رواية في حضن الغرباء الفصل السابع 7 بقلم أمل عبدالرازق
رواية في حضن الغرباء الفصل السابع 7 بقلم أمل عبدالرازق
البارت السابع
داخل سيارة حمزة
(الشارع فاضي نسبيًا، ضوء الغروب بيتمدد على الأسفلت.
حمزة سايق بهدوء، إيده على الدركسيون، ونظراته مشغولة في الفراغ. العربية فيها هدوء شبه تام، إلا من صوت المكيف الخفيف.)
حمزة (بصوت داخلي):
“خلاص… كل حاجة عدّت النهارده. اللجنة خلصت، الأمن فهم، والورق اتسلم، والبنت خرجت سالمة.
مريم عدّت من النار… بس اللي جاي؟ اللي جاي محتاج أكتر من حراسة.”
(يمد إيده للجنب، ياخد موبايله من التابلوه… يفتحه، لكن يظهر تنبيه: “البطارية فارغة… جاري الإغلاق.”)
حمزة (يتنهد):
“تمام… طبعًا هيفصل دلوقتي!
كنت عايز أطمن إنهم وصلوا بالسلامة.”
(يبص بسرعة على التابلوه الجانبي، يفتكر إن موبايل مريم معاه… ياخده، يضغط الزر الجانبي، والموبايل يفتح.)
حمزة (بصوت داخلي):
” كويس إنها نسيته معايا انا خدته منها قبل اللجنة… عشان كان ممنوع.
تمام… مضطر افتحه واشوف لو في رسالة من نادية… أو أي مكالمة تفيدني.”
(قبل ما يلمس أي حاجة، الموبايل فجأة بيرن.
رقم غريب… من غير اسم.
يتردد لحظة، وبعدين يرد.)
حمزة لسه هيقول ألوو لكن يتفاجئ بصوت ست كبيرة… متقطع، غامض، مألوف بشكل مزعج)
حميدة (بنبرة فيها سمّ هادي): “كنتِ فاكرة إنك خلّصتي؟
بتستخبي؟
بتغيّري هدومك؟
بتعملي حركات؟
أنا ست مش سهلة يا مريم…”
(حمزة يتجمد في مكانه… عنيه تتسع، وإيده على الدركسيون بتشد فجأة)
حميدة (تكمّل، بصوت أبطأ وأبرد):
“بس المرّة دي… مش هزعّق، ومش هعيّط…
المرّة دي هقولّك الحقيقة اللي عمرك ما كنتي هتتخيليها…
أمّك…
أمّك يا مريم…
عايشة.”
(ثم… تُغلق المكالمة.
حمزة يفضل ماسك الموبايل على ودنه لحظات، مش قادر يتحرّك.)
حمزة (بصوت هامس، وهو بيكرّر الجملة):
“أمّها… عايشة؟”
(العربية تميل فجأة ناحية الرصيف، صوت فرامل مفاجئ يصرخ في الشارع، الكاوتش بيصرخ… حمزة يشد الدركسيون بسرعة، قلبه بيدق، بس يلحق يعدّل العربية. يقف على جنب، يتنفس بقوة)
حمزة (يضرب الكرسي بقبضته): “حرام…
حرام كل اللي بيحصل دا!
هو فيه قسوة كده؟
هو لسه في ناس بتعذّب حد بالشكل دا؟
مريم… يا مسكينة…
هقولك إيه؟
هقولك إن اللي كنتِ مفكراه قبر طلع فاضي؟
ولا إن كل الهروب اللي هربتيه كان من كذبة؟”
(يسند راسه على المقود، يحاول يهدّى، بس ملامحه فيها غضب، قهر، وخوف على مريم)
حمزة (بصوت منخفض لكنه حاسم):
“لازم أعرف الحقيقة… كلها.
ولازم مريم تعرفها… من اللي بيحبها، مش من اللي كسرها.”
________
داخل دار الفتيات – مساء نفس اليوم
(البيت هادي، والجو دافي. الباب يُفتح بهدوء، وتدخل مريم ببطء، لابسة العباية الرمادية، ووشها مغطى جزئيًا بالنقاب. نادية وراها، تعبانة لكنها مطمئنة.)
(أول ما تدخل، تتلمّ عليها البنات بسرعة،
لطيفة وفتون، عيونهم مليانة لهفة وقلق وفرحة بعودتها.)
لطيفة (تجري عليها): مرييييم!
أنتي كويسة؟!
كنّا قلقانين عليكِ جدًا!
فتون (وهي بتحضنها): قوليلي، حصل إيه؟
دخلتي؟
حد شافك؟
وشك مرعوب أوي…
(مريم واقفة في النص، بتحاول تبتسم، بس باين عليها التعب والضغط النفسي. تشيل النقاب، وبصوت مرهق لكنها بتحاول تبان ثابتة)
مريم: دخلت…
وكتبت.
كنت مرعوبة… بس كتبت، لكن حقيقي عشت يوم صعب أوي
(البنات يفضلوا يبصوا لبعض، وساكتين لحظة)
فتون: يعني فعلاً قدرتي؟
رغم كل اللي كان بيحصل؟!
مريم (تهز رأسها): آه…
ساعدوني ناس ماكنتش أتخيل إنهم هيقفوا في ضهري بالشكل دا.
حمزة… نادية… وبنت اسمها سعاد…
وحتى عمي منير… كان موجود.
كل واحد وقف في مكانه عشان أوصل لورقتي.
لطيفة (بدموع): وأنتِ… كنتي قدها.
مريم: ماقدرش أقول إني كنت قوية…
كنت بخاف في كل لحظة.
بس كنت عايزة أكمّل،
مش عشان أنجح بس…
عشان أحس إني موجودة.
فتون (بصوت منخفض): وإبراهيم قريبك؟
مريم: اتمسك… بس لسه مافيش أمان.
الخوف مش من الناس…
الخوف من اللي جاي.
(يسود صمت لحظة، كل واحدة فيهم بتحس إن في حاجة أكبر من مجرد امتحان.)
لطيفة: فيه حاجة تانية حصلت؟ وشك مش مطمّن…
مريم (بنبرة مخنوقة): حاسه إني عامله توتر للكل وكمان مش عارفه هعمل إيه في الامتحان اللي بعد يومين
نادية (تقرب وتحط إيدها على كتف مريم):
المعركة لسه ما خلصتش يا مريم…
بس إحنا معاكي، لحد آخر خطوة.
(مريم تهز راسها، تحاول تقاوم دموعها، لكنها تنزل غصب عنها… تتسند على لطيفة، وتهمس بصوت مرتعش)
مريم: أنا… تعبت أوي.
فتون (بحنان):
طب تعالي ارتاحي… احنا جنبك، اسندي علينا.
(المشهد ينتهي بلمّة البنات حواليها، في صمت دافي… الكل بيحاول يطمن الكل.)
_________
منزل حميدة – بعد رجوع منير من الكلية
(منير بيدخل البيت، خطواته تقيلة، ملامحه مشوشة وتعبان من اللي حصل. بيخلع الجاكيت بتاعه، يلاقي مراته مستنياه في الصالة، عينيها فيها قلق.)
زوجة منير (بقلق): أخيرًا جيت، مكنتش بترد على الموبايل ليه…
إحنا قلِقنا عليك.
إنت كويس؟ شكلك متوتر!
منير (وهو بياخد نفس عميق): أنا كويس…
ماما فين؟
زوجته: من ساعة ما رجعت وهي قافلة على نفسها في الأوضة…
شكلها متعصبة ومش طايقة تكلم حد.
(منير يهز راسه، واضح عليه إنه فاهم.)
منير (بنبرة شبه حزينة): فاهم…
عارف هي متعصبة ليه.
(يمشي بخطوات تقيلة ناحية أوضة حميدة. يخبط مرتين، وبعدين يفتح الباب بهدوء.)
داخل غرفة حميدة
(حميدة قاعدة على طرف السرير، وشها باين عليه الغضب والتفكير، ماسكة الموبايل في إيدها وبتحركه بعصبية. أول ما تشوف منير، ترفع عينيها ليه.)
حميدة (بحدة): عايز إيه؟
منير (يقرب): عايز أعرف…
عملتي إيه النهارده؟
بعتّي إبراهيم يعمل دوشة، مش عايزه ترحميها ولا ترحمينا ليه؟
ليه يا أمي؟ ليه كل ده؟!
حميدة (بغضب مكتوم): يعني كنت عارف إنها جايه تمتحن… وساكت؟
بتداري عليا؟
ومش بس كده… ساعدتها كمان؟!
منير (يرد بعصبية حقيقية): أيوه… عارف.
وعملت اللي ضميري قالّي عليه.
إنتي عايزاني أعمل إيه؟
أتفرّج عليها وهي بتضيع آخر سنة من دراستها؟
أقف في وش مستقبلها؟
ليه؟ عشان حضرتك “زعلانه” منها؟
ولا عشان عايزة ترضي غرورك وتنفذ أوامرك؟
(حميدة تسكُت لحظة، نظرتها فيها غضب، لكن مكسور)
منير (يكمل بانفعال): البنت عايشة في رعب بسببنا! خايفة من كل حاجة…
الشارع، الامتحان، اسمها، صورتها…
كل ده وأنتِ لسه بتلعبِي دور الحاكمة؟
لو كنتي كملتي معاها كويس… كانت رجعت،
وكان البيت دا بقى دافي، لكن لا البيت دا اي حد هيدخله هتصيبه لعنة.
(يقرب منها، صوته يعلى شوية)
منير: تبعتي إبراهيم، اللي أصلاً مش متّزن، يعمل دوشة وفضايح قدام الكلية!
إبراهيم دا لازم يرجع لأهله في البلد فورًا.
سيباه لينا هنا ليه؟!
هتجوزيه لمريم؟
على جثتي بقى!
حميدة (بحدة): خلاص؟ بقيت تزعقلي؟
وبتقرر عني؟
وانت نفسك كنت ساكت طول السنين!
منير (بمرارة): كنت ساكت من زمان… آه.
بس خلاص.
اللي شوفته النهارده خلاني أصحى من غيبوبة السنين.
أنا شايف الحقيقة بعيني.
(ياخد نفس عميق ويحاول يهدى، لكن نبرته بتفضل قوية)
منير: أنا هلاقي مريم…
وهبعدها عن هنا،
عن القسوة اللي بتسميها “تربية”،
عن الخوف اللي لبستيه ليها من وهي طفلة.
حميدة (بصوت خافت مليان غموض):
مريم هترجع…
هترجع عشان تعرف أمها فين.
(منير يتجمد، عينه تتوسع، كأنه اتخبط)
منير (بصوت منخفض): يعني قلتي لها؟
دلوقتي؟!
في عز الامتحانات؟
ليه يا أمي؟!
أنا كنت ناوي أقولها…
بس بعد ما تخلص، لما تستقر، لما تبقى مستعدة!
(صوته يرتفع وهو مش مصدق)
منير: إيه يا أمي… مش خايفة من ربنا؟
إزاي جدتها وتعذبيها كدا؟
أوعي تضحكي على نفسك وتقولي “بحميها”.
إنتي مش بتحميها…
إنتي بتكسريها، بتعيدي نفس اللي عملتيه مع أبوها، لما خسرنا أخويا بسبب تسلطك…
دلوقتي هتخسري مريم كمان.
(ياخد نفسه وبيقولها الكلمة الأخيرة بنبرة حاسمة)
منير: أنا هاخد عيالي…
وهبعد.
وهسحب مريم من الدوامة دي…
ومش هسمح لحد تاني يكسرها.
(يسيب الأوضة ويقفل الباب وراه…
وحميدة قاعدة، عينيها فيها دمعة متحجرة،
بس لسه رافضة تعترف بالهزيمة.)
_________
بعد منتصف الليل
(باب الفيلا الكبير بيتفتح بهدوء، يدخل حمزة بخطوات بطيئة، جسمه منحني شوية، ووشه شاحب كأن روحه مش معاه. في إيده مفتاح العربية، بيلعب بيه بعصبية، وبيحاول يبان طبيعي… لكن ملامحه فاضحة.)
(صوت خطوات تنزل من فوق، ويظهر معتصم، أخو حمزة، لابس بيجامة بيت، ووشه عليه علامات قلق.)
معتصم (بيقف على أول درجة في السلم، وبصوت فيه حنية):
“حمزة؟
إيه دا… شكلك عامل كده ليه يا حبيبي؟”
(حمزة يرفع عينه له، يبلع ريقه، وعينه فيها حزن وسواد ما يتداراش.)
حمزة (بصوت مرهق ومنكسر):
“أصعب إحساس في الدنيا… الظلم.”
(معتصم يسرع ناحيته، يقرب ويشيل المفتاح من إيده، وياخده بلُطف للكنبة.)
معتصم:
“تعالى اقعد…
فهمني، في إيه؟
وشك أصفر، وعينك فيها وجع مش طبيعي.”
(حمزة يقعد، يسند ضهره على الكنبة، ويغمض عينه لحظة كأنه بيحاول يصدق اللي حصل.)
حمزة (بنبرة مبحوحة):”لك أن تتخيل…
تبقى أمك عايشة…
وانت متعرفش.”
(معتصم يتجمد لحظة، عينه تتسع بصدمة)
معتصم:”إيه؟!
بتقول إيه يا حمزة؟!”
حمزة (بصوت محروق):
“وأقرب الناس ليك… اللي المفروض بيحبّوك…
يخبّوا عليك سنين، والقدر القدر يختارني أنا…
أنا اللي أقع في الحقيقة، وأبقى شايل سر تقيل مش عارف أواجه بيه حد.”
(معتصم يقرب منه، صوته بقى أهدى لكنه مهزوز) معتصم:
“مين؟
إنت قصدك على مين؟”
(حمزة يرفع عينه ليه، وعينه تتملى دموع مكبوتة)
حمزة:
“بنت…
بنت شبه النور.
جميلة… بس مش بالجمال اللي بيتشاف، لا…
جمال قلبها، طيبة نظرتها، وشها وهو بيخاف…
اسمها مريم.”
(ياخد نفس، صوته يرتعش وهو بيكمل)
حمزة:
“مريم دي…
عايشة في كذبة من وهي طفلة…
مصدقّة إن أمها ماتت…
وبتبكي على قبر وهمي…
وبتدور على حضن ملوش وجود…
وأمها… أمها يا معتصم…
عايشة.”
(معتصم بيندهش، ويقرب أكتر ويحط إيده على ركبة حمزة)
معتصم (بهمس):
“مين اللي عرفك بالحكاية دِ؟
عرفت إزاي؟”
حمزة:
جدتها.
قالتها بصوت بارد، كأنها بترمي قنبلة وسايبة الدنيا تولّع.
قالتها في مكالمة وأنا ماسك موبايل مريم…
قالت: “أمّك عايشة”. وما كملتش.
قفلت السكة، وسابتني غرقان في سؤالي…
أقولها؟ ماقولهاش؟
أدور؟ أسكت؟
أنا مش عارف… مش عارف أبدأ منين.”
(لحظة صمت تقيلة تملى المكان، معتصم يفضل ساكت، بيفكر)
معتصم (بهدوء):
“بس في حاجة واحدة أنا عارفها كويس…
إنك مش ممكن تسكت.
مش أنت يا حمزة اللي تشوف حد مظلوم وتسكت.
(حمزة يدفن راسه بين إيديه، ويتنهد تنهيدة طويلة)
حمزة:
“أنا مش خايف من الحقيقة…
أنا خايف عليها.
أنا خايف الحقيقة تكسرها بدل ما تنقذها.”
(معتصم يقف، ويقول بهدوء وعين فيها أخوته كلها)
معتصم:
“يبقى دورك تحضّرها…
تسندها قبل ما توقع.
وأنا جنبك…
زي ما دايمًا كنت معايا.”
(حمزة يرفع راسه ليه، وابتسامة باهتة ترتسم على وجهه، والدموع في عينه، لكنه ساكت…
لأول مرة من ساعات، حس إن في ضهر حقيقي وراه.)
________
(منتصف الليل في دار الفتيات. الغرفة ساكنة، كل البنات نائمات، وضوء القمر بيتسلل من الشباك.كانت مريم مستلقية على ظهرها، عيناها تحدّقان في السقف، لكن روحها تحلّق بعيدًا.
الكلمة الوحيدة التي ظلت تتردّد في ذهنها…
” أنا ليه بيحصل معايا كل دا، نفسي في حضن أمي يحتويني وقلبي يرتاح لو لثواني”
سؤال يجرّ خلفه مئة سؤال، ودمعة تسيل على خدها دون أن ترفع يدها لمسحها.
أغمضت عينيها… وسمحت لعقلها أن يسرح، لحلمٍ لم تجرؤ يومًا على تصديقه.
الحلم
ضباب أبيض…
الهواء ناعم، والسماء زرقاء صافية، وحقول خضراء تمتد بلا نهاية.
مريم تقف وحيدة، ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، وقدمها تغوص في عشب ناعم كأنه وسادة.
تسمع صوتًا يناديها…
هادئ، حنون، مألوف بطريقة موجعة.
الصوت: “مريومة…”
تلتفت فجأة.
وترى امرأة تقف على بُعد خطوات.
ملاكٌ بلون القمح، شعرها طويل ومنسدل، وعيناها تشبهان انعكاس قلب مريم.
مريم (بهمس): “إنتِ مين؟”
المرأة تبتسم، تمدّ يدها…
وتهمس: “أنا حضنك اللي اتسرق منك.”
تقترب مريم، لكن كلما خطت خطوة…
تتراجع الأرض، وتصبح المسافة أطول.
المرأة تلوّح، تذوب ملامحها تدريجيًا، وتهمس:
“مش دلوقتي… لكن قُريب.”
وفجأة…
الضباب يزداد، والصورة تختفي، ويتردد في الهوا صوت أشبه بنبض قلبها.
(مريم تصحى)
تفزع من النوم، تعبانة، وعينيها مليانة دموع مش فاهمة ليه.
تبص حواليها، الكل نايم…
تحط إيدها على قلبها، وتهمس:
“أنا حلمت بإيه؟
الصوت دا…
كان بيحبني.”
(تسند ضهرها على الحيطة، تبص في السقف، كأنها بتحاول تفتكر أكتر…
بس مفيش غير إحساس غريب، وموجة شوق ما تعرفش مصدرها.)
تمد يدها لتبحث عن كوب الماء، لكن إيدها ترتجف.
ثم تهمس لنفسها، وهي بتشد الغطا عليها:
“نفسي أعرف… أمي كانت عاملة إزاي.”
“أحيانًا… ما نظنه نهاية، ما هو إلا بابٌ ظلّ مواربًا ينتظر الحقيقة لتمرّ.”
________
مساء اليوم التالي – أمام دار الفتيات
(العربية السودة واقفة بهدوء قدام الدار. حمزة نازل منها، لابس كاجوال بسيط، وشه باين عليه الإرهاق، بس في عينه إصرار.)
(يدخل الاستقبال، تقابله مدام نادية بابتسامة خفيفة.*
حمزة (بلطف):
مساء الخير يا مدام نادية، عايز أتكلم مريم بخصوص الامتحان الجاي، ممكن تعرفيها؟
نادية (تنظر له بتركيز):
هي كانت لسه بتذاكر… بس هندههالك.
(بعد لحظات، تظهر مريم من نهاية الطُرقة، لابسة حجاب بسيط وعباية بلون رمادي. باين عليها إنها تعبانة، بس بتحاول تبان ثابتة.)
مريم (بهدوء):
مساء الخير، حضرتك عامل إيه؟
حمزة (يبتسم بخفة):
الحمدلله بخير، تسمحيلي نطلع برا شوية
عايز أكلمك عن الامتحان اللي جاي.
(مريم تبص لمدام نادية، واللي تديها إشارة بالموافقة.)
مريم: حاضر بس من فضلك مش عايزه اتأخر وياريت يكون مكان عام، ومش هركب معاك السيارة
حمزة: أكيد، المكان قريب من هنا
—
بعد ربع ساعة – الكافيه اللي شافها صدفة
(الهواء خفيف، والمكان شبه هادي. نفس الطاولة اللي قعدوا عليها قبل كدا… بيقعدوا، وبيطلبوا عصير وبرتقال.)
حمزة (وهو بيرفع حاجبه بابتسامة):
مش ناسية حاجة مهمة؟
مريم (بصوت شبه ساخر):
موبايلي؟
آه… معاك، بس وجوده زي عدمه، أنا مش متعلقة بيه أوي.
(حمزة يهز راسه بخفة، وبعدين يدخل في الموضوع مباشرة)
حمزة:
كنت بسأل نفسي طول الليل… إزاي عدّيتي اليوم دا.
أخبارك إيه دلوقتي؟ بتذاكري؟ مستعدة؟
مريم (تتنهد): بحاول…
بس كل مرة بمسك الورق، بلاقي قلبي بيخبط من الخوف.
مش عايزة أتعبك معايا أكتر من كده، أنت عملت فوق طاقتك.
حمزة (بهدوء وحزم):
مافيش اي تعب
بس في حاجة كنتِ وعدتيني بيها، وآن الأوان… تحكيلي
(مريم تسكت لحظة، تبص في الكوباية اللي قدامها، وبعدين ترفع عينيها ليه. صوتها يبقى هادي لكنه مليان وجع)
مريم: جدتي حميدة… ست قوية، بس قاسية.
كل حاجة عندها أوامر… صراخ… أو سكوت مؤلم.
ماكنتش بحس بالأمان لحظة.
ومن وأنا صغيرة وهي مصمّمة تجوزني لابن عمي إبراهيم… شخص همجي، مبيفهمش، عصبي طول الوقت، وسايب أهله وعايش معانا كأنه صاحب البيت.
حمزة:
وأهله؟
مريم:
عمي أبو إبراهيم عايش في دمياط عشان شغله…
مش فاضي، ولا فارق معاه أنا عايشة إزاي، ولا ابنه عامل إيه.
حمزة : وأبوكِ؟
مريم (تخفض نظرها):
بابا توفى من فترة مش بعيدة…
بس الحقيقة… عمره ما كان مرتاح.
كنت بشوفه ساكت كتير… حزين…
وكتير يسيب البيت بالأيام، وكأنه بيهرب.
حاسه إنه كان شايل سر، بيخبيه عني.
حمزة (بصوت أهدى): الله يرحمه، ووالدتك فين…؟
مريم (نبرة صوتها تضعف): بيقولوا ماتت وأنا صغيرة…
مافيش عندي منها غير صورة واحدة…
بتجمعها هي وبابا، صورتها كانت كل أملي…
وكل اللي فاضللي منها.
حمزة بهدوء: ينفع أشوف الصورة؟
(مريم تطلع الصورة من محفظتها الصغيرة، تمدها بحذر.
حمزة ياخدها، يبص فيها بتركيز، عينه تتحرك على تفاصيل وجه المرأة.)
(يسكت لحظة، وبعدين يرجع الصورة بلطف)
حمزة: تخيلي معايا يا مريم…
لو والدتك… طلعت عايشة.
هتعملي إيه؟
(مريم تتجمد لحظة، وبعدين ترد بنبرة فيها خليط من الأمل والحزن)
مريم: هتبقى أجمل حاجة حصلتلي…
هقول إن أخيرًا الأيام ضحكتلي.
هلاقي حضن يحتويني…
وإيد حنونة تطبطب عليا…
ونظرة تطمني…
بس مستحيل… هو الميت بيصحى؟
(حمزة يسمعها بصمت، عينيه بتلمع، لكنها ما بتلاحظش)
حمزة (بصوت هادي): طب… لو كانت موجودة فعلاً؟
ماشوفتهاش طول السنين دي…
وظهرت فجأة،
هتعملي إيه؟
مريم (بنظرة عدم فهم): حضرتك… بتقول كده ليه؟
إنت… بتوجعني بكلامك.
أنا أمي متوفية…
(حمزة يغمض عينيه لحظة، وبعدين يستدرك بصوت مبحوح)
حمزة: أنا كمان أمي متوفية على فكرة…
وعشان كده حاسس بألمك.
وبتخيل معاكي.
(يسكت لحظة… وبعدين يكمل)
حمزة:ولو أمي ظهرت فجأة…
هفضل في حضنها، وهسامح الزمن والناس واللي بعدوني عنها…
وهكتفي بس بوجودها.
(مريم تبصله، صوتها يترعش)
مريم: مش هكذب عليك…
أنا كمان هعمل كده.
بس هعاتبها…
هقولها كنت بفضل أتخيلك كل يوم…
واسأل نفسي: يا ترى فيا ملامح إيه منك؟
كنتِ هتحبيني؟
كنتِ هتحميني؟
ليه سيبتي بنتك تعاني كل ده لوحدها؟
(صمت طويل بينهم، صوت المروحة بيدور بهدوء ، وعين مريم تلمع لمجرد تخيلها ان أمها موجودة، لكن حمزة تايه ومحتار ومش عارف يتصرف إزاي)
(حمزة يلمح بعينيه الصورة تاني، لكن يسكت. قلبه بيقول قولها، بس لسانه ساكت…)
(ينطق أخيرًا: “لو كان في فرصة… تعرفي أكتر عن والدتك… تحبي؟”)
“أصعب الأقدار… حين تكتشف أن كل ما بنيته من شعور، كان فوق أرضٍ من كذب”
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية في حضن الغرباء)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)