.
ماقدرتش أفسره
حمزة (بتركيز): حلم إزاي؟
مريم (بهمس وهي تبص في الأرض):
كنت في مكان كله ضباب…
وسمعت صوت بيناديني: “مريومة”.
لفيت، وشها فيه طيبة بس ملامحها مش واضحة أوي …
حسيتها قريبة، بس مش فاكرة شفتها قبل كده ولا لأ
(تصمت لحظة، وكأنها بتسترجع المشهد)
مريم:
مدتلي إيدها وقالتلي: “أنا حضنك اللي اتسرق منك”.
صحيت وقلبي بيدق…
كنت حاسة إنها أمي، حسيت إني كنت فعلاً في حضنها… ولو للحظة.
(حمزة يتنهد بهدوء، صوته يبقى أهدى من الأول)
حمزة: في حاجات بتحصل عشان تخلينا نحس… والإحساس عمره ما بيكدب.
(مريم ما تردش، بس عنيها بتلمع، تبص له وكأنها محتاجة تسمع أكتر.)
حمزة (بلطف واهتمام): بس دلوقتي… ركّزي على اللي قدامك.
الامتحان الجاي أهم خطوة.
وكل حاجة تانية ليها وقتها.
مريم (تهز رأسها):
عارفة…
بس التعب اللي جوايا مش بيروح.
حمزة (بابتسامة صغيرة): ممكن مايروحش دلوقتي…
بس لما توصلي لهدفك، هتحسي إنك انتصرْتي على كل ده.
خلي اللي جوّاكِ يدفعك، مش يعطلك.
(صمت دافي بينهما. نسمة هوا تعدّي، ومريم تلمس الكوباية من غير ما تشرب. تفكر… وتحس إن فيه حاجة بتتغيّر، بهدوء، جواها.)
________
منزل حميدة
(البيت هادي بشكل غريب، والسكوت عامل دوشة أكتر من أي صريخ سمعته قبل كده.… كأن الجدران نفسها ابتدت تتنفس الوِحدة. مفيش صوت خطوات، ولا ضحكة طفل، ولا حتى حركة بسيطة في المطبخ. الساعة بتعدي ببطء، وريحة القهوة البايتة لسه مالية الأركان.)
(حميدة قاعدة على الكرسي الخشبي في الصالة، التليفزيون شغال على قناة عشوائية والصوت واطي جدًا… مش باين هي بتتفرج ولا بتفكر في حاجة تانية.)
(تقوم تمشي شوية، تفتح باب أوضة منير… تلاقيها فاضية. الدولاب مفتوح، وفيه فراغ بيشد العين أكتر من وجود ملابس. ترجع تقف عند عتبة الباب، تبص للأوضة، وبعدين تهمس لنفسها.)
حميدة (بصوت مبحوح):
كلهم راحوا؟ بقى أنا… أنا اللي اتسابلي البيت فاضي؟
(تضحك ضحكة واهية، تميل على الكرسي، ترفع طرحتها من على راسها وتحطها جنبها، وتحط إيدها على وشها.)
(تقوم تدخل أوضة مريم، تفتح الباب ببطء، وكأنها بتواجه شبح قديم. تبص للسرير الفاضي، للمخدة اللي ما حدش نام عليها من شهور.)
(تقرب… تقعد على طرف السرير، وتلمس المرتبة، وكأنها بتحاول تفتكر ملمس البنت اللي كانت هنا زمان. تخرج من جيبها الصورة الوحيدة اللي فضلت من مريم وهي طفلة، وتبص لها بعيون فيها قسوة راحت وندم جه متأخر.)
حميدة (بصوت مرتعش): أنا كنت عايزاكي تكبري اوي، واشكلك على كيفي، تشيلي اسمنا، ماتتهزيش.
بس يمكن كنت بكسر فيكي أكتر ما ببني.
كرهي لأمك ضيعني وخلاني أذيت إبني ومراته وبنته
وأنا خفت…
خفت الحقيقة تطلع، وخفت أكون ضعيفة.
(الدمعة اللي كانت محتجزة تنزل، بس بسرعة تمسحها بإيدها، وتقوم بسرعة، كأنها مش عايزة تعترف لنفسها إنها بقت لوحدها.)
(تقف في الصالة، تلاقي لعب الأولاد ملقاة على الأرض، ترجع تبص للباب، وتتأكد إنه مقفول. تحط إيدها على قلبها، وتهمس.)
حميدة: كان عندي بيت مليان ناس…
ودلوقتي…
كل واحد خدله سكة وسابني.
يمكن دي ضريبة إنك تتحكّم في الكل…
إنك تلاقي نفسك في الآخر من غير حد.
(تروح على الكنبة، تقعد، وتبص للسقف… زي واحدة بتستنى حاجة تقع من فوق، صوت، صرخة، حتى لوم.)
(لكن مفيش غير سكون… قاتل، خانق، عايز ينطق باللي في القلب.)
“أكتر حاجة بتوجع… لما تكتشف إنك كنت بتربي الخوف بدل الناس… وإن الخوف، لما بيكبر، بيبعد عنك كل الناس.”
_________
مساء اليوم التالي – أحد شوارع القاهرة
(الشارع هادي نسبيًا، وضوء أعمدة النور بينعكس على الأرصفة. حمزة واقف جنب عربيته، بيبص في الموبايل، متردد شوية… وبعدين يقرر ويتصل.)
(رنة… رنتين… يرد منير)
منير (من خلال الهاتف، بصوت متفاجئ):
حمزة؟ مساء الخير يا ابني… خير؟ مريم جرالها حاجة؟
حمزة (بصوت هادي لكن جدي):
مساء النور يا أستاذ منير… أنا آسف إنّي بكلمك كده من غير تمهيد، بس ضروري نتقابل.
في موضوع مهم لازم نتكلم فيه… موضوع يخص مريم.
(منير يسكت لحظة، كأنه فهم إن في حاجة كبيرة)
منير:أنا أصلاً كنت مستني مكالمتك…
أنا سبت البيت، ونقلت مراتي وولادي على القاهرة خلاص.
البيت هناك مايتسكنش بعد اللي حصل.
حمزة (باهتمام): يعني حضرتك هنا دلوقتي في القاهرة؟
منير: أيوه، في شقة إيجار مؤقتة… لحد ما أظبط الدنيا.
أنا تعبت من سنين السكات، وقررت آخد خطوة… حتى لو متأخرة.
حمزة (يتنهد): كويس إنك خدت القرار ده.
مريم محتاجة ناس في ضهرها… وده بالضبط اللي عايز أكلمك فيه.
منير (بقلق):
هي كويسة؟ في حاجة جديدة حصلت؟
وإبراهيم؟ لسه ماعرفتش تطورات التحقيق؟
حمزة: مريم ربنا معاها
وآخر اللي عرفته… إن إبراهيم بيتحقق معاه، وسلوكياته في الكلية اتحفظت عند الأمن.
واضح إنه هيتحبس سنة على الأقل… ده آخر كلام وصلني.
منير (بتنهيدة مرتاحة):
يستاهل… يمكن ده يبقى عقاب يوقفه شوية عن تهوره.
حمزة: ممكن نتقابل بكرة؟ في كافيه في مصر الجديدة، اسمه “دار القهوة”، هادي ومش زحمة.
نتكلم براحتنا.
منير: ماشي… ابعتلي العنوان، وهبقى هناك على الساعة 5.
حمزة: شكرًا ليك…
منير: أنا اللي بشكرك و آسف على كل حاجه بتحصل
حمزة بهدوء: أنا بعمل كل دا عشان مريم وهي تستاهل تلاقي حياة كويسة، بس اللي هقولهولك مهم جدًا.
منير (بصوت فيه جدية): مريم بنتنا، وإحنا مسؤولين عن توفير حياة تريحها، ان شاء الله هنتقابل في ميعادنا.
(حمزة ينهي المكالمة، يحط الموبايل في جيبه، ويغمض عينيه لحظة كأنه بيجهّز نفسه للّي جاي.)
“في ناس بتكسر عشان تبني… وفي ناس بتبني عشان تصلّح كسر غيرها.”
________
دار الفتيات – غرفة مريم
(الغرفة هادية، ضوء خافت بيعدّي من الشباك، ومريم قاعدة على طرف السرير، عينيها شاردة في اللاشيء، وكأن عقلها تايه في دوامة أفكارها.)
(يدوب بتلف ف صوابعها طرف طرحتها وهي بتفكر، الباب يطرق بخفة، وتدخل أفنان بابتسامة خفيفة.)
أفنان (وهي تقرّب منها): “السرحان ده وراه إيه؟”
مريم (تفوق على صوتها، تبتسم ابتسامة باهتة): “مكنتش سامعة… كنت بفكر بس.”
أفنان (تقعد جنبها): “واضح… من ساعة ما رجعتي من برا وانتي مش على بعضك. في حاجة؟”
(مريم تبص للأرض، وبعدين ترفع عينيها لأفنان بحيرة)
مريم: “هو… البشمهندس حمزة… ليه بيعمل كده؟
اقصد يعني… ليه بيهتم بيا بالشكل ده؟
ما هو مش منطقي، واحد شافني مرتين، يعمل كده؟ يساعد، ويهتم، ويتصل، ويتابع؟”
أفنان (تبتسم بهدوء): “في ناس عندها رحمة… وهو واضح إنه راجل أصيل وعنده نخوة.
مش شرط يكون في مصلحة عشان يساعدك.”
مريم (تتمتم بنبرة خفيفة):
“بس أنا بحسّ… إنه بيتعامل معايا بشكل… مختلف.
مش مجرد احترام… في غلاوة كده… فاهمة قصدي؟”
(أفنان تبصلها بتركيز، وترد بحسم ناعم)
أفنان: “أنا مش هداري عليكِ…
أنا لما شوفته وهو بيكلمك…
حسّيت إنه مستعد يعمل أي حاجة عشانك.
عينه فيها لمعة… مش لمعة شفقة، لمعة حد قلبه بيتحرك.”
(مريم تبص لها بسرعة، عينيها تتسع بدهشة)
مريم: “تقصدي إيه؟”
أفنان (برقة): “أقصد… إنه تقريبًا بيحبك.”
(مريم تضحك بخفة مرتبكة، وتحرك راسها كأنها بترفض الفكرة)
مريم:”لا… مستحيل.
أنا؟! هو؟
مافيش حاجة كده… وبعدين، هيحب واحدة تايهة في الدنيا زيي ليه؟
أنا لسه مش عارفة حتى أبدأ منين.”
أفنان (تضحك وتشد إيدها بحنية):
“هو مش هيلاقي زيك.
ولا في جمالك، ولا زي قلبك.
وبعدين يا مريم… أنتِ تتحبي.”
(مريم تسكت، وعينيها تتحرك ببطء ناحية الشباك، تقوم تقف قدامه، تفتح جزء صغير منه… وتبص للسماء.)
(الهواء يدخل بهدوء، ويلعب في طرف الطرحة وهي بتهمس لنفسها):
“تتحبي؟… معقول؟”
(اللمعة في عينيها بتزيد… لمعة خفيفة، مش واضحة ليها بس واضحة حواليها، لكن هي حاسّاها…
“أحيانًا، بنحتاج حدّ يصدق فينا قبل ما نصدق في نفسنا، ويمكن لمعة عين تقول اللي القلب لسه مش قادر يعترف بيه.”
_________
اليوم التالي
(الكافيه هادي، إضاءة دافية، صوت فيروز خافت في الخلفية، والنَفَس رايح جاي في فناجين القهوة اللي على الترابيزات. حمزة قاعد في ركن جانبي، بيبص للباب من وقت للتاني. يدخل منير، لابس جاكيت رمادي، ووشه فيه قلق واضح، لكنه بيحاول يخفيه.)
حمزة (يقوم يستقبله بابتسامة بسيطة): أهلًا أستاذ منير، نورت.
منير (بيهز راسه وهو بيقعد): ربنا يخليك، صوتك كان مقلق في التليفون، طمني حصل إيه
(يجلسان. النادل ييجي ياخد الطلب، بيطلبوا قهوة سادة ومنير يطلب شاي بالنعناع. ثواني صمت.)
حمزة (بصوت هادي): أنا كلمتك لأن في حاجة حصلت… ومقدرش أسكت عنها.
منير (يركز): خير يا حمزة؟
حمزة (ياخد نفس): بعد امتحان مريم هي كانت رجعت القاهرة مع مدام ناديه والسواق وأنا وقتها اتكلمت معاك وخلصت الإجراءات المطلوبة وموبايلها كان معايا والموبايل بتاعها رن.
منير (بتوتر): مين اللي كان بيتصل؟
حمزة (نبرة صوته هادية لكن نبرة عينه مش ساكتة): جدتها… حميدة.
منير (يفتح عينيه): انت اللي رديت صح؟
حمزة (يهز راسه): أيوه أنا اللي رديت.
اللي سمعته في المكالمة… صدمني.
(منير يسند ضهره ووشه يتبدل.)
منير: أنا عارف قالت إيه
(يتنفس ببطء، كأنه بيفكر): بس مريم… ما تعرفش حاجه لسه؟
حمزة (بحسم): لا… وأنا حريص ما تعرفش دلوقتي. مش وقت المواجهة دي خالص.
منير (بإرتياح نسبي): الحمد لله… أنا كنت خايف تعرف فجأة وتتكسّر أكتر.
حمزة: وعلشان كده… أنا عايز أعرف كل حاجة.
كل حاجة تعرفها عن أم مريم، وسبب اللي حصل.
(منير يسكت لحظة. ياخد نفس طويل ويبدأ يحكي.)
منير: اللي هقولهولك… عمري ما اتكلمت فيه مع حد، بس يمكن جه وقته يطلع للنور.
(حمزة يسند إيده على الترابيزة، بيسمع باهتمام.)
منير: أخويا… اتجوز والدة مريم من سنين،
حبها واتجوزها من غير موافقة أمي، وأمي كانت صعبة وعنيفة حتى معانا، بس أخويا كان استثناء؛ كانت بتحبه جدًا، وكانت عايزه تختار عروسته.
ولما عرف ام مريم في الجامعة قرر يتجوزها، وأمي كانت شايفة إنها أقل من العيلة، وإنها مش “كُفء” زي ما كانت بتقول، وأخويا لما امي رفضت راح سايب البيت واتجوزها، بعد كدا اتواصلنا معاه وأمي أقنعته يجيب مراته ويرجع البيت
ومن أول لحظة، أمي حطتها في دماغها
حمزة (بدهشة): وده حصل قبل ولادة مريم؟
منير: آه، كتير.
في الأول، والدتها حاولت تتأقلم… كانت هادية، خجولة، ومكسوفة من كل حاجة،
بس أمي كانت بتضغطها بكل طريقة…
من الكلام الجارح… للمعاملة السيئة… للتهديد.
حمزة (بهدوء مصدوم): وده أثر عليها؟
منير (ينظر في الفنجان): دخلت في اكتئاب حاد،خصوصًا بعد ولادة مريم…
حسّت إنها مش قادرة تحمي نفسها ولا بنتها
ومع الوقت… حالتها النفسية ساءت جدًا.
ودّوها مصحة نفسية تتعالج.
حمزة: وأخوك؟ كان بيروح لها؟
منير: آه… كان بيزورها باستمرار، بس هي ما كانتش بتتحسن.
بالعكس، بقيت بتخاف من كل حاجة، حتى منه.
حمزة (بتوتر): وبعدين؟ إيه اللي حصل؟
منير (ينظر له في عينه مباشرة): فجأة… اختفت.
حمزة: اختفت إزاي؟
منير: في يوم… أخويا راح يزورها، قالوا له إنها خرجت بإجراء إداري وإنهم ما يعرفوش عنها حاجه..
ومن وقتها… اختفت.
حمزة: وأخوك؟ عمل إيه؟
منير: قلب عليها الدنيا، ماسابش دار ولا جهة إلا ودور فيها،بس ماكنش في أي أثر…
كان بيتحطم يوم ورا يوم، وفي الآخر… أمي اقنعته يعرف مريم لما كبرت ان أمها توفت
حمزة (بتردد): والقبر اللي مريم كانت بتزوره؟
منير (بصوت منخفض): قبر فاضي…
بس عليه اسمها.
عشان لما تسأل عن أمها، نقولها إنها هنا مدفونه
وإحنا أصلاً… منعرفش حتى إذا كانت ميتة ولا لأ.
حمزة (يبصله بذهول): يعني… مافيش تأكيد؟
منير (يهز رأسه): لأ… وأكتر حاجة بتكوي قلبي… إني شاكك إن أمي ليها يد في اختفائها
.
حمزة (يصمت لحظة، وبعدين يقول): تحس إن كل الطرق بترجع لنفس الست.
منير: ممكن… للأسف هي لما تكره… تكره اوي.
حمزة (بهدوء لكن بنظرة حازمة): أنا مش هسكت.
الموضوع ده لازم يوصل لنهايته…
مش علشان الانتقام،
بس علشان مريم تعيش بسلام
الاثنين يسكتوا لحظة…
حمزة (بصوت ثابت): وأنا هفضل جنبها… لحد ما الحكاية تتقال صح، وتتفهم صح…
ومايبقاش فيه ولا سرّ، لا دفين… ولا مختفي.
(منير يومئ برأسه، كأنه أخيرًا لقى حد شايل معاه الهم.)
_________
(الغرفة هادية، والضوء الخافت من الأباجورة بينعكس على الحيطان بلون دافي. مريم قاعدة على السرير كالعادة ضامة رجليها، وعنيها زايغة ناحية الشباك. طرحتها منزلقة شوية على كتفها، وكأنها سابت نفسها للحزن من غير مقاومة.)
(الباب يخبط بخفة، تدخل نادية، لابسة إسدال بسيط، وشها هادي وفيه طيبة. تبص لمريم بلحظة واحدة تفهم منها إنها محتاجة حضن مش بس كلام.)
نادية (بلطف):لسه صاحية يا مريومة؟
مريم (تومئ براسها من غير ما تبص):
ماعرفتش أنام، الامتحان التاني بكرا ومش عارفه هيحصل إيه
نادية (تقرّب وتقعد جنبها على السرير):
قلبك شاغله حاجات كتير، صح؟
أنا حاسة بيكي… وصدقيني كل حاجه هتعدي
مريم (تبص لها، عينيها تلمع): أنا مش فاهمة… بس كل ما أقعد معاكي… بحس إني عارفاكي من زمان.
كأن في بينا حبل قديم…
وأنا مرتاحة ليكي أوي يمكن عشان فتحتيلي بابك أول وقت احتياجي ليكِ.
نادية (تبتسم ابتسامة كلها حنان، وتحط إيدها على كف مريم): وأنا كمان يا مريم…
من أول لحظة شوفتك، قلبي اتشد ليكي.
مش بس علشان إنتي بنت طيبة… أنا بعتبرك بنتي…
أكيد إحنا اتقابلنا دلوقتي علشان نكمّل بعض.
مريم باهتمام: صح ولا مرة حضرتك كلمتينا عن أولادك وعايشه هنا معانا
ناديه: بعدين أحكيلك حكايتي، خلينا فيكِ حاسه ب إيه دلوقتي
مريم (بصوت متهدج): أنا تعبت يا مدام نادية…
تعبت من الجري… ومن الخوف… ومن الأسئلة اللي ملهاش إجابة.
نادية (تشد إيدها بحنية وتبص لها في عنيها):
أنا هفضل جنبك، لحد ما تطمني وتعيشي بسلام.
هفضل ماسكة إيدك لحد ما تعرفي كل حاجة، ولحد ما حقك يرجعلك.
(مريم تميل براسها على كتف نادية، وعيونها تتقفل وهي بتتنفس بعمق… وكأنها لقت أخيرًا أول حضن حقيقي تطمن فيه.)
(الصمت يملأ الغرفة، لكن صمت دافي… مش خايف، مش موجوع. صمت فيه وعد…ووِصال.)
________
صباح يوم الامتحان الثاني – أمام الكلية
(الشمس طالعة بدفاها، والهواء ناعم، والشارع فيه حركة هادية.
عربية حمزة واقفة على جنب، بيبص في الساعة، ومريم قاعدة ورا بتجهز شنطتها الصغيرة، ووشها عليه علامات قلق ظاهر.
نادية بتفتح الباب وتنزل، بتبص لمريم وتمدلها إيدها.)
نادية بحنان: يلا يا حبيبتي… متخافيش، النهارده أسهل من اللي فات، وإحنا جنبك
(مريم تبص لحمزة في المراية، تلاقيه بيطمنها بنظرة فيها دفء.)
حمزة (بنبرة هادية): النهارده اللجنة عادية مش خاصة … وأنتِ أقوى من أي ظرف، افتكري كده.
مريم (بصوت واطي وهي بتتنفس بصعوبة):
أنا… قلبي بيدق بسرعة، مش عارفه ليه حاسة إن في حاجه هتحصل
حمزة (بنبرة ثابتة): كلنا جنبك وإبراهيم اتحبس، وكل خطوة أخدتيها كانت بشرف وكرامة… خدي نفس، وحلي كويس عايزين تقديرات كويسة
نادية (تبتسم):وإحنا مستنيينك بره، هتيجي تطمنينا بنفسك.
(مريم تهز راسها وتنزل بهدوء، بتقرب من باب اللجنة بخطى مترددة، بس بتدخل… والوقت يمضي.)
بعد مرور الامتحان…
(أصوات الطلاب وهم خارجين، ضحك وكلام كتير.
مريم طالعة من اللجنة، وشها عليه تعب، بس فيه لمعة راحة صغيرة.
لكن تبص قدامها… وتتجمد فجأة.)
(حميدة واقفة على الرصيف قدام الكلية. لبسها غامق، ونظرتها صلبة… لا بتبتسم، ولا بتتكلم.
عيونها مركزة في مريم كأنها بتحاكمها من غير ولا كلمة.)
مريم توقف في مكانها، ملامحها تتغير، وجسمها يتصلب…
حمزة، اللي شافها من بعيد، يتحرك بسرعة.
حمزة (وهو بيقرب منها): ادخلي العربية يا مريم… دلوقتي.
(نادية تبص في نفس الاتجاه… وعينيها تتلاقى بعيون حميدة. لحظة صمت مشحونة، كأن الدنيا كلها بتكتم نفسها.
حميدة تتجمد، تبص لنادية وهي مش مصدقة، وشها يتبدل، تتراجع خطوة، بس عنيها مازالت مثبتة عليها.)
حميدة (تكلم نفسها بصوت هامس، من غير ما حد يسمع):
لا… مستحيل…
مش نفس الشكل… وشها اتغيّر…
بس العيون دي؟
العيون هي هي… نظرتها…
هي اللي ف دماغي…
مستحيل تكون هي…!
(نادية تبادلها النظرات… لكن نظرتها فيها تحدي، مش خوف. فيها وجع متخزن سنين… وجاهز يواجه.)
(نادية تدخل العربية، تبص لحميدة للمرة الأخيرة، وبعدين تقفل الباب بهدوء.)
______
(حمزة يقرب من حميدة، يقف قدامها بثبات.)
حمزة (بنبرة هادية لكنها حاسمة):
أنا اسمي حمزة شهاب …
وأظن حضرتك تعرفيني كويس
حميدة (بصوت حاد، وهي تبصله من فوق لتحت): إنت مين؟ وعايز إيه من مريم؟
أوعى تكون مهددها ولا بتستغلها في حاجة…
حمزة (بنبرة فيها هدوء بس نبرة غضب داخلي): شايفة إن كلامك منطقي كدا؟
أنا بساعد مريم… وبحترمها، واحتمال تكون الوحيدة اللي تستحق يتقاتل علشانها.
وأكيد حضرتك عارفة أخلاقها كويس.
(حميدة تسكت، نظرتها مش بتبعد عنه.)
حمزة (يكمل بنبرة حاسمة): من فضلك… كفاية ضغط على البنت.
مش من حقك تقفي لها في كل ركن من حياتها…
ولا من حقك ترميها في وش الخوف كل ما تحاول تقف على رجليها.
حميدة (بصوت أهدى بس فيه استفزاز):
أنا بس كنت عايزة أسألها عن حاجة…
مش أكتر.
(حمزة يقرب خطوة، يبص في عنيها مباشرة، وصوته فيه تحذير ليها)
حمزة: مريم متعرفش حاجة عن إن والدتها عايشة.
ولو حضرتك فاكرة إنك فاجأتِها، فاعرفي إن أنا اللي رديت على الموبايل يومها.
(حميدة تتجمد مكانها… تسرح لحظة، وعيونها تهرب من عينه.)
حمزة (يطلع كارت من جيبه، ويمدّه ليها):
دا رقمي…
لو فعلاً حابة تحلي الموضوع ده، وتتفاهمي، وخصوصًا لو ناوية تريّحي مريم بدل ما تعذبيها…
كلّميني.
(يسيبها واقفة، ويمشي بهدوء، يفتح باب العربية ويدخل.
من جوه، مريم بصاله بقلق… حمزة يومئ لها بخفة إنها تطمّن.)
(العربية تتحرك بهدوء… وتسيب وراها حميدة واقفة لوحدها، بتبص في الكارت في إيدها،
وسؤال كبير بيصرخ جواها:
هل كل حاجه بقت ضدها خلاص؟
لكن حميدة كانت مخططة للقاء دا وكان هدفها إنها تعرف مكان مريم فين وبالفعل بتتبعهم
________
دار الفتيات – بعد عودة مريم وخلودها للراحة
(هدأت الأجواء، ذهبت نادية لتطمئن عليها، في المقابل، كان ينتظر نادية في مكتبها، ووشه عليه ملامح جدية غير معتادة.)
(تدخل نادية، خطواتها هادئة كعادتها، لكن عينيها تراقب حمزة بحذر واضح. تجلس أمامه.)
نادية (بنبرة دافئة): طلبت تقابلني مخصوص؟ خير يا بشمهندس؟
حمزة (يبص في عينيها بثبات): آه… في موضوع مهم.
نادية: في حاجه جديدة حصلت ولا إيه
أنا لاحظت نظراتك وقت ما شفتِ جدة مريم… وشفت بعيني إنك اتفاجئتي، مش بس كده… كانت نظرات معرفة مش صدفة.
نادية (تحاول تتجاهل كلامه): وانت طلبت تقابلني علشان النظرات؟!
حمزة (بنبرة أكتر جدية): لا… علشان أسألك سؤال واضح: حضرتك تعرفي أم مريم؟
نادية (بهدوء مصطنع): هعرفها منين؟ مريم من الفيوم وأنا من القاهرة، وبعدين انت بنفسك اللي جبتلي البنت لحد هنا… من غير ما يكون في بينا سابق معرفة
.
حمزة (ينحني قليلًا للأمام، نبرته تتصاعد): بس أنا لما ركزت… وسألت شوية، عرفت إن حضرتك مبتقبليش أي بنت هنا غير لما يكون في حد من أهلها أو ضامنها. ومريم كانت جايه لوحدها… وأنا مش قريبها… ومع ذلك وافقتي.
نادية (بسرعة): اتعاطفت معاها… كانت مكسورة، وإنت كنت ضامنها قدامي.
حمزة (ينظر لعينيها مباشرة): أنا عرفت إن أم مريم عايشة.
(صمت فجائي. نادية تتجمد لثواني، ملامحها ما بتتغيرش كتير… بس عيونها اتفضحت.)
نادية (بنبرة حاولت تكون متفاجئة): انت… عرفت إزاي؟
حمزة (بهدوء صادم): حضرتك مش متفاجئة. متوترة… آه، لكن مش متفاجئة. وده بيأكدلي إنك عارفة… مش بس إنها عايشة، لا… حضرتك تعرفي حاجات كتير، يمكن أكتر من اللي أنا أعرفه.
نادية (بصوت منخفض وهي تبص بعيد): لا… أنا متفاجئة… بس مش مستوعبة، هي مريم عرفت حاجه
حمزة (بنظرة حادة): لا متعرفش ، بس إيه يا مدام نادية؟ حضرتك ليكي علاقة بجدتها… مش كده؟
معرفش إزاي، بس في رابط واضح.
(قبل ما ترد، يُفتح الباب فجأة…
وتدخل حميدة.)
(الصمت ينفجر في المكان.
نادية و حمزة يلتفتوا بحدة…
حميدة واقفة، وشها قاسي، وعينيها متثبتة على نادية.)
حميدة (بصوت منخفض لكنه حاد): قوليلي بقى تعرفي إيه عن أم مريم
نادية (تنتفض، تقوم فورًا، نبرتها كلها غضب… وشجاعة): كنت متأكدة إنك هتيجيلي.
حميدة بتحدي: مهما كان شكلك متغير مستحيل اتوه عنك
لحظة صمت ثقيلة
حمزة (يبص فيهم هما الاتنين، يتكلم بهدوء مشوب بالغليان): أنا الوحيد هنا اللي مش فاهم… بس واضح إن اللعبة خلصت. حد فيكم هيقول الحقيقة ويفهمني
نادية (بصوت ثابت، لكن عنيها بتدمع):
تحبي أنا أتكلم… ولا تقولي إنتِ؟
حميدة تسكت… تتنفس بصعوبة، تهرب بعينيها، بس الصمت خانها.
حمزة يراقبهم، صوته يخرج حاسم:
حمزة: أنا هنا عشان أسمع… اتكلمي يا مدام نادية.
نادية (تتنفس ببطء، وبصوت فيه وجع سنين مكبوتة):
“ضُحى… عمرها ما كانت مريضة نفسية.
ضحى كانت بنت هادية، حنونة، بسيطة…
لكن الأدوية اللي كانت بتتحط في أكلها وشربها…
أدوية بتسبب هلاوس وارتباك، وخلّت الناس تقول إنها مش طبيعية.”
(حمزة يتفاجئ، يبص لحميدة، اللي بتشد طرحتها بصمت قاتل.)
نادية (تكمل، والنبرة بتتبدل لحزن دفين):
“بعد ما أنجبت مريم، راحت المصحة.
مش علشان كانت مريضة… لأ، علشان كانت اتقهرت.
اكتئاب، كسر، وقهر…
بس لسه مفعول الأدوية الخبيثة في جسمها،
كل ما تصرخ، يقولوا مجنونة…
وكل ما تحاول تتكلم، يقولوا بتتوهم.”
حمزة (بنبرة مصدومة): يعني كل اللي حصل كان مدبَّر؟
نادية (تهز رأسها بالموافقة): “زوجها كان بيروح لها كل يوم…
ماكانش عارف يتصرف، لكنه فضل جنبها لحد ما وقع من الحزن.
مات… مات بحسرته.”
(حميدة تتنفس بحدة، تبان في ملامحها رعشة خفيفة، بس لسه ساكتة.)
نادية (تكمل بصوت أخف):
“وبعدين… الممرضة اللي كانت بتحط نفس الأدوية المؤذية ، كانت مرتشية.
بتاخد تعليماتها من حميدة شخصيًا.
لكن ربنا كبير…
ابنها جاله مرض نادر،
مافيش علاج نافع معاه،
فضلت تلف على المستشفيات،
وبعدين…
انهارت، واعترفت بكل حاجة الا ان حميدة السبب.”
(حمزة يرفع حاجبه بدهشة، وعينيه ما تسيبش حميدة)
نادية: “خدوها… اتحبست.
والتحقيقات فتحت، بس حميدة زي ما هي…
محدش قدر يثبت عليها حاجة مباشرة.
لكن في وسط الخراب دا، ربنا بعَت دكتور ابن حلال…
شاف ضحى، سمع حكايتها، رقّ لحالها.
نقلها من المصحة دِ على مستشفى خاصة،
ابتدى يعالجها بهدوء… خطوة خطوة.
رجعت إنسانة بعد سنين من الضياع.”
(نادية تتنهد، عينيها تلمع):
“وبعد ما وقفت على رجليها،
الدكتور ساعدها كتير وخلاها تشتغل هنا…
دار البنات دي تحت إشرافها.
وبعدين…
قالها: “جاهزة ترجعي لبنتك؟”
قالتله بس إزاي؟
إزاي أقول لها إني أمها؟
بعد العمر دا كله؟”
حمزة (بصوت متوتر): وبعدين
نادية (بهدوء):
“كانت خايفه بنتها تكرّهها…
وكانت مستنية اللحظة اللي قلبها يقول فيها: أنا مصدقة انت بنتي هترجعلي
(حميدة تهتف بغضب مكتوم):
كلام كدب…
كل ده كدب…
(حمزة يبص لها بحدة):
اسكتي!
سكوتك كل السنين اللي فاتت كان جريمة،
دلوقتي جاية تتكلمي؟
(نادية تهمس): لسه في تفاصيل…
بس دي مش مني.
دي يكمّلها… منير.
(الكل يسكت لحظة… كأنهم مستنيين الباب يتفتح، أو الذاكرة تتكلم.)
الصمت يلف المكان… فجأة الباب يتفتح بسرعة.
يدخل منير، ووشه باين عليه إنه شايل جبل على كتفه.
من غير ما يسلم أو حتى يبص لحد، بصوته الخشن المتردد يقول:
“في يوم… جاتلي مكالمة،
مكالمة قلبتلي كل الموازين.
واحد غريب كلّمني…
قاللي: ممكن نتقابل؟ الموضوع بخصوص أم مريم.
أنا اتشدّيت، قلبي وقع،روحت قابلته.
حميدة ترفع عينيها بدهشة، تحاول تقاطع، لكنه يكمل بسرعة
منير: “قابلته في مكان هادي، وكان معاه ست…
أول ما شُفتها… حسيت إن وشها مألوف.
بس ماكنتش متأكد…
الدكتور قعد معايا، وحكى لي كل حاجة،
من أول ما دخلت ضُحى المصحة،
لحد ما بدأت تتعالج بهدوء…
قاللي: “أنا عارف إنها اتظلمت… وعارف إن ليها بنت.”
وهو بيقول كده، الست اللي معاه دموعها كانت بتجري من غير صوت.”
نادية تبص له، عينها تلمع بدموع ساكتة.
منير يرجع يكمل، صوته يبقى أوضح
منير: “سألني عن مريم…
قلت له الحقيقة، قلت له إن أمي عايزه تزوجها لإبراهيم…
وإن البنت دي مش عايشه مرتاحة
وهنا… الدكتور قاللي: يبقى جه الوقت نرجّع للبنت دي حقها.
أنا اتصدمت…
إزاي؟ وليه دلوقتي؟
بس الست اللي كانت معاه…
أول ما فتحت بُقها واتكلمت،
كل حاجة جوايا اتبدلت.
(حمزة يقاطعه بصوت مشدود):
قالتلك إيه؟
منير (يبص لناديه بحزن، وبعدين يقول بهدوء):
قالتلي: “أنا أمها.”
ضحى…
صوتها رجّ قلبي…
أنا اتذكرت كل حاجة فجأة،
ضحكتها وهي صغيرة، طيبتها، صبرها…
وساعتها ماقدرتش أقول غير: “أنا هساعدكم.”
وفعلاً…
ساعدت مريم تهرب،…
ومن غير ما تعرف ليه بساعدها أصلاً.
(يلتفت لحميدة، بصوته في غُصة):
بكفّر عن ذنبك… مش ذنبي.
أنا سكت سنين، بس مش هسكت تاني.
(حميدة تبص لنادية بذهول، مابين الصدمة والشك، تهمس):
حميدة:
“إنتي… إنتي ضُحى؟!”
(نادية تبتسم ابتسامة حزينة، وتقول بهدوء متماسك، صوتها نابع من جُرح قديم بيحاول يطيب)
نادية: “أيوه يا ست حميدة… أنا ضُحى.
عارفة… يمكن شكلي اتغير، بس دا كان فضل من ربنا!
عملت حادثة، بهَدلت وشي، ومحدش افتكرني بعدها. دخلت عمليات كتير…
وفي وسط الألم، كانت في عملية مهمة جدًا…
غيّرت ملامحي كلها تقريبًا…
بس عيني!
عيني هي هي يا ست حميدة،
نفس النظرة اللي كنتي بتتجاهليها،
واللي عمري ما نسيت بيها بنتي…”
(تسكت لحظة وهي تبص لحمزة، وبعدين تكمل بصوت مكسور شوية):
“أنا متّ ألف مرة بعيد عن بنتي،
بس ربنا رجّعها لي، والعين هي اللي بتفضح الحنين
ويمكن الوقت اتأخر…
بس لسه عندي أمل…”
تاخد نفس عميق وتكمل
كل حاجه كانت مترتبة مريم تيجي هنا وبنت تقابلها صدفة تجيبها للدار وبعد كدا مكنتش عارفه هعمل إيه، لكن تظهر انت فجأة في وسط الظلام ترجعلها شنطتها وتجيبها هنا ويحصل اللي حصل، صدقني يا حمزة وجودك أكتر حاجة فرقت معانا وترتيب ربنا أفضل من ترتيبنا ألف مرة
حمزة بعتاب: ليه موضحتيش ليا كل حاجه من الأول عشان اعرف اساعد مريم
نادية بتأثر شديد: أنا أول ما شُفت مريم كان نفسي اخدها في حضني معرفش اتماسكت ازاي،مكنش في وقت أقولك حاجه، وبعدين صدقني انا نفسي مش عارفه أواجه مريم للنهارده وخايفه متصدقنيش وتفكر إني بعدت عنها بإرادتي
_______
(الصمت يلف الغرفة بعد جملة نادية الأخيرة، الكل ساكن… حتى الأنفاس صارت ثقيلة.)
صوت خطوات خفيفة على الأرضية يكسر الهدوء…
فجأة، الباب يتفتح بعنف!
مريم واقفة، في وشها صدمة لا توصف، عينيها واسعة، ومليانة دموع، صوتها يخرج مبحوحًا، ضعيفًا، لكنه واصل للقلب
مريم (بهمس متقطع):
– أنا… كنت سامعة… كل كلمة.
(الكل يلف ناحيتها، نادية تتجمد مكانها، منير يقف متوتر، حمزة يتنهد ويمد إيده كأنه هيحاول يسندها، لكن مريم تبصله بحدة حزينة.)
مريم (بصوت مهزوز):
– كل اللي اتقال دا… كله حقيقي؟
أنا مين؟
أمي مين، ضحى ولا نادية؟!
أنا بنت ضُحى؟
وإنتِ يا مدام نادية… إنتِ أمي؟
ولو أمي عايشة أنا كنت بزور قبر مين واعيط قدامه؟؟؟
نادية (بصوت مبحوح، بتحاول تقرب منها):
– يا مريم… استني، خليني أشرحلك…
مريم (تتراجع خطوتين لورا، بتصرخ):
– لأ!! متقربيش!
أنا عشت سنين بدور على حضن أمي،
وإنتِ كنتي هنا… كنتي شايفاني!
شايفاني مهزومة، بتكعبل، بعيط… وساكتة؟!
نادية (بدموع غزيرة):
– كنت كل يوم بموت، بس خايفة…
خايفة إنك متصدقنيش وتكرَهيني!
مريم (بانهيار):
– أنا كرهت الدنيا كلها!
كرهت نفسي، كرهت الناس، وكنت بفكر أهرب من كل دا…
بس ماكنتش أعرف إني كنت بهرب من حضن أمي الحقيقي…
إزاي قدرتي تسيبيني؟
إزاي قدرتي تسكتي؟!
نادية تنهار على ركبتيها وهي بتبكي بصوت خافت، ومدت إيديها لمريم
نادية: – والله ما كنت عايزة أسيبك!
كنت مسجونة، مظلومة، مقهورة…
كان نفسي كل يوم أشوفك، ألمسك، أقولك يا بنتي…
مريم تبص في عيونها، دموعها تنزل بغزارة، وشها مهزوز، وبتهمس:
مريم:
– بنتك؟
أنا فعلاً بنتك؟
نادية (وهي تهز رأسها بإيجاب وبدموع):
– أيوه… انتي دمي، انتي قلبي اللي كان عايش بعيد عني… روحي اللي خدوها مني
ضحى عايشه يا مريم، أنا ضُحى… رجعت علشانك.
مريم تقع على الأرض فجأة، كأن رجليها مبقتش شايلاها، تحط وشها في كفيها وتبكي بحرقة.
(حمزة يتعاطف مع مريم ويبكي بمرارة يقترب بخطوة، يحاول يطمنها، لكن بيحترم المساحة ويقف جنبها بس، من غير ما يلمسها)
منير بصوت مخنوق:
– سامحينا يا مريم… إحنا غلطنا في حقك كتير.
حميدة تبص للجميع، لأول مرة من غير تعالي، تبان في وشها الحسرة.
مريم ترفع راسها ببطء، تبص لنادية، وبصوت مكبوت تقول:
مريم:
– طب ليه؟
ليه يا ماما سبتيني…؟
ناديه ببكاء: علشان كنت ميتة وعايشة في نفس الوقت…
كنت بدعي لربنا يرجّعلي صوتك، وشك، حضنك…والحمد لله رجّعك ليا
مريم بتوجه نظرها وكلامها لحمزة:
مش مصدقة إني بنطق كلمة ماما، كنت بسألك يا حمزة هو الميت بيصحى، كنتي بتقولي بس تخيلي إنها رجعت حتى انت كمان كنت بتلعب بمشاعري
حمزة بتعاطف: عمري ما لعبت بمشاعرك، أنا هبقى أشرحلك كل حاجه، بس اللي عايزك تعرفيه إني في صفك للنهاية، وصدقيني أنا بسمع الحقيقة لأول مرة زيك، يمكن بس اكون سبب بسيط ان كل حاجه توضح وتلاقي والدتك، ولو مكانك دلوقتي هفضل بس في حضنها
نادية تقوم وتاخد خطوة بطيئة، وبهدوء تهمس:
نادية: ممكن تيجي في حضني يا مريم، نفسي اشم رحتك، ألمسك، اضمك ليا كأمك مش صاحبة الدار.
تجري مريم تحضن أمها وهي تبكي، لأول مرة من سنين، حضن أمها الحقيقي… حضن الحقيقة
_______
(حميدة تبكي في صمت، دموعها بتنزل على خدها بس من غير ولا كلمة…
لكن مفيش حد بيقرب، مفيش حد بيطبطب،
الجميع واقف، قلبه تقيل من الوجع…
وفجأة، نادية تبص لها، بنظرة حاسمة، صوتها هادي بس في داخله جبل من الألم)
نادية (بحدة هادئة):
– دموعك مش هتشيل عنك اللي عملتيه.
أنا مش محتاجة اعتذار…
ولا حتى تفسير تاني.
(تبص لمريم، وبعدين ترجّع نظرها لحميدة)
– إحنا عشنا سنين بنتعذب…
وأنتِ كنتي بتنامي في سريرك مطمنة.
مريم (بصوت مبحوح):
– مش عايزة أعرفك تاني.
مش عايزة أشوفك تاني.
خرّبتِ كل حاجة جوايا…
وأكتر حاجة بخاف منها…
إنك تفضلي حواليا.
حمزة:
– صدقيني يا ست حميدة…
أنا حاولت أفهمك…
لكن اللي عرفته خلاني مش قادر أبررلك أي حاجة.
نادية (بصوت قاطع):
– من اللحظة دي…
إنتِ مش جزء من حياتنا.
وأرجو إنك متحاوليش ترجعيلنا تاني.
الباب اللي اتقفل النهارده…
اتقفل للأبد.
(حميدة تفتح بُقها، بتحاول تتكلم، لكن قبل ما تنطق، منير يقوم بسرعة، يسندها من كوعها بلطف لكن بحزم، ويقول بصوته العميق، الهادي بس صارم):
منير:
– مش وقت أي كلام تاني يا أمي…
كفاية لحد كده.
سيبي الأيام تداوي اللي عملتيه…
ولو فعلاً جه يوم واتغيّرتي فيه…
قبل فوات الأوان…
يمكن… يمكن يحاولوا يسامحوكي.
بس أنا مش شايف إن ده هيحصل.
(يحضنها بإيده بحنية وقهر، وياخدها بهدوء ناحية الباب، وهي بتمشي ورا صوت خطواته كأنها فقدت كل سند…
تبص وراها لحظة، عينيها متعلقة بمريم، لكن مفيش رد…
مريم بصّة في الأرض، وإيد نادية بتشد على إيدها، كأنها بتقولها أوعي تخافي انا جنبك)
(الباب يتقفل بهدوء… وصوت الإغلاق بيحسم النهاية)
( ثلاثتهم واقفين: نادية، مريم، حمزة…
وجو المكان متغير… مش ارتياح، لكنه تنفس بعد خنقة سنين)
________
بعد أسابيع من الزحام والمواجع، هدأ كل شيء.
المفاجآت هدأت… والقلوب بدأت تلتئم.
مريم خلصت امتحاناتها، والبنات في الدار كانوا حواليها دايمًا، بين مصدوم وفرحان، مش مصدقين إن الست نادية… هي ضُحى، وإن مريم رجعت لحضن أمها.
لكن الأجمل من كل دا… إن مريم ما بقتش تفارق أمها أبدًا.
تمسك إيدها طول الوقت، تضحك معاها، تدمع فجأة وهي بتبص في عينيها…
زي طفلة اتسرق منها الحنان ورجع مرة واحدة.
_______
اليوم المنتظر…
يوم كتب كتاب حمزة ومريومة
الدار كلها اتزيّنت، البنات بيزغردوا، والضحكة مرسومة على وشوش الناس اللي كانوا شهود على الحكاية دي من أولها.
مريم كانت لابسة فستان أبيض بسيط، برقّتها، خجلها، ونورها اللي مالي المكان.
وحمزة واقف قدامها، عيناه متعلقة بوجهها.
بعد ما كتبوا الكتاب، وساد الهدوء للحظة، قرب منها، بصوت واطي وابتسامة مالهاش وصف:
حمزة (بصوت دافي):
“مش عارف أقولك إيه…
كل اللي أعرفه إني من يوم ما شُفتك،
قلبي اتعلق بيكِ قبل ما أعرف اسمك حتى.
كنتِ خايفة، ضايعة… بس في عيونك كان في نورخلاني أعرف إني لازم أكون مسؤول عنك.
مش بس مسؤول… لأ
أنا خُُلقت علشان أحميكِ… وأكمل بيكِ الطريق.”
(مريم تنزل عينيها في خجل، وبعدين ترفعها بهدوء، تبص له نظرة كلها حب وامتنان)
مريم (بصوت ناعم، فيه رجفة فرحة):
“وعُمري ما حَسّيت بالأمان…
إلا وانت جنبي، دعْمك ليا كان الحبل اللي مسكني في عز الغرق…
كان هو توق النّجاة…
وانت… كنت النّجاة نفسها.”
(حمزة يبتسم، يمسك إيدها بلُطف، وعيونه تلمع)
حمزة: “وأنا مش هفلت إيدك أبدًا.”
بحبك يا مريومة قلبي
مريم بخجل: بحبك يا حمزة
نظرة بينهم… فيها وعد بالحياة، الحياة اللي بدأت فعلاً… بعد ما افتكروا إنها انتهت.
“في حضن الغرباء… وجدت مريم الوطن، والحب، والحنان، وكتبت لنفسها بداية لم تكن في الحسبان… بداية بطلها مش فارس من الحكايات، لكن راجل علّمها إن الحماية مش بس سكن… دي حضن أمان بيرجع فيه القلب ينبض بالحياة من تاني”
“ولما حسبت نفسها ضايعة… لقت حضن بيرجّع الروح، ووش بيقولها: لسه في حب بيخلقنا من جديد”
“ومع نهاية الطريق، لم تكن مريم كما بدأت… بل صارت امرأة خُلقت من الرماد، واحتضنها القدر كما تحتضن الأم وليدها، لتدرك أن الغرباء أحيانًا يكونون هم الوطن، وأن الحب الحقيقي لا يُولد فجأة، بل يُبنى نبضةً نبضة… حتى يصير نجاة.”
“بعض القلوب لا تأتينا صدفة، بل تُهدى إلينا من رحم الألم… لتمنحنا حياة جديدة، تشبه الحلم، وتُشبهنا”
تمت.
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية في حضن الغرباء)
____
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)