رواية اسيرة القاسي كاملة – جميع الفصول في مكان واحد | بقلم شروق مصطفى
رواية اسيرة القاسي كاملة – جميع الفصول في مكان واحد | بقلم شروق مصطفى
رواية جمر الجليد هي واحدة من أقوى الروايات الإلكترونية التي تم نشرها في الأشهر الأخيرة، وهي رواية تجمع ما بين الرومانسية والدراما بشكل قوي جدًا، ومن تأليف الكاتبة المميزة شروق مصطفى ونوفرها لكم اليوم كاملة للقراءة في صفحة واحدة على موقعنا حتى تستمتع بقراءتها كاملة بدون إعلانات، ويمكنك أن تخبرنا في التعليقات إذا أردت أن نوفر لك الرواية كاملة للقراءة والتحميل على هاتفك بصيغة pdf

اقرأ ايضًا:
رواية اسيرة القاسي الفصل الأول
اختفى طفلان من أمام منزلهما أثناء اللعب، لتتكرر مأساة مشابهة وقعت في نفس الحي سابقًا. التساؤلات تتزايد: هل أصبحوا ضحايا لعصابات تتاجر بأعضائهم؟ ولماذا تتوالى حوادث اختفاء الفتيات أيضًا؟
التحقيقات أسفرت عن أدلة وصور قادت إلى مجموعة خالية من الإنسانية، وتم القبض عليهم. نطالب بإعدام كل من تسبب في أذى لهؤلاء الأبرياء.
الخطر قريب، تحركوا قبل فوات الأوان.
بقلم (س.م)
وضع الأستاذ أحمد المقال جانبًا ونظر إلى سيلا قائلاً: “مقالك قوي يا سيلا، لكن فين الدليل والصور؟”
أخرجت سيلا مجموعة أوراق وصور، وقالت: “اتفضل يا فندم، دي نسخ من المحاضر، صور للجناة، وتسجيل مع ممرضة شافت حاجات مريبة. الدكتور كان بيقفل غرفة بجنزير وما يفتحها إلا لما العيادة تفضى. في مرة شافته فاتح الغرفة ومرتبك، وشمت ريحة غريبة. بعدها شافته بيتكلم في التليفون عن تجهيز الأدوات، وانتظرت برا. صورت ناس شايلة بنت فاقدة الوعي، وبعدها بشوية نزلوا بصندوق وشوال.”
أكملت بثقة: “العيادة اتقفلت بالشمع الأحمر، والطبيب اتحبس، ولسه باقي الجناة هاربين. كل الدلائل والصور والتسجيلات موجودة مع المقال.”
نظر أحمد للأوراق وقال بإعجاب: “شغلك ممتاز… المقال ده هيكون حديث الجميع!”
ابتسم أحمد وهو ينظر إلى سيلا قائلاً: “شغلك رائع يا سيلا، لكن أنا قلقان عليك. المعلومات اللي بتجيبيها خطيرة، وانتي بتواجهي ناس ممكن يكونوا خطرين جدًا. أنا خايف يحطوكي في دماغهم، انتي مش بس صحفية، انتي بتحققي بنفسك.”
ردت سيلا بابتسامة واثقة: “متقلقش يا فندم، ده شغلي، وبعدين أنا مش بكتب اسمي. الحمد لله إحنا مع الحق، وربنا بينصر الحق دائمًا.”
سيلا، فتاة في الخامسة والعشرين، خريجة إعلام قسم صحافة، ذات شعر قصير ووجه دائري. كانت مرحة ومفعمة بالحياة، لكن صدمة مؤلمة جعلتها تنعزل عن الناس وتفقد براءتها. أصبحت أكثر قوة وعنفًا، وكرست حياتها لهدف غامض… سنكتشفه مع الأحداث.
نظر أحمد إلى سيلا وقال: “مش عارف أقولك إيه، بس خلي بالك يا سيلا.”
ابتسمت بثقة: “إن شاء الله، يا فندم.”
ثم أكمل بجدية: “المقال هايل، وانتي من أكفأ الصحفيين عندي.”
ردت بفرحة: “متشكرة جدًا على ثقتك يا فندم.”
تمت طباعة المقال، وانتشر كالنار في الهشيم، محدثًا ضجة كبيرة.
في صباح اليوم التالي، استدعاها المدير على عجل. دخلت المكتب وقالت: “نعم، يا فندم، طلبتني؟”
أشار لها أن تجلس وقال: “جاهزة للسبق الجديد؟”
ردت بحماس: “أكيد، يا فندم، هتكلم عن إيه المرة دي؟”
ابتسم قائلاً: “مش هلاقي حد أكفأ منك لتغطية الموضوع ده.”
أجابته بثقة: “يشرفني أكون عند حسن ظنك.”
.بعد صمت قصير، قال أحمد: ، افتتاح فرع جديد لأكبر شركات السياحة. الشركة دي عالمية ولها فروع كتير، وهيفتتحوا فرع جديد في الغردقة.”
تفاجأت سيلا وقالت باندهاش: “بس يا فندم، ده مش تخصصي وأنا…”
قاطعها بسرعة قائلاً: “الصراحة مش هلاقي حد أحسن منك، وكمان هتغيري جو في الغردقة!” ثم ضحك وأضاف بلهجة آمرة: “معندناش وقت، لازم تجهزي، السفر بكره، والافتتاح بعد بكره.”
حاولت السيطرة على غضبها وأجابته: “تمام يا فندم، ممكن آخد مي معايا؟”
فكر أحمد للحظة ثم قال: “خديها معاكِ.”
سيلا أجابت بامتنان: “شكرًا يا فندم، بعد إذنك.” وغادرت مكتبه بتأفأف.
أحمد كان يعتبر سيلا مثل ابنته، ولم يرغب في إخبارها عن السبب الحقيقي وراء سفرها إلى الغردقة. ثم عاد إلى عمله.
التقت سيلا بصديقتها مي بعد خروجها من المكتب، ولاحظت مي أنها تبدو مشوشة فقالت: “مالك، مقلوبة ليه كده؟”
تنهدت سيلا بضجر: “اسكتي، مش طايقة نفسي بجد. بعتوني أغطي افتتاحية شركة سياحة جديدة! أنا مالي بشركات السياحة؟ أنا بكتب عن جرايم القتل والتحرش والاغتصاب، مش سياحة.”
ثم توقفت وقالت: “المهم، عاوزاكي معايا. مش هروح لوحدي الغردقة دي.”
تفاجأت مي من كلامها وصرخت: “الغردقة؟ مش طاايقه نفسك؟ والله وش فقر! اطلعي وفكي شوية، حرام الضغط اللي عاملاه لنفسك ده!”
لم ترد سيلا، لكنها قالت بغضب: “هتيجي معايا ولا أروح لوحدي؟”
أجابت مي ضاحكة: “طبعًا جايه معاكِ.”
سيلا قالت: “تمام، جهزي نفسك، هنسافر بكره من الفجر.”
مي ضحكت وقالت: “استني أروح أستأذن من أستاذ أحمد، وبعدين نمشي سوا.”
مي، التي هي بنفس عمر سيلا، لكن شخصيتها مرحة ومجنونة، كانت قد تخطت الأزمات التي مرّت بها سيلا، وعادت لحياتها الطبيعية بسرعة.
في مكان آخر، كان الشخص يجلس يدخن السجائر بشراهة، بينما كان أمامه شخص آخر يقدّم له ورقة.
قال المجهول الأول: “امسك العنوان ده. عاوزك تعرفلي كل اللي شغالين في المخروبه دي، وتجيبلي كل حاجة عنهم!”
أجاب الشخص الآخر: “اعتبرها حصلت يا باشا.”
ثم صرخ المجهول الأول بصوت جهوري: “غور بقى من قدامي! قدامك 24 ساعة تكون كل حاجة عندي، فاهم؟”
رد الشخص الآخر بخوف: “حاضر، حاضر يا باشا.”
مغادرًا، خرج الشخص الآخر وهو يركض بسرعة، في حين أخرج المجهول الأول نفسًا عميقًا من الدخان الذي ملأ المكان، ثم همس قائلاً: “قريب أوي هعرفك!”
..
في مكتبه، جلس عاصم الخولي يراجع الأوراق أمامه بينما كان المحامي ومعتز يجلسان بالقرب منه.
توجه عاصم للمحامي وقال: “جهزت العقود؟ وكيل الفرع الجديد على وصول؟”
أجاب المحامي: “كل شيء تمام، والعقود جاهزة.”
دون أن يرفع نظره عن الأوراق، رد عاصم: “عملت اللي قولتلك عليه؟”
أجاب المحامي: “تمام، زي ما أمرت بالضبط.”
أشار عاصم للمحامي ليغادر، ثم نظر إلى أخيه معتز الذي تساءل: “إيه اللي قولت له عليه؟”
معتز، في الخامسة والعشرين، خريج تجارة ويدير الشركات مع أخيه وابن عمه. بشرة قمحي وعيون بنيّة، معروف بغروره وعنادته، ويأخذ في حسبانه أخاه الأكبر الذي يهابه الجميع.
لم يلتفت عاصم لمعتز ولم يقدم له مبررات، فاستمر في مراجعة أوراقه. ثم نظر إلى ساعته وقال: “يلا بينا.”
تنهد معتز، وشعر أن عاصم يخطط لشيء ما لكنه لن يفصح عنه. ثم توجهوا معًا إلى غرفة الاجتماع، حيث وقع الوكيل الجديد عقد استلام الفرع الجديد في الغردقة.
عاد عاصم إلى مكتبه وأبلغ السكرتارية بسفره طوال الأسبوع، وطلب تحويل المكالمات والمقابلات لمعتز. ثم قرأ إحدى الخواطر في الصحيفة:
“من المؤسف أن تبحث عن الصدق في عصر الخيانة، وعن الحب في قلوب جبانة. ابحث عن الرجل في داخلك إن كنت ترغب في بث روح الرجولة في الآخرين.”
ابتسم عاصم لهذه الخواطر بتهكم، ثم جمع متعلقاته وجهز شنطته للسفر. بينما ظل معتز في مكتبه يكمل بعض الحسابات قبل أن يلحق بأخيه.
غادرت سيلا ومي الجريدة، وأثناء الطريق، أبدت مي خوفها من ركوب الموتوسيكل، لكن سيلا لم تكترث وركبت بسرعة. وصلوا إلى منزل مي، وقالت سيلا: “جهزي شنطتك وهكلمك.” ثم توجهت إلى منزلها.
في المنزل، قابلت سيلا والدتها نرمين، مديرة دار أيتام، وسألتها عن حالها، ثم أخبرتها بأنها مسافرة إلى الغردقة مع مي للعمل. نرمين، قلقة، طلبت منها أن تأخذ معها شخصًا للحماية، لكن سيلا طمأنتها بأنها قادرة على حماية نفسها. محسن، والد سيلا، تدخل وقال: “سيبيها، أنا واثق فيها.” وأخيرًا، سأل محسن عن موعد سفرها، فأجابته سيلا بأنها ستغادر في الفجر.
بعد الحادثة التي مرت بها منذ ست سنوات، تعلمت سيلا فنون القتال والدفاع عن نفسها، وأتقنت الكاراتيه والعديد من الألعاب القتالية، تحت إشراف والدها ومدربيه المتخصصين.
نرمين، والدتها، عرضت أن ترافقها إلى الغردقة، لكن سيلا طمأنتها بأنها قادرة على حماية نفسها. ثم اقترحت على همسة، التي تحب الرسم، أن تأتي معهما للاستفادة من الفرصة لعرض لوحاتها في المكان الذي سيذهبون إليه، وهو ما لاقى قبولًا من همسة.
في النهاية، قرر محسن، والد سيلا، أن يوصلهم إلى السوبر جيت. بدأت سيلا وهمسة في تجهيز شنطهن استعدادًا للسفر في الفجر، مع حماس للرحلة القادمة.
سيلا اتصلت بصديقتها مي، التي كانت مشغولة بمحاولة إقناع أخيها بالسفر. بعد أن نجحت في ذلك، أكدت أنها ستلتقي بهم في الفجر، وأخبرتها أن همسة سترافقهم أيضًا. بعد تجهيز حقيبتها، ذهبت إلى همسة وانتظروا والدهم ليأخذهم إلى السوبر جيت.
وصلوا إلى السوبر جيت، وطمأن والدهم أنهم ركبوا الأتوبيس. مي كانت متحمسة للترفيه بعد الوصول، لكن سيلا كانت تركز على العمل أولًا. همسة وافقت على رأي سيلا، بينما كانت مي تتحدث عن الخروج للتمتع بالوقت. سيلا فضلت أن تظل بعيدة عن أي ارتباطات عاطفية وركزت على عملها. أخيرًا، طلبت منهم أن يتركوها لتنام قليلاً، وأغمضت عينيها في محاولة للراحة.
تدور أفكار سيلا في دوامة من الماضي المؤلم الذي يعصف بها. لا تستطيع النوم براحة بينما يطارده عقلها باستمرار. كانت تحاول التظاهر بأنها تعافت، لكن الألم لا يزال ينهش في قلبها. تلك الذكريات التي لا تُمحى، خاصة الحادث الذي وقع يوم تخرجها، كانت محورية في حياتها، إذ عاشت في معاناة دامت سنتين. على الرغم من أنها كانت قد أظهرت للآخرين أنها تعافت تمامًا، إلا أن جروحها الداخلية كانت لا تزال تنزف.
في تلك الأيام، قررت مع صديقاتها مي ورودي إقامة حفلة للاحتفال بتخرجهن. اتفقن على اختيار مكان قريب من الجامعة، وتولت سيلا ومي حجز المكان بينما كانت رودي مسؤولة عن جمع باقي الصديقات. مي كانت نشيطة للغاية ومتحمسة لتزيين المكان، بينما كانت سيلا تفضل البساطة ولا تهتم بالتفاصيل الزائدة. رودي كانت مشغولة أيضًا بمواعيد أخيها الذي كان حريصًا على أن تلتزم بمواعيد معينة.
بعد أن اتفقوا على الحجز، دارت محادثة خفيفة بينهن. سيلا أعربت عن عدم اهتمامها بزينة الحفل المبالغ فيها، بينما حاولت مي أن تضيف المزيد من المرح والتفاصيل. كان كل شيء يمر بسلاسة حتى بدأ الحوار يتحول إلى جدال حول ترتيب الأمور. انتهى الحديث بتوزيع المهام، سيلا ومي سيتفقان مع الكافيه، بينما رودي ستجمع باقي الفتيات لتأتي إلى الحفل بعد الترتيبات.
بينما كانت سيلا ومي تسيران في الشارع، اقترحت سيلا اختصار الطريق عبر الشارع الذي يقع خلف الجامعة. مي أمسكت يد سيلا فجأة، مرعوبة وقالت: “استني، الشارع ده، لا بلاش!” وأضافت: “أنا خايفة، ده شارع مقطوع ومحدش بيمشي فيه، أنا قلقت. تعالي نرجع ولفي مش مشكلة، بس بلاش من هنا.”
لكن سيلا حاولت تهدئتها قائلة: “يا بنتي، إحنا في عز النهار، وفي ناس ماشيه هنا، تعالي بلاش جبن، يلا.” رغم أن الشارع كان معروفًا بين الطلاب بالهدوء والأمان خلال النهار، إلا أن هناك قصصًا عن سرقات تحدث فيه ليلاً، مما جعل مي أكثر خوفًا.
واصلتا السير حتى منتصف الطريق، ولم يحدث شيء. مي كانت ما زالت متوترة، بينما حاولت سيلا تهدئتها: “يا بنتي خلاص، قربنا نوصل، بدل ما نلف كل ده. معندناش وقت كتير، البنات حيتجمعوا وأنا لازم أكلمهم عن المكان اللي هنروح له.” ولم تكمل كلامها حينما توقفت سيارة فجأة أمامهما. السيارة كانت تسير عكس الاتجاه، وتوقفت بجانب الطريق بينما كانت تُسمع أصوات عالية جدًا من داخلها.
أصوات استغاثة من فتاة داخل السيارة: “اللحقوووني!” مع محاولاتها الفاشلة لفتح الباب، في حين كان أحد الأشخاص في السيارة يغلق الباب بقوة، والفتاة تواصل الصراخ: “اللحقووووني!”
توقفت مي، وعينيها مليئة بالفزع، وتمسكت بسيلا وهي تقول: “اللحقيني، مش قولتلك بلاش؟ يلا بسرعة، نجري، شايفة اللي أنا شايفاه؟ يلا بسرعة!” كانت مي في حالة من الرعب، لكن سيلا كانت تفكر بسرعة في كيفية إنقاذ الفتاة.
وقالت سيلا بهدوء: “اهدي، لازم نتصرف بسرعة، لازم نلحقها قبل ما يعملولها حاجة وحشة.”
لكن مي كانت على وشك الانهيار، وقالت وهي تبكي: “هنلحقها، هنلحقها، بس يلا بسرعة! أنا خايفة أوي، دول شكلهم مرعب، وممكن يكونوا خطفنها. يلا نرجع ونكلم حد يروح لهم ويمسكهم.”
سيلا تحدثت بسرعة، وأخذت تدفع مي بعيدًا عنها قائلة: “طيب، ارجعي بسرعة وجيبي حد، أنا هلهيهم عنها قبل ما يحصل لها حاجة.” مي كانت ما تزال مصدومة، وقالت: “لا، لا، تعالي معايا، مش قادرة أسيبك، أنا خايفة عليكِ.”
لكن سيلا دفعتها مرة أخرى وقالت: “مفيش وقت للكلام، إنتِ لازم تروحي بسرعة، وأنا هكون بخير، بس مفيش وقت.” وركضت باتجاه السيارة.
اللحظات كانت حرجة، حيث كانت سيلا تدرك أنه لا يوجد وقت لتضيعه.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثاني
تراجعت مي بخوف وقلبها مضطرب، ثم ركضت وهي تناجي ربها: “ربنا يستر يا رب” حتى وصلت إلى أول الشارع.
اقتربت سيلا بحذر من السيارة ووقفت خلف عمود إنارة، لتفاجأ بمشهد مروع لم يخطر ببالها. حاولت إنقاذ الفتاة الواقعة بين أيدي ذئاب بشرية، لكن الوقت كان قد فات.
التقطت حجرًا من الطريق وألقته بقوة على السيارة محطمًا زجاجها. انتبه المعتدون وتركوا الفتاة، ثم وجهوا أنظارهم إليها. أحدهم نظر إليها بوحشية، وأمر رفيقه: “انزل هاتها بسرعة !”
هرع الآخر نحم لاً بغلظة: “تعالي يا حلوة، نحلي ! حاولت الهرب، لكنها شلت من الصدمة، وسقطت في قبضتهم…!
…
نظرت نرمين لمحسن بقلق وقالت:
“أنا خايفة على البنات يا محسن.”
أجابها مطمئنًا:
“اطمني، أنا مش سايبهم. كلمت واحد صاحبي في الداخلية وكلف حد يأمنها. وكمان أحمد الأسيوطي بعتها لمهمة بعيد عن القضية.”
لكنها ردت بانزعاج:
“بنتك عنادية، أكيد هتفضل وراهم، والعصابة دي مش سهلة.”
تنهد محسن وقال:
“ارمي حملك على ربنا، وبكرة أطمن عليهم.”
هزت رأسها محاولة طمأنة نفسها، لكنها عادت بذاكرتها لمكالمة الأمس، حينما هددها صوت غليظ عبر الهاتف:
“لو عاوزة بنتك تعيش، خليها تبعد عن طريقنا.”
صرخت نرمين بفزع، مما دفع محسن للحضور. أخبرته بالتهديد وهي منهارة، فحاول تهدئتها:
“هكلم أحمد وأتصرف، بس إوعي تقولي لها حاجة.”
وافقت بتردد، ثم دخلت مع زوجها للغرفة تحاول النوم، لكن القلق كان سيد الموقف.
…
وصلت مي إلى أول الطريق وهي تركض والدموع تغمر وجهها. رأت شابين، فاستنجدت بهما بسرعة:
“الحقوني بسرعة، صاحبتي هتضيع! أرجوكم تعالوا معايا!”
هرعا معها إلى مكان الحادثة، ليُصدموا بالمشهد أمامهم.
في الوقت ذاته، كانت همسة تحاول إيقاظ سيلا من شرودها:
“سيلا، فوقي! خلاص وصلنا!”
استفاقت سيلا من ذكرياتها، تنهدت بعمق وأجابت:
“أنا صاحية، يلا بينا.”
وصلت الفتيات إلى الفندق الذي تم حجزه مسبقًا بالقرب من الشركة الجديدة. عند وصولهن، لم تصدق همسة جمال المكان وقالت بحماس:
“واو! المكان خيالي جدًا، أكيد هبدع وأكسب المسابقة!”
ردت مي بسخرية:
“بدعي يا أختي، أما نشوف آخرتك أنتِ وأختك!”
لاحظت مي أن سيلا متضايقة، فقد كانت الأخيرة غير مهتمة بجمال المكان أو الرحلة. كل ما يشغل بالها هو إنهاء المهمّة والعودة سريعًا، ولم تفهم حتى الآن سبب مجيئها.
شعرت مي بضيقتها وقالت:
“يا بنتي فكي شوية! سيبيلي اللقاء، أنا أكتب أي كلام عن الافتتاح والكلمتين اللي هيقولهم صاحب الشركة. خلينا نستمتع بالمكان ده، ده حتى كأننا في جنة! بصي، حجزوا لنا يومين، نخلص ونمد يومين كمان على حسابنا!”
ضحكت همسة وقالت بحماس:
“وأنا معاكم!”
أما سيلا، فاكتفت بقولها بفتور:
“أجري من هنا أنتي وهي! أنا تعبانة وعاوزة أرتاح قبل ما نروح نشوف الشركة.”
أمسكت هاتفها، طمأنت والدها على وصولهم، ثم اتجهوا إلى غرفهم في الفندق للاستراحة.
…
وصل عاصم إلى الغردقة صباحًا، واستقر في فندقه لأخذ قسط من الراحة. بعدها قرر زيارة الشركة الجديدة، حيث اطمأن على استعداداتهم للافتتاح غدًا، وترك الوكيل يشرف على التفاصيل.
خرج للتنزه قليلاً، مستمتعًا بجمال البحر الذي بدا وكأنه يعكس حياته بموجاته المتلاطمة. وقف متأملًا، مسترجعًا ذكريات مؤلمة تركت أثرًا عميقًا في نفسه. قبض على يديه بشدة حتى ابيضت عروقه، ثم تنهد بحرارة وقرر العودة إلى غرفته للراحة.
التفت للرحيل، لكنه اصطدم فجأة بشخص! توقف للحظة وهو يتساءل أين رأى هذا الوجه من قبل.
توجهت الفتيات إلى الفندق للاستراحة قبل بدء تحرياتهُن عن الشركة الجديدة، وحجز موعد مع المدير، وحضور الافتتاح.
عند وصولهن إلى غرفتهن، قالت سيلا بإرهاق:
“أنا هنام شويه، بعدين ننزل.”
ردت مي:
“وأنا كمان تعبانة، هنام جنبك شويه.”
أما همسة، فقالت بحماس:
“لا، أنا هقعد في الفراندة وأرسم شويه لحد ما يغلبني النوم.”
نامت سيلا مباشرة، بينما استلقت مي بجانبها. بعد ساعتين، استيقظت سيلا وحاولت إيقاظ مي وهمسة اللتين كانتا غارقتين في النوم. شعرت بالملل، فقررت تركهما، وبدلت ثيابها وأخذت كاميرتها، ونزلت للتنزه والتصوير على البحر.
بينما كانت تركز في التصوير، اصطدمت فجأة بشخص، مما جعل الكاميرا تسقط من يدها. نظرت إليها بدهشة وهمست:
“هو ده اللي كان ناقص!”
ابتسم عاصم ابتسامة غامضة دون أن ينطق، وهو يحاول تذكر مكان رؤيته لها من قبل.
تضايقت سيلا من نظراته وأسلوب ابتسامته، فصرخت بغضب:
“تصدق إنك معندكش دم وبتضحك؟”
دفعتْه بعيدًا عنها، ثم انحنت لالتقاط قطع الكاميرا المبعثرة دون أن تعتذر له.
عاصم، بهدوء، ابتسم بتكهن وتراجع بعض الخطوات إلى الخلف. لم ينطق، بل ترك المكان وهو يبتسم بخبث، ثم عاد إلى غرفته.
…
عادت سيلا إلى غرفتها غاضبة بعد أن جمعت بقايا الكاميرا المكسورة. وجدت مي مستيقظة تتثاءب وتقول:
“أنا جعانة جدًا، تعالي ننزل ناكل.”
لكنها لاحظت ملامح الحزن على وجه سيلا وسألتها:
“مالك؟ والكاميرا دي مالها؟”
ألقت سيلا الكاميرا على السرير وقالت بضيق:
“خرجت أتمشى شويه، خبطت في واحد مستفز جدًا، والكاميرا وقعت واتكسرت. مش عارفة فين شفته قبل كده.”
ردت مي بمحاولة لتهدئتها:
“سيبيها عليّ، معايا كاميرا تانية خديها، ودي تتصلح أو تشتري غيرها بعدين. ما تزعلش نفسك.”
ابتسمت سيلا وقالت:
“ميرسي يا مي، دايمًا عندك الحلول.”
مي بابتسامة ساخرة:
“أكيد، أنا مش أي حد.”
ضحكت سيلا وأمسكت وسادة لتضرب بها مي، ليبدأ بينهما شجار صغير بالوسائد. استيقظت همسة فجأة وسألت بارتباك:
“إيه اللي بيحصل؟”
ضحكت مي وسيلا وأكملا المزاح معها حتى شاركتهما اللعب والضحك.
بعد فترة، قالت مي:
“كفاية هزار، يلا قوموا ناكل، أنا جعانة جدًا!”
أجابتها سيلا وهي تضحك:
“ماشي، يلا نجهز وننزل.”
..
عاد إلى غرفته، يتذكر وجهها. تلمعت عيناه بمكر عندما استعاد الموقف. لكنه لم ينسَ. والآن، القدر يعيدها إلى طريقه. “أهلاً بكِ في جحيمي مرة أخرى.”
قبل خمس سنوات، يوم تخرج أخته، عاد عاصم من السفر ليحتفل معها. أثناء دخولهم بسيارتهم شارعًا ضيقًا قرب الجامعة، لاحظ حركة غريبة: سيارة متوقفة بشكل مريب، وفتاة تقف خلف عمود إنارة، تمسك بحجر، مستعدة لرميه.
أوقف عاصم أخاه بسرعة وهتف: “وقف العربية على جنب بسرعة.”
سأله معتز باندهاش: “في إيه؟” فأشار عاصم نحو المشهد أمامهم.
نزل كلاهما من السيارة بحذر، يدرسان الموقف، مستعدين لأي تصعيد قد يحدث.
عاصم أشار لمعتز بالتوقف مكانه وتقدم نحو الفتاة بحذر، محاولاً منعها من الإقدام على أي فعل تندم عليه. لكنه لم يكن سريعًا بما يكفي؛ ألقت الحجارة في اللحظة ذاتها.
أسرع عاصم نحوها قبل أن تسقط في قبضة ذلك الشاب غريب الأطوار. أمسك بها وألقى نظرة خاطفة داخل السيارة ليفاجأ بشخص آخر يجلس بجوار فتاة شبه عارية بلا حراك.
تقدم معتز غاضبًا، ووجه للشاب ضربة قـ.وية أسقطته أرضًا، ثم انهـ.ال عليه بلكـ.مات متتالية حتى نزف أنفه وتراجع مذعورًا. لكن معتز لم ينتبه للشخص الآخر الذي خرج .. السيارة ممسكا بعصا كبيرة وضـر.بة على رأسه لإجباره على ترك زميله.
بينما كان المشهد يزداد توترًا، وصلت فتاة مع شابين آخرين. صُدمت بما رأت من اشتباك محتدم، وحاولت التدخل، لكن الأمر تحول إلى معركة شاملة بين الجميع. وسط هذا الفوضى، ركضت الفتاة نحو صديقتها المرتجفة، واحتضنتها بحنان بينما أجهشت الأخرى بالبكاء، مرعوبة من هول ما يحدث.
عاصم، ببرود وحسم، أمسك بالشخص الذي كان يحمل العصا، وأحبط محاولاته للتصعيد. بمساعدة أخيه، تمكنوا من تقييد المعتدين، وفرض السيطرة حتى وصلت الشرطة والإسعاف إلى الموقع.
أمر الضابط بجمع الجميع إلى قسم الشرطة لأخذ إفاداتهم. تم اقتياد الشخصين المعتدين والشابين الآخرين، فيما حرص الضابط على تسجيل التفاصيل اللازمة.
على جانب، تحدث عاصم مع الضابط بهدوء، وأوضح بعض النقاط قبل أن يتجه مع أخيه إلى سيارتهما. قبل أن يغادر، ألقى نظرة أخيرة نحو الفتاة التي كانت تحتضن صديقتها المذعورة، ثم شاهدها تُنقل إلى سيارة الإسعاف التي أخذتها بعيدًا. بدون كلمة أخرى، استقل السيارة وانطلق، تاركًا خلفه المشهد بما يحمله من أسئلة عالقة في الأذهان.
بينما كان عاصم ومعتز في طريقهما إلى قسم الشرطة، زفر معتز بضيق: “آخرها ندخل القسم علشان شوية بنات شمال، واحدة مع شابين في العربية، واحدة جايه مع شابين، والتالتة واقفة تتفرج، ولما لاقت إنهم هيتكشفوا نبهتهم برمي الحجارة. ده مسلسل حمضان، دي تاخد جائزة أحسن ممثلة! أنت مش بترد عليا ليه؟”
عاصم استمع بهدوء ولم يرد. أكمل معتز: “عجبك اللي حصلنا فيه ده؟”
رد عاصم بهدوء و برود: “هنعرف لما نوصل، أهدى شوية، واتصل بأختك، شوفها روحت ولا لأ.”
معتز زفر مجددًا وأمسك بهاتفه ليبلغها بضرورة العودة للمنزل فورًا.
وصلوا إلى قسم الشرطة، ودخلوا مباشرة عند وكيل النيابة حيث شرحوا له ما حدث. بعد الإدلاء بأقوالهم، عادوا إلى المنزل. صعد معتز إلى غرفته ليرتاح قليلاً، بينما صعد عاصم إلى غرفة أخته ليطمئن عليها.
طرق الباب ودخل، ليجدها تنهي مكالمتها مع شخص ما. فسألها برفق: “عاوزة تروحي لمين يا حبيبتي؟”
: “ممكن توصلني للمستشفى؟ صاحبتي عملت حادثة وأنا عاوزة أطمن عليها.”
بقلم شروق مصطفى قصص الحياة
رد عاصم بهدوء: “حاضر يا قلبي، هغير هدومي وأجي أطلعك.”
فرحت رودي وقالت: “ما تحرمش مني يا رب.”
وصلوا إلى المستشفى، وهناك اكتشف أن شقيقته صديقة لإحدى الفتيات اللواتي كن في الحادثة.
بينما كان عاصم يفكر في الموقف، اهتز هاتفه فجأة، وكان معتز على الطرف الآخر: “أيوه يا عم، بتتفسح وسايبني لوحدي في الشغل؟ هقر عليك .”
حاول عاصم أن يبتسم بقدر الإمكان، وقال لمعتز: “قر براحتك يا عم، خلاص خلص الشغل اللي عندك بسرعة وتعالالي. نقضي يومين مع بعض، هستناك على الافتتاح.”
أجاب معتز: “تمام يا ريس، هشوف الشغل الناقص هنا وأخلصه وأجي. يلا هسيبك بقى عشان أكمل شغلي، أنا بطمن عليك بس. يلا سلام.”
“سلام.” أغلق عاصم الهاتف، وأخذ نفسًا عميقًا. قرر أن ينزل إلى المطعم ليأخذ قسطًا من الراحة.
نزل من الغرفة في اتجاه المطعم، وقبل أن يدخل، لمحها هي واثنان آخرين. لمع في ذهنه فكرة ما لبداية لعبته. ابتسم ابتسامة خبيثة واقترب منهم بحذر حتى وصل إلى مسافة قريبة، ثم فجأة.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثالث
نزل الثلاثي إلى المطعم الخاص بالفندق وطلبوا وجباتهم. بعد قليل، وصل النادل بطلباتهم، وقرروا أن ينتهوا من تناول الطعام أولًا، ثم يكتشفوا المكان ويسألون عن مقر الشركة.
بعد أن أنهوا وجبتهم، قرروا التمشي قليلاً، وهم يثرثرون ويضحكون، حتى اقتربوا من حوض السباحة الكبير.
قالت مي: “نفسي أقعد هنا على طول، كل يوم أنزل في البسين ده، شكله رائع! ما تيجي ننزل شويه بعد ما نخلص شغلنا؟”
همسة همست: “الصراحة شكله مغري، بس مش مستعدة.”
سيلا ابتسمت بخبث وقالت: “طيب، لو تحقق لكم أمنياتكم، هتعملوا إيه؟”
ردا مي وهمسة معًا: “إزاي يعني؟”
قبل أن يكملوا حديثهم، دفعتهم سيلا فجأة إلى الحوض. سقطوا في الماء وبدأوا في السعال.
سيلا ضحكت وقالت: “حققتلكم أول أمنية!”
مي: “بس لما أطلعلك يا زفتة!”
همسة: “ماشي يا سيلا.”
استمرت سيلا في الضحك بصوت عالٍ حتى كانت بجانبهم في البسين، ما صدم مي وهمسة. رفعت سيلا وجهها للأعلى وصدمة أخرى عندما اكتشفت أنه نفس الشخص الذي دمر الكاميرا. نظر إليها بابتسامة انتصار ثم ترك المكان.
غضبت سيلا بشدة وضربت الماء بيديها وقالت: “ماشي، دا انت يومك مش معدي! يا أنا يا أنت!” ثم وجهت نظرًا ناريًا لمي وهمسة: “عجبكم كده؟”
همسة ضحكت قائلة: من حفر حفرة لأخيه وقع فيه.
بينما مي كانت تفكر للحظة في أين رأت هذا الشخص، لكن لم تتذكر. بدأت مي بنثر الماء على همسة، ثم اتجهوا جميعًا إلى سيلا. بعثروا الماء على وجهها وهي لم تندمج معهم، فتركتهم وخرجت لتنظف نفسها.
أخرجت نفسًا عميقًا وقالت بغضب: “أه لو شفتك تاني…”
اتجهت سيلا إلى غرفتها بغضب شديد، تلاحقها مي وهمسة. في المطعم، استمر هو في الابتسام لنفسه وهو يفكر: “دي البداية!” ثم أكمل طعامه وغادر.
سيلا في غرفتها، لم تتمالك نفسها، ودخلت الحمام تحت الماء البارد لتخفف من غضبها، ثم غيّرت ملابسها. لم تهدأ، وكانت تفكر في الانتقام منه.
ظلت تذهب وتعود في الغرفة، تحاول تذكر أين راته، وتقول بغضب: “لو شفته تاني مش هسيبه!”
دخلت مي وهمسة، وحاولتا تهدئتها. فقالت مي: “هو ليه يعمل كده؟ تعرفيه؟”
سيلا انفجرت: “وأنا إيه اللي يخليني أعرفه؟!”
ثم قالت بعنف: “لو شفته، مش هسيبه. هنزل أدور عليه تحت!” وحاولت دفعهما لتصل إلى الباب.
وقفت مي وهمسة أمام سيلا، يحاولان منعها من التوجه إلى الباب. قالوا لها: “استني بس، ما ينفعش تنزلي كده، اهدي الأول.” هرولت مي وأغلقت الباب بالمفتاح وأخذته في جيبها.
سيلا، وهي غاضبة، قالت: “لا، أنا نازلة! أبعدوا عني.” وصلت إلى الباب، ثم طرقت عليه بشدة: “أفتحي الباب يا مي، بقولك، غوري من وشي دلوقتي!”
همسة حاولت تهدئتها: “اهدي، طيب، هنيجي معاكي، نغير هدومنا ونيجي معاك.” ثم دخلت همسة الحمام لتغيير ملابسها.
سيلا وجهت حديثها إلى مي: “سيبي المفتاح هنا.”
مي، بخوف، قالت: “لا، خليه معايا، اطمني.”
سيلا، رافعة حاجبها: “وأنا لو عاوزة أفتح الباب هغلب؟ ممكن أكلم روم سيرفس. أمشي يا مي من وشي.”
خرجت همسة سريعًا، ثم تربت على ظهر سيلا لتهدئها. مي هرولت لتغيير ملابسها.
فردت سيلا جسدها على السرير، وهمسة حاولت تهدئتها.
همسة، وهي تحسس شعرها: “اهدي يا حبيبتي، هندور عليه كلنا، ونعرف عمل كده ليه. أكيد مش قصده.”
غفت سيلا، بينما خرجت مي من الحمام. همسة أومأت لها بأن لا تتحدث، بينما مي حمدت الله أن سيلا نامت، ثم خرجت إلى الشرفة أمام البحر، تفكر في أين رأت هذا الشخص، وتحدثت مع نفسها: “مش غريب عليا، حاسة إني شوفته، بس فين؟”
سرحت قليلاً وهي تحاول تذكر أين رأت هذا الشخص. تذكرت حادثة المشفى، حيث حاولوا إنقاذ الفتاة التي كانت قد فارقت الحياة قبل أن تصل إلى المستشفى. أما الأخرى، فقد كانت فاقدة للوعي بعد تعرضها للاعتداء، وكان الأطباء في محاولات مستميتة لإنقاذها.
خرج الطبيب ليخبر مي بأن الفتاة قد فارقت الحياة بالفعل، ما أصابها بانهيار، فسقطت مغشياً عليها. بعد أن استفاقت، أخبرتها الممرضة أن حالة الفتاة الثانية خطيرة جداً وأنها بحاجة إلى دعم نفسي.
السرد الذي كتبته جيد، إليك بعض التعديلات الطفيفة لتدعيمه:
—
مي كانت في حالة صدمة شديدة، لم تستوعب بعد ما سمعته عن صديقتها. فبصوت يرتجف، سألَت الممرضة: “هي عايشة صح؟”
الممرضة أجابت بصوت هادئ، محمَّل بالتعاطف: “هي حية، لكن حالتها النفسية سيئة جداً.”
مي، وقد بدأ ألمها يخف قليلاً، سألت بحيرة: “مين، ماتت؟”
الممرضة، بحزن، أجابت: “البنت اللي تعرضت للاعتداء.”
لم تتمالك مي نفسها، وقلبها المثقل بالحزن والارتياح في نفس الوقت، قالت بصوت مرتعش: “الحمد لله، سيلا متقلقيش، أنا هكلم أهلها، وأخويا هيجي في الطريق. لكن البنت الثانية، ما عنديش فكرة عن أهلها.”
الممرضة ابتسمت بلطف وقالت: “تمام ماشي أستريحي أنتي دلوقتي.”
لكن مي، رغم التعب الذي بدأ يظهر عليها، قالت بحزم: “لا، خذيني إلى سيلا، أطمن عليها.”
أومأت الممرضة برأسها، وأجابت: “تعالي معي.”
دخلت مي الغرفة، وعندما رأت سيلا ممددة على السرير، تملأ دموعها عينيها. كانت عينا سيلا مغلقتين، وجسدها محاط بالأسلاك والأجهزة الطبية. قلب مي انقبض من الألم، لكنها حاولت أن تبقى قوية. قالت الممرضة برقة: “سيبيها دلوقتي، هي بحاجة إلى الراحة.”
نظرت إلى سيلا قبلت جبينها وشعرت بأهتزاز هاتفها ليظهر اسم والد سيلا فغادرت وأجابت بصوت مهزوز ضعيف: “أهلاً يا أونكل.”
ردت عليه بعد أن فهم توترها: سيلا أ.. سيلا تعبت شوية وجبناها المستشفى.”
أخبرته باسم المستشفى وأغلقت الهاتف. انتظرت بالخارج، حيث حضرت الشرطة وأخذت أقوالها، وأوضحوا لها أنهم في انتظار الشاهدة التي رأت الحادثة.
رودي اتصلت بها وقالت: “إيه ده؟ البنات زعلوا منك، فين سيلا؟”
ردت مي بصعوبة: “إحنا في المستشفى، سيلا مش كويسة، لسه مفاقتش. ادعي لها، محتاجين دعواتك.”
رودي قالت: “أنا هكلم أخويا أول ما يجي، وهخليه يوصلني.”
بعد مرور ربع ساعة، وصل محسن ونرمين مسرعين إلى المستشفى. وجدا العسكري واقفاً أمام غرفة سيلا، فتوجهوا مباشرة للطبيب الذي أخبرهم بكل التفاصيل، مشيراً إلى أنهم في انتظار أن تستفيق سيلا.
نرمين، وهي ترى مي في حالة انهيار، احتضنتها وقالت: “مي، حبيبتي، طمِّنيني، أنتي كويسة؟”
مي حكَت لها ما حدث، وتبادلا الدموع معاً. ثم سألَت نرمين: “وأنتِ شُفتي اللي حصل؟”
مي هزت رأسها نفياً وقالت بتردد: “لا، ما شُفتش حاجة. بس سيلا راحت تلهيهم عن البنت اللي معاهم.”
نرمين ربتت على كتف مي وقالت: “اهدي يا حبيبتي، إن شاء الله هتقوم بسلامة، كل شيء هيعدي.”
بعد دقائق، وصلت رودي، واحتضنت مي بشدة، ثم دخلوا غرفة سيلا، حيث كانت مستلقية بوجه شاحب وعينين مغمضتين. نظرت رودي إلى مي وسألت: “إيه اللي حصل؟”
فاقت مي من شرودها عندما تحدثت همسة اليها: “ها بتكلميني؟”
همسة نظرت إلى مي وقالت بابتسامة: “أنتي مش هنا خالص! بقولك أكيد مش قصده يوقعها، مش كده؟”
مي ردت بحزن: “أنا شايفة إن اليوم كله راح على الفاضي. لا شغلنا اشتغلنا، ولا فسحنا استمتعنا. كل حاجة راحت.”
همسة ضحكت وقالت: “بس أنا ما ضيعتش وقتي، استغليت لما كنتوا نايمين واشتغلت شويه. الصراحة، أنتو صداع قوي.”
مي بابتسامة حزينة: “تصدقيني، كنت غلطانة إني بكلمك أصلاً. دلوقتي هنزل أتمشى شوية، تعالي نصحي سيلا وننزل. هتيجي معانا ولا هتفضلي ترسمي؟”
همسة: “أنا جايه معاكم. يلا نصحيها.”
حاولوا يوقظوا سيلا، لكنها كانت ما زالت نائمة.
مي قالت: “ياسيلا، قومي بقى، اليوم هيروح واحنا هنا. يلا ننزل نسأل عن الشركة الجديدة.”
سيلا فتحت عينيها بصعوبة وقالت: “آه، أنا مصدعة أوي.”
مي ردت: “نمتي كتير، يمكن عشان كده.”
سيلا: “ممكن تطلبي لي فنجان قهوة؟ دماغي هتنفجر.”
همسة: “طيب، يلا قومي، ننزل نشربها تحت. إحنا جايين نقعد هنا.”
سيلا أخيرًا حاولت النهوض: “طيب، طيب. هدخل أغسل وشي، وننزل نشرب قهوة مع بعض.”
…
داخل مكان مجهول، في جو يملؤه الغموض والرهبة، قال أحدهم بحدة:
“ها، قول اللي عندك.”
رد الآخر متلعثمًا:
“ياباشا، الجريدة شغال فيها أربع شباب وثلاث بنات. ودي ورقة مكتوب فيها تخصص كل واحد فيهم، وورقة تانية فيها عناوينهم.”
تناول الأوراق دون اكتراث، ثم قال بنبرة قرف:
“طيب غور انت بره، لو عوّزتك هندهلك.”
رد الرجل بخضوع:
“أوامرك يا باشا.” ثم غادر مسرعًا.
بدأ الرجل في تفحص الأوراق بعناية، ولمعت عيناه ببريق مريب عندما وقعت عيناه على اسم معين. قال لنفسه بنبرة مشوبة بالسخرية:
“ممم… طلعت بنت! شكلها هتحلو أوي.”
نادى بصوت عالٍ:
“تعالى يا زفت هنا!”
دخل أحدهم مهرولًا:
“أؤمر يا باشا، خدامك.”
ناول الرجل الورقة التي تحمل اسم الفتاة وقال بأمر حازم:
“خد دي، وهاتلي كل حاجة عنها. تحركاتها، بتاكل إيه، بتشرب إيه، بتروح فين… كل حاجة عنها. فاهم؟”
تردد الآخر قليلاً قبل أن يرد بخوف:
“ف… فاهم يا باشا.”
صرخ فيه:
“امشي يلا!”
خرج الرجل مهرولًا، بينما انفجر رئيسه في ضحكات عالية، قائلاً بصوت مشوب بالسخرية:
“كده اللعب هيحلو أوي.”
…..
بينما كانت سيلا تستعد لمغادرتها، رن هاتفها فجأة. رفعت السماعة وردت بحذر:
“ألو؟”
جاءها صوت متلعثم:
“أ… ألو.”
سألت سيلا باستغراب:
“مين معايا؟”
رد الصوت:
“أنا… لازم أشوفك ضروري.”
ضاقت سيلا ذرعًا وسألت بحدة:
“مين معايا الأول؟”
أجاب الصوت بعد تردد:
“أنا منى.”
قالت سيلا بعد أن تذكرت:
“آه يا منى! في إيه؟ صوتك مش طبيعي.”
ردت منى بتوتر:
“لازم أقابلك، الموضوع مش هينفع في التليفون.”
سيلا:
“أنا مسافرة ولسه مش هرجع. قولي اللي عاوزاه هنا. في حاجة جديدة؟”
منى حاولت أن تسيطر على قلقها وقالت:
“أيوه، حد غريب كلمني. مش عارفة هو مين، بس واضح إنه تابعهم. هدّدني إني ما أروحش المحكمة وقال لو شافوني هناك، هيعملوا حاجة فيا، وقفل المكالمة.”
سيلا بغضب:
“مش معقول! إيه الجبن ده؟”
منى:
“هما فاكرين إن الأدلة معايا، وده سبب التهديدات. أنا خايفة على نفسي وأولادي. مضطرة أختفي.”
سيلا، بعد لحظة صمت:
“ومش هتحضري المحكمة؟”
منى بأسف:
“ماقدرش. أنا آسفة، كان نفسي أساعد أكتر.”
ردت سيلا بغضب مكبوت:
“طول ما إحنا ساكتين، هيتمادوا أكتر. لازم حد يقف لهم.” ثم أغلقت الهاتف بعصبية بعدما رمقته بنظرة غاضبة.
على وقع صوتها العالي وارتطام الهاتف بالأرض، دخلت همسة ومي مسرعتين:
“مالك؟ بتكلمي مين؟ في إيه؟”
لم تجب سيلا، وبدلاً من ذلك، تركتهم ودخلت الحمام. فتحت المياه على وجهها محاولة تهدئة غضبها الذي اشتعل من المكالمة.
بعد دقائق، خرجت وقد استعادت بعض هدوئها، ثم ارتدت ملابسها بسرعة وقالت بنبرة حاسمة:
“يلا بينا ننزل.”
تبادلت مي وهمسة نظرات متسائلة، لكنهما لم تعلقا احترامًا لمزاجها، واكتفيا بالقول:
“يلا بينا.”
نزلت سيلا برفقة مي وهمسة إلى الكافيه. جلسن وطلبن مشروباتهن، وبدأن الحديث، لكن سيلا كانت شاردة الذهن. فجأة، وقع نظرها على رجل يجلس أمامها منشغلًا بأوراقه وهاتفه. شعرت أن ملامحه مألوفة، فحاولت تذكر أين رأته.
عادت بذاكرتها إلى يوم أفاقت من الغيبوبة. كان والدها قد هرع للطبيب بعدما فقد الأمل، والطبيب أخبرهم أن حالتها الجسدية مستقرة لكن الصدمة أفقدتها النطق، وأنها بحاجة لعلاج نفسي عاجل.
في الغرفة، بقيت همسة بجانبها، لكنها خرجت لاحقًا لإحضار قهوة. خلال غيابها، دخل رجل إلى الغرفة. بخطواته الواثقة وصوت حذائه، انتبهت سيلا لوجوده. تقدم نحوها وقال ببرود:
“كلمة واحدة هقولها وأمشي.”
نظر لها بازدراء وقال بحدة:
“عاوزك تقطعي علاقتك بأختي، سامعة؟”
لم ترد، فتابع بسخرية:
“فاقدة النطق زي ما بيقولوا؟ ولا بتمثلي زي التمثيلية البايخة اللي عملتوها انتي وصحبتك؟ بس للأسف صحبتكم ماتت… يا خسارة.”
اقترب منها فجأة، أمسك وجهها بيده وقال ببرود:
“هنشوف إذا كنتِ شمال ولا لأ، والطب الشرعي موجود.”
حاولت إبعاد يده عنها، لكنه أكمل:
“ما يشرفناش أن أختي تصاحب واحدة متهورة زيك. لو كنتي أخدتيها معاكي، كنت دمرتك بأيدي! تقطعي علاقتك بها وبصحبتك التانية، ومتحاولوش تكلموها تاني، مفهوم؟”
ثم غادر الغرفة بعنف، تاركًا إياها في حالة انهيار، تبكي وتتساءل بصوت مخنوق:
“ليه؟ أنا ذنبي إيه؟ بعد كل ده، هي ماتت؟!”
وأخيرًا تذكرته سيلا! ابتسمت ابتسامة غامضة، مما جعل الجميع يتساءل عن سببها. فجأة، قامت من مكانها، مما أثار قلق مي التي سألتها:
“مالك يا سيلا؟ في حاجة؟”
لكن سيلا لم ترد، بل أخذت كوب ماء من الطاولة وخرجت من الغرفة بهدوء.
تفاجأ الجميع بتصرفها المفاجئ، وظلوا يراقبونها بقلق. بعد لحظات، حدث ما لم يتوقعوه، مما جعلهم يضعون أيديهم على وجوههم من هول المفاجأة.
بعد الغداء، ذهب إلى غرفته ليأخذ قسطًا من الراحة. كان ماضيه يعصف به، ولم تنطفئ النار التي كانت تشتعل داخله منذ سنوات. حمل مسؤولية أسرته منذ أن كان مراهقًا، فافتقد طفولته ومراهقته. عايش شجارات والدته ووالده، وكان يسمع صراخهم يومًا بعد يوم، ما جعله يكره كل شيء وكل شخص.
تذكر كيف كان يحرص على حماية إخوته التوأم من هذه الصراعات، وعندما كانت تنشب مشاجرات بين والديه، كان يحاول إبعادهم عن الموقف.
ثم جاء اليوم الذي غيّر كل شيء. كان الأخ الأكبر في رحلة مدرسية، والأب مسافر للعمل. وفي تلك اللحظة، تلقى الأب مكالمة من ابنه الأصغر معتز، الذي كان خائفًا ويخبره بأنه سمع صوتًا غريبًا في البيت. طلب منه الأب أن يغلق باب غرفته ويحتفظ بأخته معه، وأوصاه ألا يخرج من الغرفة. لكن معتز كان في حالة من الذعر، وأخبره أن هناك شخصًا غريبًا في المنزل، وحاول التواصل مع عاصم ليخبره عن الموقف.
معتز كان يرتجف من الخوف وأخبر عاصم أنه سمع صوتًا غريبًا في غرفة والديه، مما جعله يشعر بالقلق. طلب عاصم منه أن يأخذ أخته ويغلق الباب بإحكام وأكد له أنه قادم فورًا.
وصل الأب بسرعة إلى المنزل، دخل مكتبه ليأخذ سلاحه ثم خرج ليجد عاصم أمامه، فطلب منه الصعود إلى غرفته مع إخوته وعدم الخروج مهما حدث.
عندما اقترب الأب من غرفة نومه، سمع أصوات غير طبيعية، ففتح الباب فجأة ليكتشف الموقف الصادم زوجته مع عشيقها! شعور بالغضب والخيانة دفعه إلى التصرف بسرعة، لإطـ.لاق النار عليهم ثم خرج مسرعًا ليطلب الشرطة، لكنه تفاجأ برؤية عاصم أمامه.
.الأب تحدث بصعوبة وهو يمسك قلبه: “أنت هنا من إمتى؟”
عاصم اغرورقت عيناه بالدموع وركض نحو والده قائلاً: “بابا”.
احتضنه الأب بشدة، وطبطب عليه قائلاً: “آسف يا بني، آسف ليكم كلكم… كنت أتمنى لكم حياة أفضل، آسف… خلي بالك من أخواتك، اختك أمانة عندك”.
ثم انهار الأب في البكاء.
فجأة، سقطت أخته على الأرض مغشيًا عليها. بينما ظل معتز في مكانه، ساكنًا، ينظر إلى شيء أمامه، وكأن عقله قد شرد. أمامه صورة مؤلمة: والدته في وضع مهين مع شخص آخر.
عندما سمعوا صوت الرصاص، هرعوا إلى الغرفة ليجدوا الدماء تغمر السرير، والملاءة البيضاء قد تلوثت بالدم. الأب انهار من الصدمة، ولم يستطع الوقوف. عاصم ركض نحو أخته بينما بقي معتز فاقدًا للوعي، غير قادر على التعبير عن مشاعره.
اتصل الأب بشقيقه، وأخبره بما حدث، وأبلغ الشرطة. حضر أفراد الشرطة، وقاموا بتأمين مسرح الجريمة. تم القبض على الأب الذي اعترف بقتلهم دفاعًا عن شرفه.
ولكنه لم يتحمل الفاجعة، فسقط مغشيًا عليه بسبب أزمته القلبية، ورحل عن الحياة.
تنهد عاصم وأغمض عينيه، ثم غلبه النوم بسبب إرهاقه من طول اليوم.
بعد ساعتين، استفاق على اتصال من معتز.
معتز قال: “أنا خلصت وجاي في الطريق، هوصل الصبح إن شاء الله. عاصم، تيجي بسلامة؟”
أغلق معه على جلس على طرف السرير ونظر إلى ساعته، فوجدها العاشرة مساءً. غمض عينيه وأخذ يحرك أصابعه على جفنيه، ثم قام واتجه للحمام ليأخذ دشًا. بعد أن انتهى، ارتدى ملابسه، أخذ حقيبة العمل ونزل ليراجع بعض الأوراق.
أمسكت سيلا بكوب من الماء البارد، ثم اتجهت نحو الجالس أمامهم دون أن يأخذ باله، وسكبت الكوب كله فوق رأسه. قالت بلهجة غاضبة: “مش أنا اللي هيتعامل معايا كده.”
ثم كادت أن تبتعد، لكن قبضته أمسكت بمعصمها بقوة، وقف فجأة وجذبها معه إلى الوراء. ركضت وراءه، بينما كانت تسبه بأفظع الكلمات. التفتت أنظار من حولهم إليهم، وزادت الهمهمات بين الناس.
كانت تتلوى تحت يديه من شدة قبضته عليها، وصرخت: “سيب إيدي يا حيوان، بقولك!”، لكن فجأة…
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الرابع
صرخت سیلا بصوت عال: “سيب إيدي بقى وحاولت تحرير يدها، لكن قبضته كانت أقوى.
جرها إلى مكان خال من الناس، وقال بصوت مخيف: “إنت عارفة أنا مين؟ وأقدر أعمل فيك إيه؟” ردت بسخرية: هتكون مين يعني؟ سيب إيدي أحسنلك، أنا زعلي وحش.”
نظر إليها بتحد: “وريني زعلك!” صرخت: “سيب إيدي للمرة الأخيرة” لكنه ظل ثابتًا.
في لحظة، باغتته بلكمة قوية على أنفه، تبعتها بركلة بين قدميه، فتراجع متألمًا. ابتعدت وهي تضحك بسخرية:
روح اللعب بعيد.
فرّت سيلا عائدة إلى الفندق بعد أن أفقدت خصمها توازنه بلكمة على الأنف، وصلت إلى غرفتها ولم تجد أحدًا، فأغلقت الباب وغفلت سريعًا.
في الخارج، كانت همسة ومي تبحثان عنها بقلق. قالت مي: “مش شايفاهم… أخدها فين؟ شكله مش هيسكتلها!”
ردت همسة: “تعالي ندور عليهم، أنا خايفة يعملها حاجة!”
بحثتا في كل مكان بلا جدوى. توقفت همسة وقالت: “ده شكله مش طبيعي… افتكرتي مين ممكن يكون؟”
قالت مي وهي تحاول تهدئة همسة: “تعالي نقعد الأول، متقلقيش على سيلا. أنا متأكدة إنها تعرف تدافع عن نفسها، لكن المشكلة إنه مش هيسيبها في حالها بعد كده.”
ردت همسة بتفكير: “ويعرفكوا منين أصلاً؟ ده شكله إنسان غير طبيعي! رحتي فين انتي كمان ساكتة كده؟”
سرحت مي قليلًا وقالت: “في حاجة افتكرتها… هو فيه شبه منه. بس أنا شوفته مرة واحدة من سنين، وحاسة إنه هو.”
نظرت لها همسة بعدم فهم: “مش فاهمة حاجة! وضحي.”
تنهدت مي وقالت: “طيب هحكيلك حاجة. فاكرة يوم التخرج والحادثة اللي حصلت؟”
ردت همسة بقلق: “آه، فاكرة… بس إيه اللي جاب سيرة الموضوع ده دلوقتي؟ مصدقنا إنها خلصت!”
قالت مي: “فاكرة رودينا صاحبتنا؟”
ردت همسة وهي تحاول التذكر: “تقريبًا… كنتوا دايمًا ثلاث أصحاب، صح؟”
مي: “ما علينا، المهم اللي حصل يومها إن رودينا جات المستشفى تطمّن عليّ، وكلمها أخوها في التليفون. قالتله إنها معايا وعرض يوصلني، وأنا وافقت وركبت معاهم.
اتصدمت لما شفته، لأنه نفس الشخص اللي أنقذها يوم الحادثة دي، واللي لولا تدخله كانت ضاعت هي كمان. لكن وقتها، من طريقته وكلامه، حسيت إنه بيهاجمنا واتنرفز جامد.”
همسة: “إزاي بيهاجمكم؟ ذنبكم إيه أصلاً؟”
“بعد يوم الحادثة، جاءت رودينا إلى المستشفى للاطمئنان على مي. خلال وجودها، تلقت مكالمة من أخيها وأخبرته أنها مع صديقتها، فاقترح أن يوصلها. وافقت مي وركبت معهم.
ما إن جلست في السيارة حتى اكتشفت أن أخا رودينا هو نفس الشخص الذي أنقذها يوم الحادثة. لكن سرعان ما تحول الموقف إلى توتر، حيث بدأ يهاجمها بعصبية. سألها بحدة عن سبب وجودهما في الشارع المشبوه في ذلك الوقت، وقاطع رودينا عندما حاولت الدفاع عنها، مطالبًا مي بالإجابة بنفسها.
حكت له ما حدث، لكنه انفجر غاضبًا واتهمهما بالتهور قائلاً إنهما أغبياء، وكيف يمكنهما السير في شارع يعرفان أنه خطير دون اتخاذ احتياطات، بل وتأخرهما عن طلب المساعدة عند رؤيتهما السيارة المشبوهة. أنهى كلامه بجملة خبيثة أزعجت مي، متهمًا صديقتها بأنها “عاملة نفسها راجل”.
نظراته وصوته العالي جعلا مي ترتجف ورودينا تشعر بالتوتر. حاولت رودينا تهدئته، مبررة أن يومهما كان صعبًا، لكنه لم يهدأ وأكد أن تدخله في الوقت المناسب أنقذ الموقف، وإلا لكانت الكارثة قد وقعت.
في النهاية، اعتذر لها بطريقة جافة لم تخفف من استيائها، مما دفعها لطلب النزول عند أقرب مكان، وقد شعرت بالاختناق من الموقف بأكمله”
أخذت مي نفسًا عميقًا ثم استرسلت في حديثها. أخبرت همسة أنها عرفت لاحقًا من سيلا، التي تحدثت معها بعد تعافيها بثلاثة أيام، عن ما حدث في تلك الليلة. أخبرتها سيلا أن ذلك الشخص جاءها ليلًا بعد أن غادر والداها المنزل، ووقف أمامها بنظرة حادة وملامح غاضبة، ليطلق كلمات جارحة مليئة بالاتهامات.
قال لها بلهجة قاسية: “طب شرعي وانتي شمال انتي وصاحبتك! وابعدوا عن أختي. ما حدش منكم يقرب منها تاني.”
كانت كلماته جارحة بشكل لا يحتمل، مما ترك أثرًا كبيرًا على سيلا. تابعت مي بمرارة: “ومن وقتها علاقتنا برودينا اتقطعت للأسف، والسبب هو الشخص ده… وأخوه كمان، اللي كان ألعن منه.”
سألتها همسة بقلق: “وأخوه عمل إيه؟”
هزّت مي رأسها وقالت: “ده موضوع طويل… أحكيلك عنه بعدين.”
… .
في مكان آخر مجهول، كان الشخص نفسه يتحدث في الهاتف:
“مرحبًا، أريد تجهيز طفلين للتنفيذ بعد يومين. سأصل بعد يومين لإتمام التجهيزات عند الطبيب وبنفس السعر.”
رد بدر: “آسف، لا يمكننا الآن. اعطنا بعض الوقت. تم القبض على طبيبنا، واعترفت الممرضة وأخذت صورًا وفيديوهات لنا. الصحافة تهاجمنا أيضًا. انتظر فقط لبعض الوقت.”
أجاب الشخص بلهجة غاضبة: “ماذا! هل أنتم مجانين؟ ما الذي تنتظرون؟ قوموا بتنفيذ الأمر الآن، أو سيتم تصفيتكم أنتم! سأتصل بكم لاحقًا لأتأكد أن كل شيء على ما يرام.” ثم أغلق الخط.
بعد انتهاء المكالمة، زفر وأجرى مكالمة أخرى، وقال: “نفذوا اليوم! أريد أن أسمع خبرهم جميعًا.” ثم أغلق الخط.
عادت مي وهمسة إلى الغرفة بعد أن يئسا من العثور على سيلا، وفوجئا بوجودها نائمة على السرير. تبادلتا نظرة متفاجئة وسألت مي: “جت إمتى دي؟” هزت همسة كتفيها، وأجابتها مي بأنها لا تعلم. ثم استلقيا بجانبها، منهكتين من يوم طويل.
بعد أن ضربته، أفلتت سيلا يد عاصم وتراجعت إلى الوراء، بينما هو مصدوم من جرأتها. سمع صوتها وهي تبتعد قائلة: “مش عاوزه أشوف وشك مره تانية قدامي.” ثم تركته واختفت عن الأنظار.
أمسك عاصم بأنفه وهو يهددها في نفسه: “هتشوفي أيام معايا، صبرك.”
ثم ترك المكان غاضبًا، يلعن نفسه حتى رن هاتفه فجأة. استمع للمكالمة، مصدومًا من محتواها، وقبض على يديه بعنف.
رد أخيرًا: “تمام” وأغلق الخط. زفر بعمق، ثم ذهب إلى غرفته ليُنهي اليوم.
في صباح يوم جديد، استيقظت مي على صوت المنبه فوجدت الساعة السابعة صباحًا، فأطفأته وقررت أن تقضي صباحًا مختلفًا. قامت بأخذ شاور سريع لتنشيط نفسها، ثم تركت رفيقاتها نائمات وقررت الجري قليلاً. ارتدت ملابس رياضية ورفعت شعرها بطريقة فوضوية، ثم خرجت من الغرفة متوجهة إلى الاستقبال لتسأل عن مكان مخصص للجري.
في نفس الوقت، وصل معتز متعبًا ومرهقًا بعد رحلة طويلة، وتوجه إلى الاستقبال ليسأل عن شيء ما.
وصلت مي أولًا إلى الاستقبال وقالت: “لو سمحت؟”
لكن الموظف كان مشغولًا بالتقاط شيء قد وقع منه. وفي نفس اللحظة، وصل معتز وقال: “لو سمحت؟”
اعتدل الموظف ونظر مبتسمًا إلى معتز قائلاً: “معتز باشا، نورتنا يا فندم، أخدمك بإيه؟”
رد معتز: “تسلم يا حبيبي، كنت عاوز…”
لكن مي قطعت حديثهم وقالت بنبرة حادة: “على فكرة، أنا جيت الأول وكلمتك الأول، مش من الذوق تسيبني واقفة وتكلمه هو.” كانت توجه كلامها للموظف دون أن تنظر إلى الشخص الذي كان بجانبها.
قال الموظف لمي: “آسف يا فندم، ما خدتش بالي بجد.”
ثم نظر إلى معتز وقال مبتسمًا: “أستاذ معتز من أصحاب الفندق و…”
لكن مي قاطعته قائلة بغضب: “رغى، ميهمنيش صاحب ولا مش صاحب. أول حاجة تشوفني عاوزة إيه بعد كده، ابقوا رحبوا بيه براحتكم.”
شعر الموظف بالإحراج وألقى نظرة على معتز.
معتز رفع يده بقرف وقال: “خلصها الأول، مش ناقصين رغي على الصبح.”
نظرت مي إليه وقالت: “ما تحترم نفسك يا أخي، هو حد وجهلك كلام أصلاً؟” ثم تفاجأت عندما اكتشفت أنه أخو رودينا وصمتت لتتجنبه.
رد معتز عليها قائلاً: “إنتي عدي يومك معايا، مش ناقصك أنا.”
استشاطت مي من أسلوبه وقالت بغضب: “إيه بت دي؟ انت شايفني عيلة بتلعب معاك ولا إيه؟ ما تحترم نفسك، اجدع أنت! بتقول شكل للبيع على الصبح؟”
معتز نظر إليها بنظرة ذات مغزى، وكأنها تذكرته، وقال: “مش عجبك بت؟ يبقى أنتي أدري بنفسك، وغمز لها.”
صُدمت مي من تصريحه الحقير، وفتحت عينيها على أوسعها وقالت بغضب: “تصدق أنت؟ أنت بجد حيوان، وقليل الأدب كمان!”
ثم رفعت يدها لتصفعه، لكنه أسرع وأمسك بها بقوة أمام الموظف، وعصر كف يدها بشدة.
مي، بصوت عالٍ: “إنت غبي، سيب إيدي يا حيوان!”
معتز، بتحدٍ: “أيوة، أنا حيوان، والحيوان ده بقى حيعرفك تكلمي أساتذتك إزاي.”
حاولت مي أن تبعد يدها عن قبضته وقالت: “إبعد بقى، بقولك والله هتندم على اللي عملته زمان، واللي عملته دلوقتي كمان.”
معتز، بمكر: “إنتي هتندميني؟ طيب، أنا مستني أشوف هتندميني إزاي.” ثم ترك يدها وألقى نظرة استهزاء وقال: “أنا مستني، وريني هتندميني إزاي.”
نظرت إليه مي بقرف، وقبل أن تبتعد، ردت: “هتعرف بعدين!” كانت قد أقسمت داخليًا أنها سترد له كل ما فعله بها حتى الآن.
كان الموظف في حالة من الحيرة بين مي ومعتز، وكان يحاول تهدئة الجو قائلاً: “أستاذ معتز، يا أنسة، اهدوا، مفيش داعي لكل ده. حصل خير، أنا بعتذر لكم بجد، أنا السبب.”
لكن مي ومعتز كانا يتبادلان النظرات العدائية، وكأن كل واحد منهما يتوقع أن ينقض على الآخر أولًا.
أعاد معتز الحديث مرة أخرى إلى الموظف قائلاً: “إزاي بتوافقوا على نزلاء زي دول؟ ده مش هعدهالكوا، بس خلصوا الافتتاح النهاردة، ولينا كلام تاني. قولي رقم غرفة عاصم كام؟”
رد الموظف بخوف: “إحنا آسفين يا فندم بجد. رقم الغرفة 901.”
ركضت مي بعيدًا عن معتز، والأحداث التي مرّت بها معه تتكرر في ذهنها. بعد أن استفاقت سيلا، ذهبت لزيارتها، ووجدت رودينا فرصة لسفر أخيها الأكبر، وبعد محاولات عديدة، وافق معتز على ذهابها. أثناء خروجها، التقت مي، وصممت على أن ترافقها، ترددت بسبب خوفها من معتز بعد الهجوم الذي تعرضت له سابقًا، لكن رودي أصرّت وقالت لها إنها لن تتركها في الشارع بمفردها، وأكدت لها أنها ستكون معها.
داخل السيارة، كان معتز يجلس في المقدمة، وعيناه تراقبان عقارب الساعة بعصبية. تأخرهم أزعجه بشدة، وما إن لمح مي تقترب حتى تجمدت ملامحه للحظة. إنها هي، الفتاة التي كانت معهم يوم الحادث. نطق بغضب مكتوم: “ماتخلصوا بقى واركبوا، ولا هتفضلوا واقفين كده؟”
رودي استدارت إلى مي وأشارت إليها أن تسرع. مي، التي بدا عليها التوتر، تحركت بسرعة نحو السيارة وهي تهمس لنفسها عن إخوتها الذين لا يعرفون سوى الشجار. جلست في الخلف بصمت، لكن عينا معتز لم تتركها، التقاها عبر المرآة الأمامية وسأل بنبرة صارمة: “إنتو تعرفوا بعض من إمتى؟”
رودي، التي شعرت بتوتر الموقف، سارعت بالإجابة: “أنا ومي وسيلا نعرف بعض من أيام الجامعة.” لم يرد معتز، لكنه اكتفى بنظرة غريبة صاحبتها كلمات مشبعة بالسخرية: “ونِعمة المعرفة.”
عندما وصلوا إلى وجهتهم، التفت معتز إلى رودينا وقال ببرود: “انزلي، أنا في ورق مهم في الشركة هجيبه على سكة صحبتك.” فبادرت مي بالقول بسرعة: “لا، هنا كويس. مش محتاجة توصلني.” شكرته على عجل ودفعت باب السيارة لتنزل، لكن صوته أوقفها فجأة.
“استني عندك!” قالها بصوت جاف حمل تهديدًا مبطنًا أرعبها. اهتزت يدها على مقبض الباب، وتركت الباب فورًا. سمعت صوت قفله فأصابها الذعر.
التفتت إليه مي بخوف أقرب إلى البكاء، وقالت بتلعثم:
“حضرتك قفلت الباب ليه؟ أنا… أنا عايزة أنزل. نزلني لو سمحت! مش عايزة توصلني، شكراً.”
لكنه أجاب بغضب مكتوم، سرعان ما تصاعد إلى صراخ مدوٍ:
“بت! انتي اخرسي بقى لحد ما أزفتك وأوصلك! ما أسمعش صوتك خالص، فااااااهمة؟”
اهتزت من نبرة صوته المهينة، لكنها تماسكت وردت بانفعال:
“وأنت بتزعق لي كده ليه أصلاً؟ ما سمحلكش تكلمني بالطريقة دي! تعرفني منين أصلاً عشان تتكلم معايا كده؟ نزلني هنا لو سمحت!”
ضغط على المكابح فجأة، فتوقفت السيارة بعنف على جانب الطريق. التفت إليها بوجه متجهم ونظرة مشبعة بالغضب، وقال بسخرية:
“شوفي يا ست الكل، مش عشان سواد عيونك يعني أنا هوصلك! فوقي كده بقى، ها؟ ولا عايزة تتشقطي؟ ما انتو واخدين على كده!”
تجمدت ملامحها من الصدمة، والدم يغلي في عروقها. تمالكت نفسها بصعوبة وقالت:
“إنت مريض… بجد والله مريض! ومش فاهم أي حاجة!”
ثم أدارت وجهها بعيدًا عنه، محاولة تفادي نظراته الحاقدة. شعرت أن الهواء داخل السيارة أصبح خانقًا، واحتقنت عيناها بالدموع، لكنها أبت أن تظهر ضعفها أمامه.
اتسعت عينا مي بصدمة من كمّ الاتهامات التي ألقاها عليها. ردّت بحدة وقهر:
“إنت مريض… بجد والله مريض! ومش فاهم حاجة.”
ثم أدارت وجهها نحو النافذة، محاولة تفادي نظراته الحقيرة التي جعلتها تشعر بالاختناق.
لم يعلّق معتز، بل التفت للأمام وأعاد تشغيل السيارة، وكأن شيئًا لم يحدث. للحظات بدا وكأنه استعاد هدوءه المصطنع، ثم نطق بنبرة تحمل استهزاء:
“وتعرفوا البنت التالتة كمان!”
مي سمعت كلماته، لكنها لم ترد، مكتفية بالنظر إلى الخارج. شعر بالضيق من صمتها، فرفع صوته قليلاً وقال بحدة:
“بتكلم أنا على فكرة!”
نظر إليها عبر المرآة الأمامية، ينتظر إجابة. لكنها، دون أن تلتفت، تكتفت وقالت ببرود:
“مش ملزمة أجاوبك على فكرة… ابقى اسأل أختك.”
ضغط بأسنانه غيظًا، ثم تمتم بصوت منخفض، لكنه مسموع بما يكفي لتثير كلماته استفزازها:
“معرفة هباب وأشكال زبالة شمال… يومها مش معدّي لما أروحلها بس.”
مي شعرت بالغضب يتصاعد في صدرها، لكنها حاولت السيطرة على نفسها، مثبتة نظرها على النافذة لتجنب الانفجار. همست بغضب مكتوم:
“الأشكال الزبالة دي… إنت تعرفها آه يا زبالة!”
لم تدرك أن همسها كان مسموعًا بما يكفي ليصل إليه. فجأة، شعرت بباب السيارة يُفتح بعنف، ويد قوية تجذبها من ذراعها. قبل أن تستوعب ما يحدث، وجدته يهزها بشدة، وجهه غاضب وكلماته كالسياط:
“أنا الزبالة؟ يا زبالة؟! إنتِ وصاحبتك الشمال اللي بتتشقطوا مع رجالة عادي في الشارع!”
صرخت مي بألم، محاولة التخلص من قبضته:
“آه! أبعد عني! إنت إنسان مريض ومجنون… سيبني بقى!”
لكنه اقترب أكثر، وجهه مملوء بالغضب والاحتقار، وقال بفحيح:
“لو شوفتك تاني… مش هرحمك. سامعة؟”
تركها أخيرًا، ثم صعد إلى سيارته وأغلق الباب بقوة، منطلقًا بسرعة جنونية بعيدًا عنها.
مي وقفت مكانها، تشعر بالألم يشتعل في ذراعيها حيث أمسكها بعنف. انهمرت دموعها وهي تهمس لنفسها:
“حيوان… ومش طبيعي.”
نظرت حولها، ولاحظت أنها كانت قريبة من منزلها. هرولت بخطوات متعثرة، بالكاد تستطيع الوقوف من شدة الخوف والصدمة. ما إن وصلت إلى غرفتها حتى ألقت بجسدها على الفراش وانهارت في بكاء مرير.
دفنت وجهها في الوسادة، وهمست بين شهقاتها:
“ليه؟ ليه يقول علينا كده؟ ليه؟”
فاقت من أفكارها عندما شعرت بشلالات من الدموع الساخنة تنهمر على وجنتيها. كانت تلك أول مرة تسمع فيها أحدًا يتحدث عنها بهذه الطريقة السيئة. شعرت بالإهانة، والغضب يشتعل في صدرها. لم تستطع تقبل فكرة أن يمر ما حدث دون رد. همست لنفسها بصوت خافت لكنه مليء بالإصرار:
“لا… لا يمكن أسيبه متهني وأنا أحرق في دمي كده!”
مسحت دموعها بعنف، محاولة استعادة هدوئها، لكنها أدركت أن الغضب لن يهدأ بسهولة. قررت أن تفرغ طاقتها السلبية بأي طريقة. ركضت بلا هدف، وكأنها تهرب من ثقل الكلمات التي ما زالت تتردد في أذنيها.
مع كل خطوة، شعرت أن غضبها يتلاشى تدريجيًا، وتحل مكانه قوة جديدة، عزم على عدم السماح لأي شخص بتحطيمها مجددًا. عندما انتهت من الركض، كانت أنفاسها لاهثة، لكن عقلها أصبح أكثر صفاءً. عادت إلى الفندق مرهقة جسديًا، لكنها أكثر تصميماً على استعادة كرامتها وإعطائه درسًا لن ينساه.
مي دخلت إلى الغرفة لتجد سيلا جالسة على الفراش، وأمامها اللاب توب. كانت ملامحها متجمدة، وعيناها شاخصتين، وكأنها رأت شيئًا لا يُصدق. اقتربت منها وقالت بقلق:
“سيلا؟ في إيه؟ مالك؟ وشك أصفر كده ليه؟ انتي يا بنتي في إيه؟”
لكن سيلا لم ترد. كانت غارقة في صدمتها، لا تنبس ببنت شفة. شعرت مي بالذعر، فالتفتت تبحث عن همسة، ووجدتها نائمة في زاوية الغرفة. اقتربت منها وهزتها بخفة وهي تقول بصوت متوتر:
“همسة… اصحي! انتي كمان جاية تنامي هنا؟”
همسة فتحت عينيها بصعوبة، تتثاءب بسبب النوم:
“في إيه يا مي؟ بتصحيني بدري ليه؟ سيبيني أكمل نومي بقى.”
وكادت تغفو مرة أخرى، لكن مي جذبتها من ذراعها بعصبية قائلة:
“اختك مالها يا بنتي؟ أنا سيباكوا نايمين، قومي شوفيها! متنحة كده ومش بترد عليّ.”
نهضت همسة بفزع، وقد بدأت تشعر بالقلق من نبرة مي. قالت وهي تفرك عينيها:
“سيلا مالها؟ فيها إيه؟”
توجّهتا معًا نحو سيلا، حاولتا هزها لتفيق من صدمتها، لكن عينيها كانت ما زالت مثبتة على شاشة اللاب توب. نظرتا إلى الشاشة لتعرفا السبب، وبمجرد أن رأتا الخبر أمامهما، تجمدتا.
مي تمتمت بذهول، وقد بدأ عقلها يستوعب ببطء:
“ماتت… ده معناه إنهم…” ثم توقفت، لم تكمل الجملة، وكأن الكلمات خانتها.
همسة، التي لم تفهم بعد، نظرت بين أختها وسيلا بارتباك وقالت:
“في إيه يا مي؟ فهميني! مين اللي مات؟ وسيلا مالها؟ حد يرد عليّ!”
…
داخل مبنى الداخلية صباحًا
كان الهرج والمرج يعم المكان، بينما اللواء أيمن الجابري يقف غاضبًا يصيح بصوت يملؤه الانفعال:
“ده تهريج! إزاي ده يحصل؟ إزاي وهو عليه حراسة مشددة؟ إزاي ينتحر وكل ده وانتو نايمين؟!”
وجه حديثه لأحد الضباط قائلاً بغضب حاد:
“حضرتك متحول للتحقيق إنت والطقم اللي عندك لعدم المحافظة على السجناء! اتفضل!”
خرج الضابط من المكتب متوترًا، وسرعان ما أجرى مكالمة بصديقه، الذي أجاب فورًا:
“اللواء محسن، لازم أقابلك ضروري، الموضوع لا يحتمل التأخير!”
رد اللواء محسن بقلق:
“حاضر، هعدي عليك في مكتبك. موجود إمتى؟”
أجابه اللواء أيمن:
“دلوقتي لو ينفع، الموضوع كبير، منتظرك.”
أغلق الخط، ثم تحدث لنفسه بغضب مكتوم:
“أغبياء! لازم تبعد لحد ما الأمور تهدى. مش هيسيبوها في حالها.”
بعد نصف ساعة، وصل اللواء محسن، والد سيلا.
دخل المكتب بعد الترحاب المعتاد وقال:
“خير يا أيمن؟ قلقتني لما قلت الموضوع لا يحتمل التأخير! أوعى تقول سيلا حصل لها حاجة!” ووضع يده على قلبه، يظهر عليه القلق.
كان اللواء أيمن قد تحدث سابقًا مع محسن بشأن وضع حراسة على ابنته بعد مكالمة تهديد تلقتها. هدّأه قائلاً:
“اطمّن يا محسن، بنتك بخير. لكن للأسف القضية كبرت جدًا. الطبيب مات مقتول داخل السجن، والصبح لقينا جثة الممرضة مذبوحة ومرمية جنب النفايات بعد بلاغ باختفاءها!”
ارتعش وجه محسن من الصدمة وقال بصوت مختنق:
“إذن الدور على بنتي…!”
بدأ قلبه ينبض بسرعة، وأنفاسه تتقطع من الهلع. فزع اللواء أيمن وهو يرى حالته، وصرخ:
“محسن! محسن!”
نادى عسكريًا من الخارج:
“هات مية بسرعة!”
ظل يهوي عليه، فتح أزرار قميصه، وقدم له الماء ليشرب. بعد أن استعاد محسن بعض هدوئه، قال أيمن:
“اهدى، بنتك بخير وأنا أضمنلك إنها هتكون بأمان.”
نادى على العسكري مرة أخرى:
“هات ليمون بسرعة!”
عاد بعد لحظات، وبدأ أيمن يشرح الوضع بوضوح:
“اسمعني كويس، يا محسن. بنتك دخلت نفسها مع ناس خطر جدًا، الناس دي ما بيلعبوش. وراهم شخصيات تقيلة وأول حل عندهم لما الأمور تضيق عليهم هو القتل.”
تابع بجدية:
“بنتك تورطت بسبب آخر مقال نشرته، اللي فضحت فيه تفاصيل الجريمة بالكامل، بما في ذلك مكان الطبيب. حتى لو ما كتبتش اسمها، هم مش بالسذاجة إنهم ما يعرفوش توصلوا ليها. دي شبكة كبيرة جدًا، أطرافها في الخارج، ولما بيحسوا إنهم قربوا يتكشفوا، بيصفوا أي طرف داخلي.”
أضاف:
“بعد مكالمة التهديد، لازم سيلا تبعد عن الموضوع نهائي. للأسف، بموت الطبيب والممرضة، القضية تقريبًا انتهت. إلا إذا بنتك احتفظت بنسخة من الصور اللي كانت معاها. لو فكرت تلعب بيها ضدهم، مش هيسيبوها.”
رد محسن، وهو ما زال تحت وقع الصدمة:
“وفكرك، هي هتوافق تبعد؟ ولو أصرت على النبش وراهم؟ وهي لسه هنا؟”
ابتسم اللواء أيمن بثقة:
“لا تقلق، معاها ذئب الداخلية. مش هيديها فرصة تعمل أي حاجة. ولو فكرت مجرد تفكير، هنقدر نسيطر عليها.”
شكر محسن صديقه بامتنان:
“بجد، ما كنتش عارف أعمل إيه من غيرك.”
رد اللواء بابتسامة:
“احنا إخوات، ولا نسيت؟”
ضحك محسن وقال:
“أنسى إزاي؟ دي عشرة عمر.”
اختتم اللواء الحديث قائلاً:
“لسه كنت مع أحمد امبارح، كنا بنتكلم على أيام زمان.”
بعد قليل من الحديث عن الذكريات القديمة، استأذن محسن للعودة إلى البيت، حيث تنتظره المهمة الأصعب: إقناع زوجته بسفر سيلا إلى الخارج حفاظًا على حياتها.
…
داخل منزل محسن
بعد شد وجذب طويل بينه وبين نرمين، حاول محسن تهدئتها بينما كانت تصرّ بقلق:
“يعني حتى مش هشوفها وأسلم عليها؟”
أجابها محسن بحزم:
“لا طبعًا. همسه هترجع مع مي بعد ما يخلصوا الافتتاح النهارده، وهيوصلوا هنا بكرة الصبح إن شاء الله.”
لكن نرمين لم تكن قادرة على استيعاب الأمر:
“بس بنتي مش هتسكت، ولو رجعت مش هتنكش وراهم؟ أنا عارفة بنتي، يا محسن، سيلا مش بتسيب حاجة!”
تنهّد محسن وهو يتذكر كلمات صديقه اللواء أيمن، ثم قال محاولًا طمأنتها:
“متقلقيش، أيمن مطلع معاها أكفأ ظابط مخابرات على مستوى الداخلية كلها. هيعرف يتعامل معاها كويس.”
نرمين ما زالت قلقة:
“وأنت واثق إنه هيقدر يسيطر عليها؟”
أومأ محسن بثقة، ثم أضاف بتحذير:
“بس خلي بالك، أيمن نبهني على نقطة مهمة جدًا. لو اتكلمتي معاها النهارده، إياك تفتحي موضوع السفر أو أي حاجة من اللي قلناها.”
سألته بتوتر:
“ليه؟”
ردّ بهدوء لكنه كان جادًا:
“لأن لو نبهتيها، هتعمل أزمة كبيرة، ومش هنضمن هتعمل إيه. هي هتسافر فورًا بعد الافتتاح.”
تنهّدت نرمين مستسلمة وقالت:
“ماشي، مش هقولها حاجة. أهم حاجة إنها تبعد عن العصابة دي في أسرع وقت وتكون بأمان.”
نظر إليها محسن مطمئنًا، لكنه كان يعلم أن المهمة الحقيقية لم تبدأ بعد، والقلق على ابنته لم يفارقه لحظة.
في مكان آخر
كان الجو متوترًا داخل غرفة مظلمة، حيث جلس رجل يرتدي بدلة أنيقة وخلفه نافذة تطل على مدينة تغرق في الأضواء. صوت مكالمة مشحونة بالتوتر انبعث من الهاتف أمامه.
الرجل الأول (بغضب):
“ماذا فعلتم؟ هل حصلتم على الأدلة؟”
الرجل الآخر (بتوتر):
“سيدي، تم تصفية الطبيب والممرضة كما أمرتم، لكننا لم نجد أي أدلة بحوزتهما، ولم نعثر على أثر للصحفية حتى الآن. القضية تم إغلاقها، تمامًا كما حدث في السابق.”
الرجل الأول (بتهديد واضح):
“استمع جيدًا… إن ظهرت الصورة الخاصة بي في أي مكان، سأمحو وجودك عن وجه الأرض. أفهمت؟”
الرجل الآخر (بصوت مرتجف):
“لا تقلق، سيدي. لم يظهر أي أثر لأي صور حتى الآن، وإن وُجدت، سأتصرف فورًا.”
الرجل الأول:
“جيد. وداعًا.”
أنهى المكالمة بغضب، ثم ألقى الهاتف بقوة على الطاولة. عيناه توهجتا بشراسة، وهو يفكر في الخطوة التالية للحفاظ على سرّه مهما كلفه الأمر
…..
استفاق عاصم على صوت طرقات الباب. فتحه بسرعة، وابتسم عندما رأى معتز أمامه. قال بابتسامة واسعة وهو يحتضنه:
“حمدلله على السلامة، حبيبي! تعال هنا.”
معتز، الذي بدا عليه التعب الشديد، ردّ بصوت منخفض:
“آه، هلكان بجد وعاوز أنام، مش قادر.”
ضحك عاصم وهو يربت على ظهره:
“تعال ريح شوية، قدمنا يوم طويل جدًا اليوم، وأيضًا محضرلك مفاجأة هتعجبك جدًا.”
ابتسم عاصم بخبث، بينما أظهر معتز علامات القلق:
“مش مطمئن من مفاجأتك دي، حاسس وراها بلاوي… خير إن شاء الله؟”
ضحك عاصم وقال:
“لا، لما تريح شوية وبعدها نروح الفرع. هتكون الأمور أفضل!”
…
أخيرًا، تخلّت سيلا عن صمتها، وعينيها ممتلئتان بالدموع التي حاولت كبحها. قالت بصوت مخنوق:
“ليه؟ عملت إيه علشان تموت كده؟ عشان حاولت تظهر الحق؟ هل إحنا رخيصين كده؟”
همسة أرادت أن تواسيها، لكنها توقفت عندما أشارت مي لها بأن تتركها تكمل.
واصلت سيلا:
“هل ده جزاؤها؟ حاولت تكشف الحق وتُظهر الغلط، فكانت نهايتها كده؟ وأطفالها يتيموا؟ إحنا ما عندناش قيمة! بيقتلونا ويسرقونا عشان يعيشوا. شايفين الفرق؟ يختطفونا، يسرقونا، وأطفالنا يتخطفوا مننا كده!”
كانت كلماتها محملة بالحزن، بينما همسة اكتفت بالصمت عاجزة عن تقديم شئ.
همست سيلا بألم: “عايزين يعيشوا على حسابنا احنا. دمروا أولادنا وبناتنا، وبيستغلوا شبابنا. ليه كده؟ ليه رخاص؟”
انهارت في بكاء مرير، فاحتضنتها مي وهمسة، وبكوا جميعًا.
قالت سيلا وسط شهقاتها: “أنا السبب، مقالي هو اللي كشفهم. أنا اللي وضحت التفاصيل، وكمان لما كلمتني، قلت لها إني معاها، ولكنهم غدروا بيها.”
مي حاولت تهدئتها: “ده نصيبها، مش أنتِ السبب. هي شافت شيء غلط، وبلغت عنه. أنتِ قابلتيها بالصدفة، وكتبتِ عشان تثيري الرأي العام، لكن في ناس خانت الأمانة وبينفذوا اللي عايزينه.”
مسحت سيلا دموعها بثبات، وقالت: “لا، مش هكون ضعيفة. مش نصيبها كده. أنا هفضل وراهم لحد ما يوقعوا واحد ورا تاني زي الكلاب.”
مي، قلقًا: “ابعدي عنهم، هم مش قدك.”
سيلا هزت رأسها بنعم، لكن داخلها كان يعلن العصيان. كانت تعرف تمامًا أن ما تفكر فيه قد يكون خطيرًا، لكنها لم تعد قادرة على السكوت أو التراجع. كان هناك شعور قوي داخلها يدفعها للاستمرار، رغم تحذيرات مي.
مي: “أنا خايفة عليكِ، بلاش تأذي نفسك.”
همسة: “بقولكو إيه، فكّوا من جو الدراما ده، ياريتني ما جيت معاكم، أنتو الاثنين أوفر أوي.”
مي: “خليكي على جنب، يافنّانة، النهاردة هنسيبك، طول النهار إرسمي براحتك، عشان ورانا شغل أنا والأستاذة دي.”
همسة: “هتوحشوني أوي، متتأخروش عليا.”
مي: “بتتريق؟”
همسة: “ها، لا، أبداً.”
مي: “بقولكو إيه، عرفتوا شفت مين قبل ما أطلعلكم؟” وغيرت ملامح وجهها.
سيلا وهمسة: “مين؟”
مي: “أخو رودينا.”
سيلا: “أه مش ده اللي حميته إمبارح بكوباية المياه.”
مي: “لأ، ليه أخ تاني؟ سقيل وملزق في نفسه، مش عارفة على إيه. اتعاركت معاه تحت في الريسيبشن وطلعو أصحاب الفندق.”
سيلا: “أصحاب الفندق؟”
مي: “آه، عاوزين نزبطهم بمقالات، خلي السياحة تنضرب عندهم. ولاد اللي تيت دول.”
سيلا ضاحكة بمكر: حلو أوي بس إنتي دخلك إيه؟ أنا وليا عداوة معاه من زمان، هو اتصدر ليكي في حاجة؟”
سيلا: “اتنهدت بضيق. للأسف، آه. لكن محبتش أيامها، وقابلته النهاردة برده.”
سيلا شاركت مي مواقف قديمة وجديدة، مؤكدة أنها سترد الاعتبار لكل ما حدث. همسة، التي لم تفهم ما يدور، قررت أن تجهز أدوات الرسم وتبحث عن مكان هادئ للرسم استعدادًا للمسابقة.
مي قالت لسيلا إنهما بحاجة للتحقق من أصحاب الفندق أولاً ثم العمل على نشر مقالات تفضحهم. ضحكت سيلا ووافقتها على ذلك، بينما ضحكت الاثنتان ضحكة شريرة.
همسة دخلت عليهما، مستهزئةً من تصرفاتهما المجنونة. ثم ألقى الاثنان عليها المخدات، فركضت همسة إلى الباب وقالت: “يا مامي، اللحقيني!”، وأغلقت الباب خلفها.
…
عاصم كان واقفًا بكامل أناقته في بدلته السوداء، وقد وضع أفخر العطور ومرّ بشعره قبل أن يوجه حديثه إلى أخيه الذي بدأ يغلبه النعاس: “ارتاح شويّة، خلي تليفونك جنبك ومتتأخرش. هخلص شوية حاجات هناك، تكون ارتحت، سامعني؟”
رفع الأخ يده ليؤكد أنه سمعه، فابتسم عاصم وقال: “ماشي، سلام.”
لم يكاد عاصم يخرج حتى رن هاتفه، فاستقبل المكالمة قائلاً: “عاصم، تحت أمرك يا فندم.”
من الجهة الأخرى، سُمع صوت يقول: “أيوه يا عاصم، جاهز؟”
عاصم أجاب: “جاهز يا فندم.”
رد الصوت: “نفّذ النهاردة بعد ما تخلصوا الافتتاح على طول، مفيش وقت، أنت عارف.”
أجاب عاصم: “عارف يا فندم، متقلقش.”
ثم أغلق المكالمة وأجرى مكالمات أخرى، حيث قال في إحداها: “جهزوا لي طائرتي الخاصة، أريدها في مطار الغردقة الساعة… بدون تأخير. فاهم؟” ثم أغلق الخط وانتقل لمكالمة أخرى باللغة الألمانية قائلاً: “أهلاً سيدتي، سأحضر اليوم مع ضيف. أرجو تجهيز المكان قبل الحضور. إلى اللقاء.”
بعدها، توجه عاصم إلى مقر الشركة لمتابعة التجهيزات الخاصة بالحفل. كان الحفل يتضمن قطع الشريط الأحمر، ثم إلقاء كلمة، وبعد ذلك لقاء مع الصحفيين لالتقاط الصور وإجراء الحوار معهم. وفجأة…
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الخامس
توجه إلى مكتبه زافرًا بضيق، يحمل صورة بين يديه يتأملها بتهكم، قبل أن يستعيد تركيزه بعد مكالمة تطالبه بالتوجه فورًا إلى مبنى الداخلية.
دخل المبنى بثبات، يحيط به احترام الجميع، مكتفيًا بإيماءات سريعة حتى وصل الطابق الثاني. عند الباب، فتح الحارس له الطريق بخضوع، فدخل المكتب بخطوات واثقة.
أدى التحية العسكرية:
– “تمام يا فندم، حضرتك طلبتني؟”
دفع اللواء ملفًا باتجاهه:
– “دي مهمتك الجديدة. قبضنا على عنصر، لكن الباقيين هربوا. عندنا عنصر ثالث تورط معاهم، وهو في خطر لأنه ممكن يكون معاه صور للمتهمين. المطلوب حمايته من غير ما يعرف إنه تحت المراقبة. كل التفاصيل في الملف.”
– “تمام يا فندم. أي توجيهات تانية؟”
– “لا، تابعني بالجديد.”
أخذ عاصم الملف وغادر. ما إن فتحه ورأى الصورة حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة:
– “حظك الأسود هو اللي جابك لي تاني… قربت المواجهة.”
….
بعد قليل، التقى عاصم بالمسؤول الذي سيتولى إدارة الشركة السياحية. استمر الحديث بينهما لبعض الوقت حتى قطعه اتصال من الأمن يُبلغه بوجود صحفيين من جريدة الأمل يرغبون بمقابلة صاحب الشركة.
أمر بحزم:
– “دخلهم قاعة الانتظار، ولا تسمح بدخول أي صحفي آخر، ولو اضطر الأمر، امنعهم من مغادرة المبنى.”
ثم وجه نظره نحو المسؤول قائلاً:
– “تقدر تتفضل دلوقتي، راجع اللي طلبته منك. وأول ما يوصل معتز والباقي، هننزل.”
رد أسامة باقتضاب:
– “تمام، بعد إذنك.” ثم غادر.
أمسك عاصم بهاتفه وأجرى اتصالاً بأخيه، لكن لم يجد إجابة. حاول مرة أخرى، دون جدوى، فنفخ بضيق:
– “وقتك يا معتز… قولتلك متتأخرش.”
انتظر قليلاً، واضطر للتوقف مجددًا حتى…
خرجت همسة تركض بابتسامتها، تحمل أدواتها وعلبة ألوانها، تبحث عن مكان هادئ تقضي فيه يومها بعيدًا عن الضوضاء التي أثقلتها منذ الصباح. ظلت تبحث حتى وجدت زاوية مثالية تلائم رغبتها.
ثبتت الحامل الخشبي، وضعت سكتش أبيض كبير أمامها، ووزعت أقلامها داخل كعكة شعرها المرتفعة. أخذت لحظة تتأمل المكان، تستوحي ما سترسمه، ثم بدأت تخطط بالقلم الرصاص، تضع أولى الخطوط بخفة. وضعت السماعات على أذنيها لتستمع إلى موسيقى هادئة، وانعزلت عن العالم من حولها، غارقة في تفاصيل لوحتها.
بقلم شروق مصطفى
لم تنتبه للعيون التي راقبتها منذ اللحظة التي وصلت فيها. كان يراقبها بصمت، وابتسامة خفيفة لا تفارق وجهه، يتابع حركاتها الدقيقة وكأنها لوحة حية. ظل مكانه حتى قطعه صوت هاتفه، فرد بهدوء:
– “خلاص، جاي دلوقتي.”
قبل أن يغادر، ألقى عليها نظرة أخيرة، وكأنها مشهد لن يتكرر. رحل بخطوات بطيئة حتى اختفى، متمنيًا أن يلتقي بها مجددًا.
…..
مي وسيلا خططتا بإحكام لما سيفعلانه مع هؤلاء المغرورين، وجهزتا أنفسهما بعناية، وأضافتا اللمسات الأخيرة على مظهريهما. قبل أن تغادرا، أعطت مي سيلا الكاميرا الخاصة بها، لكن الاتصال المفاجئ من والدة سيلا أوقفهما.
نظرت مي لسيلا باستغراب:
– “إيه ده؟ دي مامتك؟”
أجابت مي على المكالمة بابتسامة:
– “ألو، يا طنط! إحنا كويسين الحمد لله. سيلا جنبي، هأديهالك حالاً.”
أخذت سيلا الهاتف وقالت بلهفة:
– “ألو يا ماما، واحشتيني.”
بعد أن سمعت صوت والدتها، أجابت بتلقائية:
– “آه يا ماما، تليفوني وقع مني واتكسر، ونسيت تماماً. هكلمك من تليفون مي أو همسة. إحنا كلنا كويسين، متقلقيش.”
ثم أضافت بابتسامة دافئة:
– “حاضر يا ماما، هخلي بالي من نفسي. مع السلامة، وسلمي لي على بابا.”
بعد إنهاء المكالمة، نظرت مي لسيلا بحماس:
– “يلا بينا.”
دخلتا الفندق وتوجهتا نحو مكتب الاستقبال. سألت سيلا الموظفة بابتسامة:
– “لو سمحتي.”
أجابت الموظفة بلطف:
– “اتفضلي حضرتك، أقدر أساعدك في إيه؟”
سيلا بخبث خفي:
– “كنت حابة أعرف مين مدير الفندق هنا؟”
الموظفة باستغراب طفيف:
– “في مشكلة واجهت حضرتك؟ أقدر أساعدك أنا.”
سيلا بابتسامة ماكرة:
– “لا خالص، المكان عجبني جداً، والخدمة ممتازة. أنا صحفية وحابة أكتب عن نظافة المكان ومستوى الخدمة، وكنت محتاجة أعرف معلومات عن المدير.”
ردت الموظفة بحماس:
– “طبعاً، الأستاذ عاصم ومعتز الخولي هما المديرين، ولاد عم وشركاء في سلسلة شركات سياحية. لو حابة، ممكن أحدد لحضرتك ميعاد مع الأستاذ عاصم، هو موجود الأيام دي.”
سيلا بابتسامة واثقة:
– “أكيد، بس بعد ما أخلص شغلي اللي جيت عشانه. لما أرجع تاني أحدد معاد.”
سحبت مي خارج الفندق وقالت بخبث:
– “سمعتي؟ عندهم إيه؟ ظبطي كام صورة حلوة من اللي قلبك يحبهم.”
مي بتردد:
– “إنتِ بجد حتقابلي المدير وتحددي ميعاد معاه؟”
سيلا بضحكة خفيفة:
– “إنتِ هبلة يا بنتي؟! أقابل مين؟ أنا بقول كده عشان ما تشكش فينا بس. المهم، استني.”
أخرجت من حقيبتها بطاقة مدون عليها اسم الشركة وقالت:
– “تعالي نسأل على الشركة دي.”
أثار انتباههما تجمع كبير من النزلاء، فقالت سيلا بتعجب:
– “إيه ده؟ ليه الزحمة دي فجأة؟”
توجهتا إلى حارس البوابة وسألته سيلا:
– “لو سمحت، ممكن أعرف شركة A.M فين؟”
نظر الحارس للبطاقة وابتسم قائلاً:
– “هناك، الناحية التانية من الفندق.”
شكرتاه وتوجهتا إلى المكان. وجدا مبنى ضخمًا، وحاولتا الدخول، لكن الحارس أوقفهما قليلاً وتحدث مع سيده قبل أن يأذن لهما بالدخول. أشار لهما بالانتظار في الساحة القريبة لأن المدير مشغول.
…..
حاول عاصم الاتصال بأخيه معتز عدة مرات دون جدوى حتى تلقى مكالمة منه. قال معتز بصوت متهدج:
– “كنت في الحمام بأخد شاور عشان أفوق. خلاص جهزت، ودقايق وأكون عندك. كلمت وليد، هنقابله ونجي سوا.”
رد عاصم بهدوء:
– “تمام، اطلعوا على طول مكتبي. لازم نتكلم شوية.”
أنهى المكالمة معتز قائلاً:
– “ماشي، سلام.”
خرج معتز من الفندق والتقى بابن عمه وليد، وسأله:
– “فين أخوك؟ مجاش ليه؟”
أجاب وليد:
– “لسه قافل معاه، قال إنه في الشركة بيستقبل الوزراء.”
علق معتز وهو يشير بيده:
– “طيب، تمام. يلا بينا.”
وليد، ابن عمه الثاني البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، شريك معهم أيضًا. يتميز بعيون زرقاء كلون السماء وشعر مائل إلى الذهبي، وشخصيته مرحة للغاية. يعشق عاصم ومعتز، فهم تربوا سويًا. أما أخوه الأكبر عامر، فهو متزوج من أخت عاصم، يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، ولديه توأم في الثالثة من العمر.
اجتمع الجميع داخل الشركة وتوجهوا إلى مكتب عاصم، حيث انضم إليهم أسامة، المدير الإداري. بدأ الحديث عن ترتيبات الحفل.
وجه عاصم سؤاله لعامر وأسامة:
– “ها، الكل حضر تحت؟ تممتوا على كل حاجة؟”
رد عامر، ابن عمه، بثقة:
– “أنا رتبت كل حاجة بنفسي. الحفلة جاهزة، متقلقش.”
أضاف أسامة بابتسامة:
– “وأنا جهزت كل شيء تحت. الصحافة كمان حضرت.”
علّق معتز وهو ينظر للساعة:
– “طيب، يلا بينا ننزل. اتأخرنا عليهم.”
نهض الجميع متجهين نحو الساحة الكبرى لافتتاح الشركة الجديدة بموقعها الجديد.
الساحة كانت تحفة معمارية، تتميز بالرقي والتحضر. تضم عدة مكاتب بتصميم أنيق وشاشات عرض كبيرة تُبرز إنجازات الشركة وشركاتها التابعة منذ تأسيسها عام 1980 وحتى اليوم. على الشاشة، عُرضت صور لجدهم ووالدهم، ثم صور لكل افتتاح قامت به الشركة بعد ذلك، مع صور للشركاء والوكلاء داخليًا وخارجيًا.
المكان كان صرحًا عظيمًا يعكس تاريخهم وجهودهم، حيث زُودت المكاتب بشاشات صغيرة للترقيم، مما أضفى لمسة تقنية متقدمة على التصميم. افتتح الشركاء المكان وسط أجواء من الفخر والاحتفاء بإنجازاتهم.
كل شيء كان منظمًا كما يجب أن يكون. وصل عاصم إلى ساحة الانتظار حيث تواجد الصحفيون. كان قد أبلغ مسبقًا المحامي بإبلاغ صاحب جريدة “الأمل”، الأستاذ أحمد الأسيوطي، بضرورة تغطية الحدث، مع تأكيده على وجود صحفية بعينها لتغطية الافتتاح. لم يكن يعلم وقتها أن هذه الصحفية هي نفسها الفتاة التي تصادم معها قبل خمس سنوات في حادث غير متوقع.
اختيار عاصم لهذه الجريدة لم يكن صدفة، بل لأنه علم أن هذه الصحفية هي العنصر الثالث في قضيته، تلك التي أُوكل بحمايتها والحفاظ على حياتها. لكنه، في نفس الوقت، وجد الفرصة لاستغلال هذا الموقف لتكون تغطية الحدث حصرية لجريدتهم، مانعًا أي تدخل من صحفيين آخرين، ومشددًا على الأمن بمنع دخول أي جهة إعلامية بخلاف جريدة “الأمل”.
أكد عاصم على الأمن إبلاغه فور وصول الصحفيين، كما شدد على عدم السماح لهم بالخروج بمفردهم لأي سبب.
حين وصل إلى ساحة الانتظار، رأى الفتاة. كانت سيلا تجلس مع صديقتها مي، تتبادلان الحديث بينما تنتظران دورهما. نظر إليها بنظرة مكر، وكأن القدر يعيد نفسه. لكنها، عندما رفعت رأسها ورأته، اتسعت عيناها بدهشة وصدمتها لم تخفَ. نفس الحال بدا على مي، التي وقفت فورًا بجانب صديقتها، تحاول استيعاب ما يحدث.
أما عاصم، فقد تجاهل نار الصدمة التي أشعلها حضوره بالمكان، وواصل طريقه مع شركائه والوزراء لافتتاح المقر الجديد. قصوا الشريط الأحمر وسط تصفيق الجميع.
بينما كان الجميع منشغلين بالحدث، اقترب أحد رجال الأمن من عاصم وهمس في أذنه. أومأ عاصم برأسه وأجاب باقتضاب:
– “سأتولى الأمر بنفسي.”
استأذن من الحضور وتوجه مباشرة نحو سيلا، التي كانت تحاول التسلل للخارج وقفت أمام الباب، تحاول الحديث مع أحد أفراد الأمن، لكنه منعها.
اقترب عاصم بخطوات ثابتة حتى وقف أمامها مباشرة. رفعت رأسها لتنظر إليه، وقبل أن تنطق بكلمة، قال بلهجة هادئة ولكن صارمة:
– “رايحة فين؟ أظن إنه واضح إن محدش يخرج من هنا إلا بإذني؟.”
قالت بحدة:
– “أنا مش محتاجة إذن من حد.
اقترب عاصم من سيلا بخطوات ثابتة، خافضًا صوته ليضمن ألا يسمعه أحد، ثم ابتسم ابتسامة خبيثة وقال: “للأسف، وجودك هنا أصبح شغلي. ومش هسمح لك تخرجي من هنا.” وعندما شعر بأن الغضب بدأ يظهر في عينيها، قرر أن يضع حدًا لهذا الموقف، وأمر قائلاً: “تعالي نتكلم في مكتب فوق.”
سيلا، التي كانت في حالة من الغضب، ردت بعناد: “مش هتحرك من هنا، ولا عاملين معاك حوار. وهنطلع دلوقتي حالًا.”
عاصم، الذي لم يكن مستعدًا لمناقشة الموضوع، قال بهدوء بارد: “ومين قالك إنك طالعة أصلاً؟” ثم وجه إليها أمرًا صارمًا: “يلا يا سيلا، قدامي على المكتب حالًا.”
رفضت سيلا أن تنصاع لأوامره، ومع تصاعد غضبها حملها عاصم على كتفيه وكأنها لا تزن شيئا، مما جعلها في حالة من الذهول والدهشة. حاولت مقاومته بضربه وركله، لكن محاولاتها باءت بالفشل. دخل بها إلى المكتب، وألقاها على أقرب مقعد، ثم حاولت النهوض، لكنه أحاط بذراعيه حولها ليمنعها من الحركة.
هتفت بغضب: “أنا مش مجبرة على فكرة أكمل!”
قال بنبرة باردة كالجليد وعينيه تغلفهما نظرة حادة: أنا هنا اللي أقرر لو كنتي فاكرة أنك هتخرجي من هنا أكيد غلطانة هتنزلي تغطي الحفلة للأخر.
في تلك اللحظة، تدخلت مي، التي كانت تراقب المشهد من بعيد، محاولة تهدئة الوضع. قالت بأدب: “أستاذ عاصم، ممكن أتكلم؟”
عاصم لم ينظر إليها، بل رد بصوت منخفض لكنه صارم في مواجهه سيلا: “عايزة إيه أنطقي؟”
قالت مي بسرعة، وهي تشعر بثقل الموقف: “أنا هقوم بكتابة الحوار بما إننا كنا متفقين على كده من البداية. سيلا مش متخصصة في السياحة، وأنا هأخذ مكانها.”
قاطعها عاصم، غاضبًا، وقال بصوت حاد: “متدخليش تاني.”
بنبرة حازمة: “إنتِ مش هتطلعي من هنا إلا لما أكون راضي عن شغلك. فاهمة؟”
ظلت سيلا تتابع غضب عاصم بصمت، لم ترد فورًا، لكن نظراتها كانت مليئة بالتحدي والمكر. كانت تعلم جيدًا أنها في مواجهة شخص لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، ومع ذلك كانت مستعدة لملاقاة التحدي بعزيمة.
عاصم، الذي أدرك أن المواجهة قد بدأت، ترك لها المجال لتكمل، لكنه لم يخفِ عن عينيها تلك اللمعة التي تكشف عن صراع أكبر بينهما.
قال عاصم بصرامة: “أنتِ مش طالعة من هنا غير لما أكون راضي عن شغلك. فاهمة؟”
سيلا، التي كانت تتوقع تصعيد الموقف، أخيرًا خرجت عن صمتها وقالت بموافقة، رغم أنها كانت تدرك تمامًا أن المعركة قد بدأت. عاصم، الذي توقع هذه الإجابة منها، تركها تواصل، ثم قام معتدلًا في وقفته وقال: “يلا على تحت.”
نزلوا جميعًا إلى الأسفل، وأخرجوا الكاميرات ليبدأوا بتصوير بعض الرؤساء مع الشركاء. في تلك الأثناء، توجه عاصم نحو معتز، الذي كان يراقب الموقف بنظرات مشوشة. عاصم، الذي فهم أن معتز يترقب الأمور، أشار إليه أن يصمت قائلاً: “هفهمك كل حاجة بعدين. سيبهم يشوفوا شغلهم الأول.”
معتز، الذي كان يشعر بقلق متزايد، قال بتردد: “نفسي أعرف بتخطط لإيه من البداية. أنا حاسس إنك بدبر لشيء، لكن ما توقعتش أنهم لدول.” وأشار بيده إلى الفتيات اللواتي كانت تبدو عليهن علامات الاهتمام الغريب.
عاصم أخذ نفسًا عميقًا، ثم أخرجه ببطء، وقال بابتسامة خفيفة: “الشغل عاوز كده! هقوله لأ هسيبك دلوقتي هطلع أقول كلمتي؟”
كانت هذه التقديمه التي قالها منظم الحفلة وهو يقف على منصة مرتفعة بدرجتين، أمامه مايك وطاولة. وفجأة، ساد الصمت في القاعة. كانت الأنظار تتوجه جميعها إلى أ/عاصم الخولي، رئيس إحدى الشركات الكبرى “A.m”، الذي كان يقترب من المنصة.
دقت لحظة التوتر في الجو، وأصبحت كل التفاصيل أكثر وضوحًا؛ الحضور ينتظرون الخطوة التالية منه، متسائلين عما سيقوله. كانت هناك هالة من القوة حول عاصم، الذي كان يبدو هادئًا رغم الجو المشحون بالترقب.
رفع عاصم يده بلطف، وأخذ المايك، ثم نظر للحضور بعينيه الثابتتين. ابتسم ابتسامة خفيفة قبل أن يبدأ بالكلام، وكأن اللحظة كانت ملكه وحده.
“مساء الخير جميعًا. شكرًا لحضوركم اليوم، ولمنظمي هذا الحدث الرائع. هذا اليوم يمثل بداية مرحلة جديدة لنا جميعًا. نحن هنا لنبني، لنتشارك الأفكار، ولنتطلع إلى المستقبل.”
كان صوته ثابتًا، مليئًا بالثقة، لكن بدا أن خلف تلك الكلمات توجد نية أكبر من مجرد الحديث الرسمي…
انسحب عاصم بخطوات واثقة، بينما كانت تصفيقات الحضور تملأ المكان وتوثق الكاميرات كل لحظة. ابتسم عاصم للحضور قبل أن يتوجه الوزراء إلى الحفل المقام في الفندق. بقي عاصم مع شركائه، معتز وعامر، لمراجعة تفاصيل الحدث، بينما انسحب وليد مع الوزراء غارقًا في أفكاره عن تلك الساحرة التي أسرته من النظرة الأولى، متمنيًا لقاءها مجددًا.
أشار عاصم إلى سيلا ومي للانضمام إليه لإجراء حوار سريع حول إنجازات الشركة، حيث شاركت مي التفاصيل بينما بقي معتز متحفظًا حتى أسكتته نظرة حازمة من عاصم. انتهى الحوار بتسجيل سيلا لما دار، قبل أن يتوجه عامر ومعتز إلى الحفل.
أوصى عاصم مي بتوثيق كل ما تراه هناك، وأجابته بثقة. رغم الموافقة، كان عاصم متيقنًا من أن شيئًا ما يُدبر. تابع الجميع إلى الحفل، لكنه ظل مراقبًا سيلا ومي.
همست سيلا لمي قائلة: “الموضوع جا لصالحنا، مش هو اللي جابنا مخصوص؟”
ضحكت مي وأجابتها:
“ضربنا عصفورين بحجر واحد.”
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل السادس
بينما كانت سيلا ومي تمزحان وتضحكان، كان عاصم يراقب شفتيهما بحذر، فهو يعرف كيف يقرأ الشفاه. ثم قالت سيلا فجأة:
“مي، عاوزة تليفونك. هعمل مكالمة منه.”
أجابت مي وهي تمد لها الهاتف:
“اتفضلي.”
ابتعدت سيلا إلى زاوية هادئة وبدأت مكالمتها:
“ألو، أهلاً أستاذ أحمد. كنت عاوزة أستفسر من حضرتك عن شيء…”
سألت عن طلب شركه A.m، وأكد لها أحمد أن اسمها كان مطلوبًا بالذات. بعدها ذكرت له:
“وأنا سمعت إن الممرضة اتقتلت!”
ثم تابعت في دهشة:
“القضية لسه شغالة؟”
أجابها أحمد مؤكدًا أن القضية قد أغلقت بموتها، وتركها في حالة صدمة.
سيلا ردت بتوهان، غير قادرة على تصديق ما سمعته، بينما كان عاصم يراقبها بتركيز، يدرك أن شيئًا ما يحدث. عندما انتهت المكالمة، حاولت سيلا أن تتماسك، لكن دمعة ترقرقت في عينيها. سألها، “مالك يا سيلا؟ فيه إيه؟” لكنها ردت بتوهان، “لا، مفيش حاجة.”
لاحظ عاصم اختلال توازنها، وقرر متابعة تحركاتها. بينما كانت في حالة ضياع، طلبت سيلا شنطتها من مي، ثم همست لها:
“خليكي هنا وكلمي همسة، خليها تيجي هنا، أنا هدخل الحمام و جايه!”
أخذت شنطتها، وتوجهت إلى الحمام لتنفيذ خطتها التي أجلتها كثيرًا.
…..
استغرقت همسة ساعات في الرسم حتى اهتز هاتفها بمكالمة من مي. بعد أن تحدثت معها، قررت الذهاب إليهم، أثناء تجميع أدواتها، اصطدمت بشخص كان يتحدث في هاتفه، فسقطت هواتفهم وأقلامها. اعتذر الرجل بابتسامة وجمع الأقلام معها، وسألها عن لوحاتها. أخبرته أنها فنانة ولديها معرض، ثم أسرعت إلى قاعة الحفل.
بينما كانت همسة تراقب الرجل الذي اصطدمت به وهو يقف مع رجال الأعمال مبتسمًا لها، كانت تفكر في سبب تأخر سيلا ، بعدما قصت لها مي توترها بعد مكالمتها الهاتفية ودخولها الحمام، بينما لاحظت توتر عاصم أيضًا، مما أثار اهتمام الجميع.
ظل عاصم يراقب سيلا حتى دخلت الحمام، ثم عاد للحفل لفترة قصيرة. بعدها اهتز هاتفه فابتعد قليلاً عن الضوضاء، حيث تحولت ملامحه إلى الغضب بعد مكالمة. ضغط على يده حتى شعرت عروقه بالتوتر، وأغلق المكالمة قائلاً: “استعجلتي أوي.”
أخذ عاصم عامر على جنب وأخبره أنه سيغادر في مهمة عاجلة، وأنه يجب على عامر إنهاء الحفل والتغطية على غيابه. عامر تفاجأ بالقرار، لكن عاصم طلب منه أن يرسل معتز مع الفتيات لتوصيلهن إلى بيوتهن.
عاد عاصم إلى الحفل بسرعة، وعندما وقف خارج الحمام، سأل العامل عن من كان بداخله. أخبره العامل بدهشة أن هناك فتاة واحدة فقط داخل الحمام. أمر عاصم العامل بالابتعاد، ثم هجم على الحمام ليجد أنه فارغ. لكن، سمع صوتًا قادمًا من أحد الأبواب.
ــــــــ ــــــ ـــــ ـــــــ
“انظروا إلى هؤلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، يعيشون حياتهم وكأنهم لا يهتمون بما فعلوه بنا. يخطفون ويقتلون، ويستولون على ما ليس لهم حق فيه، على حساب آلامنا وفقدنا. هؤلاء قتلوا الطبيب كي لا يكتشف أحد جريمتهم. نعم، هم يستحقون الحساب العادل، لكن أين حقوق الأبرياء الذين فقدوا حياتهم دون ذنب؟ أين حق الفتاة التي تعرضت للأذى بدم بارد كي لا يعترفوا بجريمتهم؟
ماذا كان ذنب هؤلاء الذين لم يرغبوا سوى في العيش بسلام وأمان؟ هل ذنبهم أنهم فقراء؟ أم لأنهم لا يجدون من يساندهم؟
يُقتلون بلا مبرر، دون أن يجدوا من يدافع عنهم.
أطالب بالبحث عنهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات.”
(كانت هذه الكلمات مرفقة بالفيديو والصور الواضحة للمجرمين، حيث كانت تحتفظ بنسخة منها على اللاب توب. وعندما علمت بموت الطبيب وحفظ القضية، شعرت بالغضب وقررت أن لا تتركهم يعيشون حياتهم بهدوء. نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، وكذلك على موقع آخر. استغرقت أكثر من نصف ساعة داخل الحمام، كتبت فيها ونشرتها، وانتظرت حتى بدأ عدد المشاهدات والمشاركات في الارتفاع، وهاشتاج “حساب قتلة الأبرياء” بدأ يتفاعل أكثر فأكثر.
ابتسمت بانتصار، لكنها شعرت فجأة بأصوات تأتي من الخارج. أغلقت اللاب توب بسرعة ووضعته في حقيبتها، ثم فتحت الباب لتخرج. لكنها توقفت، متسعة العينين، ارتجفت قليلاً. لم تكن تتوقع أن يظهر لها أحد داخل الحمام…
وعندما وصلت إلى تلك النقطة، قالت بدهشة!:
“أنت! دخلت هنا أزاي
اقترب منها بسرعة، وعينيه ملؤها الغضب. هجم عليها بشكل مفاجئ، وكتم فمها بيده، بينما كانت لا تزال في حالة من الذهول، غير قادرة على استيعاب ما يحدث أو سبب وجوده هنا. تساءلت في داخلها: ماذا يريد مني؟ ولماذا يفعل هذا؟
كانت عيناها متسعتين، وهو قريب منها، ممسكًا بفمها كي لا تصدر أي صوت. قال بصوت منخفض ولكن حاد:
“مستعجلة على نهايتك؟”
لم تستطع فهم المقصد، وكانت مشوشة، تتساءل عما يجري. رغم أنها كانت قادرة على فك قبضته، إلا أنها كانت تحاول أن تفهم السبب وراء وجوده هنا. هزت رأسها بعنف، يمينًا ويسارًا، محاولة أن تجد إجابة.
أجابها بصوت أهدأ، لكن التهديد كان لا يزال في نبرته:
“ما تستعجليش كده، هي جاية قريب، للأسف مضطر أعمل ده دلوقتي.”
كانت كلمات غير واضحة، ولم تفهم منها شيئًا، لكن التوتر بدأ يزداد. حاولت التملص منه، وضربت بكعب حذائها في قدمه بقوة، لكنه كان قد توقع تصرفها. ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال:
“ولا أي حركة منك هتأثر عليّ. شكلك هتتعبي نفسك على فاضي، هريحك مؤقتًا.”
ثم، بحركة سريعة، ضغط بإصبعه على أسفل رقبتها، في المنطقة التي تسمى “الترقوة”، وفي لحظات قليلة، شعرت بأنها تغيب عن الوعي.
حملها بسرعة، وخرج بها من الباب الخلفي لتجنب أن يراه أحد. توجه إلى سيارته، وأدخلها برفق. أغلق الباب بإحكام، وعاد سريعًا إلى الداخل، حيث كان يعلم أن أخاه في حالة عصبية شديدة، مما جعل الموقف أكثر تعقيدًا.
بينما كانوا في الداخل، لاحظوا أن الحفل قد انتهى، وأن الضيوف بدأوا في المغادرة، ما عدا الفتيات اللاتي بدت عليهن علامات القلق بسبب غياب “سيلا”. في ذات الوقت، كان صوت معتز يرتفع احتجاجًا على أمر ما، مما زاد من التوتر في الجو.
عندما وصل عاصم، كان في حالة من الانفعال، فأخبر معتز بضرورة توصيل الفتيات إلى بيوتهن. رد معتز بتعجب:
“استحالة أوصلهم، أنت عارف إني مش بطيقهم.”
عاصم رفع صوته بنبرة لا تحمل اي نقاش:
“معتز!”
في نفس الوقت، همسة قالت بقلق لمي: “مش موجودة! دورت عليها وما لاقيهاش.”
مي ردت بسرعة: “يلا نسألهم، يمكن يعرفوا راحت فين.”
اقتربت الفتيات منهم وانتظروا حتى ينتهوا من حديثهم. لكنهم تفاجأوا برد معتز، حيث قال:
“أنا مش هوصلهم، مش هكون سواق لهم، يرجعوا زي ما وصلوا.”
تدخلت مي بسرعة وقالت مستفسرة:
“ليه توصلنا؟ وهي فين سيلا؟”
عاصم سحب معتز بعيدًا عنهم وقال بجدية:
“اسمعني، أنا مسافر دلوقتي عندي شغل، طمنهم على سيلا. بعدين هفهمك كل حاجة، لكن دلوقتي لازم توصلهم لبيوتهم.”
ركب عاصم سيارته بسرعة، بينما عاد معتز إلى الفتيات وقال بنفاذ صبر:
“يلا، جهزوا نفسكم، هوصلكم لبيوتكم.”
مي، التي كانت مشوشة، قالت بقلق:
“فين سيلا؟ ليه مصمم توصلنا؟ إحنا مش صغيرين، زي ما جينا هنروح.”
معتز، وقد بدأ نفاذ صبره، رد بسرعة:
“خمس دقايق، وتكونوا جاهزين والأ، ما تزعلوش.”
وليد، الذي كان يتابع المشهد عن كثب، تدخل وقال:
“أنا هأجي معاك يا معتز. يلا، بنات، بسرعة.”
همسة، والدموع في عينيها، قالت بحزن:
“فين سيلا؟ محدش شافها طيب! مش هنمشي إلا لما تكون معانا.”
مي، بنبرة حازمة، قالت:
“مش هنروح معاكوا.”
جذبت همسة يد مي وسحبتهما للخروج. لكن معتز ووليد لحقا بهما عند باب القاعة، مانعين إياهما من الخروج.
معتز، وقد بدأ يفقد صبره، قال بصوت حاد:
“مفيش خروج. وهتركبوا معايا أوصلكم، بلاش أستخدم العنف.”
لكن وليد تدخل بسرعة محاولًا تهدئته:
“اهدي يا معتز، مش كده هتخضهم منك. في ايه؟ لكل ده؟ يلا بنات، هنعرف مكان سيلا قريب، عاصم أكيد عارف فين هي. متقلقوش، هنمشي دلوقتي وهنطمن عليها.”
همسة قالت بتردد:
“أنا هطلع أجيب حاجتي من فوق.”
مي ردت بسرعة:
“وأنا كمان هجي معاكي.”
معتز نظر إليهما بعينين حادتين، وقال بحزم:
“متتأخروش، خمس دقايق لو مخرجتوش هدخلكوا. فاهمين.”
بسرعة، بدأ الجميع يتحرك نحو الوجهة المحددة.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل السابع
صعدت همسة إلى أعلى بسرعة مع مي، التي كانت مرتبكة وتتحرك بتوتر، قلقة على صديقتها والخوف يسيطر عليها: “يا ترى اختفيتي فين؟ والأغبية اللي تحت مش راضين يقولولنا ليه!”
همسة: “أنا خلصت، يلا يا مي قبل ما الهمجي ده يدخل علينا، أنا خايفة منه أوي.”
مي: “أنا أصلاً مش طايقاه، إزاي هيوصلنا طول الفترة دي!”
همسة: “أنا قلبي واجعني على أختي، هقول لماما وبابا إيه لما يسألوا؟ لازم نبلغ الشرطة على اختفائها. أكيد حصل…”
قاطعتها طرقات حادة على الباب، تلاها صوت معتز: “يلا، الخمس دقايق عدوا، أنجزوا!”
أنهت مي سريعاً جمع أشيائها، وخرجن ليجدن معتز واقفاً عند الباب، يضع يديه في جيوبه وينظر إليهن بحدة: “يلا قدامي.”
تحركن أمامه بخطوات متوترة حتى وصلوا إلى السيارة. ركب وليد بجانب معتز، وانطلقت السيارة بهم جميعاً.
جلس بجانبها في السيارة، مراقبًا ارتجاف جسدها النائم من شدة التعب والقلق. دون تردد، خلع سترته وألقاها فوقها بلطف، محاولًا أن يمنحها شيئًا من الدفء. عادت به ذاكرته إلى المكالمة التي تلقاها من اللواء قبل مهاجمتها في القاعة.
كان الحديث حاسمًا؛ الصور والفيديوهات التي انتشرت كالنار في الهشيم على صفحات الميديا جعلت الوضع أكثر خطورة. المطالبات بأقصى العقوبات ملأت الساحة، وكان واضحًا أن هناك من يسعى للإيقاع بها. أمره اللواء بحزم أن يخفيها عن الأنظار فورًا، فالخطر أصبح أكبر من أي وقت مضى.
عاد إلى الواقع، وألقى نظرة عليها، تمتم ساخرًا:
“غبية… ولسه مصرة تعرضي نفسك للهلاك؟”
ابتسم بسخرية، وعيناه تتأملان الطريق:
“فاكرة نفسك هتغيري العالم لوحدك؟ هتوقفي اللي بيعملوه؟ طيب إحنا هنا ليه؟”
أعاد تركيزه إلى الطريق أمامه، مهيئًا نفسه لما ينتظرهما، وعقله يدور بين التحديات القادمة وما يجب عليه فعله لحمايتها.
ساد الصمت داخل السيارة، وكأن كل فرد فيها محاصر بعالمه الخاص. وليد شارد بأفكاره، تائه في سحر امرأة خطفت عقله بلا رجعة. مي وهمسة تجلسان بصمت مثقل، مشغولتان بالقلق على اختفاء سيلا المفاجئ. أما معتز، فقد بدا ضيقًا من كل شيء، خاصة من تصرفات أخيه التي وضعته في موقف لا يحسد عليه.
الطريق طويل وممل، ومع الوقت بدأ النعاس يتسلل إلى معتز، فتمتم بصوت مبحوح:
“قربنا على ريست… محتاج قهوة أفوق. حد عايز حاجة؟”
رد وليد سريعًا: “آه، ياريت.”
أما مي وهمسة، ظلتا صامتتين، غارقتين في قلقهما.
عندما توقفت السيارة عند محطة استراحة، التفت معتز إليهم:
“لو عايزين تنزلوا أو تشربوا حاجة، يلا.”
همسة هزت رأسها بالرفض، مفضلة البقاء في السيارة، بينما نزلت مي لتشرب فنجان قهوة وتستعيد شيئًا من تركيزها.
رافقها وليد وطلب لهما القهوة، ثم التفت إليها قائلاً:
“ارجعي أنتي، وأنا جاي وراكم.”
عاد وليد ومي إلى السيارة ليجدا همسة قد غلبها النوم. صعدت مي بجانبها، متأملة وجهها المتعب قبل أن تقطع الصمت بسؤال وجهته إلى وليد:
“لو سمحت، ممكن أسألك سؤال؟”
أجابها وليد بهدوء: “طبعًا، اتفضلي.”
قالت بتردد: “ما تعرفش سيلا فين؟”
أجابها بأسف: “للأسف، معرفش حاجة.”
تنهدت مي بحيرة واضحة، قبل أن تهمس: “طيب…”
لم تمر لحظات حتى صعد معتز إلى السيارة، ليلمح أنهما كانا يتحدثان، فسأل بحدة:
“مالكم سكتوا أول ما ركبت؟ في حاجة؟”
رد وليد بنبرة طبيعية: “لا أبدًا، كانت بتسألني عن سيلا وقلت لها معرفش حاجة. أنت تعرف عنها حاجة؟”
زفر معتز بضيق قبل أن يرد بهدوء مصطنع:
“سيلا مع عاصم دلوقتي. هو اللي خلاكم تيجوا الافتتاح مخصوص. بس طالما هي مع عاصم، يبقى تطمني… هي في أيد أمينة. أول ما يكلمني، هبلغكم.”
ارتبكت مي من الإجابة، وقالت بدهشة غير مصدقة:
“سيلا مع عاصم؟! إزاي؟ الاتنين عمرهم ما طاقوا بعض!”
رد معتز بجمود: “ده اللي قالهولي. معرفش أكتر من كده. أنا مكلف بس أوصلكم، والباقي مش شغلي.”
مي ظلت صامتة، تنظر من النافذة وعقلها يعج بالتساؤلات:
“عاصم؟ إيه اللي ممكن يكون عايزه منها؟ إحنا من يوم الحادث وكل واحد بعيد عن التاني… غريب جدًا!”
وزّع معتز القهوة على الجميع، ثم وقف يستريح قليلاً قبل أن يمد يده إلى كيس كبير مليء بالكيك والعصائر والشوكولاتة. رفعه نحو مي قائلاً بنبرة جادة:
“أكيد ما أكلتوش حاجة… اتفضلي.”
نظرت مي إلى الكيس وهي تشعر بالجوع، لكنها ترددت وأجابت بخجل:
“ميرسي… مش جعانة.”
أدارت وجهها إلى الناحية الأخرى لتتجنب الموقف، لكن صوت معتز الحازم جعلها تعود:
“أنا مش بحب أعيد كلامي كتير. وبعدين ده مش ليكي لوحدك، ده لينا كلنا… يعني هتوزعيه علينا، امسكي بقى!”
كان صوته في الكلمة الأخيرة أكثر صرامة، مما جعلها تمسك الكيس سريعًا دون نقاش. وحين لامست أصابعها الباردة يده، لاحظ برودة يديها من المرآة الأمامية، وأخذ يتابعها بنظراته.
دون أن يتحدث كثيرًا، خلع جاكيته وأعطاها إياه بنظرة تحمل أمرًا واضحًا:
“البسي ده… ومن غير كلام.”
نظرت إليه بدهشة وهمّت بالاعتراض:
“بس أنا…”
قاطعها بجديته المعتادة:
“قلت البسي وخلصيني.”
تناولت الجاكيت بتردد وارتدته، مستغربة من ملاحظته أنها تشعر بالبرد. بعد لحظة من الصمت، نظرت إليه وسألت بتردد:
“ممكن سؤال… بس متتعصبش؟”
نظر إليها من المرآة الأمامية، وقال بنبرة متزنة:
“قولي.”
ترددت قليلًا قبل أن تضيف:
“يعني… أنت على طول كده؟”
رفع حاجبه مستفسرًا:
“إزاي يعني؟”
خفضت صوتها وقالت بخجل:
“يعني… متعصب مع الكل؟ أنا كل مرة بشوفك فيها بتبقى متعصب.”
شعرت بالخوف من ردة فعله، فغطت وجهها بيديها كما لو أنها تختبئ. لكنه ابتسم لأول مرة، متسليًا بحركتها الطفولية، وقال بلهجة أخف:
“شيلي إيديك، مستخبية ليه؟”
أنزلت يديها ببطء وقالت بحذر:
“يعني… مش هتزعق لي؟”
عندما رأت ابتسامته، شعرت بالاطمئنان وابتسمت بدورها، قبل أن تضيف ممازحة:
“ما أنت بتضحك أهو، زينا يعني! أمال مالك، يا عم التنين؟”
رفع حاجبه مجددًا وقال بابتسامة خفيفة:
“تنين؟!”
قبل أن يرد، تدخل وليد وهو يضحك:
“أحم… أحم… مش هتاكلونا بقى ولا إيه؟ أنا متت من الجوع!”
انفجر الجميع ضاحكين على كلمته، مما أيقظ همسة التي كانت تغفو بجانبهم. اعتدلت في جلستها وسألت بقلق:
“لقيتوا سيلا ولا إيه؟”
التفتت إليها مي وطمأنتها:
“على الأقل عرفنا هي فين. سيلا مع عاصم، وهو هيجيبها. متقلقيش.”
تنفست همسة الصعداء، وقالت بتأثر:
“بجد؟ الحمد لله، كنت هموت من القلق عليها.”
رد وليد تلقائيًا:
“بعد الشر عليكِ.”
ساد الصمت للحظات، قبل أن تفتح مي الكيس وتبدأ بتوزيع محتوياته عليهم.
مرت ساعات طويلة، ومع شروق الشمس، توقفوا عند منزل مي لتوصيلها، ثم منزل همسة، قبل أن يتوجهوا أخيرًا إلى وجهتهم النهائية.
فاقت سيلا ببطء كأنها لم تنم منذ زمن طويل. شعرت بثقل في جفونها، فتحت عينيها بتردد، لتجد نفسها في مكان غريب. رمقت الغرفة بنظرات مضطربة، ثم همست لنفسها بتساؤل:
“إيه ده؟ أنا فين؟”
حاولت أن تسترجع ما حدث. آخر ما تتذكره كان وجودها في حمام القاعة، ثم هجوم عاصم عليها. وضعت يدها على رأسها عندما شعرت بصداع حاد. عادت تنظر حولها بدهشة وقلق:
“إيه المكان ده؟”
رمت الغطاء عنها ونهضت بسرعة. توجهت إلى النافذة، فتحتها، وتجمّدت في مكانها من الصدمة. المنظر الخارجي كان غريبًا تمامًا، أشجار كثيفة تحيط بالمكان، والجو بدا معزولًا عن العالم. تراجعت وهي تتمتم بارتباك:
“فين أنا؟”
لم تلبث أن لاحظت شيئًا غريبًا آخر. نظرت إلى نفسها، كانت ترتدي “ترنج” قطني وردي لا يخصها. عقدت حاجبيها بدهشة:
“إيه ده؟ مين اللي غير لي هدومي؟!”
الغرفة نفسها كانت بسيطة للغاية، كل شيء فيها مصنوع من الخشب: سرير في منتصفها، دولاب صغير، طاولة وكرسيان. شعرت بالاختناق، وقررت الخروج بسرعة لفهم ما يحدث.
خطت خطوات متسرعة نحو الباب، فتحته وخرجت إلى ممر خشبي، ثم بدأت تنزل درجات سلم خشبي يقودها إلى الطابق الأرضي. كانت تركض بخوف وارتباك حتى وصلت إلى صالة واسعة. الغرفة كانت تحتوي على مدفأة وحطب، وكل شيء فيها يوحي بالعزلة والهدوء الغريب.
رأت بابًا أمامها، هرعت إليه بسرعة وبدأت تحاول فتحه بجنون. الباب كان مغلقًا بإحكام. وبينما كانت تحاول الخروج، جاءها صوت خلفها، عميق ومفاجئ:
“علي فين العزم؟”
التفتت بسرعة، منتفضة من شدة المفاجأة. وقعت عيناها عليه، وخرج صوتها مصدومًا:
“إنت!”
كان عاصم يقف بثبات، يده في جيب بنطاله، وعيناه تنظران إليها ببرود مستفز. قال بلهجة هادئة لا تخلو من سخرية:
“آه، أنا. كنتي متوقعة حد تاني؟”
اشتعلت سيلا غضبًا، تقدمت نحوه بخطوات سريعة ودفعته في صدره:
“إنت… إنت قليل الأدب وسافل! إزاي تهاجمني بالطريقة دي؟ وإزاي تكلمني كده؟ وجايبني هنا ليه؟ أنا فين أصلاً؟ وفين هدومي؟ دي مش هدومي!”
وقف عاصم دون أن يتحرك أو يرد، مكتفيًا بالنظر إليها ببرود شديد زاد من عصبيتها. استدارت نحو النافذة مجددًا، حاولت فتحها دون جدوى، ثم عادت للباب وضربته بقبضتها بعصبية شديدة:
“افتح الباب! افتح حالًا! أنا مش هفضل هنا ولا ثانية!”
رد عاصم ببروده المعتاد، ناظرًا إليها بلا اكتراث:
“خلصتي؟”
صرخت بوجهه:
“إنت بتعمل معايا كده ليه؟ أنا من يوم الحادثة وأنا بعيد عن أختك وماعرفش عنها حاجة! إيه اللي انت ناوي عليه؟”
ظل واقفًا، نظراته الباردة تخترقها. قال أخيرًا:
“انتي هنا علشان تحمي نفسك، سواء عجبك أو لأ. ولو عايزة تفكري غير كده، دي مشكلتك. بس تخرجي من هنا؟ مستحيل.”
تجمدت سيلا مكانها، شعور بالعجز يغمرها كالموج العاتي. أهي أسيرة الآن؟ ومن يكون عاصم ليتخذ القرارات عنها؟
صرخت بتحدٍّ:
“هخرج يعني هخرج، مفيش قوة هتمنعني، فاهم!”
غمض عاصم عينيه، يحاول لملمة أعصابه المشتعلة، ثم قبض يده وتحكم في نبرته ببرود:
“أولاً، مفيش خروج من هنا.
ثانياً، أنا هنا لحمايتك من المافيا اللي سيادتك دخلتي نفسك فيها. ومش بس كده، بعد أول مقال نشرتيه صوت وصورة، كأنك بتقولي لهم: أنا هنا، تعالولي!”
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة صارمة:
“هتتحبسي هنا لحد ما ننهي كل شيء ونمسكهم. وبطلي شغل العيال ده، مش صغيرين. بطريقتك دي، بتضيعي مجهودنا كله.”
ردّت سيلا بحنق:
“ومصلحتك إيه؟ بتحميني؟! إنت دخلك إيه أصلاً؟ مين إنت عشان تمسك مصيري؟ أنا عايزة أمشي من هنا، دلوقتي! هتاخر عليهم كده!”
نظر لها عاصم ببرود، ثم توجه إلى المدفأة وجلس أمامها بلا اكتراث، يتحدث بلا مبالاة:
“تتأخري على مين؟ زمانهم كل واحدة في بيتها وفي سابع نومة.”
تحدق فيه بعدم تصديق:
“بيت مين؟! وأنا؟! إزاي يروحوا من غيري؟!”
ابتسم بسخرية:
“نصيبك كده.”
صرخت بحنق:
“إنت مجنون! مش مصدقاك. أنا همشي من هنا، يعني همشي!”
ابتسم عاصم بهدوء مستفز:
“بصي، أحب أقولك لو عدّيتي من الحراس بره الباب (رجال ضخام كالجدران) والكلاب اللي معاهم بقالهم يومين مش ماكلين لحمة، ولو نجحتي ودخلتي الغابات، مش هتطلعي سليمة. ليكي مطلق الحرية.”
رماها بنظرة تحدٍّ وهو يضع المفتاح على الطاولة الخشبية أمامه بلا مبالاة:
“عاوزة المفتاح؟ أهه.”
تقدمت بخطوات مترددة، عينها على المفتاح، وحين مدّت يدها لتأخذه، هبّ عاصم كالصقر، أمسك معصمها بحزم، وثبّت يدها بين قبضته. صوته صارخ بالنفاذ صبر:
“إنتي إيه؟ مخك ده مش شغال؟! (وأشار إلى رأسها بأصبعه) بقولك إنتي في خطر، والمافيا هتموتك! ما تسمعي الكلام بقى؟!”
نظر إليها بعينيه التي تحمل بركاناً مكبوتاً:
“أنا هنا عشان أخلص مهمتي. انتي هتقعدي هنا لحد ما أضمن سلامتك، وبعدها أنا اللي هوصلك بنفسك بيتك. وبالمناسبة، والدك ووالدتك عارفين، يعني مش خطفك حُباً فيك.”
ظلّت سيلا تحدق فيه بلا حراك، لم يرجف لها جفن، بينما هو خفّض صوته حتى كاد يهمس، لكنه كان كالخنجر:
“إياكي… إياااكي أشوفك قدام الباب ده. مفهوم؟!”
ثم أكمل بصوت انفجر كالرعد:
“مفهـــــووووم؟!”
نظرت سيلا إليه ببرود، ضيقت عينيها ولم ترد، معتقدة أن التجاهل هو الرد الأمثل له.
اشتعل غضب عاصم من تجاهلها، اقترب منها بحدة وأمسك فكها بيدٍ قوية، بينما يثبت يديها الأخرى بقبضته. قال بنبرة تهديد، مليئة بالعزم:
“واضح إنك عنيدة، بس أنا صبري طويل جداً، وهعرف إزاي أخلّيك تسمعي الكلام.”
رفعت سيلا رأسها بتحدٍّ، وفي لحظة استجمعت كل قوتها، واستغلت الفرصة قامت بركله أسفل منطقة الحزام لتدفعه بعيداً عنها بحركة مباغتة. ارتد عاصم للخلف مذهولاً من فعلتها، بينما ألقى عليها نظرة حادة تحمل كل معاني التحذير.
صوته كان جهورياً وهو ينادي الخادمة:
“كاثرين!”
هرولت الخادمة إليه وهي تقول بتوتر ورعب من هيئته:
“تأمر بشيء، سيدي؟”
رد بصرامة:
“أحضري لي الس.وط فوراً، ولا تتأخري!”
انحنت برأسها بارتباك وغادرت لتنفيذ طلبه، بينما سيلا هرولت من امامه مسرعة و…
……
عادت مي إلى المنزل مع أولى ساعات الصباح، فتحت الباب ودخلت بهدوء. الجميع كان نائمًا. توجهت إلى غرفة والدتها، استلقت بجانبها وهمست:
“ممكن أنام في حضنك؟”
ربتت والدتها عليها بحنان:
“طبعًا يا حبيبتي.”
وغفت مي مطمئنة بين ذراعيها.
……
عاد معتز ووليد إلى المنزل، فقال معتز بإنهاك:
“مش شايف قدامي، طالع أنام، ولما أصحى هكلم عاصم أفهم منه. تصبح على خير يا وليد.”
رد وليد بابتسامة:
“وأنت من أهله.”
دخل وليد غرفته، غيّر ملابسه وجلس على السرير يحاول النوم، لكنه شرد بتفكيره:
“يا ريتني طلبت رقمها… أتواصل معاها إزاي دلوقتي؟ غبي أوي.”
تذكر انشغاله باختفاء أختها، فأخرج هاتفه ليقضي الوقت عليه حتى يغلبه النوم، لكنه لاحظ أن الهاتف لا يفتح ببصمة إصبعه، وحين حاول إدخال كلمة المرور، فشل. دقق في الهاتف، ثم لاحظ خلفيته، فتفاجأ:
“ده تليفونها!”
تذكر لحظة الاصطدام وأدرك أن الهواتف قد تبدلت. ابتسم ابتسامة واسعة وقال لنفسه:
“يااه… دي أحلى صدفة.”
أخذ الهاتف بين يديه، احتضنه وهو يفكر كيف سيعيده لها، ثم غلبه النوم على تلك الأفكار.
…..
همسة خبطت على الباب، ففتح لها والدها الذي كان يستعد مبكرًا للعمل بينما كانت نرمين تحضر الفطور.
قالت همسة وهي تحتضنه وتبكي:
“بابا حبيبي، سيلا ما جاتش معايا… أنا خايفة أوي.”
شعر والدها بخوفها وقال لها بهدوء:
“اهدي، اهدي، تعالي، هفهمك.”
ثم جلست معه واستمع لها.
قال والدها وهو يأخذ نفسًا عميقًا:
“حبيبتي، اختك دخلت في مشكلة كبيرة مع مافيا تجارة الأعضاء. كان الموضوع صدفة، لما كانت جنب قسم مستشفى وشافت ممرضة مترددة، فقررت تروح لها وتتكلم معها. الممرضة ارتاحت لها وحكت لها عن الطبيب اللي كان بيعمل عمليات مشبوهة، وصورت فيديو له مع شركائه. اختك شجعتها تتقدم بشكوى ضده، وعملت ده، وبالفعل المباحث قبضت عليه، لكنه مات في السجن، والبنت قُتلت، والموضوع أكبر مما نتخيل.”
همسة نظرت له بصدمة وقالت:
“وأنت كنت عارف؟”
ابتسم والدها ليطمئنها وقال:
“أنا عارف، بس القضية كانت سرية. المباحث بتشتغل عليها، ومش عاوزين نكشف كل شيء. لكن بعد ما نزلت اختك المقال، جت تهديدات وطلبنا منها تبتعد لفترة، علشان كمان ممكن يكون عندها دليل تاني ممكن يضرنا.”
ثم أضاف:
“دلوقتي حياتها في خطر أكتر، وأنتي لازم تكوني مستعدة لأن الموضوع أكبر من كده بكتير.”
همسة كانت مذهولة، ولم تتمكن من الرد.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثامن
همسة كانت في حالة صدمة وقالت:
“ياااااه… كل ده وأنا مش عارفة! عشان كده سيلا انهارت مرتين. أول مرة كانت بتتكلم بانفعال مع حد في التليفون ومن كتر عصبيتها رمت تليفونها في الأرض وكسرته. ومرة تانية انهارت لما سمعت خبر مقتل البنت بطريقة شنيعة وقالت: ‘أنا السبب، أنا السبب بسبب المقال اللي نشرته.’ وصمتت قليلاً، تجمع باقي خيوط الحقيقة.”
قالت لهمسة في ذهنها:
“يبقى عاصم هو الظابط السري المكلف بحمايتها؟ لأنه هو اللي خلى الجريدة دي بالذات تغطي افتتاحية شركته.”
سألت همسة والدها:
“طيب وهي فين يعني مش جنبنا هنا ليه؟”
أجاب والدها:
“أنا اللي أعرفه أنها في ألمانيا. هيسافروا بيها لحد ما الأمور تهدأ، وينهوا القضية، ويمسكوا الطرفين متلبسين، وبعد كده يرحلوا الطرف الأجنبي ويسلموه هناك.”
همسة:
“ربنا يستر. الموضوع ده ممكن يطول وسيلا مش هتسكت. ربنا يستر إن شاء الله.”
في تلك اللحظة، دخلت نرمين، مفاجئة لرؤيتها، وأخذتها في أحضانها قائلة:
“حبيبتي، واحشتيني! عاملة إيه؟”
ثم نظرت إلى محسن، الذي طمأنها قائلاً:
“ما تخافيش، هي عرفت كل حاجة.”
حاولت نرمين أن تطمئنها وقالت:
“ماتقلقيش على سيلا، هتكون بخير.”
همسة، وهي تردد في نفسها:
“يارب يا ماما.”
ثم قالت لها:
“قومي ريحي شويه، شكلك مرهق.”
أجابت همسة:
“أيوه، مرهقة جدًا. هقوم أنا.”
دخلت همسة غرفتها، ثم أخذت حمامًا دافئًا، وأخيرًا غطت في نوم عميق، محاطة بكل تلك الأفكار والهموم.
…
استغلت سيلا الفرصة، ركضت بسرعة وصعدت السلم، ثم دخلت الغرفة وأغلقت الباب، لكنها اكتشفت أنه لا يوجد مفتاح. وضعت كرسيًا على الباب لسده. سمعت خطواته تقترب، فبدأت تلعن حظها وتقول:
“إيه حظ مهبب دا كان لازم يعني اه يا غلبانة يا سيلا؟!”
لكن فجأة، طرق الباب بعنف وقال:
“افتحي، وإلا هكسر الباب على دماغك!”
انتفضت من الصوت تمتت”هربت منهم وهو قال حاميني وجاي يق.تلني!”
ركضت إلى النافذة ووجدت كلابًا أسفلها، فصدمت: كلاب دي مش بيأكلوها ولا ايه يا مُرك.
انفتح الباب فجأة، ووجدته ممسكًا بسوط أسود طويل، مبتسمًا بابتسامة ماكرة.
ابتسمت له وقالت بتردد:
“لا… لا، إهدأ يا شبح، هتعمل إيه؟ كنت بدافع عن نفسي و و.”
….
تحدث بصوت فحيح: “أبعد! دلوقتي!”
بدأ يقترب منها، فابتعدت حول الغرفة حتى توقفت عند النافذة، ثم قفزت على الفراش وقالت: “بص، اعقل! لسه بقول عليك عاقل، هقولك!”
ثم صرخت بشدة عندما لمس السوط.
،،،،،
استفاقت منزعجة على نغمة غريبة، فأمسكت بتليفونها ووجدت اسمًا غريبًا “عامر”، فسألت:
“مين؟”
رد:
“انتي مين؟ وفين وليد؟”
ردت بنعاس:
“وليد مين؟ الرقم غلط!” وأغلقت في وجهه، ثم عادت للنوم.
..
استفاقت مي بعد نوم طويل، فدخلت الحمام وأخذت شاورًا ثم توضأت وأدت فرضها. بعد ذلك خرجت لمساعدة والدتها في المطبخ، قائلة: “بما أني في إجازة اليوم، خليني أساعدك.”
تقابلت مع شقيقها هيثم الذي قال: “صحي النوم يا هانم.”
ردت مي: “صباح الفل عليك يا حبيبي، أوعا تقول إنك إجازة أنت كمان!”
قال هيثم: “إحنا بتوع إجازات برده، ما أنتي عارفة إن الجمعه بس هي الإجازة.”
مي: “مفيش يوم إجازة كده؟ يا ربي! وتاخد اختك تفسحها؟ يا ظالم!”
قال هيثم: “إنتِ لسه جايه من رحلتك في الغردقة، إنتِ وصاحبتك. اتفسحتوا وعملتم هيصة، عاوزه إيه تاني مني؟”
مي: “آه اتفسحنا، أووووي!” ثم ضحكت وهي تقول: “اسكت، مش فاهم حاجه.”
هيثم: “طب تعالي قوليلي، صاحبتك ما عملتش كوارث؟”
مي: “سيلا؟ لا خالص، دي نسمه تتحط على جرح يطيب.”
هيثم: “طبعا كله على يدي، ولسه دماغها من ناحيتي برده.”
مي تنهدت بحزن، ثم قالت: “أنا فاهمتك، بس سيلا مش هتفكر في الجواز. حاول تنساها وشوف حياتك. لازم تكمل.”
هيثم: “مش قادر، حاولت، لكن فشلت. هي مش مديني فرصة. كنت أتمنى أساعدها في اللي مرت بيه.”
مي: “اللي حصل ليها مأثر عليها، بس لازم تعدي. بس مش هي دي سيلا اللي عايشة حالياً.”
تدخلت والدتها بعدما شاهدت مغادره ابنها: “ما تكلّمي معاها. هي هتلاقي حد يحبها زي ما هي.”
مي: “سيلا زي ما هي، ما تغيرتش. بس الكل بيتغير.”
والدتها: “هو في دنيا بتفضل على حالها لازم تقدر تساعد نفسها.”
مي: “تركيبة عجيبة من العناد.”
ثم تكلمت والدتها قائلة: “قولتله سيبك من سيلا، وابقى مع بنت أختي. كفاية إنه مربّيها.”
مي ضحكت وقالت: “طيب ما يفكر فيها كزوجة، لأن سيلا لو استناها هيعنس جنبها.
والدتها: “فال الله بت أنا ماشية الله يعينك في نفسك، اغسلي المواعين، أنا مش قادرة أكمل.”
…..
صرخت بأعلى صوتها عندما لامس السوط طرف الفراش الخشبي، كأن الصوت وحده كان كافيًا ليزلزل كيانها. نظراته الباردة كانت تراقبها دون أن تترك لها مجالًا للهرب. رآها ترتجف وتحاول تبرير موقفها بعبارات متلعثمة، لكنها كانت تعلم أن لا مفر. كان مصممًا على ترويضها، ليجعلها تدرك تمامًا مع من تتعامل.
رفع السوط وضرب به المنضدة الخشبية بقوة، فاهتزت الغرفة بصوت مدوٍ جعل قلبها يقفز بين أضلاعها. نظرت إليه بعينين زائغتين، تحاول البحث عن فرصة للهرب، لكنه اقترب منها بخطوات ثابتة وصوت كفحيح الأفعى:
“يا ترى الضربة الثانية هتكون فين؟”
تراجعت إلى الخلف وهي ترفع يديها محاولة الدفاع عن نفسها، وتقول بتلعثم:
“أنا… أنا بدافع عن نفسي! أنت السبب مش أنا، على فكرة!”
أغمضت عينيها بشدة، وكلماتها خرجت متوسلة:
“أبعد السوط ده عني! خلاص، بلاش كده، يا ماما!”
ركضت بعيدًا في محاولة بائسة للابتعاد عنه، لكنه أوقفها بصوته المرتفع الذي ملأ الغرفة:
“عاوزة تضيعيني، يا بت؟”
نظرت إليه بذعر، وصوتها يرتجف:
“أنا؟ أبدًا! ليه تقول كده؟”
ضيق عينيه بسخرية:
“إنتِ هتستعبطي؟”
هزت رأسها بسرعة وهي تحاول تهدئته:
“لا، طيب… خلاص! مش هعمل كده تاني. امشي بقا!”
اقترب منها أكثر، صوته صارم وحدته لا تقبل النقاش:
“وهو هيبقى فيه تاني كمان! انتي شكلك ما تعرفينيش لسه. وأحسنلك بلاش، لأن وقتها مش هرحمك، بجد!”
لوّح بالسوط في الهواء، الصوت يخترق صمت الغرفة كتحذير أخير. أكمل بصوت بارد:
“ولو كنت ضربت الهوا المرة دي، المرة الجاية ما تضمنيش الضربة فين. ويا ويلك لو فكرتِ تقربي من الباب أو تحاولي تهربي. وقتها بتكوني انتي اللي جنيتي على نفسك يلا أتخمدي.
أنهى كلامه بصرخة حادة، واستدار مغلقًا الباب بقوة جعلت سيلا تقفز في مكانها. بقيت للحظات مرتجفة، تحاول استيعاب ما حدث. بعد أن هدأت قليلًا، همست لنفسها بتحدٍ:
“غبي! مين قاله إني عاوزة حماية أصلاً؟ يحبسني هنا ويعاملني كأني عايشة فيلم رعب، وكل ده عشان يهوشني بالكلاب؟ فاكرني خايفة؟! هي موتة ولا أكتر. لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. مستحيل أعيش مع الهمجي ده، لازم ألاقي طريقة أخرج من هنا… هيعمل إيه يعني؟”
ثم ضربت كفًا بكف وقالت بتذمر:
“يووووه! هتجنن، ولا إيه؟ عمالة أكلم نفسي! ولا حتى معايا تليفون أو اللاب توب، وكل حاجتي ضايعة… آه! شنطتي! لازم أروح أسأله هي فين بدل الزهق ده.”
بعد قليل، فتحت الباب بحذر ومشت على أطراف أصابعها، تتحسس الطريق كأنها تخشى أن يراها. فتحت الباب ونظرت حولها، لكنها لم تجده. قررت أن تبحث عنه، وأثناء سيرها وجدت خادمة تقف في إحدى الزوايا. نادتها قائلة:
“لو سمحتي، فين شنطتي؟”
لكن الخادمة أجابتها بلغة ألمانية لم تفهم منها شيئًا. توقفت سيلا في مكانها، تلوح بيديها في محاولة لإيصال فكرتها، لكنها شعرت بالإحباط.
“يووه! شكله هيشلني هنا! أنا أصلاً بتكلم عربي بالعافية. خلاص، مش مهم!” فكرت للحظة، ثم أضافت بسخرية:
“أهو شكلنا هنتعامل بالإشارة، ما فيش حل غير كده.”
لوحت بيديها بحركة تعني أن الخادمة يمكنها الانصراف، فرحلت الأخيرة دون جدال. عادت سيلا تتمتم:
“طيب! فين هو كمان؟”
نزلت إلى الطابق السفلي وهي تبحث عنه. الجو كان هادئًا بشكل مريب، مما زاد توترها. تفاجأت عندما وجدت المكان فارغًا تمامًا. لا صوت ولا حركة، كأن المنزل قد أصبح مهجورًا.
وقفت في منتصف الدرج تتأمل الصمت الذي يحيط بها، وبدأت ضربات قلبها تتسارع. تمتمت بخوف:
“إيه الهدوء ده؟ حتى الكلاب مش سامعة صوتهم!”
بقلم شروق مصطفى قصص الحياة
أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة تهدئة نفسها، وأكملت نزولها ببطء. وصلت إلى الصالة الكبيرة ولاحظت بابًا مواربًا يؤدي إلى الحديقة الخلفية. تقدمت نحوه بحذر، تدفعه قليلًا لتلقي نظرة، وفجأة…
سمعت صوتًا خلفها جعلها تقفز من مكانها:
“بتدوري على إيه؟”
استدارت بسرعة لتجده واقفًا خلفها، يضع يديه في جيوبه ونظراته الباردة تراقبها، وكأنها طفلة صغيرة تثير استغرابه. شعرت سيلا بالارتباك، لكنها سرعان ما رفعت رأسها وتماسكت، وردت بنبرة متحدية:
“بدور على شنطتي… أو أنت كمان خبّيتها؟”
ظل صامتًا للحظة، ثم قال ببرود:
“شنطتك في أمان، لكن ما فيش داعي تخرجي تدوري عليها. كل اللي تحتاجيه موجود هنا.”
ردت سيلا بحدة:
“أنا مش محبوسة هنا! ومش هسمحلك تتحكم في حياتي!”
نظر إليها بابتسامة ساخرة وقال:
“جربي تخرجي، وهنشوف مين اللي بيتحكم في مين.”
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل التاسع
نظر إليها بابتسامة ساخرة وقال:
“جربي تخرجي، وهنشوف مين اللي بيتحكم في مين.”
سيلا كانت غاضبة وصوتها يعلو بالاعتراض:
“هو كل حاجة عندك لا؟! إيه القرف ده؟”
لكنه لم يجب. ألقى الحطب بقوة على الأرض، وصوت ارتطامه أظهر حجم غضبه. اقترب منها بخطوات غاضبة كأنه عاصفة لا تهدأ.
شعرت بالخوف يعتريها، فتراجعت سريعًا وركضت إلى الأعلى. عقلها يضج بالأسئلة:
“جايبني هنا ليه؟ هعمل إيه؟”
لكن وسط ارتباكها، لمعت شرارة التحدي في عينيها. همست لنفسها بحزم:
“مش هستسلم… لسه ما تعرفش مين سيلا.”
وبينما كانت الأفكار تدور في رأسها، تسلل التعب إليها، فاستسلمت للنوم رغم كل ما بداخلها من اضطراب.
على الجانب الآخر، كان زال يعمل بصمت في الخارج. قطع الحطب بعناية من الأشجار وحمله إلى الداخل، حيث أكمل تقطيعه ليتناسب مع المدفأة. بعد الانتهاء، أغلق الباب بإحكام ليمنع برد الليل من الدخول.
دخل الحمام وأخذ حمامًا دافئًا، وكأن الماء يزيل عن جسده تعب اليوم. ارتدى بنطالًا رماديًا بيتيًا وتيشيرتًا أسود بسيطًا، ثم توجه بهدوء إلى غرفتها.
وقف عند الباب للحظات، يتأملها وهي تغط في نوم مضطرب. اقترب منها، قام بتغطيتها بعناية لتدفئتها، وبينما كان يهم بالمغادرة، سمعها تهمس في نومها:
“ههرب… أنا ههرب منك.”
توقف عند الباب وابتسامة صغيرة تشكلت على شفتيه، وهمس لنفسه:
“وأنا بقا كابوسك من دلوقتي.”
…..
معتز أخذ إجازة من العمل، مرهقًا من السفر. جلس وحده، وذهبت أفكاره إلى وجهها البريء وكلماتها:
“الله، أنت بتضحك زينا أهو.”
بقلم شروق مصطفى
ابتسم دون وعي، لكن سرعان ما عاد لعقله ونفض الفكرة. تمتم بحدة:
“لو الأقرب خان، البعيد هيكون إيه؟ كلهم نفس الشيء… ظاهرهم بريء، وجوّاتهم شياطين.”
حاول أن ينشغل بأي شيء، لكنه لم يستطع الهروب من ظلال الماضي.
….
استيقظت همسة وظلت للحظات تستجمع وعيها، ثم نهضت وكادت أن تخرج، لكنها سمعت رنة غريبة. عادت وأمسكت الهاتف، متسائلة:
“إيه النغمة دي؟ مش بتاعتي.”
نظرت إلى الشاشة فرأت اسم “عامر”. استغربت وقالت:
“مين ده؟ هو أنا مكنتش بحلم؟”
ردت بحذر:
“ألو؟”
جاءها صوت يقول:
“أنتِ مين؟ ده رقم وليد أخويا. أنتِ تبقي مين؟”
نظرت مجددًا إلى الهاتف ولاحظت صورة خلفية غريبة. ردت بسرعة بعدما أستمعت لتأفأفه:
“آسفة، بس شكل الموبايل اتلخبط بعتذر جدًا وهكلم رقمي عشان نبدله.”
رد عامر مطمئنًا:
“ماشي، ولا يهمك. كنت بس بطمن إنه وصل. مع السلامة.”
أنهت المكالمة وقالت لنفسها:
“إزاي مخدتش بالي؟ هكلمه دلوقتي أزاي وأنا مش فاكرة أسمه!.”
اتصلت برقمها، وبعد رنين طويل، رد وليد بصوت مفعم بالتعب، لكنه سرعان ما تغير حين عرفها:
“ألو؟ حضرتك أنا همسة، أخت سيلا، اللي اتقابلنا صدفة في الغردقة، و…”
قاطعها بابتسامة:
“كانت أحلى صدفة، بجد.”
تلعثمت همسة بخجل:
“أحم… واضح إن تليفوناتنا اتبدلت.”
رد بمزاح:
“لحسن حظي عشان أسمع صوتك.”
قالت بخجل:
“محتاجه تليفوني، وأخوك كلمك مرتين.”
قال وليد:
“طيب، نتقابل عند الكافيه جنب بيتك بعد ساعة؟”
وافقت وأغلقت المكالمة. بعدها ذهبت إلى والدها ووالدتها وقالت:
“تليفوني اتبدل في الغردقة، وحد هييجي يرجعه. ممكن تروح تقابله، يا بابا؟”
رد والدها:
“ماشي، هشرب الشاي وأنزل.”
أما وليد، فكان سعيدًا، جهز نفسه بسرعة وتوجه للكافيه، ينتظر لقاءها بشوق.
انتظر وليد داخل الكافيه حتى جاءه اتصال، لكنه فوجئ بصوت رجل خشن يقدم نفسه:
“أنا محسن، والد همسة اللي تليفونك اتبدل معاها.”
نهض وليد ورحب به قائلًا:
“أهلاً بحضرتك، أنا وليد، وآسف لو تعبتك.”
رد محسن:
“مفيش تعب، اتفضل تليفونك.”
تبادلوا الهواتف، ثم أصر وليد:
“تشرب حاجة، يا عمي؟”
لم ينتظر رده ونادى النادل الذي أخذ طلب القهوة. بدأ محسن الحديث:
“همسة قالت إنك وابن عمك وصلتوهم من الغردقة.”
أجاب وليد بارتباك:
“أيوه، يا عمي. كنا راجعين بعد الافتتاح، ووصلناهم.”
تضييق عيني محسن أربك وليد أكثر حين سأله:
“مين عاصم ده؟”
رد وليد بتوتر:
“ده صاحب أكبر سلسلة شركات سياحية، وإحنا كلنا شركاء.”
قاطعه النادل بإحضار الطلب، لكن محسن أكمل:
“عاوز رقم عاصم لو ممكن.”
أعطاه وليد الرقم بقلق، ثم استأذن وغادر وهو يتمتم:
“إيه الراجل ده؟ حاسس إني في تحقيق! ماشي يا همسة، بتسلميني كده؟ استني عليّ!”
عاد محسن للمنزل وأعطى همسة الهاتف قبل أن يغادر لعمله، عازمًا على الاتصال بعاصم لاحقًا للاطمئنان على ابنته.
وضعت همسة الهاتف في الشاحن ثم عادت لإكمال لوحتها. بعد قليل، اهتز الهاتف بمكالمة من مي. أجابت بسعادة:
“أهلاً، حبيبتي. عاملة إيه؟ وحشتيني.”
ردت مي بقلق:
“الحمد لله. طمنيني، في أي جديد عن سيلا؟”
تنهدت همسة:
“بابا وماما طلعوا عارفين كل حاجة.”
تفاجأت مي:
“بجد؟ كانوا عارفين إنها مش راجعة معانا؟”
ردت همسة:
“آه، وطلع الموضوع كبير أوي.”
قالت مي بحماس:
“طيب احكي بسرعة!”
هتفت همسة:
“مش هينفع في التليفون. تعالي بكرة عندي، أشرحلك كل حاجة.”
وافقت مي:
“خلاص، هعدي عليكِ بعد الشغل. بس ماما بتناديني دلوقتي عشان الغدا، هقفل.”
ردت همسة:
“ماشي، سلام، حبيبتي.”
…
في صباح اليوم التالي، ذهبت مي إلى الجريدة لمتابعة عملها. وصلت إلى مكتبها وكانت بالكاد تجلس حين قال زميلها ياسر:
“المدير عاوزك ضروري، بيسأل عنك كل شوية. روحي له الأول.”
تأففت مي وهي تسأله:
“إيه الموضوع؟ عارف هو عاوزني ليه؟”
هز ياسر كتفيه بمعنى أنه لا يعرف. فقالت وهي تهم بالذهاب:
“ماشي، رايحة أهو. يا خبر دلوقتي بفلوس بعد شوية يبقى ببلاش.”
ثم همست لنفسها بمرح:
“شكلي هتعلق! فينك يا سيلا تجيبي حقي!”
ضحك ياسر وأدهم عليها، فقد كانت تضيف جوًا مرحًا دائمًا في المكتب.
وصلت مي إلى مكتب المدير، استأذنت بالدخول، وعندما أذن لها، دخلت.
استقبلها بابتسامة وقال:
“حمد لله على السلامة يا مي.”
ردت:
“الله يسلمك يا فندم.”
قال المدير:
“طبعًا، أخدتِ أجازة، خلاص، ماسمعش كلمة تانية.”
ابتسمت وقالت:
“متشكرة جدًا يا فندم.”
أشار لها بالجلوس وقال:
“في موضوع مهم عاوز أكلمك فيه.”
جلست مي وهي تسأله:
“خير يا فندم؟”
قال المدير بجدية:
“الموضوع متعلق بزميلتك سيلا. أنا عارف كل اللي حصل، والدها صديقي وعلى علم بالموضوع، وأنا اللي خليت سيلا تطلع الرحلة دي تحديدًا.”
صمت قليلاً، ومي تحاول فهم ما يحدث دون أن تقاطعه.
أكمل:
“بما إن سيلا مش هتظهر دلوقتي، محتاجك تمسكي شغلها. هتكتبي عن كل اللي شفتِيه في الافتتاحية والحفلة، وتقيمي الحدث مرفقًا بالصور. بس…”
سألته بحيرة:
“بس إيه، يا فندم؟”
قال بحزم:
“هترفقي اسم سيلا محسن على كل المقالات، سواء افتتاحيات، أخبار مشاهير، أو أي حاجة تكتبيها. مش هينفع غير كده لحد ما ترجع.”
ترددت مي للحظة، لكنها وافقت بإصرار:
“موافقة طبعًا يا فندم، سيلا مش مجرد زميلة، دي أخت، وأنا مستعدة لأي حاجة تساعدها.”
ابتسم المدير بارتياح وقال:
“وده العشم فيكِ. خلصي شغلك وابعتِيه لي للمراجعة قبل ما ينزل العدد بكرة.”
ردت مي:
“تمام، بعد إذنك.”
خرجت من المكتب وهي تتمتم لنفسها:
“مش فاهمة حاجة، بس يلا. أخلص شغلي وأروح أشوف البت همسة.”
عملت بجد طوال اليوم حتى انتهت من المقالات وأرسلتها للمدير، ثم توجهت إلى منزل همسة.
…
أما معتز توجه إلى الشركة للإشراف على العمل ومراجعة الملفات، حيث كانت لديهم عدة فروع يدير كل واحد منها مدير إداري. انشغل معتز بترتيب الأوراق حتى دخل عليه وليد دون استئذان، مما جعله يهتف بانزعاج:
“ما تخبط يا بني آدم! داخل كده زي الثور!”
ضحك وليد قائلاً:
“إيه يا عم، هو أنا داخل عليك الحمام ولا إيه؟”
تنهد معتز باستسلام:
“مفيش فايدة فيك. اتأخرت ليه كده؟”
في الشركة، رد وليد بابتسامة خفيفة على معتز:
“كان عندي مشوار وخلصته وجيت، بس قولي، إيه حكاية أخوك مع الصحفية دي؟ سافر فجأة ليه؟”
رد معتز وهو يضع الأوراق جانبًا:
“عاصم دايماً كده، محدش يعرف بيخطط لإيه. اللي أعرفه إنه في مأمورية شغل، والصحفية دي شكلها عاملة مشكلة كبيرة.”
وليد بخبث:
“وصحبتها؟ نظامها إيه؟”
نظر معتز إليه بحدة:
“صحبتها مين يا عم نحنوح؟ ماتلم نفسك شوية، وانشف كده بدل ما تبقى طري.”
ضحك وليد وقال:
“مكان قلبك ده صخر، ما بيحسش زي البني آدمين.”
ثم أكمل بثقة:
“أتحداك يا معتز، وقت ما تحس إن صورتها مش بتفارق خيالك، تعرف وقتها بس إنك بني آدم عنده قلب.”
رد معتز بجفاء:
“مستحيل. قلبي مات من زمان. الحب ده خليته ليك يا عم الرومانسي. قوم نكمل شغل.”
أومأ وليد بأسف وقال:
“للأسف، مش هتحسوا بقيمة الكلام ده إلا لما يبقى متأخر. لو حسيت إن قلبك اتحرك، أوعى تخسره.”
ثم غادر المكتب وهو يهز رأسه.
تركه وليد في حالة شرود، تتردد كلماته في ذهن معتز رغم تجاهله لها. استغرق في العمل لساعات طويلة حتى شعر بالاختناق من الروتين. قرر المغادرة، فأخذ مفاتيحه ونظارته، وركب سيارته.
ظل يقود بلا هدف في الشوارع لفترة، حتى توقف فجأة عند مكان مألوف، لا يعلم لماذا جذبه هناك!
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل العاشر
استفاقت سيلا ببطء، عيناها مفتوحتان بصعوبة، وألم الصداع يضرب رأسها بشدة. حاولت النهوض، لكن جسدها خذلها، فاختل توازنها وسقطت جالسة على حافة السرير. شعرت بدوار مرير، إلا أنها عزمت على الوقوف مجددًا. بعد محاولات شاقة، تمكنت من الاتكاء على الحائط، خطت خطوات مترددة حتى وصلت إلى السلم، تشبثت به بحذر ونزلت ببطء.
كان المنزل غارقًا في سكون مريب، ولم تلحظ أي حركة أو وجود لأحد. شعرت براحة داخلية لعدم وجود من تضطر للتعامل معه، فهي بالكاد تمتلك الطاقة لمواجهة نفسها. اتجهت نحو المطبخ، تشتاق إلى قهوتها الصباحية التي اعتادت أن تمنحها بعض الحيوية. أخذت تبحث عن شيء ما، لكن عينيها لم تقعا على ما تبحث عنه. خارت قواها مجددًا، فجلست على أحد المقاعد، متعبة ومنهكة.
أسندت رأسها المثقل على الطاولة، وأغمضت عينيها، لكنها لم تجد سوى سواد يمتد أمامها. فجأة، ارتخت يدها الثقيلة وسقط جسدها تدريجيًا، وكادت تهوي على الأرض لولا أن يديه أمسكتا بها في اللحظة الأخيرة.
كان قد استيقظ للتو على وقع خطواتها المرتبكة وأصوات خفيفة كادت أن تخفى. هرع نحوها وحملها بين ذراعيه، ثم وضعها برفق على الأريكة. حاول إيقاظها بضربات خفيفة على وجهها، لكن دون جدوى. تركها للحظة وأحضر زجاجة عطره القوية، محاولًا إنعاشها، إلا أن استجابتها كانت معدومة.
عاد عاصم سريعًا بكوب ماء محلى بالسكر، قلبه جيدًا واقترب منها، ثم عدل جلستها برفق ممسكًا بظهرها ليساعدها على الشرب. كان قريبًا منها للغاية، قدم لها القليل من الماء، وببطء بدأت تستعيد وعيها شيئًا فشيئًا. فتحت عينيها بصعوبة، وبمجرد أن شعرت بقربه منها، دفعته بعيدًا قائلة بصوت حاد:
“ابعد عني.”
تركها على الفور واستقام واقفًا، ينظر إليها بتركيز، ثم سأل بجدية:
“آخر مرة أكلتي كانت إمتى؟”
خفضت رأسها وأمسكت جبينها بيدها، تتنفس ببطء وبصوت ضعيف مهزوز:
“مش فاكرة… يمكن من يوم الحفلة أو قبلها.”
بقلم شروق مصطفى
حدقت عيناه بها بصدمة، فهو أدرك فجأة أنها قضت يومين كاملين دون طعام؛ يوم افتتاح الحفل واليوم الذي جلبها فيه إلى هنا. صمت برهة، ثم استدار وابتعد متجهًا نحو المطبخ لتحضير الفطور.
حاولت الوقوف واتباعه، متثاقلة الخطى حتى جلست أمام الطاولة في المطبخ وقالت بصوت متعب:
“فين القهوة؟ مش لاقياها… صداع رهيب.”
كان عاصم منهمكًا، ظهره لها بينما كان ينهي طبقًا من الأومليت. التفت إليها قليلاً بعد أن وضع الحليب على النار وسخن الخبز، ثم قال بصوت حازم:
“مفيش قهوة إلا لما تشربي ده” -وأشار إلى كوب الحليب- “وتاكلي ده” -وأشار إلى طبق الأومليت-.
رفعت حاجبيها بتحدٍ ونظرت له قائلة:
“مين قال إني عاوزة أكل ولا أشرب؟”
ثم زفرت بضيق وحاولت النهوض. لكن عينها وقعت على كيس القهوة الذي وضعه في أعلى الدلفة، فتمتمت بصوت منخفض وبامتعاض:
“قال اشرب لبن! شايفني طفلة لسه هشرب لبن؟ وبيض إيه اللي يعمله ده كمان؟!”
استدار فجأة إليها وسحب الكيس من فوق الدلفة، متجاهلًا تعليقها، ثم عاد إلى طهي الفطور. مدت يدها محاولة أخذ الكيس منه، قائلة بإصرار:
“ممكن الكيس بقا؟”
هز رأسه بالرفض وأشار إلى الطعام قائلًا:
“ده يخلص الأول.”
شعرت بالغضب، فردت:
“مش قادره أتكلم بجد، متعصبنيش بقا.”
لكنه أجاب بثبات:
“قولت لا. يلا كلي الأول.”
قالت بتحدٍ:
“مش هاكل!”
ابتسم بسخرية ورد بهدوء:
“براحتك، مفيش قهوة.”
نظرت له بعناد وأجابت:
“هشرب القهوة الأول، وبعدها هاكل.”
رد ببرود:
“مش هتكلم كتير. مش بعزم، يلا اتفضلي.”
شعرت بالإرهاق وعدم الرغبة في مجادلته أكثر، فجلست بصمت وأبعدت كوب الحليب بتقزز، ثم تناولت بضع لقيمات صغيرة من الطعام. بعد أن انتهت، رفعت رأسها وقالت:
“ممكن القهوة بقا؟”
بقلم شروق مصطفى
كان قد أنهى إعدادها بالفعل، فناولها الكوب قائلًا:
“اتفضلي.”
تناولت القهوة وشكرته باقتضاب. جلس هو على الطاولة وبدأ في تناول فطوره بصمت. بمجرد انتهائه، نهض وغادر المطبخ متجهًا إلى مكتبه.
أما هي، فقد أنهت قهوتها وعادت إلى غرفتها، تشعر بالضيق والتوتر. ظلت تفكر كيف يمكنها التخلص من وجوده، فهي لا تطيق البقاء معه. أخذت تتمشى في الغرفة بقلق، تتأمل تفاصيلها، ثم اقتربت من النافذة محاولة فهم المكان. لم ترَ سوى غابات كثيفة وأشجار شاهقة تحجب أي معالم للطريق. شعرت بالارتباك، وكأنها عالقة في مكان لا سبيل للخروج منه.
تنهدت سيلا بعمق، وهي تتمتم بضيق:
“أنا فين بس؟ وداني فين ده يا رب؟ فاكرني سكت وخلاص؟ ماشي، نشوف!”
توجهت نحو الدولاب، فتحته لتجد ملابسه مرتبة بعناية. أخذت تتفحصها حتى انتقت بنطالًا طويلًا وتيشيرتًا بأكمام طويلة. بعد أن ارتدتهما، وقفت أمام المرآة، فضحكت على شكلها؛ الملابس كانت واسعة جدًا عليها بسبب قصر قامتها مقارنة بطوله، لكنها هزت كتفيها بلا اكتراث:
“مش مهم!”
خرجت من الغرفة بخطوات حذرة، عاقدة العزم على استكشاف هذا المكان الغريب، بحثًا عن مخرج للهرب منه. أثناء تجولها في المنزل، لفت انتباهها باب خشبي داخل المطبخ بدا مختلفًا عن باقي الأبواب.
بدأت تتحرك بخفة، تتلفت يمينًا ويسارًا، متأكدة من خلو المكان. نزلت إلى الطابق السفلي بخطوات بطيئة، تتفحص جميع الاتجاهات بحذر شديد. لاحظت الهدوء التام، فلا أثر لعاصم، ولا حتى للخادمة. تساءلت في نفسها:
“يا ترى هو فين؟”
ثم أكملت بابتسامة خفيفة:
“أحسن!”
اتجهت نحو الباب الخشبي، وقفت أمامه وحاولت فتحه، لكن الباب كان مغلقًا بإحكام. زفرت بضيق، وبدأت تدفعه بكل ما أوتيت من قوة، دون جدوى. استدارت لتعود، لكنها تجمدت في مكانها فجأة.
كان داخل مكتبه، يجلس أمام جهاز الحاسوب، يتابع سير العمل في شركته عبر تقارير ومكالمات متواصلة. أجرى اتصالًا أخيرًا طلب فيه إرسال خادمة جديدة لتتعامل معها، فقد أدرك أن الوضع يتطلب شخصًا أكثر صبرًا. في الوقت نفسه، لم يكن يغفل عن مراقبتها؛ فقد وضع كاميرات في أرجاء المنزل، وكانت تحركاتها جميعها تحت ناظريه. ظل يراقبها بابتسامة خفيفة، متسلّيًا بتصرفاتها العفوية ومظهرها في ملابسه الفضفاضة. بعد لحظات، قرر أن يترك مكتبه ويذهب للتسلية قليلاً.
بينما كانت سيلا تقف أمام الباب الخشبي محاولًة فتحه، كان عاصم يقف خلفها مباشرة، يراقبها بصمت وعيناه تضيقان بنظرة فضولية مشوبة بالجدية. لم يكن يبدو غاضبًا، لكنه كان يدرس تصرفاتها بتمعن.
قال بصوت هادئ، لكن نبرته تحمل تحذيرًا خفيًا:
“كملي، وقفتِ ليه؟ هاتي أخرك بقى! وبالمناسبة… إيه اللي لابساه ده؟”
شعرت بالارتباك من وجوده المفاجئ ونظراته الساخرة، فردت بتردد وهي تحاول التظاهر بالهدوء:
“ك… كنت زهقانة فقلت أتمشى شوية… إيه بلاش.”
ثم نظرت إلى نفسها وأشارت إلى ملابسها الواسعة:
“مش لاقية حاجة ألبسها! شنطتي مش معايا وأنت السبب في كل ده.”
عاصم، بنبرة مليئة باللامبالاة، استدار ليوليها ظهره وهو يقول ببرود:
“يلا على أوضتك، مش عاوز رغي كتير، وما تطلعيش منها.”
شعرت بالاستفزاز من تجاهله وبروده، فردت بغضب واضح:
“مين قالك إنِّي عاوزة حماية؟ اللي بيحمي حد يخطفه ويحبسه كده؟! أنا عاوزة أمشي من هنا! مش هقعد دقيقة واحدة، سامع؟”
لكنها لم تجد ردًا. نظرت حولها، فرأته يدخل مكتبه بهدوء وكأنها لم تكن موجودة. لم يعرها أي اهتمام، مما زاد من غضبها. ضربت الأرض بقدميها بحنق وقالت بصوت تحدٍّ وهي تغادر المطبخ:
“وأنا همشي يعني همشي من هنا، حتى شوف!”
توجهت نحو النافذة في غرفة المعيشة. حاولت فتحها بعصبية، لكنها كانت مغلقة بإحكام. التفتت حولها ووجدت قطعة أنتيك معدنية على المنضدة، فأمسكتها بإصرار، ورفعتها بقوة لتحطم الزجاج.
تراجعت للخلف قليلًا وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تضرب الزجاج بكل قوتها. لكن فجأة، وقبل أن تضرب، شعرت بيد قوية تمسك معصمها بقوة وتوقفها في اللحظة الأخيرة.
التفتت لتجد عاصم يقف خلفها مباشرة، نظرته حادة ونبرته صارمة:
“إنتِ بتعملي إيه؟! فاكرة الهروب لعبة؟”
أمسك عاصم بيد سيلا بقوة، لوى ذراعها للخلف وألقى القطعة المعدنية على الأرض بعنف. ضغط على ذراعها بشدة حتى شعرت بألم حاد وكأن عظامها ستنفصل عن مكانها. أنَّت بصوت مكتوم، تحاول إخفاء ألمها:
“سيبني!”
تحدث ببرود، لكن نبرته كانت مشدودة كأنه يكبح غضبه:
“فاكرة قعادك هنا برغبتي؟ أنا مستني المهمة دي تخلص عشان أخلص منك! مش طايق وجودك أصلاً. عندي شغل أهم من التعامل مع تصرفاتك الطفولية.”
ردت بصوت متحشرج، تحاول الإفلات من قبضته:
“سيب ذراعي… سيبه بقى! أنت شخص همجي!”
اقترب منها، همس في أذنها بنبرة منخفضة، لكنها حملت تهديدًا واضحًا:
“فكري تعملي كده تاني، تعلي صوتك أو تتجرأي تقللي أدبك معايا. جربي بس، وشوفي رد فعلي المرة الجاية. ما تلعبش بالنار، سيلا.”
ثم دفعها فجأة للأمام، فسقطت على الأرض بقوة. أمسكت بذراعها المتألمة، ورفعت رأسها لتنظر إليه بعينين غاضبتين:
“ومين قالك إني طايقاك أصلاً؟! أو حتى عايزة أشوفك؟ الحامي هو اللي خلقني، مش أنت. خليك في حالك وسيبني أرجع لبيتي! مش محتاجة مساعدتك ولا حمايتك. لو خايف عليّ من الموت، فأنا ما عنديش مانع أواجهه. بلغ رئيسك إنك مش هتكمل المهمة. انتهينا!”
نهضت بصعوبة، متجاهلة نظراته الباردة، واتجهت نحو النافذة مرة أخرى. انحنت والتقطت القطعة المعدنية من الأرض بعزم.
لكن فجأة، وقبل أن تحرك يدها، شعرت بظله خلفها. استدارت ببطء، لتجده يقف هناك، عينيه تشتعلان بالغضب. أمسك القطعة المعدنية من يدها بقوة وألقى بها بعيدًا، ثم اقترب بخطوات ثقيلة ونبرته منخفضة لكنها حادة كالسيف:
“إنتِ مصرة تخليني أتصرف بطريقة مش هتعجبك، مش كده؟
نظرت إليه بتحدٍ، لكن قلبها تسارع نبضه. شعرت للحظة أنها ربما تجاوزت الحد، لكنه أكمل بصوت صارم:
“المرة الجاية اللي هتفكري تعملي فيها حاجة زي دي، مش هيبقى عندك فرصة تكرريها تاني.”
ثم استدار وتركها واقفة وحدها، يشتعل في داخلها مزيج من الخوف والغضب.
ـــــــــــــــــــــ
أنهت مي عملها وسلمت المقال الذي كتبته باسم صديقتها سيلا، وتركت الأوراق للطباعة، ثم توجهت إلى همسة للاطمئنان عليها. بعد السلامات وتقديم واجب الضيافة، دعتها همسة إلى غرفتها.
جلست مي على طرف السرير ونظرت لهمسة بقلق قائلة:
“إيه البرود اللي فيكي ده يا بنتي؟ طمنيني عليها! قلبي مش مرتاح لسيلا، حاسة إنهم هيخلصوا على بعض.”
أخذت همسة نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول استيعاب كل ما يحدث، ثم قالت:
“والله يا مي، أول ما رجعت البيت كنت متوترة جدًا، وما كنتش عارفة أقول لهم إيه. بس أول ما بابا فتح لي الباب، انهارت أعصابي ومقدرتش أتمالك نفسي. الغريب إنه كان هادي جدًا وقعد يشرح لي الموضوع كله.”
مي، وهي تقترب منها لتسمع التفاصيل:
“طب قوليلي، فهمتي إيه؟”
همسة جلست بجانبها وأخذت تروي:
“بصي، الموضوع بدأ لما سيلا نشرت مقالها الأول عن العصابة. الداخلية وقتها قررت تعين ظابط سري لحمايتها، خصوصًا بعد ما الممرضة والدكتور اللي كانوا على علاقة بالقضية اتقتلوا. بعد كده، قرروا يبعدوا سيلا عن الأنظار شوية لحد ما يسيطروا على الوضع ويمسكوا باقي أفراد العصابة.”
مي، بدهشة:
“ومين الظابط ده؟”
همسة، بنبرة جادة:
“عاصم! الظابط السري المكلف بحمايتها. هو اللي طلب من الجريدة إنها تغطي الافتتاحية عشان يبعد عنها الشبهات، خصوصًا إنها لو فضلت تكتب عنهم، العصابة هتلفت نظرها ليها بسرعة.”
مي، بتوتر:
“بس سيلا ما تسكتش. أكيد عملت حاجة!”
همسة أكملت:
“بالضبط. لما سيلا عرفت بالصدفة إن الدكتور اتق.تل يوم الحفلة، نشرت صور العصابة على أكتر من موقع. وقتها عاصم اتصرف بسرعة وسفرها لمكان محدش يعرفه لحد ما القضية تخلص.”
مي، بإحباط:
“يا حظها الأسود! بقولك، تفتكري تأقلمت معاه؟”
همسة، بابتسامة صغيرة:
“اللي أنا متأكدة منه إنهم مش بيطيقوا يشوفوا بعض. سيلا عصبيتها فوق الوصف، وعاصم شكله ما بيعرفش يتفاهم!”
ثم توقفت مي فجأة كأنها تذكرت شيئًا، وقالت:
“دلوقتي فهمت ليه المدير كان مصر إني أكتب أي مقال باسم سيلا! حتى المقالات اللي ما لهاش علاقة بالقضية طلب إنها تكون باسمها هي. عايز يشغل العصابة عنها بأي شكل. ومش بس كده، يوم الحفلة عاصم كان مصر إنها هي اللي تعمل الحوار بنفسها، رغم إننا كلنا كنا بنعرض نساعد. واضح إنه كان عاوز يبعد الأضواء عنها بأي طريقة.”
همسة، وهي تضرب كفها بكفها:
“ربنا يستر. فاكرة لما وقعها في البسين وهي رمت عليه مياه؟ كان يوم كارثي.”
مي ضحكت وقالت:
“ومشوفتيش يوم الحفلة لما دخلوا في جدال قدام الناس. كان موقف مش سهل أبدًا طيب هي كلمتكم.”
همسة بآسى: لأ، لسة
مي بتنهيدة: “ربنا يعدي الأيام دي على خير. سيلا عصبيتها فوق الوصف، وعاصم شكله عنيد جدًا. أنا خايفة الأمور بينهما تتعقد أكتر.”
أيدتها همسة:
“فعلاً، شكله متكبر، واضح عليهم كلهم مغرورين.”
ابتسمت مي بمكر وغمزت لها:
“بس ابن عمهم؟لأ، ولا إيه؟”
ثم بدأت تقلد صوته بنبرة ساخرة:
“بعد الشر عليكِ!” وضحكت بصوت عالٍ: “والله شكله وقع يا عيني ها اعترفي!”.
ارتبكت همسة وقالت:
“أنا؟ أنا إيه!” ثم انفجرت ضاحكة تتذكرشيئا:
“أسكتي عملت فيه مقلب طلع من نافوخه.”
قهقهت مي وقالت:
“مش قولتلك إنه واقع؟ قولي يا مفضوحة، احكي!”
تنهدت همسة وقالت بمرح:
“لا خلاص، مش هقول حاجة طول ما بتتريقي.”
مي، بابتسامة واسعة:
“لا لا، خلاص، مش هتريق. قولي.”
تنهدت همسة وقالت:
“بصي، اللي حصل إن تليفوناتنا اتلخبطت…”
قصت همسة القصة كاملة عن كيف تبادلت الهواتف معه وكيف انتهى الأمر بدعوته للقاء في مقهى، لكنها أرسلت والدها بدلاً منها، وضحكت:
“كان شكله متعشم أوي، يعيني!”
ابتسمت مي بخبث:
“تصدقي؟ نظراته ليكي كانت واضحة جدًا في الحفلة، وحتى في العربية طول السكة.”
ضحكت مي ثم أكملت:
“يلا، يستاهل! عشان يعرف إننا مش ساهلين. إحنا جامدين أوي!”
ردت همسة بثقة:
“أه طبعًا، جامدين جدًا.”
نهضت مي وقالت:
“يلا، أنا لازم أمشي. اتأخرت. لو سيلا كلمتكم، كلميني على طول.”
همسة: “أكيد، حاضر.”
غادرت مي وركبت سيارة أجرة، وعندما وصلت إلى منزلها وهمّت بالدخول، تفاجأت بأخر شئ تريد أن تراه…
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الحادي عشر
قاد سيارته بلا هدف، شاردًا في كلمات ابن عمه التي لم تفارقه. ذكريات الماضي عادت تطارده، صور متقطعة وصوت والدته يختلط بشخص آخر، والدماء تغطي المشهد. حياته تحطمت منذ ذلك اليوم. أصبحت الكراهية والعنف جزءًا من روحه، وبدأ يتلذذ بتعذيب من حوله، خاصة النساء. عيناه ازدادت ظلامًا، ونيران غضبه اشتعلت من جديد، لم تهدأ يومًا.
ضغط على كفه بقوة حتى ابيضت عروقه، وتمتم بعصبية:
“إزاي عاوزني أعيش من جديد؟ وكأن اللي حصل محصلش؟ أنا من جوا ميت. النار دي مش هتطفي أبدًا. أنا اتق.تلت خلاص، والميت عمره ما بيصحى. لازم أكسرها عشان متجيش في بالي تاني. حظها الأسود إنها جات في طريقي، ولازم أنهي وجودها عشان أخلص من التفكير فيها!”
ابتسم ابتسامة شيطانية، وفي غمرة أفكاره وجد نفسه متوقفًا بسيارته أسفل منزلها. نزل بعنف وأغلق الباب بقوة، وكانت هيئته مخيفة للغاية. عيناه توحي كأنه صياد يترصد لفريسته فجأة، لمحها امامه.
كانت قد نزلت من المواصلات، وعندما رأته تجمدت مكانها. كانت نظراته مريبة ومليئة بالشر، ما أثار رعبها على الفور. لم تتحدث ولم تحاول تفسير الموقف، بل اندفعت مسرعة ركضًا نحو منزلها دون أن تنظر خلفها.
دخلت شقتها بسرعة، وأغلقت الباب بإحكام وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. هرعت إلى النافذة لتتحقق من وجوده. رأته واقفًا بجوار سيارته، يضرب كفه على سقفها مرارًا وكأنه يخطط لشيء ما.
رفع رأسه فجأة، ونظر مباشرة نحو نافذتها بابتسامة خبيثة، كأنه يعلم تمامًا أنها تراقبه. شعرت بارتجافة في جسدها، وتراجعت عن النافذة وهي تمسك قلبها بيدها.
ركب سيارته وانطلق مبتعدًا، لكنها لم تستطع التخلص من شعورها بالخوف. همست لنفسها بصوت مرتجف:
“إيه اللي جابه هنا؟ وعاوز مني إيه؟ أنا نقصاك إنت كمان؟ يا ترى جاي ليه؟”
ظلت واقفة في مكانها، ترتجف بين قوتها الظاهرة وهشاشتها الداخلية، تحاول استيعاب ما حدث وما ينتظرها لاحقًا.
ـــــــــــــــــــــ
رن هاتفها بإشعار على تطبيق الواتساب. تناولته بفضول، وما إن فتحته حتى ظهرت أمامها رسالة منه. كانت صورته تظهر بجانب النص:
“صباح الورد والفل على أجمل وردة شوفتها في حياتي. لكن أنا زعلان منك.”
توقفت للحظة وابتسمت بغير وعي. فكرت:
“أكيد زعلان عشان مرحتش قابِلته.”
لكنها لم ترد. أغلقت الهاتف بهدوء ووضعته جانبًا دون أن تعطيه أي اهتمام. عادت إلى لوحاتها الغارقة في الألوان والتفاصيل، منشغلة بإكمال عملها استعدادًا للمسابقة التي لم يتبقَّ عليها سوى أيام قليلة.
بين الحين والآخر، تردد صوت إشعارات أخرى، لكن هذه المرة وضعت الهاتف على الوضع الصامت لتتجنب أي تشويش على تركيزها.
سرحت للحظة وهي تحمل الفرشاة بين يديها، وعادت كلمات مي ترن في أذنها:
“هو فاكر إنه لما وصلنا بالعربية هنتقابل عادي ونتكلم؟!”
ابتسمت بخفة وأردفت بينها وبين نفسها:
“ده طيب أوي.”
تنهدت بعمق كأنها تحاول طرد تلك الأفكار من ذهنها، ثم أعادت تركيزها إلى لوحتها.
داخل غرفة مظلمة، باردة رن هاتف وظهر صوت رجل بنبرة حادة تحمل غضبًا مكبوتًا:
“لقد حذرتك من قبل! إذا ظهرت صوري مرة أخرى، سأمحي وجودك عن وجه الأرض. ألم تفهم بعد؟”
رد الآخر بخضوع واضح:
“أعتذر، سيدي. سأجد هذه الصحفية وأنهي حياتها للأبد.”
جاءه الرد بخبث وابتسامة متوعدة:
“لا… لا أريدك أن تنهي حياتها. أريدها حية. سنلعب معها قليلاً… لتتعلم ما يعنيه اللعب مع الكبار. هل تفهمني؟”
أجاب الرجل الثاني بطاعة:
“أمرك، سيدي. سأرسل رجالي للبحث عنها وأحضرها لك.”
صمت للحظة ثم أضاف الرجل الأول بنبرة باردة مشوبة بالغضب:
“وأين باقي الفتيات؟ لماذا لم أستلمهن بعد؟”
تحدث الآخر بتوتر:
“سيدي، الشرطة تراقبنا منذ نشر الصور الأخيرة. لم أستطع التحرك بحرية. أرجوك اعذرني، لكني أعدك، سننهي كل شيء قريبًا. وسأتصل بك لتأكيد التنفيذ.”
صرخ الأول بغضب:
“كل هذا بسبب تلك الصحفية الغبية! أريدها هنا فوراً! راقب منزلها جيداً، وأرسلها لي دون أي تأخير. هل هذا واضح؟”
رد الثاني سريعًا:
نعم، نعم، سأراقب منزلها، وأرسلها لك فورا.
أنهى المكالمة بغضب واضح، تاركا الغرفة بصمت ثقيل يخفي خلفه عاصفة تنتظر، الأنفجار.
ـــــــــــــــــــــــ
اقتربت من النافذة مجددًا بعد أن أعادت قطعة الأنتيك لمكانها، وأخذت تنظر إلى الخارج محاولة تهدئة نفسها قليلاً. فجأة، هرولت نحو المطبخ، تبحث بسرعة عن شيء محدد بينما كانت عيناها تراقبان الخارج باستمرار خشية أن يكتشف أمرها. عندما لاحظت خروجه فجأة من مكتبه، وقفت كأنها تتناول كوب ماء، متظاهرة بالهدوء.
خرج هو سريعًا من المنزل متجهًا إلى الخارج، واطمأنت أنه غادر. عادت إلى المطبخ لتكمل بحثها المحموم عن أداة رفيعة يمكنها استخدامها لفتح الباب المغلق.
—
في مكان آخر، كان اللواء يتحدث عبر الهاتف:
“إيه الأخبار عندك؟”
رد عاصم بثقة:
“لسه بتحاول تهرب ومش مستوعبة الموقف، لكن متقلقش، يا فندم. كله تحت السيطرة.”
هتف اللواء بنبرة جدية:
“أنا معتمد عليك. ورجالتي شغالين على القضية، إحنا قربنا خلاص، هانت.”
رد عاصم:
“تمام يا فندم. ولو احتجت مساعدتي أنا جاهز في أي وقت.”
قاطعه اللواء بحزم:
“كفاية عليك المهمة اللي عندك. لو احتجتك، هبقى أقولك تنزل. سلام دلوقتي.”
ما إن أغلق عاصم المكالمة حتى ظهرت مكالمة أخرى من رقم مجهول. أجاب بحذر:
“أيوه، مين معايا؟”
جاءه صوت ودي:
“أنا والد سيلا، يا بني. طمّني عليها، هي كويسة وبأمان؟ كنت عاوز أكلمها لو ينفع.”
رد عاصم ببرود:
“اطمّن، هي كويسة وفي أمان. بس مش هينفع تكلمها دلوقتي، لدواعي أمنية. أنا اللي هتواصل معاك بعد كده.”
تحدث محسن بأسف:
“ماشي، يا بني. كنت قلقان عليها بس. هستنى اتصالك. مع السلامة.”
أنهى عاصم المكالمة، ثم توجه إلى صالة الألعاب ليخرج شحنات غضبه المتراكمة.
—
استغلت هي غيابه وواصلت بحثها في درج المطبخ حتى وجدت ما تبحث عنه: أداة صغيرة رفيعة لمعالجة الباب المغلق. لمع بريق عينيها بابتسامة خفية تدل على بداية نجاح مخططها. خبأت الأداة داخل ملابسها، وقررت انتهاز أول فرصة للهروب.
بعد فترة، جلست بجانب المدفأة لتستجمع أفكارها. عاد عاصم متعرقًا بعد تمرينه، واتجه مباشرة إلى غرفته في الطابق العلوي. تابعت تحركاته بنظراتها حتى اختفى.
وقفت بسرعة وتوجهت نحو الباب المغلق، وأخرجت الأداة التي خبأتها. بدأت تحاول فتحه بتحريك الأداة داخل القفل، لكنها لم تنجح. جففت العرق عن جبينها وقالت بصوت خافت:
“مش هيأس… هفضل أحاول.”
عادت لتجلس على الطاولة، شاردة الفكر، محاولة ابتكار خطة أخرى. بينما كانت غارقة في أفكارها، نزل عاصم بعد أن استحم، ودخل إلى المطبخ. التفت إليها بينما كان يحضر لنفسه كوبًا من عصير البرتقال، وقال بنبرة تحذير:
“ياريت تكوني فكرتي كويس وعقلتي، عشان لو قلبتي مش هتعجبك. أنا بحذرك، ومش هيهمني أي توصيات. هما عارفين أنا مين وبعمل إيه.”
تحدث عاصم بنبرة حادة:
“ومتقوليش إني محذرتكيش! انتي هنا بسبب غبائك واستهتارك، وده مش أول مرة تعمليها!”
نظرت إليه سيلا بثبات وأجابت بتحدٍ:
“انت بتهددني؟ أنا بعمل اللي بعمله بمزاجي، ومش خايفة منك أصلاً. ولو الزمن رجع بيا تاني، هعمل اللي عملته من غير تردد، سواء زمان أو دلوقتي. أنا مقتنعة باللي عملته. مش زيكم، سلبيين، تشوفوا الحقايق وتعملوا نفسكم مش شايفين، أو تتحركوا بعد فوات الأوان!”
اشتعل غضبه وهتف:
“انتي فاكرة نفسك مين؟ لما تعرضي اللي حواليكي للأذى؟! مش في زفت نيابة هي اللي بتحقق وقاضي هو اللي بيحكم؟ مين انتي بقى؟ مجرد صحفية مالهاش أي قيمة!”
قاطعت حديثه بانفعال واضح:
“أنا، واللي زيي، السبب إنكم تتحركوا أصلاً! لأنكم لوحدكم ما بتتحركوش. لازم نموت قدامكم عشان تفكروا تتحركوا. حتى لما حد بيتخطف، ما بتتحركوش غير لما يكون الوقت فات. يكونوا اتذبحوا، أو سافروا بعيد، وساعتها تتحركوا!
أنا عملت اللي عملته عشان حقوق الناس اللي ضاعت. لكن واضح إني بضيع وقتي معاك. مفيش فايدة!”
تركته غاضبة، وصعدت إلى غرفتها في الأعلى. أغلقت الباب خلفها، واستلقت على السرير لتستريح قليلاً، تفكر في خطتها القادمة للهروب. همست لنفسها:
“لا مفر… المرة الجاية لازم أنجح.”
—
في الأسفل، تمتم عاصم بيأس:
“فعلاً، مفيش فايدة من الكلام معاكي.”
توجه لاستقبال الخادمة التي وصلت لتوها من مصر، السيدة فاطمة، التي كانت تعمل لدى عائلته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت بالنسبة لهم مثل الأم، خاصة بعد انتقالهم للعيش في منزل عمهم.
استقبله الحارس ليبلغه بوصولها، فابتسم عاصم وسارع لاستقبالها:
“نورتي ألمانيا يا ست الكل.”
ابتسمت السيدة فاطمة وهي ترد عليه:
“نورك يا ابني.”
أشار لها عاصم بابتسامة دافئة:
“يلا ارتاحي في أوضتك شوية، وبعدها حضري لنا أكلة حلوة من إيديك. وحشني أكلك جدًا.”
ابتسمت فاطمة وقالت:
“عنيا يا بني.”
ثم أضاف عاصم:
“عندي ضيفة هنا في الأوضة اللي فوق، اعملي حسابها في الأكل.”
توقفت فاطمة للحظة، ونظرت إليه بدهشة:
“مين دي؟ انت اتجوزت؟!”
تجمد عاصم في مكانه، وأصيب بالصدمة من سؤالها، ولم يعرف بماذا يجيب.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثاني عشر
عاصم نظر إليها بصدمة، ثم انفجر ضاحكًا:
“أتجوز مين يا ست؟! أنت هتبليني ببلوة! لا طبعا، دي أمانة عندي هنا لحد ما أرجعها.”
فاطمة، مدهوشة ومش مصدقة:
“يا لهوي! انت خاطفها يا بني؟! ليه كده؟ دي مش أخلاقك، ولا مشيت في الحرام؟!”
عاصم ضحك بصوت عالي:
“حرام إيه بس؟! ولا خطف إيه؟! روحي ريحي، شكل السفر بقى مأثر على أخلاقك! يلا يلا.”
فاطمة نظرت إليه بعينين مشبعتين بالقلق، ثم قالت بلهجة قاسية:
“والله شكلك مش مريحني، لما أطلع أشوفها.”
رد عاصم بسرعة:
“سيبيها لحد وقت الغدا، وشوفيها بعدين.”
فاطمة هزت رأسها:
“ماشي يا عاصم بيه.”
ثم ذهبت إلى غرفتها بجانب المطبخ لترتاح قليلاً.
—
بعد عدة ساعات، استيقظت سيلا على صوت خبط على باب غرفتها. قامت بسرعة وتقدمت للباب.
كانت فاطمة تقف أمام الباب:
“الغدا جاهز يا هانم، وعاصم بيه منتظرك تحت.”
تركته فاطمة وغادرت.
اتجهت سيلا للحمام لغسل وجهها، ثم نزلت لأنها لم تأكل منذ الصباح. عندما وصلت إلى الطاولة، وجدته جالسًا، فأشار لها بيده دون أن ينظر إليها، كي تجلس.
جلست بجانبه، وبدأت في تناول الطعام بسرعة، وكأنها لم تشعر بشيء حولها. لكن مع مرور الوقت، انتبهت أنه كان يراقبها، فشعرت بالحرج وقالت:
“أحم، شبعت، الحمد لله.”
ابتسم عاصم لها نصف ابتسامة، ثم قال:
“كملي طبقك كله، وقومي بعدين، أنا الحمد لله.”
تركها على راحتها، وذهب إلى مكتبه.
ردت سيلا في نفسها:
“أحسن برده عشان آخذ راحتي… حتى اللقمة بصص لي.”
بعد أن امتلأت معدتها، جاءت فاطمة لتلم الأطباق.
قالت سيلا مبتسمة:
“تسلم إيدك، الأكل جميل. إنتِ اسمك إيه?”
أجابتها فاطمة:
“اسمي فاطمة.”
سيلا ابتسمت وقالت:
“عاشت الأسامي. بس قوليلي، الباب اللي في المطبخ ده بيودي على فين؟”
أجابتها فاطمة:
“ده بيودي على الجنينه اللي بره.”
قالت سيلا بتململ:
“آه، طيب. أنا زهقانة عايزة أطلع الجنينه بره. ممكن؟”
فاطمة قالت بجدية:
“هبلغ عاصم بيه الأول، لو ينفع، هخرجك.”
سيلا ردت بملل:
“يبقى مش هطلع، أنا بقالى يومين هنا محبوسة أصلاً وزهقت بجد.”
فاطمة قالت مطمئنة:
“طالما أنا اللي قولتله، مش هيقولي حاجة. استني بس، هخلص المطبخ وروح استأذنه.”
سيلا ابتسمت بانتصار “لم تاخد بالها.”
انتظرت حتى خرجت فاطمة من المطبخ، ثم دخلت هي مرة أخرى وأخذت شيئًا كانت قد خبأته سابقًا، ثم جلست تنتظر فاطمة.
عندما دخلت فاطمة، بدت حزينة، وقالت:
“موافقش صح.”
ردت سيلا:
“معلش يا بنتي، بكره هكلمه تاني، يمكن يرضى. بس إنتي عملتي إيه مخليه مشدد الحراسة عليكي كده؟ ومش عاوزك تخرجي حتى!”
سيلا ردت بغضب:
“هو أصلاً خاطفني، بيقول إنه بيحميني، وأنا أقدر أحمي نفسي كويس ومستغنية عن خدماته دي!”
فاطمة هزت رأسها وقالت بحكمة:
“لا، يبقى موضوعك كبير طالما بيحميكي. هو أكفأ ضابط مخابرات، مش بيمسك مهمة إلا لو كانت كبيرة قوي.”
أضافت فاطمة بنبرة جادة:
“عنده حق إنه مشدد الحراسة عليكي، اسمعي كلامه يا بنتي، عشان مش عاوزين مشاكل معاه. أنا مربياه وفاهماه. ما يغركيش إنه ساكت كتير كده. لما يطلع غضبه، محدش يقدر يتحكم فيه. خلي بالك.”
ثم قالت بلطف:
“ولو كنتي زهقتي، استني بكرة، يمكن أخرجك شويه.”
سيلا بتفكير:
“هو فين طيب؟ عاوزاه!”
: _ في المكتب “استني، دخلي له القهوة دي معاكِ.”
خبطت على الباب، وسمعت صوته يقول:
“ادخلي يا فاطمة.”
دخلت سيلا الغرفة فوجدت عاصم مشغولًا بالأوراق أمامه، لم يلاحظ وجودها. اقتربت منه بصمت، وضعت القهوة على المكتب، لكن فور أن نظرت إلى شاشة الحاسوب، فوجئت بما رأته، فوقف جسدها فجأة من الصدمة.
كانت شاشة الحاسوب تعرض مراقبة لكل تحركاتها في المنزل. تفاجأت، ووقف قلبها في مكانه. انتبه لها عاصم، أغلق الحاسوب بسرعة، ونظر إليها باستغراب:
“خير، إيه اللي جابك هنا؟”
جلست سيلا أمامه، محاولة الهدوء:
“ممكن أقعد؟”
عاصم رفع حاجبه بتعجب:
“أمال إنتِ عملتي إيه دلوقتي؟”
سيلا كانت قد جاءت لتحدثه بشأن أمر ما، لكنها قررت تغيير خطتها عندما اكتشفت أنه يراقب تحركاتها. شعرت أن لا مفر من الهروب، لكن قررت إعلان هدنة مؤقتة معه.
قالت سيلا بنبرة هادئة:
“يعني، كنت جايه أقولك إني فكرت بكلامك، يعني وأنا شكلي فعلاً اتسرعت. بس أنا هقعد هنا لامتى؟ مش متعودة على حبسي ده، ومش عارفة أنا فين أصلاً.”
عاصم أومأ برأسه:
“كويس إنك فكرتِ، هتقعدي لأمتى لحد ما نمسك أفراد العصابة. إحنا بنراقبهم، وقريب هيتقبض عليهم أول ما يطلعوا من جحورهم.”
سيلا بتفاؤل:
“بجد؟ طيب كويس، بس ما قلتليش إحنا فين؟”
عاصم بضجر:
“في ألمانيا.”
سيلا صُدمت وقالت:
“هااااه؟ بجد؟ طيب إزاي وجيت هنا إزاي؟”
عاصم:
“مش عاوزة رغي كتير. عندي شغل، اتفضلي قومي.”
سيلا بحذر:
“ممكن استعير كتاب من عندك أقرأه بدل الزهق ده؟”
عاصم نظر إليها قليلاً، ثم قال:
“ماشي، خدي. المكتب مليان كتب.”
سيلا بابتسامة صفراء:
“ميرسي.”
ثم قامت تبحث في المكتب عن كتاب، رغم أنها لم تكن تحب القراءة، لكنها وجدت أنها لا تملك خيارًا آخر لتمضية الوقت.
أمسكت بكتاب لفت نظرها بعنوان “موجوع قلبي”، وهمست لنفسها:
“وده إيه اللي وجع قلبه ده كمان؟ عشان يجيب “موجوع قلبي”، هي ناقصة وجع قلب! عدينا المرحلة دي من زمان.”
عاصم، الذي كان يراقبها، رد مازحًا:
“ها، خلصتي كلام مع نفسك ولا لسه؟”
سيلا ابتسمت ابتسامة باردة وقالت:
“لا، أبدًا. لاقيت كتاب هنا، هقراه وأرجعه تاني.”
عاصم:
“ماشي، خدي الباب وانتي طالعة.”
سيلا:
“حاضر.”
خرجت بالكتاب وذهبت لتقرأه.
دخلت غرفتها، غيرت ملابسها، وجلست على السرير. ظلت تقرأ حتى غلبها النوم، والكتاب داخل حضنها.
بعد أن انتهى من عمله، توجه عاصم إلى غرفته ليستريح. لكنه سمعها تتهمس، ثم طرق الباب، ولم يأتِ الرد. ففتح الباب ودخل ليجدها نائمة، والكتاب فوقها. كانت تتحدث وتبكي أثناء نومها:
“ليه؟ ليه كده؟”
وقف عاصم مترددًا، مستغربًا من حالتها، لم يعرف إن كان يوقظها أم يتركها نائمة. قرر في النهاية تركها وشأنه.
أخذ الكتاب من يديها ووضعه جانبها، ثم غطاها بالبطانية.
رجع إلى غرفته لينام بعمق.
أغلقت همسة عينيها بعد أن قرأت الرسائل التي أرسلها وليد، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة قبل أن تسقط في نوم عميق من شدة التعب. في الجهة الأخرى، كان وليد في حالة من الإحباط بعد أن لم يتلقَ أي رد منها، متسائلًا في نفسه عن السبب وراء تجاهلها لرسالته.
أما معتز، فقد ركب سيارته بعد أن أجرى اتصالًا سريعًا، وقال للمُجيب في الطرف الآخر، “انتو فين؟”، وبعدما تلقى الإجابة، أضاف “طيب تمام، أنا جايلكم. سلام.” وقاد سيارته مبتعدًا عن المكان.
دخل معتز الملهى الليلي، وحاول أن يبحث عن حمزة وحسام وسط الأضواء الخافتة والموسيقى الصاخبة. لم يمر وقت طويل حتى عثر عليهم، وكانوا جالسين معًا على إحدى الطاولات.
حمزة: “إيه يا عم، عاش من شافك!” حسام: “لك وحشة، أبرنس! فينك مش بتظهر ليه؟” معتز: “أكون فين يعني؟ في الشغل وقرفه، سيبك مني. أنتم عاملين إيه؟ وأخبار الليلة إيه؟”
حمزة: “إحنا زي الفل، والليلة بدأت تحلو اهيه.”
وغمز بعينيه باتجاه فتاة جالسة مواجهتهم، ملابسها تكشف أكثر مما تستر، وكأنها جزء من التسلية في المكان.
حسام: “بس إيه، رماك علينا المرة دي؟ مش بتيجي إلا وإنت وغمزله.”
معتز: “عندك، ولا أروح أشوف في مكان تاني؟”
حسام ضحك ضحكة عالية: “عيب تقول الكلام ده، وأنا صاحب المكان، كده بتشتمني! طلبك عندي، بس مش عاوزين قلق.”
معتز: “عيب عليك.”
حمزة تدخل: “معتز، أنت مش بطلت الموضوع ده بقالك فترة، رجعت له ليه تاني؟”
معتز: “خليك في حالك.”
معتز نظر إلى حسام قائلاً: “إيه الكلام؟”
حسام قام قائلاً: “خمسة دقايق وجاي.” مرّ بضع دقائق، ثم عاد حسام وغمز لمعتز، قائلاً: “طلبك مستنيك فوق.”
معتز قام وصعد إلى الغرفة، مستعدًا لما ينتظره هناك.
… ..
ظلت مي جالسة في غرفتها، عينيها لا تفارق الجدار أمامها، مشاعر القلق تسيطر عليها. كلما تذكرت نظرته الغريبة، كلما شعرت برهبة أكبر. فكرت في نفسها مرارًا: “أكيد جاي هنا صدفة، مفيش غير كده.” لكنها لم تستطع التخلص من تلك النظرة التي لا تفارق ذهنها، كانت مرعبة لدرجة أنها بدأت تشك في كل شيء حولها.
“أنا و سيلا كنا عاوزين نسيئ سمعتهم و نكتب عنهم كلام غلط في شركتهم… الحمد لله، ملحقناش.” قالت لنفسها، محاولة أن تجد مبررًا لما حدث. “يا لهوي، ده كان موتني بشكله ده.”
استمر التفكير يتوالى في رأسها حتى غلبها النعاس، وغفت على سريرها، بينما كانت الصورة المرعبة التي تركها في ذهنها لا تزال عالقة، تفكر في ما إذا كانت ستلتقي به مرة أخرى، وكيف سيكون رد فعلها حينها.
ــــــــــــــــــــــــــ
دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بعنف، عينيه مليئة بالغضب والانفعال. كانت جالسة تنتظره، لكنها تراجعت إلى الوراء، بعدما رأته واقف أمامها يخلع حزامه ويلفه حول يده، ملامحه مشدودة وعينيه مليئة بالغضب، ثم بدأ في صوته القاسي وهو يردد كلمات مؤلمة عن الخيانة، و ضرباته على جسدها كانت عميقة في تأثيرها، أنتهى منها أرتدى ملابسه، ثم قام بأخراج دفتر الشيكات والقي أمامها، تاركا المكان وهو غارق في أفكاره المشتتة والضبابية.
بينما هو في طريقه إلى منزله، عينيه لا تبرح صورة وجهها الذي لا يزال في ذهنه. كان يحاول الهروب من ذكرياته بطرق مختلفة، لكنه لم يستطع. عندما وصل إلى غرفته، توجه إلى حقيبة الملاكمة ليخرج ما تبقى من غضبه على الحقيبة المعلقة، محاولاً أن يتخلص من تلك المشاعر التي تحاصره.
أخذ حمامًا باردًا على أمل أن يهدأ قلبه، ثم جلس في مكانه، يردد كلمات غير واضحة، وكأنها محاولة لتبرير نفسه. لكن في أعماقه كان يعلم أن ما فعله لن يكون قادرًا على تهدئة تلك النار المشتعلة داخله.
في صباح اليوم التالي، استفاقت سيلا وجلست على السرير لبعض الوقت قبل أن تنهض وتنزل إلى الأسفل. هناك، قابلت فاطمة التي كانت تحضر الفطور.
“صباح الخير”، قالت سيلا بابتسامة.
“صباح الخير يا حبيبتي”، ردت فاطمة بحنان، “بحضر الفطار ثواني ويكون جاهز.”
“لا، أنا محتاجة قهوة مش بفطر”، قالت سيلا وهي تقترب من المطبخ، “خليكي هعملها أنا.”
تحدثت فاطمة بنبرة الأم الحانية: “لا قهوة ايه، لازم تفطري الأول.”
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة وقالت: “عارفة، بتفكريني بماما كل يوم الصبح نفس الكلام ده لحد ما غلبت معايا.”
“عارفة، واحشتني أوي هي وبابا وهمسة…” قالت سيلا بتأثر، ثم صمتت فجأة عندما سمعت صوته خلفها.
عاصم، الذي كان يقف خلفها، قال: ” روحي جهزي الفطار يا دادا.”
“حاضر يا بني”، قالت فاطمة بسرعة، وتركتهما وذهبت لتكمل تحضير الفطور.
ثم نظر عاصم إلى سيلا وقال بنبرة حازمة: “تعالي يا سيلا، على مكتبي، عاوزك.”
لم تلتفت له فور سماعها صوته، لكنها مسحت بيدها بقايا دمعة هربت منها، محاولة إخفاء مشاعرها.
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثالث عشر
وقفت سيلا مكانها، متجمدة، دون أن تلتفت لصوت عاصم. مسحت دمعة تسللت رغماً عنها، دمعة شوق لأهلها. تبعته بخطوات هادئة نحو المكتب.
لاحظ عاصم ارتعاش عينيها، جلس خلف مكتبه وقال بصوت هادئ:
“تعالي، اقعدي.”
جلست أمامه صامتة، فقال مبتسماً:
“خلصتي الكتاب ولا لسه؟”
رفعت نظرها إليه بدهشة، وأجابت:
“لا، لسه. نمت قبل ما أخلصه، فاضلي آخر أربع فصول. غريب أوي، مكنتش متوقعة ألاقي النوع ده من الكتب عندك.”
ابتسم بسخرية خفيفة وقال:
“ليه يعني؟ مش بني آدم زيكم؟ عموماً، الجزء اللي كنتِ واقفة عنده ده مش تبعي أصلاً.”
نظرت إليه بفضول:
“أمال تبع مين؟”
أجاب وهو يعقد ذراعيه:
“ده تبع رودينا، أختي. كانت بتجيب معاها كتب لما كانت بتزور المكتب قبل ما تتجوز، وسبتهم هنا.”
سرحت سيلا للحظة عندما سمعت اسم صديقتها القديمة، وشعرت بضيق غريب. لكنها لم تُعلّق، فقط نهضت وقالت بهدوء:
“طيب، أنا هطلع بعد إذنك.”
وهي على وشك الخروج، استوقفها بصوته الواضح:
“مش عايزة تكلمي أهلك؟”
توقفت، التفتت إليه وأومأت بالإيجاب.
قال:
“طيب، تعالي اقعدي. أنا هكلم والدك.”
تناول الهاتف وأجرى اتصالاً. وما إن رد الطرف الآخر، أعطى الهاتف لسيلا. أخذته بسرعة، وعيناها تلمعان بالفرحة، وقالت بشوق:
“بابا!”
رد والدها بحنان:
“سيلا، حبيبتي! عاملة إيه يا قلب أبوك؟”
أجابت بصوت مخنوق من الشوق:
“أنا كويسة، بابا، بس وحشتوني أوي. أنا عايزة أرجع، مش قادرة أستحمل البُعد عنكم.”
حاول تهدئتها، رغم الألم في صوته:
“معلش يا حبيبتي، دي فترة وهتعدي. قريب ترجعي لنا.”
لكن صوت نرمين، والدتها، جاء سريعاً وهي تخطف الهاتف:
“سيلا! يا حبيبتي، إنتِ كويسة؟ صوتك ماله؟ حد ضايقك؟”
ابتسمت سيلا رغم اختناقها وقالت:
“لا يا ماما، أنا كويسة. محدش مضايقني، بس… وحشتوني أوي. فين همسة؟ عايزة أكلمها.”
راقبها عاصم بصمت، لم يغفل عنها للحظة.
جاء صوت همسة من الطرف الآخر مليئاً بالشوق:
“سيلا! البيت وحش من غيرك. تعالي بقى!”
نظرت سيلا لعاصم بتحدٍ وهي تقول:
“وحشتيني يا همسة. خلي بالك من نفسك، وقريب جداً هكون عندك.”
ردت همسة بصوت منخفض وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
“حاضر. بس قوليلي، عامل معاكي إيه اللي ما يتسماش اللي عندك؟”
همست سيلا وهي تكتم ابتسامة:
“هتوديني في داهية يا بت! هاتي بابا.”
عاد والدها إلى الهاتف وقال بلهجة جدية:
“سيلا، خلي بالك من نفسك. وأنا متفق مع عاصم إنه يخليكِ تكلمينا باستمرار.”
ردت بتوسل:
“بابا، أنا عايزة أمشي من هنا. زهقت، مش طايقة المكان.”
قال والدها بحزم:
“سيلا، بطّلي العناد. إنتِ مش صغيرة، لازم تسمعي كلامه. هو عارف مصلحتك. ولما ترجعي من السفر، هيبقى ليا كلام تاني معاكي.” ثم أضاف:
“هاتي عاصم.”
ناولته الهاتف. تحدث عاصم مع والدها باختصار، ثم قال:
“ما تقلقش، وأقرب وقت هخليها تكلمك تاني. مع السلامة.”
قالت بهدوء ممتن:
“شكراً ليك.”
أجاب بابتسامة صغيرة:
“العفو.”
فاطمة دخلت تخبرهم بأن الفطور جاهز. جلس عاصم على الطاولة وألقى نظرة على سيلا، التي كانت ما زالت واقفة. قال بصوته الحازم:
“اقعدي.”
ردت سيلا ببرود:
“مش هقدر أفطر دلوقتي. سبني على راحتي.”
قال بنبرة لا تقبل النقاش:
“سيلا، اقعدي.”
زفرت بتأفف وجلست في مكانها، ليضيف بصرامة:
“اتفضلي، كُلي.”
أمسكت السكين بعصبية، وبدأت تقطع الجبن بعنف، تصدر أصواتاً واضحة أثناء التقطيع. وضعت قطعة صغيرة أمامها وظلت تنظر إليها دون أن تتحرك.
ابتسم عاصم بسخرية وقال:
“شكلها حلو، صح؟ خلصينا بقا. مش باكل بنت أختي، وبعدين أنا شلت القهوة من مكانها. افطري زي الشاطرة.”
زفرت بضيق، لكنها بدأت تأكل ببطء وهي تنظر إليه نظرات مليئة بالغضب والاحتقان. بعد دقائق قليلة أنهت إفطارها وقالت بنبرة تحدٍ:
“ممكن أشرب قهوتي بقى؟”
نظر إليها ببرود وقال:
“أفكر.”
همست بكلمات وصلت لمسامعه:
“إنسان بارد.”
رفع عينيه نحوها وقال بعصبية:
“قلة أدب! مش بحبها.”
صمتت على الفور، متجنبة إثارة غضبه أكثر. نادى على فاطمة قائلاً:
“داده، اعملي لها قهوة.”
ردت فاطمة:
“حاضر يا بيه.”
نظرت سيلا إليه بخجل وقالت بتردد:
“كنت عاوزة أطلب حاجة كده يعني…”
أجاب بحدة:
“اطلبي!”
تحدثت بصوت منخفض:
“أنا هنا ومعنديش لبس، ومحتاجة آخد شاور يعني و…”
قاطعها سريعاً:
“طيب، ماشي. هتصرف.”
نهض من مكانه غاضباً، تناول مفاتيح سيارته، وغادر دون أن يضيف كلمة.
بعد دقائق، جاءت فاطمة بالقهوة. شكرتها سيلا، ثم لمعت عيناها بفكرة. استغلت خروجه السريع، وهرعت إلى غرفتها. بدّلت ملابسها سريعاً، وأحدثت بعض الفوضى المتعمدة في الغرفة. جلبت شيئاً كانت قد أخفته سابقاً، ثم اتجهت نحو فاطمة تطلب منها ترتيب الغرفة.
فاطمة، كالعادة، وافقت بابتسامة قائلة:
“حاضر يا هانم.”
تنفّست بعمق وكأنها تنتظر ما سيأتي بعد ذلك.
ظلت تراقب بعيناها جميع الاتجاهات على موضع كاميرات حتي وجدتها.
نظرت لها و ابتسمت لها و عملت حركة بصوابع ايديها كأنها تقول له سلام.
و جلبت كرسي صعدت عليه و قامت بتغطيتها و حاولت فتح الباب عدة مرات الى ان فتح اخيرا و صفقت بسعادة: يس يس.
نظرت للخارج بحذر يمين شمال وجدت الحراس واقفين بعيدا خارج البوابه خرجت و اغلقت الباب و ركضت حتى وقفت خلف شجرة تختبئ وراءها حتى تجد مخرج للخارج نظرت حولها تستكشف المكان حولها .
المكان محاط بسور عالي و بوابه حديد و وقوف بعض الحراس و كلاب.
وجدت مخرج اتجهت خلف المنزل بسرعة و أزاحت بعض الأشجار و تسلقت السور لم يكن عالي و قفزت للخارج و ظلت تركض لم تجد الا شجيرات فقط تحدثت حالها : وبعدين بقا مفيش طريق عربيات ليه.
حاولت تبتعد بقدر الامكان من المنزل ثم وقفت تسترح قليلا لحد ما ! …
خرج للخارج وركب سيارته لكنه لم يكن مرتاحا تحرك للخارج لشراء بعض ملابس لها تناسبها وصل للطريق بعد فتره قصيره و دخل على محل ملابس و اختار لها بعض ملابس و انتهى سريعة وركب سيارته و غادر .
و امسك جهاز التابليت الموصل بكاميرات المراقبة داخل المنزل و ابتسم ابتسامه شيطانيه :
قلبي حاسس والله يلا بينا نلعب شويه و تجربي وشي التاني عامل ازاي.
انطلقت سيارته بسرعة، وعيناه تشعان بالغضب كأن بركانًا يوشك على الانفجار. وصل إلى البوابة، وتوقف فجأة، ثم خرج من السيارة مسرعًا، ممسكًا بسلاحه، وأخذ شيئًا آخر قبل أن يتوجه نحو الحراس. بدا الغضب يتساقط من كل كلمة نطق بها، وهو يوجه لهم اللوم بلا رحمة: “أنتم أغبياء! كيف ما شفتوش حاجة؟ موقف زي ده كأنكم بهائم!” ثم أشار بيده إلى الحراس، وأضاف بتحدٍ: “لما أرجع، مش عايز أشوف حد فيكم!”
نظرت عيناه ببرود إلى الكلب الجالس بجانبه، ثم تجاهل الحراس الذين حاولوا التوسل إليه. “غبية… مش هرحمك. عديتلك كتير، بس دلوقتي في مملكتي. خروجك يعني نهايتك، ومش هعديها لك المرة دي!” ثم انطلق متجهًا إلى الجزء الخلفي من المنزل. كان الباب مفتوحًا، فدخل بخطى سريعة، يشم في الهواء بحثًا عن أي أثر يدل عليه.
الكلب بدأ يشم شيئًا على الأرض، ثم أمسك بقطعة كانت قد سقطت منها أثناء نومها في الطائرة. حملها في فمه، وركض خلفه. توقف الكلب فجأة، ثم بدأ ينبح بعنف، وكأنما يوجهه إلى وجهة معينة. وقف عاصم بجانب الكلب، يراقب بتوتر، وفجأة انطلقت نداءات صوته في الأفق: “سيلااااااه!”
توقفت سيلا فجأة وسط الركض، تكاد لا تجد أنفاسها. حولها غابات كثيفة، وعرفت أنها تاهت، ولكنها لم تستسلم. بينما كانت تواصل الركض، بدأ قلبها ينبض بقوة، وسرعان ما أدركت أن شيئًا رهيبًا يقترب منها. ثم، في لحظة، سمعته ينادي اسمها بصوت قوي ومهيب، يتزامن مع صوت الرعد الذي يخترق السماء.
توقفت فجأة، غير قادرة على اتخاذ خطوة واحدة أخرى. التفتت ببطء، لتجد عاصم واقفًا أمامها بابتسامة باردة، يده داخل جيب بنطاله، والكلب بجانبه في وضع الاستعداد، ينبح وكأن اللحظة التي سينقض فيها عليها قد حانت.
ظلا يواجهان بعضهما البعض، وعينيه تشتعلان بغضب لم يطفئه حتى تساقط الأمطار. بل على العكس، كانت النيران في عينيه تزداد اشتعالًا، وكأنها تهدد بابتلاع كل شيء حوله.
لم تكن سيلا قد حسبت حساب هذه المواجهة. بدأ الرعب يتسلل إلى قلبها، فشعرت بدفء التوتر في الجو وبرودة الأمطار التي كانت تتساقط على بشرتها. ولكن برودة الجو كانت أقل تأثيرًا من حرارة نظرته التي كانت تجمد كل شيء في محيطها. خطوة بخطوة، بدأت تسحب قدميها إلى الوراء، تحاول الابتعاد عنه، ولكن كلما تحركت خطوة إلى الخلف، كان يقترب منها أكثر وأكثر.
“مفيش مفر من هروبك خلاص، ارجعي يا سيلا. أنا حذرتك قبل كده، وقولتلك إن الضربة المرة اللي فاتت كانت على هواء، لكن إنتي استهنتي واستعجلتي!” كانت كلماته ثقيلة، كالرصاص، تضغط على قلبها وتزيد خوفها.
عينيه كانت تتبع كل حركة منها، وكلما تراجعت أكثر، كان يخطو هو للأمام. شعرت أن الحافة قد اقتربت منها، وأنه لا مفر. عندما أمرها بالتوقف، كان صوته عميقًا، يأمرها بالانتظار، لكن قلبها كان قد انتفض في صدرها وركضت مبتعدة عنه بسرعة.
بينما كانت تهرب، سمعت صوته يأمر الكلب: “قف روي!” توقف الكلب فجأة عن الركض وراءها، ولكن فضولها جعلها تلتفت للحظة واحدة. كانت تلك لحظة قاتلة. لم تتعد ثوانٍ معدودة حتى شعرت بشيء غريب، ثم جاء الصوت المفاجئ.
الطلقة أصابتها مباشرة. تراجعت بضع خطوات إلى الوراء، وكأن قدميها فقدت قوتها تمامًا. شعرت بألم مفاجئ، ودمائها بدأت تسيل. تجمدت في مكانها للحظة، وعينيها اتسعتا، فمها مفتوحًا في صدمة، وعقلها غير قادر على استيعاب ما حدث.
سقطت أرضًا، وكأنها فقدت كل قوتها، بينما كانت الأرض من تحتها تتحول إلى سواد دامس.
ـــــــــــــــــ
استفاق معتز من نومه، وقد بدت علامات الإرهاق واضحة على وجهه بعد يوم طويل من العمل الشاق. كان جسده يصرخ من التعب، لكنه حاول أن يطرد هذا الشعور. نهض بتثاقل، واتجه إلى الحمام ليأخذ حمامًا منعشًا يساعده على استعادة نشاطه. بعد أن انتهى، ارتدى ملابسه بعناية، وأخذ لحظة ليجمع أفكاره قبل أن يخرج من المنزل.
قبل أن يغادر، قرر إجراء مكالمة هامة، ثم خرج ليقابل وليد عند الباب. اتجه الاثنان معًا إلى الشركة، حيث جلس معتز خلف مكتبه في هدوء، عينيه تركزان في الفراغ وكأن ذهنه مشغول بمكان آخر. كان ينتظر بشدة وصول شخص ما، وكأن الوقت يمر ببطء وهو جالس هناك.
مر وقت طويل، ولكن لم يحدث شيء. بدأ وليد يلاحظ انشغال معتز، فتوجه نحوه وسأله بقلق: “مالك يا بني؟ فيك إيه؟ بقالي ساعة بكلمك مش بترد.” كان يشير بيده أمام وجهه، وكأنه يحاول استعادة انتباهه.
استفاق معتز أخيرًا، وقال وهو يحرك رأسه: “إنت لسه قاعد هنا؟ فكرتك مشيت؟”
غمز وليد بابتسامة واسعة، وقال على أمل: “لا، ما مشتش. مالك بقى؟ رحت فين؟ شكلك فكرت في كلامي، يا بن عمي، ولا إيه؟”
تنهد معتز بعمق، وأجاب: “آه، فعلاً فكرت في كلامك… وبحاول أتنفذه. امشي أنت دلوقتي، عشان أنا مستني حد.”
ابتسم وليد وقال: “ماشي يا عم، الله يسهلها. أطير أنا بقى.”
مرت ساعة كاملة قبل أن يأتي خبر مفاجئ من السكرتارية: هناك شخص من جريدة يريد مقابلته. معتز كان جالسًا في مقعده، مولّيًا ظهره للباب، عندما سمع طرقًا خفيفًا على الباب. أذن بالدخول، ثم لف كرسيه ليواجه القادم. وعندما نظر، تفاجأ تمامًا بما رآه أمامه…
…
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الرابع عشر
في مكان آخر، كان الحديث متوترًا، حيث كان الرجل الأول يصرخ بصوت غاضب: “يعني إيه اختفت؟!” كانت كلماته مليئة بالتهديد، عينيه تبرقان بالغضب.
رد الرجل الآخر بحذر، محاولًا التخفيف من حدة الموقف: “محدش عارف مكانها يا باشا. إحنا بنراقب بيتها، وما فيش غير اختها ووالدتها وأبوها. حتى الجرايد مش رايحة لها.”
لكن غضب الرجل الأول لم يهدأ، بل زاد تأججًا. أمسك بالرجل الآخر من عنقه، وقال بصوت مخنوق: “إنت عارف لو البت دي مظهرتش، الباشا الكبير هيصفينا كلنا! يعني لازم نجيبها! رقبتنا في خطر، فاهم؟”
أصبح الوضع أكثر توترًا، فصرخ الرجل الأول في وجهه: “امشي من قدامي، متجيش تاني إلا لما تعرف مكانها! يلا، فاهم؟”
الرجل الآخر، وقد خشي على نفسه من غضب الرجل الأول، رد بسرعة: “أمرك يا ريس.” ثم خرج مسرعًا، عاقدًا العزم على العثور عليها بأي طريقة كانت.
بعد إطلاق النار، اقترب عاصم منها بسرعة، وحملها بين ذراعيه، عائداً إلى المنزل. عند الباب، قابلته الست فاطمة التي صُدمت عندما رأت حالتها. كانت ملابسها مبللة بالدماء والأمطار، وجسدها ينزف بشدة. لطمت على صدرها، وتفجرت مشاعرها قائلة: “يا لهوي! يا لهوي! مالها؟ حصلها إيه؟ ليه مش بتتحرك كده؟ يا حبيبتي يا بنتي!”
لم يكن عاصم في حال يسمح له بالكلام الكثير. رد بسرعة: “مش عايز كلام كتير، عاوز مياه مثلجة بسرعة، وجيبي عدة الإسعافات من مكتبي، يلا بسرعة!” كان صوته عميقًا، وصدره يضيق من التوتر.
فاطمة لم تتردد، هرعت مسرعة: “حاضر، حاضر.” ثم جرت إلى مكتبه لتنفيذ أوامره.
نقلها عاصم إلى الكنبة، وتأكد من وجود نبض في جسدها، بينما كانت لا تزال فاقدة للوعي. ساعده ذلك في تحديد مكان الرصاصة، فقام بسرعة بإحضار مقص وقطع ملابسها حول يدها اليسرى. خرج الرصاصة بعناية، ثم بدأ في تعقيم الجرح. في تلك اللحظة، دخلت فاطمة ومعها المياه الباردة وعدة الإسعافات، فشرع عاصم في تعقيم الجرح مرة أخرى، ثم لفه بالشاش بإحكام. كان معتادًا على هذه الأمور من خلال المهمات التي يشارك فيها.
ظلت سيلا غارقة في إغمائها، تهمس بكلمات غير مفهومة، لكنه لم يكترث. حملها بحرص وأمر فاطمة: “تعالي ورايا.” توجه بها إلى غرفتها، حيث قال لها: “غيري لها ولبسيها الملابس دي، فيها هدوم كتير. ناديني بعد ما تخلصي.”
أجابت فاطمة: “حاضر.” ثم خرج عاصم بسرعة، متجهًا إلى غرفته. حاول أن يسيطر على غضبه الذي بدأ يشتعل داخله، فتمتم لنفسه: “أيامك سودة معايا، وانتي جربتي غضبي.” استبدل ملابسه بسرعة، ثم حضر شيئًا ما قبل أن يخرج مرة أخرى.
عندما دخل غرفتها، وجد فاطمة قد انتهت من تغيير ملابسها. سألها عاصم بصوت أجش: “خلصت؟” أجابت فاطمة: “أيوه، يا بني، خلصت. بس… إيه اللي حصل لها؟ مين اللي ضربها بالنار كده؟”
عاصم رد بنبرة غاضبة: “وانتي كنتي فين لما هربت؟ مش عايز أسمع كلمة تانية.” ثم أضاف بأمر: “أنا هديها حقنة مسكنة، هي احتمال تسخن. خليكي جنبها، وأول ما تفوق تبلغيني.”
أومأت فاطمة برأسها في طاعة، وقالت: “حاضر يا بني.”
ثم أعطى لها عاصم الحقنة، وأمسك يدها بعناية. في تلك اللحظة، وضع سوارًا حديديًا أسود اللون حول معصم يدها، ثم قفله باستخدام مفتاح خاص به. تركها في الغرفة، وخرج.
على الجانب الأخر، ذهبَت مي إلى الجريدة كما اعتادت، متبعَة الروتين اليومي. كانت تكتب المقالات وتنسبها لسيلا، حتى تبتعد عن أي مراقبة أو تخطيط من العصابة التي كانت تطاردها. جلست على مكتبها، لكن سرعان ما طلبها المدير، أحمد.
قال أحمد وهو يبتسم: “تعالي يا مي، أنا حبيت أشكرك بنفسي على المجهود الرائع اللي بتعمليه، وأنا مش ناسي ده، وطبعًا هكافئك.”
أجابت مي بتواضع: ” يا فندم، أنا بعمل المفروض يتعمل.”
رد أحمد: “عموماً، المرة دي هننسب الموضوع ليكي أنتي. نفس الشركة اللي حضروا الافتتاح في الغردقة، لكن فرعها هنا. المدير كلمني وطلب حد من عندي، طلبك بالاسم كمان! تعملي معاه حوار عن إنجازات الشركة، ها يا ستي، مبسوطة؟”
أخذت مي نفسًا عميقًا، فشعرت بشيء غير مريح. لم ترتح لهذه المقابلة، وأيقنت أن نية المدير ليست بريئة. لكن ابتسمت ابتسامة متوترة وقالت: “أه طبعًا مبسوطة جدًا، بس… بس إيه؟ في حاجة كدة ممكن أي زميل يعمل الحوار؟”
أجاب أحمد بإزعاج: “مي، ازاي يعني؟ ده شغل يا أستاذة! هنلعب ولا إيه؟ بعدين انتي مطلوبة بالاسم! عايزني أبدلك بحد تاني؟ اتفضلي، تقدري تروحي دلوقتي، هو في انتظارك!”
مي، التي لم تجد مفرًا، ردت بقلة حيلة: “تمام يا فندم.” ثم خرجت، وهي لا تعرف ماذا تفعل، فاستقلت المواصلات وذهبت إلى منزل همسة. فتحت لها الباب ودخلتا معًا إلى غرفتها.
قالت همسة بابتسامة مشجعة:
“مي، واحشتيني أوي! عاملة إيه؟ وأخبار المعرض إيه؟”
ابتسمت مي وردت بحماس:
“الحمد لله، خلاص قرب، فاضل كام يوم بس. أكيد هتيجي معايا، ما تسبنيش في اليوم ده، انتي كمان!”
ضحكت همسة وأكدت:
“طبعًا جايه يا حبيبتي، ربنا يوفقك يا رب.”
ثم فجأة، توقفت مي وكأن شيئًا خطر ببالها، فسألت:
“سيلا، ما اتصلتش تاني بيكم؟”
تغيرت ملامح همسة للحزن وهي ترد:
“لا، للأسف.”
لاحظت همسة شحوب وجه مي، فسألتها بقلق:
“مالك يا مي؟ شكلك مش مريحني، في حاجة حصلت؟ مامتك كويسة؟”
ردت مي بتردد:
“ماما كويسة، الحمد لله. لكن أنا حاسة إني مشوشة، مش عارفة إيه اللي بيحصل لي بالضبط.”
حاولت همسة طمأنتها:
“خير يا حبيبتي، انتي قلقتيني عليكِ. فيكي إيه؟ احكي لي، يمكن أفيدك.”
أخذت مي نفسًا عميقًا وقالت:
“أنا مش عارفة، بجد. فاكرة يوم ما مشيت من عندك آخر مرة؟ فاكرة معتز، أخو عاصم، اللي وصلنا؟ اللي شوفناه يوم الغردقة؟”
ردت همسة وهي تتذكر:
“آه، فاكرة طبعًا.”
تابعت مي بنبرة مرعوبة:
“لقيته واقف تحت البيت عندي، وشكله كان مرعب أوي. طلعت فوق جري وخفت منه جدًا. بصيت عليه من الشباك لقيته فجأة رافع راسه يبص عليا، وبعدها مشي مرة واحدة. ومن وقتها وأنا خايفة، مش عارفة سبب وجوده هناك.”
تفاجأت همسة وقالت باستغراب:
“غريب جدًا! طيب ليه ما كلمتيهوش وسألتيه؟”
هتفت مي بخوف:
“أكلمه إيه؟ ده شكله كان مش طبيعي أبدًا، وكمان اللي خوفني أكتر إنه طلبني أنا تحديدًا عشان أروحله أعمل معاه حوار. أنا المفروض أكون عنده دلوقتي كمان!”
ردت همسة بقلق:
“طيب وبعدين؟ مش هتروحي؟ ده ممكن يسببلك مشكلة مع الجريدة!”
ردت مي وهي تشعر بالارتباك:
“مش عارفة. أنا مش هروح، بس أتمنى يبعد عني. مش كفاية زمان حاولنا نقطع علاقتنا برودينا؟”
همسة أيدتها:
“فعلاً، هم ما فيهمش تفاهم. وإنتِ وذنبك إيه اللي خلاهم يعاملوا سيلا بالطريقة دي؟”
مي تنهدت بحزن:
“معرفش. كل اللي عارفاه إن وقتها كل واحد فيهم اتعصب علينا وبعد أخته تمامًا عننا. ومن يومها ما نعرفش عنها حاجة.”
حاولت همسة تهدئتها:
“متقلقيش يا مي، إحنا مع بعض.”
ردت مي وهي تبتسم وتغمز لها:
“بس ابن عمه شكله غيرهم خالص! هادي وعاقل، مش كده؟”
احمر وجه همسة قليلًا وقالت بتردد:
“مش عارفة والله.”
سألتها مي بخبث:
“مكلمكيش تاني؟”
ردت همسة بجدية:
“اتكلم، بس أنا ما أعطيتوش فرصة. إنتِ عارفة أنا مش بحب أعلق نفسي في حاجة ممكن تجرحني. ما بردش حتى على رسايله.”
وافقتها مي:
“عندك حق. اللي جاد مش هيضيع وقته في اللف والدوران.”
قطع حديثهما اتصال من ياسر، زميل مي في الجريدة.
أجابت مي بسرعة:
“ألو، إيه يا ياسر؟ عملت إيه؟”
لكن ملامحها تغيرت فجأة وهي تسمع رده:
“إيه؟ بجد؟! طيب، وانت عملت إيه؟”
أغلقت مي الهاتف بصوت متوتر:
“خلاص، هتصرف. مع السلامة.”
سألتها همسة بقلق:
“في إيه؟ مالك قلبتي كده؟”
مي بتوتر واضح قالت:
“شكي طلع في محله! هو عاوزني أنا مخصوص، مش حد تاني. أنا بعت ياسر عشان أتأكد، بس دلوقتي هيقلب عليا المدير، وهتبقى مشكلة كبيرة. مش بعيد أترفض. أنا مش فاهمة ليه حاططني في دماغه بالشكل ده! والله ما جيت جنبه أبدًا. ربنا يستر.”
همسة، محاولة تهدئتها:
“طيب، هتتصرفي إزاي؟ هتروحي تقابليه؟”
ردت مي بسرعة وحزم:
“أقابله؟ لا طبعًا! ده عصبي وما بيتفهمش مع حد. أنا بجد مش عارفة أعمل إيه. المهم، أنا همشي دلوقتي. وهكلمك بعدين عشان المسابقة بتاعتك. مع السلامة. شكلها بكره هتنفجر في الجريدة.”
همسة بتوسل:
“خليكي شوية طيب!”
لكن مي رفضت بشدة:
“لا، لا. لازم أروح وأشوف هتصرف إزاي. مع السلامة.”
…
في مكان آخر، كان معتز ينتظر بابتسامة لاستقبال الصحفي، لكنه تفاجأ بدخول شخص آخر غير المتوقع.
الشخص القادم قال بتوتر:
“أنا ياسر، من جريدة… حضرتك طلبت صحفي يقدم حوار للشركة.”
معتز، وهو يعتصر الورقة التي بيده، تحدث بحدة واضحة:
“آه، أنا كنت طلبت الأستاذة مي، لأنها حضرت افتتاح الفرع الجديد بنفسها. هي مجتش ليه؟”
ياسر رد بتوتر:
“اعتذرت، وطلبت مني أجي بدلها.”
فجأة، ارتفع صوت معتز غاضبًا:
“ده تهريج! مش شغل أبدًا! يعني إيه اعتذرت؟ أنا متفق مع المدير! ده لعب عيال ولا إيه؟! انتو مش عارفين أنا مين ولا إيه؟! ممكن أقفل الجريدة على دماغكم. بس أنا مش هعديها على خير أبداً. اتفضل! وأنا هعرف ليه كلامي ما بتسمعش لا من المدير ولا من الأستاذة!”
أشار له بالخروج، فخرج ياسر مسرعًا، متفاجئًا من غضبه وتوتره.
همس ياسر لنفسه بعد الخروج:
“يا حول الله… لازم أكلمها وأبلغها. يمكن تلحق تتصرف قبل ما يوصل الخبر للمدير!”
…
استيقظت سيلا من نومها تتأوه بألم وهي تهمس لنفسها:
“آه… أنا فين؟ آه… إيدي!”
تذكرت ما حدث، وهمست بغضب وألم:
“حيوان! آه لو شفتك قدامي، إيدي…”
لاحظت الست فاطمة نائمة بجوارها على الأريكة، وحاولت النزول من الفراش. تأوهت من الألم وهي تنادي:
“داده… يا داده! عاوزه أشرب… عطشانة داده.”
لم تجد استجابة، فجمعت شجاعتها وتحاملت على نفسها للوقوف. بالكاد استطاعت الوصول إلى الباب، وعندما همّت بفتحه، وجدته يفتح من تلقاء نفسه.
ظهر أمامها فجأة، فتصلبت ملامحها وهتفت بغضب، دون أن تخفي رعشة صوتها:
“نعم؟ جاي تكمل على إيدي التانية؟ لعلمك، أنا مش هعدّي اللي عملته ده على خير، فاهم؟!”
ارتفع صوتها، فأفاقت الست فاطمة من على الأريكة، وسارعت نحوها:
“فوقتي يا حبيبتي؟ عاملة إيه دلوقتي؟”
نظرت سيلا لفاطمة بحب، وردت بصوت هادئ:
“الحمد لله، أحسن.”
أشار هو للست فاطمة بحزم:
“روحي انتي يا فاطمة، ارتاحي. أنا هكمل مكانك.”
هزت الست فاطمة رأسها وقالت:
“حاضر يا بني.”
بقلم شروق مصطفى
خرجت، لكن سيلا انتفضت وهي تصيح بغضب:
“اطلع برا! أنت! أنت داخل ليه؟ برا!”
لم يأبه لصراخها، بل تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وعيناه تلمعان بشرارات غضب واضحة. أشارت إليه بأحد أصابع يدها السليمة قائلة بتحدٍ:
“عارف لو قربت أكتر؟ أنت… أنت حر! فاهم؟ هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟ والله أنت مجنون!”
وقف أمامها بثبات، وتحدث ببرود قاتل وهو يشير إلى ذراعها الملفوفة:
“دي كانت قرصة ودن صغيرة. لكن لو حاولتي تاني… مش هتتوقعي الضربة تبقى فين، أو ممكن أعمل إيه. أبعدي عن غضبي… لأن غضبي وحش!”
لم تتراجع سيلا، بل نظرت إليه بتحدٍ صارخ وهتفت:
“غضبك؟ أنا مش خايفة منك! فاكر إنك تخوفني باللي عملته؟ أنا مش هسيب حقي، فاهم؟ لو كنت فاكر إنك أقوى مني، يبقى إنت غلطان!”
اقترب خطوة أخرى، لكنها لم تتحرك، وظلت تواجهه بشجاعة رغم الألم الذي ينهش جسدها.
نظر إليها بحدة وهو يقترب خطوة أخرى، حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد تختفي. نبرة صوته كانت أشد برودة وهو يرد:
“حقك؟ اللي زيك ما ليهش حق عندي! أنتي تعديتي حدودك، وأنا عرفت كويس إزاي أوقفك عندها. لو كنتي عاقلة، كنتي فهمتي الرسالة من أول مرة.”
سيلا لم تتراجع، رغم أن قلبها يخفق بقوة من مزيج الخوف والغضب، وهتفت بشجاعة مصطنعة:
“إنت فاكر نفسك مين عشان تهددني كده؟ أنا مش لعبة بين إيديك! واللي عملته مش هيسكتني، بالعكس، ده السبب اللي هيخليني أواجهك وأقف ضدك لآخر نفس!”
رفع حاجبه بسخرية، وضيق عينيه وهو يقترب أكثر:
“أواجهني؟ تقفي ضدّي؟ أنتي مش عارفة بتلعبي مع مين. المرة دي هعدّيها، لكن لو حصلت تاني… مش هتلاقي حد ينقذك، ولا حتى نفسك.”
لم تتراجع سيلا، ولكن صوتها بدا أكثر هدوءًا وهي ترد:
“روح هدّد حد غيري. أنا مش زي الباقيين اللي بتخوفهم كلمتين. لو عندك الشجاعة اللي بتدعيها، وريني أفعال مش كلام!”
اشتعلت عيناه بالغضب من تحديها، لكنه فجأة ابتسم ابتسامة ساخرة وقال بنبرة تنم عن الهدوء المريب:
“زي ما تحبي، يا سيلا. بس وقت ما تغلطي تاني، ما تلوميش غير نفسك.”
تراجع خطوة للخلف، لكنه قبل أن يغادر أضاف:
“بس خلي بالك… اللعب معايا خطير، وأنتِ لسه ما شفتيش الوجه الحقيقي لي.”
خرج من الغرفة بهدوء، تاركًا إياها تواجه أفكارها المتشابكة ومشاعرها المختلطة بين الغضب والخوف، وبين إحساسها بأنها دخلت لعبة أكبر مما كانت تتصور.
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها:
“ما فيش حد فوق القانون… هوريك مين اللي غلطان.”
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الخامس عشر
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها: “حيوان” فاكرني هخاف منه!
لفت نظرها السوار الملفوف حول معصمها، وظلت تحدق فيه باستغراب، تتساءل بصوت خافت:
“إيه ده؟ بتاع مين؟ مين اللي لبسهالي؟”
رغماً عنها، غلبها الإرهاق فأغمضت عينيها وغرقت في نوم متقطع. لم يمر سوى نصف ساعة حتى دخلت الدادة فاطمة لتطمئن عليها، لكنها فوجئت بحرارتها المرتفعة وبالكلمات المتقطعة التي تهلوس بها بصوت مبحوح وغير مفهوم.
على الفور، تركت الغرفة مسرعة لتبلغ عاصم بالأمر. وقف بجدية وهو يستمع، ثم قال بحزم:
“اعملي لها كمادات مبللة أولاً، وبعدين ندّيها الحقنة.”
نفذت الدادة التعليمات، بينما ظل هو جالساً بجانبها يراقبها عن كثب. كانت شفتاها تهمسان بأشياء مبهمة، اختلط فيها الغضب بالوجع:
“بكرهك… ابعد عني… بكرهك… ابعد عن طريقي… رودي… لا… ليه؟ بكرهكم…”
ظلت الدادة منهمكة في عمل الكمادات، بينما وقف عاصم متصلباً ينظر إليها بشرود. ما إن انتهت حتى أشار إليها قائلاً:
“خلصي الكمادات، وناديني أول ما تنزل الحرارة.”
ترك الغرفة وخرج إلى الفناء، حيث استقبله الهواء البارد بصفعات منعشة. أخرج سيجارة من جيبه، وأشعلها بحركة آلية. ظل يدخن، واحدة تلو الأخرى، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء. فجأة، قطعت الدادة شروده بندائها:
“يا بيه، الحرارة نزلت.”
دهس السيجارة الأخيرة أسفل حذائه، وأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعبر عتبة المنزل مرة أخرى. دخل الغرفة بخطوات ثابتة، أعطاها الحقنة بهدوء ثم دثرها جيداً باللحاف، وأغلق الأنوار. همس للدادة وهو يخرج:
“خلي بالك منها.”
توجه بعدها إلى مكتبه. جلس خلف الطاولة، وبين يديه الملفات والأوراق. حاول أن يغرق في عمله، لكن عقله كان يتسلل بين الحين والآخر إلى الغرفة المجاورة. أجرى بعض المكالمات، يتابع مستجدات القضية التي كانت تؤرقه منذ أيام. الوقت يمضي، لكنه ظل عالقاً بين عمله وهمومه، وبين الغموض الذي يحيط بها وبحالها المتدهور.
على الجهة الأخرى، كان معتز في مكتبه، يمشي جيئة وذهاباً وقد تملّكه الغضب. قبض بيده على هاتفه بقوة، ملامح وجهه توحي بأنه على وشك الانفجار. توقف فجأة، ونظر إلى إحدى الملفات أمامه ثم أزاحها بعصبية، قبل أن يتمتم بحدة:
“إزاي ترفض تقابلني؟!”
أخذ نفساً عميقاً ليهدئ غضبه، لكنه فشل. جمع أوراقه بعشوائية، ثم أمسك بمفاتيح سيارته وخرج من المكتب بخطوات ثقيلة وحازمة. فور جلوسه خلف عجلة القيادة، أجرى مكالمة قصيرة بصوت متهدج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه شيئاً فشيئاً.
أنهى المكالمة بابتسامة واسعة، خبيثة، تشي بنصر داخلي. تمتم بصوت منخفض، وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود:
“لما أشوف بقى هتنزلي الشغل تاني إزاي.”
أدار محرك السيارة، وبدأ بالتحرك بسرعة ملحوظة، متجهاً إلى منزله. عقله مشغول بخطته القادمة، وقلبه ينبض بنشوة الانتقام.
وليد جلس في غرفته، يتأمل السقف بصمت. كان أمرًا يشغل باله منذ فترة طويلة، لكنه ظل يؤجل مواجهته مرارًا وتكرارًا. شعر أن اللحظة قد حانت الآن، فمد يده إلى هاتفه وتردد قليلاً قبل أن يطلب الرقم.
رنّ الهاتف للحظات حتى جاءه صوت أخيه من الجهة الأخرى، هادئًا ومطمئنًا كعادته. بدأ وليد الحديث بتردد، لكن سرعان ما انساب الكلام منه كما لو كان سدًا انفتح فجأة. أخبر أخاه بكل ما يدور في ذهنه، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي أبقته مستيقظًا ليالٍ طويلة.
كان أخوه يستمع بصبر، ولم يقاطعه إلا بين الحين والآخر ببعض الكلمات المشجعة التي جعلت وليد يشعر براحة لم يعهدها منذ وقت طويل. انتهت المكالمة أخيرًا، وابتسامة ارتسمت على شفتيه، مزيج من الارتياح والثقة.
وضع الهاتف جانبًا، ونهض من مكانه. نظر حوله في الغرفة بعينين حازمتين، ثم بدأ بترتيب أولوياته. الآن وقد أزال هذا الحمل عن كاهله، بات مستعدًا للمضي قدمًا، بخطوات واثقة نحو ما ينتظره.
في منزل رودينا بالغردقة، كانت الحياة تمضي وسط ضحكات الأطفال وضجيجهم المعتاد. جلست رودينا على الأرض بين توأميها، كنزي وكرما، بينما الصغيرة كرما تطالبها بوجبتها المفضلة بطريقة طفولية:
“ماما جوعانة… بشاميلو!”
ضحكت رودينا بمرح وهي ترد:
“بشاميلو مرة واحدة؟ حاضر يا عيون ماما، خليكي هنا وأنا هقوم أعمل الأكل.”
هزت كرما رأسها ببراءة وجلست مكانها، لكن عقل رودينا كان في مكان آخر. همست لنفسها وهي تدير رأسها بحثاً:
“فين كنزي؟ البت دي هتجنني! مش سامعة لها حس… آه ياني، شكلها بتعمل كارثة!”
نادت بصوت عالٍ:
“كوكي! يا كوكي! بتعملي إيه؟”
جاء الرد من كنزي، بصوت بريء وهي تهمهم:
“مم… مم…”
دخلت رودينا المطبخ على عجل لتتفاجأ بالكوارث المنتشرة أمامها. البيض موزع في كل مكان، وكنزي تقف أمام الثلاجة مفتوحة، تحمل شيئاً بيدها. صرخت رودينا بدهشة وهي تقترب منها:
“والله زي ما انتي! أوعي تتحركي! بتعملي إيه يا قلب ماما؟”
ردت كنزي بابتسامة عريضة:
“ماما… مم!”
شهقت رودينا وهي ترى البيض المكسور والأرضية الملطخة:
“مم! وفتحتي الثلاجة وتقوليلي مم! طب والبيض ده؟ موزعاه كده؟ آه ياني! تعالي هنا يا حبيبتي، تعالي أعملك مم… لا، تعالي أحميكي الأول!”
أخذتها إلى الحمام، وهي تحدث نفسها بصوت مسموع:
“أول إيه؟ ده ثالث ولا رابع مرة! أنا اتجننت… بكلم نفسي بجد!”
بعدما انتهت من تنظيفها، أجلستها بجانب أختها كرما. وفي اللحظة ذاتها، سُمع صوت مفاتيح الباب. قفزت الفتاتان بحماس نحو الباب، وركضتا ليحتضنا والدهما.
“بابا! تيت؟” سألت كنزي بحماس.
ضحك عامر وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة:
“لا يا ملاكي، لسه متتش!”
ثم ضحك أكثر عندما سألته كرما ببراءة:
“بابا تيفونك؟”
رد عليها بابتسامة واسعة:
“كل يوم تثبتوني اتفضلي يا ست البنات، خدي التليفون وفرجي أختك معاكي.”
أخذت كرما الهاتف وركضت مع كنزي للجلوس معاً، تتابعان مقاطع يوتيوب. أما رودينا، فقد دخلت لتقابل عامر بنبرة عتاب:
“اتأخرت ليه كده؟”
أجابها بإرهاق ظاهر:
“شغل كتير، والله لسه مخلص وهلكان. هموت وأنام.”
ردت بابتسامة:
“طيب، غير هدومك، الأكل جاهز.”
اجتمعوا جميعاً على السفرة، وكانت الأجواء مليئة بالضحك والحديث العائلي. فجأة، سألت رودينا بحماس:
“هنآخد إجازة إمتى؟ وحشوني أوي نفسي أشوف إخواتي!”
ابتسم عامر وقال:
“هانت، قريب أوي هنزل. وليد كلمني النهارده… وعاوز يخطب!”
ابتسمت رودينا بفرحة:
“بجد؟ الله! أخيراً، مين بقى اللي شقلبته كده؟”
قهقه عامر:
“من ناحية شقلبته، فهي شقلبته فعلاً. مش عارف ياخد منها حق ولا باطل، بس هيحدد مع والدها الأول، وبعدها نروح نطلبها منه.”
فرحت رودينا:
“يا رب… عقبال ما نفرح بيهم كلهم!”
في هذه الأثناء، كانت كارما تحاول لفت انتباه والدتها:
“ماما… بعت!”
نظرت رودينا إليها وضحكت:
“لا، كلي يا كوكو. دي طيب!”
لكن كارما ردت بإصرار طفولي:
“توتو نو!”
تدخلت كنزي، وهي تقول ببراءة:
“ماما، توتو أنا!”
ضحكت رودينا وقالت:
“اللي هاكل الكوكو كله، عندي له مفاجأة!”
وبين ضحك ولعب الطفلتين، تابعت رودينا حديثها مع عامر حول الهاتف المحمول، مشيرة إلى مخاطر جلوس كارما الطويل على اليوتيوب. وافقها عامر الرأي، وأقترح عليها البحث عن حلول على الإنترنت.
أنهى عامر حديثه قائلاً:
“ما عندناش أغلى منهم. أنا معاكي في أي خطوة تاخديها.”
ابتسمت رودينا وقالت:
“طيب، ادخل نام شوية وأنا هخلص شغل البيت وأنيم البنات.”
ـــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، دخلت مي مبنى الجريدة بخطوات متوترة، شعور بالقلق يسيطر عليها منذ استدعائها إلى مكتب المدير. بالكاد ألقى عليها أحد الموظفين التحية حتى قيل لها:
“الأستاذ عاوزك فورًا.”
طرقت الباب برفق ودخلت. كانت عينا المدير حادة وهو ينظر إليها مباشرة. بادرها بالسؤال بلهجة صارمة:
“قوليلي يا مي… عملتي إيه في مشوار امبارح؟”
ارتبكت مي، وبدأ صوتها يتلعثم:
“أ… أ… أصل أنا… ت…”
قاطعت كلماتها المتقطعة نبرة المدير الغاضبة:
“بلاش شغل العيال ده يا مي! احنا مش فاتحين الجريدة عشان نلعب. لما أبعِت حد لمهمة، المفروض يرجع بنتائج. ولو مش قد الشغل، كنتِ تقولي، ونبعت حد غيرك.”
حاولت مي تبرير موقفها:
“أنا… أنا آسفة، بس أنا…”
لكن المدير لم يمهلها وقتًا:
“مفيش بس. اللي حصل إمبارح خلا اسم الجريدة يتضرر جدًا مع واحدة من أكبر الشركات العالمية. عارفة ده معناه إيه؟ معناه إني مضطر آسف أنهي شغلك معانا. استلمي ملفك النهاردة، وآخر يوم ليكي عندنا. عدي على أستاذ شوقي في قسم الحسابات وخدي باقي مرتبك.”
شحب وجه مي، وحاولت الدفاع عن نفسها بصوت مكسور:
“بس… يا فندم، دي أول غلطة أغلطها. وأنا شغالة هنا بقالى أكتر من ثلاث سنين!”
نظر المدير إليها بعينين جامدتين وأردف:
“للأسف، ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
اغرورقت عينا مي بالدموع، لكنها لم تستطع قول المزيد. أومأت برأسها بخضوع وهمست:
“تمام يا فندم… بعد إذنك.”
خرجت من المكتب، وكأنها تحمل على كتفيها جبلًا من الحزن والخذلان. كانت خطواتها ثقيلة، والدموع تغطي وجهها.
في الخارج، بينما كانت تحاول استيعاب الصدمة، لم تلحظ السيارة السوداء المتوقفة على بعد أمتار منها. جلس داخلها معتز، يراقبها بابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه. تمتم بسخرية:
” ولسه! انتي لسه ما شفتيش حاجة. هكسّرك كمان.”
ارتدى نظارته الشمسية، وأدار محرك سيارته، ثم انطلق مبتعدًا، تاركًا وراءه مي غارقة في حزنها.
استقلت مي سيارة أجرة، متجهة إلى منزل صديقتها همسة. ما إن فتحت همسة الباب حتى ألقت مي بنفسها في أحضانها، تشهق بالبكاء:
“شفتي… شفتي اللي حصل؟”
احتضنتها همسة وهي تحاول تهدئتها:
“اهدي… اهدي يا مي، مالك؟ تعالي دخلي جوا واحكيلي.”
جلست مي على الأريكة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي بحرقة:
“اترفدت! أنا اترفدت! وهو السبب… هو اللي عمل كده فيا. ليه؟ ليه يعمل كده؟! أنا مش مصدقة لحد دلوقتي. المدير قال إن ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
ربتت همسة على كتفها:
“طيب، طيب، اهدي… ده واصل قوي على كده؟”
هزت مي رأسها وقالت بغضب:
“أكيد، ما هو أخو ضابط، وعندهم ناس تقيلة. لكن ليه؟ ليه يعملوا كده فيا؟”
صمتت همسة قليلاً، ثم حاولت تهدئتها:
“بصي، فكك يا مي. اللي خلق الجريدة دي خلق غيرها. الدنيا مش هتقف على كده. شوفي جريدة تانية تشتغلي فيها. استني، أنا هعملك عصير ليمون يروق دمك.”
مسحت مي دموعها ونهضت من مكانها بتصميم:
“صح! أنا مش هستسلم. هشوف جريدة تانية، ومش هسيبه يفرح فيا.”
حذرتها همسة وهي تنظر إليها بجدية:
“مي، ابعدي عنه. طالما هو غبي بالشكل ده وقطع رزقك، خليكي بعيدة أحسن.”
أجابت مي بحزم:
“طيب، أنا همشي دلوقتي. يلا، سلام.”
نادت عليها همسة:
“استني! اهدي الأول، وأنا هعملك ليمون.”
لكن مي هزت رأسها واعتذرت:
“لا، مش قادرة. أنا تعبانة، وعاوزة أنام.”
ربتت همسة على ظهرها وهي تودعها:
“خلي بالك من نفسك… مع السلامة.”
غادرت مي منزل همسة وعادت إلى منزلها، ترتمي على سريرها، محاولة لملمة شتات نفسها والاستعداد لبداية جديدة.
… ..
بعد مرور يومين…
بدأت سيلا تستعيد عافيتها تدريجيًا، لكنها اختارت تجنب أي مواجهة مباشرة مع عاصم. كانت تقضي وقتها في استعارته للكتب من مكتبه، تقرأها، ثم تعيدها دون أن تثير انتباهه.
في إحدى المرات، أثناء استعارته كتابًا، لاحظت شيئًا غريبًا مخفيًا خلف الكرسي. حاولت التظاهر بالهدوء والخروج كالمعتاد، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات. عادت إلى غرفتها وظلت تفكر كيف يمكنها الحصول على هذا الشيء دون أن يُمسك بها.
انتظرت بصبر حتى سمعت صوت سيارته يغادر المنزل. نزلت مسرعة إلى مكتبه، متظاهرة بأنها تبحث عن كتاب آخر. التقطت أحد الكتب لتغطي تحركاتها، واستغلّت معرفتها بمواقع الكاميرات داخل الغرفة.
عند مرورها قرب الكرسي، تظاهرت بالتعثّر، ووقعت على الأرضية بطريقة طبيعية. مدّت يدها بخفة والتقطت الشيء المخفي خلف الكرسي، دون أن تُظهر الكاميرات أي شيء مريب. استقامت بسرعة وخرجت إلى غرفتها، وقلبها ينبض من فرط الإثارة. أخيرًا، حصلت على ما تبحث عنه.
—
في يوم المسابقة…
أنهت همسة تجهيز لوحاتها وسلمتها للمعرض قبل يوم واحد من المسابقة. وفي صباح يوم الحدث، كانت العائلة تستعد للذهاب. والدها، محسن، ووالدتها، نرمين، انشغلا بالتجهيز، بينما همسة قالت بلهفة:
“بابا، ممكن نعدي على مي ونأخذها معانا في الطريق؟”
ابتسم محسن وهو يرتدي معطفه:
“حاضر يا ست الكل.”
نرمين من غرفة أخرى:
“أنا جاهزة يا همسة، إنتِ مستعدة؟”
همسة تنهدت بحزن:
“كان نفسي سيلا تكون معانا النهارده.”
ربت محسن على كتفها مطمئنًا:
“قربت ترجع لنا، خلاص القضية قربت تخلص، ومش هيطولوا لحد ما يمسكوهم.”
نرمين بتفاؤل:
“يارب يا حبيبي، إن شاء الله.”
أسرعوا للخروج، مروا على مي واصطحبوها معهم إلى المعرض.
في قاعة المسابقة…
قدمت همسة لوحاتها وسط توتر وحماس، وبنهاية اليوم حازت على المركز الثالث. فرحتها لم تكن مكتملة بسبب غياب سيلا، لكنها شعرت بالفخر بما حققته.
وبينما كانت تتلقى التهاني، تفاجأت بحضور وليد. شعرت بالتوتر فور أن رأته يتقدم نحوهم مبتسمًا، وقال:
“أهلاً يا عمي، عامل إيه؟ الصدفة الجميلة دي!”
نظر إليه محسن محاولًا تذكره:
“أهلاً وسهلاً، إحنا اتقابلنا قبل كده؟”
رد وليد بابتسامة:
“آه، اتقابلنا لما اتبدل تلفوني بتليفون بنت حضرتك.”
تذكر محسن الموقف وابتسم:
“آه، فعلاً. أهلاً يا بني.”
نظر وليد إلى همسة مباشرة، وقال بصوت عميق:
“مبروك.”
توترت همسة وردت بخجل:
“الله يبارك فيك.”
لاحظ محسن نظرات وليد، فسأله ليقطع الصمت:
“إنت مشترك في المسابقة ولا جاي مع حد؟”
انتبه وليد للسؤال بسرعة وأجاب:
“ها… لا، أنا جاي مع صديق مشترك في المسابقة.”
ثم أضاف:
“طيب، بعد إذنك، أروح أشوفه.”
أومأ محسن برأسه:
“تفضل.”
ابتعد وليد قليلاً عن المجموعة، لكنه ظل يراقبهم من بعيد. انتظر حتى وجد همسة تنسحب من وسطهم متوجهة إلى زاوية هادئة. انتهز الفرصة وتقدم نحوها بخطوات واثقة…
…
بعد دخول الحمام…
كانت سيلا تعلم أن الحمام هو المكان الوحيد في المنزل الذي يخلو من الكاميرات. دخلت بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها بإحكام. أخرجت حقيبتها الصغيرة من تحت معطفها، واحتضنتها لثوانٍ كما لو كانت تحمل كنزًا لا يُقدر بثمن. فتحت الحقيبة بسرعة وأخرجت منها جهاز لابتوب صغيرًا كان مخفيًا بعناية.
وضعت الجهاز على الأرضية، ثم أخرجت شاحنه ووصلته بالكهرباء. جلست بجانبه للحظات، تراقب ضوء الشحن وهو يضيء. كان قلبها ينبض بشدة؛ شعور من الخوف والحماس يملأ صدرها.
همست لنفسها بصوت خافت:
“لسّه بدري… لازم كل حاجة تكون في الوقت المناسب.”
قررت أن تترك الجهاز داخل الحمام لبعض الوقت حتى يكتمل شحنه. خرجت من الحمام وكأن شيئًا لم يكن، واتجهت إلى غرفتها. هناك، فتحت النافذة بهدوء وأخذت تراقب الخارج بعينين حذرتين. عندما رأت السيارة تدخل إلى ساحة المنزل، أسرعت عائدة إلى الحمام.
التقطت الجهاز المشحون وأخفته بعناية بين أغراضها. عادت إلى غرفتها بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها. وضعت اللابتوب في مكان آمن وابتسمت بشعور من الانتصار.
همست مجددًا:
“كل حاجة بوقتها… وهعرف أتصرف.”
جلست على سريرها تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها لم تستطع أن تهدئ من تسارع دقات قلبها. كانت تعلم أن ما ستفعله قد يكون مخاطرة كبيرة، لكنها لم تكن على استعداد للتراجع الآن.
ـــــــــــــــــــــــــ
بعد انتهاء المسابقة…
بعد أن انتهى الحفل وكرّمت همسة لحصولها على المركز الثالث، تقدم وليد إلى محسن بطلب مهذب:
“لو سمحت يا عمي، ممكن أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟”
ابتسم محسن بترحيب:
“اتفضل، قول اللي عندك يا بني.”
وليد أشار إلى الخارج قائلاً:
“طيب ممكن نطلع برا شوية؟ الجو هنا دوشة وازدحام.”
هزّ محسن رأسه بالموافقة:
“ماشي، اتفضل.”
خرج الاثنان إلى ساحة المعرض بعيدًا عن الضوضاء، وهناك تحدث وليد بنبرة جادة:
“بصراحة يا عمي، أنا عارف إن الوقت ممكن ميكونش مناسب، بس أنا جاي أطلب إيد بنت حضرتك. شوف الوقت المناسب ليكم إمتى، وأنا هاجيب أخويا وابن عمي ونتقدم رسمي.”
تفاجأ محسن قليلاً لكنه رد بتروي:
“والله يا بني، الموضوع كبير وبيتطلب تفكير. البيت عندنا مش مهيأ للحاجة دي دلوقتي، وبنتي سيلا مش معانا…”
قاطعه وليد بسرعة وبحزم:
“أنا فاهم، وأنا مش مستعجل على حاجة. اللي بفكر فيه دلوقتي مجرد تعارف. لو حصل قبول ونصيب، مش هنتمم أي خطوة إلا لما بنتكم تكون موجودة ومعانا، وكمان في حضور عاصم، لأنه أخويا ومش بس ابن عمي. فحضرتك فكر براحتك وخد وقتك.”
أجاب محسن بتأنٍ:
“طيب، خليني أرجع البيت وأشاورهم الأول، وكمان أتكلم مع البنت. وبعد كده هرد عليك إن شاء الله.”
وليد رد بابتسامة ممتنة:
“تمام، مفيش مشكلة. ممكن أخد رقم حضرتك عشان أتابع معاك؟”
تبادل الاثنان أرقام الهواتف، واتفقا على أن يتم الرد خلال الأيام المقبلة. استأذن وليد بعد ذلك بالانصراف، بينما عاد محسن إلى الداخل حيث انتهت همسة من تسلم جائزتها.
—
في طريق العودة…
استقلوا السيارة، وأعادوا مي إلى منزلها قبل التوجه إلى بيتهم. طوال الطريق، بدا محسن شارد الذهن، مما دفع نرمين إلى سؤاله:
“مالك يا محسن؟ شكلك سرحان كده!”
ابتسم محسن بخفة وقال:
“لا مفيش حاجة، بس كنت بفكر في اللي حصل النهارده. على فكرة، وليد طلب إيد همسة.”
نظرت نرمين إليه بدهشة، بينما همسة شعرت بتوتر شديد وهي تسأل:
“طلب إيدي؟ إمتى ده؟ وإزاي؟”
حكى محسن بإيجاز عن الحديث الذي دار بينه وبين وليد، ثم أضاف:
“بس قلتله هفكر وأشاوركم الأول، ومش هيتم أي حاجة إلا لما نكون كلنا مستعدين.”
نرمين تحدثت:
“ربنا يكتب اللي فيه الخير، بس لازم نسأل البنت رأيها الأول.”
همسة، التي لم تتوقع الموقف، قالت بتوتر:
“أنا محتاجة وقت أفكر، ده موضوع كبير.”
محسن ابتسم وقال:
“خدي وقتك يا بنتي، أهم حاجة تكوني مرتاحة.”
عادوا إلى المنزل، وكل منهم يحمل في ذهنه أفكارًا مختلفة حول ما سيأتي لاحقًا.
داخل المكتب المظلم…
جلس الرجل الثائر على مكتبه، يتحدث إلى رجاله بصوت صارم:
“سننفذ بعد الغد. لا أريد أي تأخير أو أخطاء. سأتي أنا ورجالي، قم بتجهيز السيارات وكل ما يلزم.”
رد الرجل الآخر باحترام:
“تم تجهيز كل شيء يا سيدي، لا تقلق. الأمور تحت السيطرة.”
—
في منزل عاصم…
بدأ الجرح في ذراع سيلا يلتئم قليلاً، لكنها ما زالت متوترة من برودة أعصابه وتقلبات شخصيته. أحيانًا يبتسم ببرود كأن شيئًا لم يكن، وأحيانًا تتحول ملامحه إلى غضب ثائر دون سابق إنذار. بينما هي في غرفتها، همست لنفسها بغضب:
“مجنون… بارد… وغبي. يض،ربني بالنار ويقول قرصة ودن! المرة الجاية هيم.وتني، مريض متخلف!”
كلما حاولت نزع السوار حول معصمها، تفشل. قررت أن تواجهه، وذهبت إلى مكتبه وهي تغلي من الغضب. دفعت الباب دون استئذان وصرخت:
“أنت! أنا مش عايزة البتاعه دي. واجعة إيدي. فكها زي ما ركبتها!”
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه دون أن ينبس بكلمة، كأنه لم يسمعها.
اشتعلت غضبًا وضربت الأرض بقدميها:
“أنت بارد كدة ليه! أنا مش طفلة عشان تلبسني دي كأني هضيع!”
توقف عن الكتابة، ورفع رأسه فجأة بغضب حاد. لكنها لم تمنحه الفرصة للرد، تركت المكتب وخرجت بقوة، وأغلقت الباب خلفها بصوت عالٍ.
عادت إلى غرفتها تتمتم:
“بارد! لوح ثلج مستفز… صبرني يا رب. والله ما أنا سايباك كده!”
—
داخل غرفتها…
جلست سيلا بغضب، ثم استجمعت أفكارها. فتحت حقيبتها وأخرجت الحاسوب المحمول الذي خبأته بعناية. دخلت الحمام لتجنب كاميرات المراقبة، وجلست لتبدأ خطتها.
فتحت صفحتها على الإنترنت، وبدأت بنشر صور ومعلومات عن الشركات التي يملكها، خاصة الشركة الجديدة في الغردقة. كتبت:
“كيف يمكن لرجل ثلاثيني أن يمتلك عشر شركات بهذا الحجم في وقت قصير؟ أموال هذه الشركات مشبوهة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بغسيل أموال تابع للماف.يا. تابعوا هذه القضية للتأكد من مصداقية هذه الادعاءات.”
نشرت المقال على أكثر من موقع كبير، وأضافت صورًا ومستندات تعزز شكوكها. عندما انتهت، رسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وأغلقت الحاسوب.
خرجت من الحمام وهي تهمس:
“دلوقتي تعرف إني مش سهلة.”
لكنها تفاجأت عندما فتحت الباب، لتجد عاصم يقف أمامها مباشرة، ملامحه جامدة ونظراته تخترقها. في يده كان يحمل هاتفًا يظهر إشعارًا بالمقال الذي نشرته، وصوته الهادئ والمخيف قال:
“كنتي فاكرة إنك هتلعبي عليا؟”
شعرت سيلا برعب يتسلل إلى قلبها، لكنها حاولت التماسك، متسائلة في داخلها: كيف عرف؟!
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل السادس عشر
في منزل محسن، نرمين توقفت أمام محسن وهي تقوم بتعديل الكرافت له، وقالت:
“متأكد يا محسن من الخطوة دي؟ مش كنا استنينا حضور سيلا؟ أحسن تكون وسطينا على الأقل.”
رد محسن بابتسامة مطمئنة:
“يا حبيبتي، هما جايين تعارف مش أكتر، ومش هنعمل أي حاجة إلا بحضور سيلا طبعًا.”
نرمين أيدت كلامه قائلة:
“اللي تشوفه. هروح أشوفها خلصت ولا لسه.”
ثم وجهت نرمين كلامها لمي وهمسة:
“ها يا بنات، جهزتوا؟”
ردت مي بثقة:
“أيوه يا طنط، خلاص، فاضل حاجات بسيطة بس.”
أما همسة فقالت بخجل:
“إيه رأيك يا ماما؟”
ابتسمت الأم بفخر وقالت:
“قمر يا حبيبتي ما شاء الله.”
رن جرس الباب، فالتفتت نرمين قائلة:
“أنا طالعة أستقبلهم. خليكوا لحد ما أنادي عليكم.”
هزّ البنات رؤوسهن بالموافقة، لكن همسة سألت بقلق:
“شكلي حلو؟”
ردت مي مؤكدة:
“والله قمر!”
لكن همسة أضافت بتوتر:
“أنا هستناكي هنا، مش هحضر معاكو بره.”
رفضت مي بشدة:
“لا طبعًا، إنتي هتقعدي معانا! إنتي مش شايفاني عاملة إزاي؟ لا لا.”
مي قالت بقلق:
“أنا خايفة يجيب الزفت ده معاه. ولو شفته مش عارفة ممكن أعمل إيه بجد.”
ردت همسة بحزن:
“هتسبني يعني لوحدي معاهم بره؟”
تنهدت مي قائلة:
“فين لوحدك بس!”
لكن همسة أصرت:
“لا لا لا، مش هينفع بجد، خلاص مش هطلع أنا كمان.”
استسلمت مي:
“خلاص، أمري لله.”
في الخارج
استقبلت نرمين ومحسن الضيوف؛ وليد، وأخوه عامر، وزوجته، وأولاده التوأم كرما وكنزي، وابن عمه معتز.
كانت رودينا متفاجئة عند دخولها المنزل، إذ ظنت أنه منزل صديقتها سيلا، وامتلأت بالحماس لرؤيتها.
قال محسن مرحبًا:
“أهلًا بيكم، اتفضلوا.”
دخل الجميع وسلموا على نرمين، واتجهوا للصالون.
بدأ وليد بالتعريف عن عائلته:
“ده عامر، أخويا الكبير، ودي بنت عمي رودينا ومراته، ودول التوأم كرما وكنزي، وده معتز ابن عمي.”
ثم أضاف:
“وعاصم في مأمورية، لكنه على علم بكل شيء، وأول ما ينزل هنتقابل تاني بإذن الله.”
رحب محسن وزوجته بهم بحرارة:
“أهلًا بيكم، منورين والله. وكتاكيت صغيرين حلوين ما شاء الله.”
ابتسمت رودينا وسألت:
“طنط، مش فاكراني؟”
نظرت لها نرمين وقالت بتردد:
“والله بشبه عليكي فعلًا.”
قالت رودينا بحماس:
“أنا وسيلا كنا زمايل في الجامعة، ومي كمان.”
تذكرتها نرمين وقالت:
“آه، فعلًا! اختفيتي فجأة مرة واحدة. سيلا لو شافتك هتفرح بيكي جدًا، ومي كمان. دي مي حتى جوة، هتفرح أوي لما تشوفك.”
حين سمع معتز اسم مي، لمعت عيناه ببريق غريب؛ فقد كان ينتظر رؤيتها بفارغ الصبر بعد أن قطع عليها عملها ومنع الصحف من توظيفها.
قالت رودينا بحماس:
“بجد هنا؟ طيب ممكن أدخل لهم؟”
ردت نرمين بترحاب:
“آه طبعًا، تعالي معايا.”
في غرفة البنات
طرقت نرمين الباب، ففتحت مي ووجدت رودينا أمامها. ما إن رأتها حتى قفزت من الفرحة:
“آآآآه دودو!”
ركضت مي نحوها واحتضنتها قائلة:
“وحشتيني يا جزمة! كل دي غيبة؟”
ردت رودينا:
“وانتي كمان وحشتيني، وسيلا كمان، غصب عني. إخواتي طبعهم صعب جدًا.”
بحثت رودينا بعينيها وسألت:
“أمال هي فين؟”
حاولت مي تغيير الموضوع قائلة:
“أحم، ودي عروستنا. إيه رأيك؟”
ابتسمت رودينا وقالت:
“همسة حبيبتي، إزايك؟”
ردت همسة بتوتر:
“الحمد لله، انتي عاملة إيه؟”
سألت مي بمزاح:
“اتجوزتي يا بت؟”
ضحكت رودينا:
“أيوه، ومعايا كرما وكنزي كمان.”
قالت مي بسعادة:
“الله! ماجبتيهمش نلعب بيهم ليه؟”
ردت رودينا ساخرة:
“مين هيلعب بمين؟ هما اللي هيلعبوا بيكو! هما بره مع باباهم.”
ثم أضافت بحماس:
“خلينا نركز مع عروستنا. أنا فرحانة أوي إنك هتبقي سلفتي بجد.”
احتضنت رودينا همسة وأضافت بمزاح:
“وليد عرف يختار بقى!”
ضحكت مي وقالت:
“يا بنت، خفي عليها شوية. مش شايفة قلبت ألوان إزاي؟”
ردت همسة:
“والله انتو رخمين أوي!”
قاطعتهم نرمين وهي تفتح الباب:
“يلا يا بنات، تعالوا اقعدوا وسطينا بقى.”
في الصالون كان معتز جالسًا أمام الباب، منتظرًا لحظة ظهور مي بشغف.
تقدمت نرمين بجانب همسة، بينما كانت رودينا تمسك بيدها. لاحظ عامر ذلك وعلّق بابتسامة على زوجته:
“أنا شايف إنهم أخدوا على بعض أوي.”
ردت رودينا بحماس:
“طبعًا! همسة دي أختي أصلاً. بجد يا وليد عرفت تختار.” ثم جلست بجانب زوجها.
سلمت همسة على الجميع بتوتر، وقدمت المشروبات، ثم جلست بجانب والدها، وظلت تنظر إلى الأرض دون أن تتحدث كثيرًا.
تأخرت مي عن الانضمام إليهم قليلاً. وعندما جاءت، قدمتها نرمين قائلة:
“دي مي، صديقة العيلة.”
رحبت مي بابتسامة جذابة ورقيقة:
“أهلًا بيكم.” ثم جلست بجانب همسة وأمسكت بيدها، محاولة تخفيف حدة التوتر عنهما معًا، ولم تنظر أو تعره أي انتباه.
بدأ الجميع في الحديث وتبادل الأحاديث العامة، إلى أن تحدث عامر بجدية قائلًا:
“إحنا يا عمي جايين النهارده قعدة تعارف، وإن شاء الله يكون فيه قبول بينا. إحنا طالبين إيد بنتك همسة لأخويا وليد.
أنا ووليد ملناش غير بعض، وولاد عمنا قريبين من بعض جدًا. جايين نتعارف النهارده، لأن في فرد من العيلة غايب، سواء عندكم أو عندنا.”
رد محسن بابتسامة ترحيب:
“ده شيء يشرفني طبعًا، وأنا اتشرفت بمعرفتكم بجد. خصوصًا لما وليد كلمني، وقلتله مفيش حاجة تتم إلا بحضور بنتي. هو كمان أكدلي إنه مش هيتم أي شيء إلا بحضور الكل.”
قال عامر:
“على بركة الله.”
ثم استأذن وليد قائلًا:
“عمي، ممكن أتكلم معاها شوية؟”
رد محسن موافقًا:
“طبعًا، تعالوا اقعدوا في الفرندة هناك.”
وأشار لهم إلى مكان جانبي في نفس الغرفة (الصالون).
وقفت همسة بتردد، ووقف وليد بجانبها، ثم ذهبا معًا للتحدث.
بعد ذلك، استأذنت مي قائلة:
“بعد إذنكم، هقوم شوية.”
وبعدها مباشرة، استأذن معتز قائلاً:
“ممكن أدخل الحمام؟”
رد محسن بابتسامة:
“أيوة طبعًا، اتفضل.”
لكن دخول الحمام كان مجرد حجة من معتز لـ…
عند وليد ينظر إلى همسة بحاجب مرفوع:
“إيه بقى؟ ينفع كده مترديش عليا؟ أهون عليكِ؟”
ردت همسة بخجل ممزوج بالصراحة:
“الصراحة… آه.
وليد بدهشة وابتسامة ساخرة:
“والله؟”
همسة، محاوِلة توضيح موقفها:
“يعني أنا مش بكلم حد ما أعرفهوش، ومش ممكن أخون ثقة أهلي. بس كده.”
ابتسم وليد وقال بنبرة هادئة:
“وعشان كده أنا جيت النهارده، علشان أتعرف عليكِ. مش كده أحسن؟”
همسة بخجل شديد:
“أكيد.”
بدأ الاثنان يتحدثان بهدوء للتعرف أكثر على بعضهما، وظهر القبول على ملامحهما، وكأنهما بدآ يشعران بالراحة تدريجيًا.
—
في الداخل – ترك محسن معتز عند باب الحمام وعاد إلى باقي الضيوف. لكن معتز لمح مي واقفة في المطبخ، فتأكد أن الجميع منشغل، وذهب إليها.
توقف معتز عند باب المطبخ، وربع يديه بنبرة استفزازية:
“حلوة القعدة في البيت، مش كده؟”
انتفضت مي من أثر صوته، ثم التفتت إليه بنظرة ممتلئة بالاشمئزاز:
“تصدق إنك بجح؟ وليك عين تتكلم كمان؟ اتفضل اخرج برا.”
معتز ببرود:
“أنا أقف في المكان اللي يعجبني!”
مي، وقد بدأت تفقد أعصابها:
“إنت بني آدم متكبر ومستفز جدًا! مش كفاية اللي عملته؟ جاي تشمت كمان؟ أنا لو أقدر كنت قتلتك بجد!”
ضحك معتز بقهقهة مستفزة:
“بجد؟ ضحكتيني.”
مي وهي تحدق فيه بغضب:
“يخرب بيت برودك. إيه كمية الغل والسواد اللي جواك دي؟ روح عالج نفسك الأول، إنت مريض بجد!”
معتز بغضب مكتوم:
“بنت! احترمي نفسك واعرفي إنتِ بتكلمي مين.”
مي بسخرية:
“هه، وهكلم مين يعني؟ واحد مغرور وشايف نفسه. ولزق كده… مش عارفة على إيه.”
ثم نظرت إليه بنظرة مليئة بالاشمئزاز:
“ملزق! يا بيئة إنت. هو إنت تطول تكلم واحدة زيي أصلاً؟”
معتز، وقد فقد صبره:
“وأنا أصلاً مين قالك إنك تعنيلي حاجة؟ أنا…!”
قاطعت مي بحدة:
“ومين قالك إني عايزة أكلمك؟ ولا هموت عليك أصلاً؟! ومبسوطه إني قعدت في البيت… كنت محتاجة أريح نفسي من كل ده.”
ثم تركته دون أن تنتظر رده، وخرجت من المطبخ بعد أن أنهت عملها.
خرجت مي من المطبخ، ولم تكن ترغب في العودة للجلوس مع الباقين. وبينما كانت في طريقها للدخول إلى غرفتها، نادت عليها رودينا قائلة:
“مي!”
التفتت مي إليها بقلة حيلة، ثم جلست بجانبها. سألتها رودينا بابتسامة:
“كنتي فين؟”
ردت مي:
“كنت في المطبخ، بعمل حاجة.”
رودينا بغمزة ماكرة:
“طيب، مفيش أخبار جديدة كده ولا كده؟”
ضحكت مي محاولة التهرب:
“يعني!”
رودينا:
“يعني إيه؟ مش فاهمة!”
في هذه اللحظة، كان معتز جالسًا قريبًا منهما، وبدأ يشعر بغضب غريب دون أن يفهم سببه، خاصة بعدما سمع حوارهما.
—
بينما كان عامر يتحدث مع محسن ونرمين عن طبيعة شغلهم ومشاريعهم، كان هناك اتفاق على التعاون المستقبلي بين العائلتين في مجال الحراسة، إذ إن عامر يملك شركات مختصة في هذا المجال.
مي، في الجهة الأخرى، ضحكت بصوت عالٍ وهي تحاول كتمه، لكنها لم تستطع. أمسكت بفمها وقالت:
“بصي، يعني هو زميلي في الجريدة، وناوي يتقدم قريب!”
رودينا بفرحة:
“بجد يا حبيبتي؟ ربنا يتمم لكِ على خير يا رب!”
ثم سألت رودينا:
“وإيه أخبار سيلا؟”
ردت مي بنبرة حزينة:
“للأسف، سيلا حكايتها حكاية… هي رافضة فكرة الزواج من زمان. وكل مرة حد يتقدم، بترفض.”
رودينا باستغراب:
“ليه كده؟
مي بحزن: “من وقت الحادثة اللي حصلت زمان، وهي اتعقدت من الموضوع كله.”
رودينا بتعاطف:
“يااه، معقولة؟ ربنا يهديها ويطمن قلبها يا رب.”
مي:
“يا رب.”
في هذه اللحظة، جاءت ابنة رودينا الصغيرة تقول:
“ماما، عايزة أشيب!”
ضحكت مي وقالت مازحة:
“ترجمي يا دودو، هي عايزة إيه؟”
رودينا بضحك:
“عايزة تشرب.”
مي بابتسامة عريضة:
“بقت أشيب دلوقتي؟ أيامنا كان أمبو! إحنا اتطورنا خالص.”
رودينا:
“أكيد يا بنتي!”
—
انتهى اللقاء بعد حديث ممتع، وتم الاتفاق على لقاء جديد في حضور الأخ الأكبر الغائب. غادر الجميع المنزل، وكل شخص كان يحمل أفكارًا ومشاعر مختلفة عما حدث في هذا اليوم.
.
كان جالسًا في مكتبه، محاطًا بأوراقه وملفاته، بينما الحاسوب أمامه يعرض مجموعة من البيانات. فجأة، صدر صوت إشعار أزعجه. رفع نظره إلى الشاشة بدافع الفضول، لكن ما رآه جمد الدم في عروقه. محتوى الرسالة كشف شيئًا لم يكن يتوقعه أبدًا.
تجمد للحظة، ثم تبدلت ملامحه بالكامل إلى الغضب الشديد. أسقط القلم من يده، ونهض بسرعة، متجهًا بخطوات غاضبة نحو غرفتها.
فتح الباب بقوة، ليجدها تخرج لتوها من الحمام، تمسك المنشفة لتجفف شعرها. التقت عيناها بعينيه، وشعرت وكأنها أمام بركان على وشك الانفجار. لم تتوقع أن يكتشف الأمر بهذه السرعة، خاصة أنها لم تذكر أي أسماء.
قالت بتوتر وهي تحاول السيطرة على الموقف:
“إيه… إيه مالك؟ داخل كده ليه؟”
وبسرعة حاولت أن تخفي الحاسوب المحمول خلف ظهرها، محاولة حماية ما عليه.
لكن عاصم لم يكن مستعدًا لسماع أي أعذار. بخطوة واحدة، اقترب منها، وجذبها بقوة نحوه. أمسك الحاسوب من يدها، وسحبه بعنف وألقاه على أقرب مقعد.
أمسك يدها بقسوة وقال بصوت مليء بالغضب:
“تعالي! أنا هوريكي شغل المافيا الحقيقي! وهعلمك غسيل الأموال بيتعمل إزاي مع اللي زيك!”
حاولت التملص منه وهي تصرخ:
“سيبني! موديني فين؟! سيبني بقى!”
لكنه لم يستجب، بل زاد من قبضته عليها وسحبها بعنف إلى الخارج. نزل بها السلالم بخطوات متسارعة، متجهًا إلى الطابق السفلي حيث القبو.
فتح بابًا خشبيًا قديمًا يؤدي إلى غرفة معتمة، ودفعها للداخل بقوة. أغلقت الباب خلفها بصوت صاخب.
نظرت سيلا حولها، لتجد نفسها في غرفة باردة مظلمة، أرضيتها خرسانية، والهواء يكاد لا يدخل إلا من نافذة صغيرة جدًا في الأعلى. كل شيء فيها يوحي بالخوف.
تراجعت للخلف بخوف، وقالت بصوت مرتعش:
“إحنا فين؟ إنت عايز تعمل إيه؟ أبعد عني!”
لكن لم يتراجع. تقدم نحوها بخطوات ثقيلة وصوت غاضب هز المكان:
“أبعد؟ أيوة؟ بعد ما تخرجي وتطلعي أسوأ ما فيا! هااااااه؟!”
كانت تحاول الحفاظ على شجاعتها، بدأت تشعر بالخوف الحقيقي. قالت محاولة تهدئته
“عاصم… إهدى شويه أنا مش قصدي حاجة! كنت… كنت بس بحاول أفهم أكثر!”
لكنه لم يهدأ. كان واضحًا أن غضبه قد تجاوز كل الحدود، وعيناه تلتهبان كالنار مما جعل سيلا تدرك أن هذه المواجهة لن تمر بسهولة.
عاصم كان في حالة غضب أعمت بصيرته، عيناه اشتعلتا بسواد لا يرحم. أمسك سيلا من شعرها القصير بقسوة، وجذب رأسها للخلف بشدة، صرخ بصوت غاضب ومتهدج:
“عاوزة تشوفي شغل المافيا؟ هوريكي العصابات بجد!”
اندفع جنونه إلى أقصى درجاته، وفقد كل سيطرة على نفسه. بقبضة مشحونة بالغضب، وجه ضربة قوية إلى معدتها، متناسيًا أنها فتاة، متناسيًا كل معايير الإنسانية.
صرخت سيلا بصوت مملوء بالألم:
“آه أبعد!” أمسكت مكان الضربة في معدتها، وهي تتألم بشدة، تحاول جاهدة أن تلتقط أنفاسها. لكن لم يمهلها لحظة لتهدأ، فقد اقترب منها مجددًا، وأمسك بشعرها بعنف، وجذبها للأعلى حتى اضطرت للوقوف. كان غضبه عارمًا، يشعل فيه ثورة لا يعرف كيف يوقفها. بدأ يهزها بعنف، وصوته يرتفع في كل لحظة
“إيه اللي إنت عملتيه ده؟ تعرفي إيه عشان تكتبي كده؟ عاوزة تشوهي أي حد قدامك ؟ عشان سبق صحفي ؟ انطقي!”
كان يصرخ بكلمات مليئة بالغضب وكأنها لا تملك حق في الاختيار ، وهي تكافح لتلتقط أنفاسها وسط آلام موجعة، ردت بصعوبة وعينان تملؤهما الدموع وتحدِ:
“وإنت… تعرف إيه عني عشان تبعدني عن أقرب ناس لي زمان؟” قالتها بصوت متوتر، حاولت التملص من قبضته. “مين أعطاك الحق تسيطر عليّ؟ مين سمحلك تضربني كأني مش إنسانة؟! كان المفروض تحميني وأنا وسط أهلي… مش تجيبني هنا… سيبني بقى!”
لكن صوته كان أقوى منها، حيث صرخ بها بغضب مكتوم، وكان صوته مليئًا بالتهديد:
“عشان أنتي غبية… وما زالتِ… وأنانية! ما بتفكريش في غير نفسك، وطز في أي حد حواليك، وطز فيهم لو اتأذوا بسبب تهورك! ولا حتى بتتعلمي من غلطاتك!”
ثم انفجر بصوت عالٍ، كالرعد الذي يهز المكان، فيما وجهها يتلقى موجات من صراخه:
“لكن معايا أنا؟ لا! عندي أنا خط أحمر! فاااااهمه؟ خط أحمر ما ينفعش حد يتعداه!”
ض،ربها مرة أخرى في معدتها بقوة، مما جعلها تفقد توازنها وتسقط على الأرض، متكورة من شدة الألم. وقف للحظة، عينيه خالية من أي رحمة أو تعاطف، ثم استدار بسرعة، فتح الباب بقوة، وخرج بخطوات عنيفة، دون أن يلتفت خلفه. أغلق الباب بعنف، مما جعل المكان يهتز، تاركًا إياها وحيدة في الظلام، تكافح بين ألمها ودموعها.
فاطمة، التي كانت قريبة، ركضت نحوه عندما رأته وهو يسحبها للأسفل بسرعة، وقالت بتوتر: “يا بني، دي لسه متصابة، خليها ترتاح شويه.”
عاصم نظر إليها بنظرة قاسية لا تقبل النقاش، وقال بصرامة: “كلمة واحدة، أوعي تفتحي لها الباب، ولا تدخليها أكل ولا شرب، سيبيها زي الكلبة جوه كده فاهمة؟”
قالت بتنهيدة دون حيلة منها: “حاضر يا بني.”
وتركت المكان، عائده إلى عملها في صمت.
لم تهدأ ثورته بعد، توجه إلى غرفتها، سحب جهاز اللاب توب، وحاول مسح ما نشرته، لكن لم يتمكن من مسح جميع المشاركات الأخرى التي نشرها الآخرون. زفر بغضب وأجرى بعض المكالمات، ثم خرج من المنزل متوجهًا إلى صالة الألعاب ليخرج غضبه.
هو بارد كالجليد، لكن عندما يغضب، لا أحد يجرؤ على مواجهته. عائلته بالنسبة له خط أحمر، ولا أحد يستطيع الاقتراب منهم.
ظلَّت سيلا تسعل بشدة وتتلوى بألم في معدتها حتى غفت في حالتها المزرية.
مرَّ يوم كامل دون أن يسمع عنها شيئًا.
…
في اليوم التالي، دخل عاصم إلى غرفتها ليجدها ما زالت متكورة على الأرضية، وقد لاحظ تجمعًا دمويًا خارج فمها. توقف مندهشًا، نظر إلى جرحها فوجد أنه كما هو، لم يتغير. حاول إفاقتها، نادى على فاطمة ليحضر شيء مسكر بسرعة.
فاطمة جاءت بماء وسكر، لكن رغم محاولاته لم تستجب. فاستدعى الطبيب الخاص به ليأتي على وجه السرعة. عندما وصل الطبيب، قام بمحاولة إفاقتها، لكن ما قاله له الطبيب صدمه بشكل كبير، وأقفل فمه عن الكلام، تاركًا الطبيب يذهب وهو في حالة من الصدمة.
عاصم استعاد وعيه بعد فترة، نظر إليها بعينين محملتين بالهموم، فوجدها قد أغمضت عينيها مجددًا. لم ترغب في رؤيته، فتركها وخرج من الغرفة.
في المساء، استفاقت سيلا وطلب منها عاصم أن تستدعيها إلى مكتبه. فاطمة صعدت لإخبارها، لكن سيلا ردت بنفاذ صبر: “مش عاوزة أقابل حد، من فضلك قولي له إني هفضل هنا لحد ما نتكرم ونمشي من هنا خالص.”
فاطمة نزلت وأخبرت عاصم، فطلب منها أن تعطي سيلا الهاتف لكي تتصل بأهلها، ثم تعيده مرة أخرى.
عادت فاطمة وأعطت سيلا الهاتف، فقالت سيلا بسخرية: “يا لكرم أخلاقه”، ثم أمسكته وأخذت تنتظر الرد بشغف.
يتبع لو تفاعلت بعشر كومنتات ولايك هعرف انها عجبتك هكملها اسرع
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل السابع عشر
أمسكت الهاتف وانتظرت حتى جاءها الرد، فردّت بلهفة:
“بابا…” ثم بدأت في البكاء.
محسن، بقلق:
“مالك يا قلب أبوك؟ فيكِ إيه؟”
سيلا، بصوت متقطع من البكاء:
“نفسي أشوفك أوي يا بابا. عاوزة أرجع لكم. مش عايزة أقعد هنا. تعالَ خدني بقى.”
محسن، محاولًا تهدئتها:
“اهدي يا حبيبتي، اهدي. خلاص، كلها أيام وهتكوني وسطنا. عارفة؟ همسة جالها عريس وقعد معانا واتعرفنا عليه. ومستنينك تيجي عشان نعمل الخطوبة.”
سيلا مسحت دموعها، وقالت بفرحة مختلطة بالحزن:
“بجد؟ مبروك! فرحتلها أوي. هي فين عشان أبارك لها؟”
محسن:
“معاكي هي. اتفضلي كلميها.”
تحدثت همسة بحماس:
“حبيبتي يا سيلا! وحشتيني أوي!”
سيلا:
“وانتي أكتر يا قلبي. مبروك يا حبيبتي! فرحتلك أوي أوي. هتعملوا الخطوبة إمتى؟”
همسة:
“لما ترجعي إن شاء الله. بابا قالي إنك هترجعي الأسبوع ده. تجي بسلامة يا رب.”
ثم تدخلت نرمين، وخطفت الهاتف قائلة بحنان:
“عاملة إيه يا حبيبتي؟ بتاكلي كويس؟ خلي بالك الجو بارد عندك. ادفي كويس يا عمري.”
سيلا:
“حاضر يا ماما. وحشني حضنك أوي. نفسي أترمي في حضنك أوي.”
نرمين، بقلق:
“مالك يا قلبي؟ بتعيطي ليه؟ قلبي وجعني عليكي. طمنيني، فيكِ حاجة؟ خلاص، استحملي اليومين دول بس.”
سيلا تنهدت، محاولة طمأنتها:
“أنا كويسة، متقلقيش عليا. بس أنتم وحشتوني أوي.”
لم تستطع متابعة المكالمة بسبب اختناقها بالبكاء، فقالت بصعوبة:
“معلش، مضطرة أقفل. عايزين التليفون. مع السلامة.”
أغلقت الخط وأعطت الهاتف لفاطمة، ثم ارتمت على الفراش تبكي. لكن فجأة بدأت تسعل بشدة، وأحست بوجع في معدتها. لاحظت بقعًا من الدم، مسحتها بسرعة، ثم غفت بالنوم من شدة تعبها.
شروق مصطفى
فاطمة أخذت الهاتف وذهبت لإنهاء عملها، بينما ظل محسن في مكتبه قليلاً قبل أن يذهب إلى النوم.
……
صباح اليوم التالي اندلعت معركة بالصحراء بين الشرطة والعصابة التي كانت مختبئة في أوكارها. وبعد مواجهة مسلحة وإطلاق ن.ار، تمكنت الشرطة من السيطرة على الوضع وإلقاء القبض على أفراد العصابة بالكامل، رغم إصابة بعض رجالها. أثناء التفتيش، عُثر على شاحنة كبيرة مليئة بالأطفال المختط.فين، وأخرى تضم فتيات قاصرات في حالة تخدير تام.
بعد انتهاء المهمة، أجرى اللواء اتصالًا بعاصم ليبلغه بالنجاح ويطلب منه الاستعداد للعودة في أقرب وقت.
أغلق عاصم الهاتف وتنهد بارتياح قائلاً:
“وأخيرًا المهمة دي خلصت.”
ظل جالسًا للحظات، مسترجعًا ما حدث، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى ليجري مكالمة مع طبيب مختص بحالة سيلا. استفسر عن خطة العلاج الأنسب، خصوصًا أن الإمكانيات الطبية في هذا البلد متطورة بشكل أفضل مما كان متاحًا في موطنهم.
بعد المكالمة، قرر مواجهة سيلا بما علمه، ليترك لها القرار بشأن خطواتها القادمة. طلب من فاطمة أن تحضرها إليه، لكنها عادت تقول بأسف:
“للأسف، مش راضية تخرج.”
أغمض عاصم عينيه لبرهة، ثم قال بحزم:
“قولي لها لو ما نزلتش، أنا هطلع لها بنفسي.”
نقلت فاطمة كلامه، فجاء رد سيلا غاضبًا:
“مش هقابله! مش طايقة أشوفه ولا أسمع صوته. لحد أرجع.”
عندما علم عاصم بردها، لم ينتظر طويلًا. صعد إلى غرفتها ودخل فجأة، وقال بصوت حازم:
“مش هينفع كده يا سيلا. عايز أتكلم معاكي، تعالي على المكتب حالًا.”
وقفت سيلا، وهي تنظر إليه بغضب، ثم تقدمت خلفه متذمرة، تضرب الأرض بقدميها. دخلت المكتب وجلست على الكرسي أمامه بوجه متجهم، وقالت بحدة:
“اتفضل، خير؟”
جلس عاصم أمامها ونظر إليها بجدية، ثم قال:
“خير إن شاء الله. العصابة أتقبض عليها، ولو عاوزة نمشي من هنا هنمشي حالا بس…”
الفرحة اجتاحت قلبها للحظة، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها الشاحب. عينيها تلألأت بالسعادة وهي تقول:
“بجد؟ بجد أخيرًا؟ الحمد لله!”
ثم تابعت بحماس:
“طبعًا عايزة أمشي، ومن غير أي سؤال. ودلوقتي حالًا! أخيرًا الكابوس ده خلص.”
أنهت كلماتها بنظرة غاضبة لعاصم، وكأنها تلومه على كل ما حدث.
نظر إليها بهدوء، محاولًا كتم توتره، وقال:
” بس في حاجة محتاجين نفكر فيها قبل ما ننزل. وده قرار يرجعلك في النهاية.”
سيلا، بوجه متجهم وقد بدت عليها الدهشة:
“حاجة؟ حاجة إيه دي؟ إحنا مش خلصنا خلاص؟ العصابة واتقبض عليها وكل حاجة انتهت!”
عاصم تنهد طويلًا، محاولًا جمع شتات كلماته، وقال:
“أحم… بصي. يوم ما حبستك، تاني يوم لما الدكتور وصل وكشف عليكي، بلغني بـ…”
توقف للحظة، ثم أكمل وهو يشرح حالتها الصحية بتفاصيل دقيقة، محاولًا تهدئة وقع الصدمة عليها.
“أنا شايف إن الإمكانيات هنا متطورة أكتر، ولو مددتي الفترة دي شوية، هتتحسني بشكل أسرع. الموضوع في بدايته سهل، يعني مش هياخد وقت طويل.”
صدمتها كلماته، ولم تستوعب ما تسمعه. شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. نعم، كانت تشكو من آلام في معدتها، لكنها لم تتخيل أن الأمر بهذا الجدية.
ابتسمت ابتسامة باردة تخفي وراءها خليطًا من الغضب والإنكار، وقالت:
“شكرًا… شكرًا إنك نبهتني. أنا هعرف آخذ بالي من نفسي. ومن صحتي. شكرًا لحد هنا.”
ثم أضافت بحدة:
“وأنا طالعة أجهز نفسي للسفر بعد إذنك.”
لم يدعها تغادر قبل أن يرد بسرعة:
“بلاش العناد في الموضوع ده. لو عايزة، ممكن أبعت حد من أهلك هنا، أو أجيبهم كلهم لو تحبي.”
استدارت قليلاً دون أن تنظر إليه، وقالت بنبرة حازمة وباردة:
“لا. وياريت متجبش سيرة لحد. مهمتك وانتهت هنا. وابعد عن طريقي.”
غادرت المكتب بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها دون أن تترك له مجالًا للحديث.
جلس في مكانه لبضع ثوانٍ، يحاول استيعاب ما حدث. غضبه كان واضحًا، فنهض فجأة وضرب بيده على المكتب عدة مرات وهو يتمتم:
“غبية! عنادك ملوش لازمة.”
ثم أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بابن عمه قائلاً بحزم:
“جهز كل حاجة. أنا جاي الصبح.”
… .
نرمين بفرحة غامرة قالت:
“بجد يا محسن؟ قبضوا عليهم؟ الحمد لله يا رب! أخيرًا الكابوس ده خلص! فاكر إننا كنا نادرين لما ترجع بالسلامة نطلع نعمل عمرة؟ ولا نسيت؟”
ابتسم محاولًا إخفاء إرهاقه، وقال:
“ما نستش طبعًا، بس الواد مستعجل يا ستي. نستنى نكتب كتابهم الأول، وبعدها نطلع عمرة. لما نرجع، يكونوا خلصوا تجهيزاتهم على مهلهم للشهرين دول.”
بتردد قالت:
“بس مش حاسس إننا استعجلنا؟ مش كانوا محتاجين وقت أطول عشان يتعرفوا على بعض؟”
نظر إليها بثقة وقال:
“لو كنت شايف إنه ما يستهلهاش، مكنتش وافقت. أنا اختبرت الولد، وهو قد المسؤولية. وكل شيء معمول بحساب.”
بحنان اقتربت منه، وأمسكت وجهه بيديها، وقالت بابتسامة:
“وأنا واثقة فيك وفي كل قراراتك يا حبيبي. نفسي أفرح بهم أوي، وسيلا كمان.”
ربت على يدها بحب وقال:
“سيبيها، كل حاجة ليها وقتها. والأيام الحلوة جاية.”
قطع حديثهما صوت همسة وهي تدخل بابتسامة عريضة
“الله الله الله! الأحضان كده من غيري؟ خيانة واضحة، وأنا ماليش نصيب ولا إيه؟”
ضحكا بصوت عالٍ، وفتحا أذرعهما لها، وقالا:
“تعالي يا أجمل عروسة!”
دخلت همسة وسطهما، واحتضنتهما بسعادة كبيرة، ثم رفعت رأسها وقالت بابتسامة:
“مبسوطة أوي إن سيلا هترجع بكرة. مش قادرة أستنى أشوفها.”
ركضت بعدها إلى غرفتها، تتوق لإخبار حبيبها بالخبر السعيد.
عندما استقبل مكالمتها وأخبرته بكل شيء، امتلأ قلبه بالفرحة. اتصل بأخيه عامر وقال:
“عامر، كنت لسه هكلمك! عاصم بلغني إن كل حاجة تمام. حضّر نفسك، هنقرأ الفاتحة قريب، ونعمل تلبيس دبل. وبعد ثلاث شهور نكتب الكتاب.”
بصوت مليء بالسعادة رد قائلاً:
“إن شاء الله، يا وليد.”
….
دخل غرفته يحضر حقيبته، ثم توجه إلى الدادة فاطمة قائلاً:
“جهزي حاجتك وبلّغي سيلا إننا هنتحرك على الفجر.”
هزّت رأسها موافقة، وبدأت تجهيز احتياجاتها، ثم صعدت لتبلغ سيلا، بينما ظل عاصم في مكتبه، مستغرقًا في أفكاره. جلس ممسكًا سيجاره الذي أشعله ببطء. فكر في حالة سيلا الصحية، وكيف أنها رفضت أن يخبر أحدًا بما تعانيه. كان يعلم أن علاجها يجب أن يبدأ فورًا، لكن عنادها أربكه. زفر بحدة وقال بصوت منخفض:
“أنا مالي ومالها؟ تتعالج أو متتعالجش، مش مشكلتي.”
ثم نفض أفكاره بقوة ووقف أمام النافذة. شرد قليلاً، يحاول تجاهل قلقه غير المفهوم. فجأة، سمع صوتًا ما عبر سماعة الأذن. تنهد وابتسم بخفة، وكأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه.
كانت سيلا تجلس على السرير تدندن بسعادة، تغني لنفسها وكأنها تطمئن قلبها:
“وحشتوني وحشتوني وحشتوني! أهلًا ترارارا، أهلًا ترا رارا! أهلًا أهلًا بأعز الحبايب!”
ثم توقفت فجأة لتتكلم مع نفسها بسخرية:
“أخيرًا! هخلص منه جبل الجليد كابوس. يبااااي! دمه تقيل بشكل!”
استلقت على السرير بتعب، تذكرت أنها لم تحضر معها سوى حقيبة صغيرة. أغمضت عينيها وغفت بسرعة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة خفيفة.
صعدت لتوقظ سيلا وتبلغها بالتحرك بعد قليل. عندما دخلت الغرفة، وجدتها نائمة بعمق خرجت تبلغ عاصم، كان مستندًا على حافة المكتب، وملامحه متحفظة، لكنه أومأ برأسه قائلاً:
“خليها. كمان شوية نتحرك.”
مرور أسبوع على عودتهم
عاد عاصم إلى حياته المعتادة بعد عودتهم، يوازن بين إدارة أعماله في الشركات وأعماله السرية. كان يومه مزدحمًا بالاجتماعات والتخطيط، لكنه لم يغفل عن التنسيق مع عامر ووليد لترتيب زيارة عائلية بنهاية الأسبوع. الهدف كان واضحًا: قراءة الفاتحة والإعداد لمراسم الخطوبة.
أما سيلا، فكانت قصتها مختلفة تمامًا. طوال الأسبوع، ظلت حبيسة المنزل. لم تغادر غرفتها سوى للحظات قليلة، ولم تذهب حتى للجريدة التي كانت تحب عملها فيها. انعزلت عن الجميع، وخسرت الكثير من وزنها بسبب فقدان الشهية. كل ما تأكله كان يسبب لها الألم أو ينتهي به الأمر إلى التقيؤ.
كانت غارقة في التفكير والصدمة، تعيد في ذهنها ما قاله لها الطبيب، وتحاول استيعاب الأمر. قررت ألا تخبر أحدًا عن حالتها، لا تريد أن تعكر فرحة عائلتها بزواج همسة أو سفرهم للعمرة. أجلت فكرة الحديث عن مرضها أو العلاج لما بعد انتهاء هذه الأحداث السعيدة.
قبل نهاية الأسبوع بيوم قررت الخروج أخيرًا، بحجة شراء شيء مناسب لمناسبة الخطوبة. رفضت أن يصاحبها أحد، فقد كانت لديها نية أخرى. ذهبت مباشرة إلى المستشفى، لتزور الطبيب المختص بالأورام. كشف الطبيب عليها واكتشف وجود كتلة في منطقة المعدة، وأكد ضرورة إجراء أشعة متخصصة لمعرفة طبيعة الكتلة، سواء كانت حميدة أو خبيثة، وكذلك لتحديد حجمها بدقة.
شعرت بصدمة جديدة لكنها تماسكت. خرجت من المستشفى وتوجهت إلى مركز الأشعة لإجراء الفحص المطلوب. تناولت المحلول الذي طُلب منها قبل الفحص، وأخبرها الطبيب أن النتائج ستظهر في اليوم التالي.
بعد ذلك، حاولت أن تخفف عن نفسها قليلاً، فدخلت متجرًا وابتاعت شيئًا بشكل عشوائي دون تفكير. كان فستانًا بسيطًا بلون سماوي جذب انتباهها. لم تقسه حتى، فقط اشترته وغادرت.
عند وصولها، وجدت الجميع يغنون ويرقصون بفرحة. الأجواء كانت مليئة بالسعادة، فابتسمت سيلا بصعوبة ودخلت بينهم تحاول مشاركتهم. همسة كانت أول من لاحظ الفستان، فأخرجته من الكيس بحماس:
“الله! جميل جدًا يا سيلا، هيبقى تحفة عليكي!”
وضعت همسة الفستان عليها وهي تصفر بإعجاب:
“واو، واو! تحفة بجد، عقبالك يا رب.”
احتضنتها بحرارة، بينما نرمين ابتسمت وقالت بحنان:
“رقيق أوي يا حبيبتي، مبروك عليكي.”
كانت مي، التي حضرت قبلها بيوم للتجهيز مع العائلة، تقفز بمرح. فجأة قرصت همسة مما جعل الأخيرة تصرخ:
“آآآه! إيه يا بت؟”
ضحكت مي بشدة وهي تقول:
“عشان أحصلك في جمعتك، يلا يا سيلا، اقرصيها انتي كمان!”
لكن همسة ركضت مبتعدة وهي تضحك:
” اللي يقدر يمسكني!”
استمرت الأجواء المرحة، وضحك الجميع على همسة، حتى انضم محسن وقال بابتسامة كبيرة:
“عقبالكم يا بنات!”
ردت مي بفرحة:
“الله يبارك فيك يا عمو!”
سيلا في عالم آخر كانت تحاول أن تشاركهم الابتسامات والضحكات، لكنها كانت غارقة في عالم آخر. شعور الوحدة والخوف كان يسيطر عليها. لم ترد أن تعكر صفو فرحتهم، فانسحبت بهدوء ودخلت الحمام.
كانت ما تزال تمسك بالفستان السماوي، ووقفت أمام المرآة تتأمله. لم يكن اختيارها له عن قصد، لكنها شعرت بأنه يناسبها بطريقة ما. نظرت لنفسها في المرآة، وحاولت أن تبتسم، لكنها كانت ابتسامة مليئة بالوجع والقلق الوقت يمر… والصمت يثقل على قلبها.
وجاء اليوم جلس الجميع الأب مع عاصم وأخيه عامر و وليد .
وتم تحديد بعد ثلاث اشهر خطوبه و كتب الكتاب مع بعض و بعد رجوعه من العمرة سيكملون الزواج.
داخل غرفة البنات همسه وضعت اخر اللمسات و كانت هاديه ورقيقه بفستانها الكشمير و شعرها المائل للعسلي الغامق الذي رفعته لأعلي بطريقه جذابه و انزلت بعض الخصل للأمام مع القليل من مستحضرات التجميل
و ايضا وضعت سيلا بعض مستحضرات التجميل لاخفاء شحوب وجهها ولبست طقم آخر بعد الكثير من المجادلة منهم أن تلبس هذا الفستان الا انها رفضت و تركته ليوم الخطبة.
و حضرت ايضا مي التي لاحظت تغير في صديقتها لكنها لم تريد ان تتكلم فالوقت غير مناسب.
فور وصول رودينا إلى المنزل، أسرعت إلى الداخل تحمل طفليها النائمين، لتضعهما بلطف على الفراش وتتركهما يكملان نومهما. اتجهت مباشرة إلى سيلا، واحتضنتها بحرارة، وكأنها تحاول تعويض سنوات الغياب الطويلة. بعيون دامعة وقلب مليء بالفرح، قالت رودينا:
“مش مصدقة نفسي بجد… بعد كل السنين دي رجعنا تاني لبعض، وكمان بقينا نسايب!”
ردت سيلا بابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة داخلها:
“أهو النصيب بقى…”
لكن رودينا، وقد شعرت بالذنب، أضافت بصوت منخفض:
“متزعليش مني، والله كان غصب عني. إخواتي كان طبعهم صعب جدًا، وحاصروني بشكل ما كنتش أقدر أتصرف فيه.”
في داخلها، همست سيلا لنفسها: “أنتي هتقوليلي؟ أنا عشت الطبع ده بكل قسوته… ضربني، حبسني في بدروم وسط الثلج.”
ولكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، بل أفاقت من ذكرياتها حين شعرت بضغط رودينا على كتفها، تبكي وتطلب السماح.
ربتت سيلا عليها بحنان وقالت:
“مش زعلانة منك يا حبيبتي، والله. اللي فات مات، انسي بقى. متعيطيش.”
بعد أن هدأت رودينا، قالت سيلا مازحة وهي تشير إلى طفليها:
“طب يلا صحيهم، يلعبوا معانا.”
تراقب الطفلين بملامح محبة:
“دول شكلهم كيوت أوي.”
رودينا ضحكت وقالت:
“كيوت إيه! دول مطلعين عيني طول النهار. أقعد أقول لهم: بس اسكتي، كفاية دوشة! لكن لما بيناموا، أحس بزهق رهيب وأفضل أقول: اصحوا، كفاية نوم!”
ضحكت سيلا ومي وهمسة معًا على وصفها، بينما خفضت رودينا صوتها وهي تضحك أيضًا:
“بس هس… خليهم نايمين دلوقتي عشان نقعد شوية برا بدل ما يطلعوا روحنا.”
نادت نرمين على الجميع استعدادًا لقراءة الفاتحة وتلبيس الخواتم. خرجوا جميعًا إلى الصالة حيث تجمع الأهل في جو عائلي دافئ ومليء بالحب. كانت همسة في كامل أناقتها تجلس بجانب وليد، الذي لم يستطع أن يُخفي نظراته العاشقة لها، تلك النظرات التي عبّرت عن إعجابه بها منذ اللحظة الأولى.
سيلا، بابتسامتها الهادئة، توجهت إليه وقالت:
“ألف ألف مبروك.”
رد وليد بابتسامة مماثلة:
“الله يبارك فيكِ، وعقبالك إن شاء الله.”
ردت سيلا بامتنان بسيط:
“ميرسي.”
جلست مي في مواجهة معتز، الذي لم يكن قادرًا على فهم مشاعره المتضاربة تجاهها. كان مضطربًا، بينما هي اختارت تجاهله تمامًا وكأنه غير موجود.
قرأ الجميع الفاتحة معًا في لحظة مباركة، ثم قام وليد بإلباس همسة الخاتم وسط تصفيق وفرح العائلة. كان الأب والأم ينظران بسعادة إلى ابنتهما، بينما لم يتوقفا عن الدعاء في سرّهما أن يمنح الله السعادة لسيلا أيضًا، وأن تجد نصيبها قريبًا.
رودينا جلست بجانب زوجها، تنظر إلى المشهد بابتسامة، وهي تفكر في حظوظ القدر التي جمعتها مجددًا بسيلا بعد كل تلك السنين.
ظل عاصم يراقب سيلا بعينيه، ولاحظ الشحوب الذي بدا على وجهها رغم محاولتها إخفاء ذلك باستخدام مستحضرات التجميل. هي أيضًا انتبهت لنظراته وفهمت ما يعكسه، فبادلت نظرته بنظرات تحذيرية، دون أن تنطق بكلمة واحدة.
استأذن عاصم ليشعل سيجارة إلى الشرفة، ورافقه الأب، حيث تبادلا بعض الكلمات في لحظات هادئة قبل أن يعودا إلى الداخل. أضاء عاصم سيجارته، وظل يدخن في صمت لفترة، حتى أدرك أن سيلا اقتربت منه. سعلت بشدة جراء كثافة الدخان الذي يملأ المكان، فتوجهت إليه بغضب:
يتبع….
رواية اسيرة القاسي الفصل الثامن عشر
“جايبني ليه؟ خليت بابا يناديني ليه؟ طفي الزفتة دي! مش قادرة!”
بعد لحظات من السعال، هدأت وقالت بحدة:
“أخبار قضية أية؟اللي عايز تتكلم فيها؟ مش هي انتهت خلاص؟”
أطفأ عاصم سيجارته، ونظر إليها بنظرة مرعبة، وقال بصوت حازم:
“صوتك ميعلاش فاهمة؟”
حاولت التوجه للداخل، لكن عاصم أمسك بذراعها بقوة قائلاً:
“استني هنا، مخلصتش كلام عشان تمشي.”
فجأة، ترك يدها، فرفعت يدها بتعب وقلة حيلة، وقالت:
“اتفضل اتكلم.”
عاصم، وهو ينظر في عينيها مباشرة، قال:
“ليه مقولتيش لحد عن حالتك؟”
ابتسمت سيلا ابتسامة ساخرة وقالت:
“إيه ده، خايف عليا؟ معقول؟ اللي أنا أعرفه إنك مش بتحس ولا بيفرق معاك. بتضرب بدم بارد زي ما ضربتني قبل كده،” وأشارت إلى كتفها.
عاصم، بنفاد صبره، قال:
“ما ترديش سؤال بسؤال. مش خوف عليكي، بسأل من ناحية الواجب. أنا اللي اكتشفت مرضك في الأول، مش أكتر. وبالنسبة للإحساس ده، مايخصكش في حاجة. ودم بارد لأنك تستاهلي.”
سيلا، وهي تنظر إليه بدهشة ثم تفكر في كلامه قليلاً، قالت:
“طيب، واجبك… وهو وصل. متشكرين. خلي ضميرك يرتاح. لو مت، مش هتكون السبب. ومتدخلش في حياتي تاني.”
غضب عاصم، وقال بعنف:
“أنتِ مجنونة! بتعاندي في دي كمان؟ اعقلي شوية! لو مقولتيش لحد، أنا اللي هبلغهم بنفسي.”
سيلا، وقد نفد صبرها، ردت بصرامة:
“أظن إن مهمتك انتهت. ملكش صفة ولا مكانة إنك تتكلم أصلاً. أنا هبلغهم في الوقت المناسب، مش هعكر عليهم فرحتهم، مش هخليهم يتلهوا فيا وهم فرحانين. بعد كتب الكتاب، إن شاء الله، هبلغهم بنفسي وأبدأ العلاج. ياريت ترتاح وتبعد.”
عاصم، وهو يحذرها، قال:
“خلي بالك، لو منفذتيش اللي قولتي ده، أنا اللي هتصرف بطريقتي. مفهومة؟ وعندي طرقي، وأنتِ جربتيها بنفسك.”
سيلا، بحزم شديد، قالت:
“لحد كده وكفاية! ملكش دعوة بيا بقى.”
عاصم، محاولًا تهديدها، قال:
“هسيبك لحد كتب الكتاب، لكن لو مابدأتيش أي خطوة، هبلغ والدك بضرورة سفرك لأمور تخص القضية، وهسفرك غصب عنك. مفهومة؟”
سيلا نظرت إليه قليلاً، لم تعرف كيف ترد، وكان واضحًا أنه لا يفهم أن تدخله في حياتها بهذا الشكل ليس له أي مكان. فأجابت:
“وأنا مش موافقة على جنانك ده.”
تركت عاصم ودخلت مجددًا إلى الداخل، حيث جلسوا جميعًا. كانت سيلا تحاول أن تتغاضى عن كل هذا الصراع الداخلي الذي تعيشه.
في جو عائلي محير ورغم التوتر الذي عاشته مع عاصم، لم تخلو الجلسة من أجواء عائلية دافئة. كانت نظرات معتز تحمل نوعًا من التوعد، لكن الأسباب التي جعلته يحدق فيها بهذه الطريقة كانت لا تزال غير واضحة بالنسبة له. وفي المقابل، كانت بين همسة ووليد نظرات مليئة بالحب والشوق، لكن نظرات أخرى بين الحضور كانت باردة كالجليد، لا تحمل أي نوع من المشاعر. إلى أن انتهت المقابلة، تاركة الجميع مع مشاعرهم التي ما زالت معلقة.
دخلت سيلا غرفتها بعد قليل، لتجد صديقتها مي قد غيّرت ملابسها وهي في انتظارها. استأذنت مي من أخيها ووالدتها بالمبيت لديها.
مي: “كان يوم جميل أوي، عقبالنا يا رب.”
ابتسمت سيلا ابتسامة مكسورة، وقالت: “عقبالك إنتِ يا حبيبتي.”
دخلت همسة بعد أن بدلت ملابسها، وانضمت إليهما.
مي (بحب): “مبروك يا عروسة، كنتي قمراية.”
همسة: “حبيبتي، عقبالك إنتِ وسيلا، يا رب تفرحوا قريب. بصوا بقى، أنا هلكانة أوي، وجعانة ونوم. هسيبكم ترغوا بس، وطوا صوتكم، ماشي؟”
مي (بضحك): “ماشي يا حب.”
ثم رجعت مي إلى سيلا التي ما زالت تائهة، سرحانة في أفكارها، وقالت لها:
مي: “مالك يا سيلا؟ حساكي مش طبيعية خالص، وبتسرحي كتير، ووشك غريب. فيكي إيه يا حبيبتي؟”
حاولت سيلا أن تهرب من أسئلتها وقالت: “لا يا بنتي، مفيش. شوية إرهاق بس من الأحداث الأسبوع وقلة النوم. يلا ننام بقى، لأني تعبانه بجد.”
لكن مي كانت تشعر بعدم ارتياح، لأن سيلا لم تحكي لها عن ما حدث لها أثناء السفر، وكلما حاولت أن تسألها، كانت تهرب من الإجابة.
هتفت مي بشك: “طيب يا سيلا، هسيبك دلوقتي، بس لما تحبي تتكلمي، أنا موجودة.”
في صباح اليوم التالي، خرجت سيلا لتستلم نتيجة الأشعة. ذهبت مباشرة إلى الطبيب، الذي نظر في الأشعة لفترة من الزمن، محاطًا بالصمت. لكن سيلا كانت تشعر بتوتر كبير يملأها، وهي تنتظر الإجابة.
ثم جاء الرد الذي كانت تخشاه: ” “الورم موجود في أعلى بطانة المعدة، وحجمه صغير وواضح في الأشعة. الحمد لله إنك اكتشفتيه بدري، لإن في حالات كتير الورم مش بيبان في البداية وبيبقى انتشر في أماكن تانية. لازم تعملي عملية عشان تستأصلي الورم ده.”
سيلا: “ممكن يا دكتور أأجل العملية شوية؟ عندي ظروف خاصة كده محتاجة وقت.”
الطبيب: “المفروض إننا نستعجل في العملية دلوقتي بما إن الورم في بدايته، بس ممكن أديكي أدوية تقلل حجمه شوية، وجربيها أسبوعين. بعدين تعالي علشان نتابع الوضع. لو الأدوية ما نفعتش، هنبقى نغير العلاج، بس لازم تعرفي إن مفيش بديل عن الجراحة في الآخر.”
أخذت سيلا الروشتة وقرأت تعليمات النظام الغذائي بعناية، ثم شكرت الطبيب وخرجت.
فور مغادرتها العيادة، ألقت بصور الأشعة في سلة المهملات حتى لا يلاحظها أحد. بعدها، توجهت لشراء الأدوية المؤقتة، وأخفتها داخل حقيبتها قبل أن تعود إلى منزلها مباشرة. كانت تشعر بتعب شديد، فلم تعد قادرة على القيام بأي مجهود. رفضت العودة للعمل ووافقت دون نقاش على طلب والدها بترك عملها أو التحول إلى تخصص آخر.
ثم توقفت لحظة، تتذكر كيف كان الوضع قبل أن تصبح كل هذه الأحداث جزءًا من حياتها…
في اليوم الثاني بعد رجوع سيلا من السفر، دخل محسن غرفتها وقال: “ممكن أقعد معاك يا سيلا؟”
سيلا ابتسمت وقالت: “طبعًا يا بابا، اتفضل.”
عدلت من وضعها شويه، وقعد جنبها، وقال: “إيه الحلو زعلان ليه بقى؟”
سيلا ردت بصوت هادي: “مفيش يا بابا، مش زعلانه.”
يعلم جيدًا عناد ابنته، فاختار أن يتحدث معها من زاوية أخرى، قائلاً:
“طيب يا بنتي، أنا مليش غيركوا في الدنيا أنتي وأختك، وبخاف عليكو من الهوا الطاير، ومش هابقى مبسوط أبدًا وأنتي بتضيعي وأنا واقف بتفرج عليكي.”
صمت شوية، ثم أخذ نفس عميق وقال: “بصي، أنا مش همنعك من شغلك اللي بتحبيه، المرة دي الحمد لله لحِقنا نفسنا، لكن ما أعرفش المرة الجاية ممكن يحصل إيه. الشغل ده، التحقيقات والجري وراء الحقيقة، ده ليه ناس متدربة على أعلى المستويات ومختصين، فأنا هخليكي تختاري: يا تمسكي تخصص تاني خالص، أو تسيبي المجال ده كله.”
فهمت سيلا تمامًا مشاعر والدها وخوفه العميق عليها، لكنها كانت في حالة إرهاق شديدة، جسديًا وعقليًا، لا سيما بعد اكتشاف مرضها. لم تعد قادرة على بذل أي مجهود، وكانت تدرك تمامًا أن كل شيء أصبح فوق طاقتها. كما أن صديقتها مي توقفت عن العمل معها، مما جعلها تشعر بأنها في حاجة ماسة للراحة. باتت عاجزة عن مواجهة العمل في هذه الفترة، وأصبحت مقتنعة بأنها بحاجة إلى فترة من السكون والتعافي بعيدًا عن الضغوطات التي كانت تلاحقها.
فجأة، اندفعت سيلا إلى أحضان والدها، وكأنها تبحث عن مأوى في حضنه الدافئ، تحس بريحته التي تحمل في طياتها الأمان والحنان. في تلك اللحظة، غمرتها مشاعر غريبة، شعرت وكأنها على حافة الفراق منهم، كأن الزمن يهرب منها بسرعة. كانت تحاول بكل ما فيها أن تقتنص أي لحظة لتبقى بالقرب منهم، تخشى أن تفوتها، وتهيم في شعور غريب من القلق والحنين.
محسن لاحظ سكوتها، وقال: ” ها، قولتي إيه؟”
أخيرًا تكلمت، وقالت: “هختار الاختيار التاني. أنا تعبت من الشغل، فعلاً محتاجة أريح شوية. وكمان مي مش هينفع أسيبها، مش هينفع أشتغل لوحدي.”
حاولت سيلا أن تبتسم بصعوبة، وقالت: “مش بحب أعمل حاجة من غيرها، إنت عارف.”
قهقه محسن وهو ما زال يحتضنها، وقال: “ربنا يخليكم لبعض.”
نظرت سيلا إليه بابتسامة دافئة، ثم أمسكت بيده برفق وقالت: “ويخليك لينا يا رب.”
لكن حديثهم قُطع فجأة بدخول شخص آخر…
قالت بصوت متهكم: “لا لا لا! كل يوم ألاقيك في حضن واحدة تانية، وأنا الغلبانة مفيش حد يضمّني.”
ضحك محسن وقال: “تعالي تعالي، دايمًا بتيجي في أهم لحظة.”
ودخلت وسطهم، مما أضاف جوًا من المرح تلك اللحظة.
في أحد الأيام، كان في مكتبه مشغولًا بأعماله، لكنه سرح قليلاً وهو يتذكر ما سمعه عن تلك التقنية الحديثة التي زرعها لها. كان السوار الذي وضعه في يدها يحتوي على تقنيات متطورة للغاية، يتم استخدامها في بعض العمليات السرية والحساسة فقط. تركه في يدها دون أن يزيله، رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، ليظل السوار على معصمها مع ميزات قد تبدو بسيطة في الظاهر لكنها معقدة في الحقيقة.
الطريف في الأمر أنه لم يكن مجرد جهاز تتبع عادي، بل كان يحتوي أيضًا على سماعة صغيرة للغاية مدمجة، تقوم بتسجيل الأصوات من حولها. الطرف الآخر يستطيع الاستماع لكل ما يحدث عبر سماعة دقيقة للغاية زرعها في أذنه. تلك السماعة كانت غير مرئية تقريبًا، ما يجعلها مستحيلة الملاحظة من أي شخص آخر. كما أن هذه التقنية لم تكن مقتصرة على المسافات القريبة فقط، بل تم تصميمها خصيصًا لتغطية مسافات بعيدة أيضًا، مما يجعلها أداة قوية وفعالة في مراقبتها دون أن تشعر بذلك.
بينما كانت همسة في غرفتها الصغيرة التي خصصتها للعمل على رسم لوحاتها، كانت مشغولة تمامًا في رسم لوحة جديدة بعناية، تخطط للخطوط بالرصاص، شاردة في خيالها الذي ينسج تفاصيل اللوحة. في لحظة من التركيز التام، فاجأها رنين هاتفها، وكانت النغمة الخاصة به تعلن عن وجود رسالة من وليد، الذي أضاءت الشاشة باسم “حبيبي”. ردت على الاتصال بخجل.
قال وليد: “حياتي كلها، عاملة إيه؟ وحشتيني.” همسة أجابت برقة: “الحمد لله.”
ثم أضاف وليد: “عارف إنك زعلانة مني، المفروض أخرجك النهاردة، بس جالي سفرية فجأة وهرجع بالليل، بس بكرة إن شاء الله ننزل سوا وهعوضك.”
همسة طمأنته: “لا مش زعلانه والله.”
وليستمر وليد: “يعني مش نفسك تشوفيني؟”
همسة ضحكت: “لا.”
رد وليد: “ال ال ال بقا كده أنا زعلت بجد.”
فأجابته همسة: “أقصد إني شيفاك قدامي، أصلي برسمك.”
فوجئ وليد بفرحة: “الله بجد؟ طيب ينفع ترسمني كده وأنا مش قدامك؟”
همسة: “منا بتخيلك وبرسمك.”
ضحك وليد قائلاً: “ربنا يستر، ربنا يستر.”
همسة: “كده برده زعلت أنا.”
قال وليد ضاحكًا: “لا لا لا، بهزر والله. لازم أشوفها بعد ما تخلصيها.”
همسة: “أكيد.”
وليد: “طيب اسيبك تكملي الصورة وأنا خلص، وهكلمك تاني.”
همسة: “أوكي، مع السلامة.”
ثم تابعت همسة العمل على لوحتها، بينما كان صوت وليد في قلب حديثها، يعزز من إلهامها في رسمته الخاصة.
داخل السجن، كان الرجل يتكلم مع آخر، وعيناه مليئتان بالغضب والتهديد. قال بنبرة مليئة بالتحذير: “لم أترك هذه المهزلة تمر بسلام. لم تعرفوا مع من وقعتم، لكن قريبًا ستعرفون.”
ثم أخذ الهاتف المخبأ وتحدث مع شخص آخر قائلاً: “حضّر لي ما قلت لك، سننفذ الخطة قريبا. جهّز الرجال ليعرفوا تحركاتها!”
وأضاف بلهجة حادة: “لا أريد أي خطأ. سضيع رقبتك، مفهوم؟”
أجاب الطرف الآخر بصوت خافت: “مفهوم سيدي، لا تقلق. إنها رجعت، ورجالتي لم يفارقوها.”
أغلق الرجل الهاتف في وجهه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة شيطانية مليئة بالشر. “هاهاهاها، قريبًا سوف ألتقي بكِ، ملاكي.”
بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحت علاقة همسة ووليد أقوى بكثير، وكانت الأمور بينهما تسير بشكل جيد، بينما كان الوضع غير مستقر بالنسبة لمي فقد قطعت علاقتها بزميلها، حيث اختفى فجأة ولم يعد يرد على اتصالاتها. وصل إليها عن طريق أخته أنه ترك العمل بالجريدة وسافر.
أما معتز، لم يعرف سببًا لتلك الأفعال، لكن كل ما كان يريده هو أن يكسرها ويبعدها عن حبيبها. قام بتهديده في محاولات يائسة، لكنه لا يزال يتربص لها في الخفاء.
وفي مكان آخر، كان عاصم قد ذهب في مهمة سرية أخرى، حيث غاب لمدة شهرين ونصف. عاد في الوقت المناسب ليحضر كتاب كتاب ابن عمه.
أما سيلا، فكانت ما زالت مستمرة في علاجها، تتناول المسكنات وتزور الطبيب بشكل دوري. قامت بإجراء أشعة أخرى، وأخبرها الطبيب %D