رواية لحن الأصفاد الفصل العشرون 20 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل العشرون 20 بقلم أسماء
البارت العشرون (شرنقة الدماء!)
❞كانت أثقل من تاريخ الأرض…
اللحظة التي لمستني فيها عيناك!❝
منزل إدريك…
أزالت سيريا الدموع التي بللت وجهها بعدما قاله إدريك، أخذت نفسًا عميقًا، و دنت منه، ترفع يديها للمس ذقنه، و ترخي أهدابها الناعسة بينما تطالعه بنظرات حانية و تهمس له:
“أجل، أريد هذا الرجل بكل عيوبه!”.
أغمضت عينيها تسحبُ أنفاسه الثقيلة لأعماقها، ثم أضافت و هي تنقل يديها لعنقه:
“حتى لو مزَّقوك، كنتُ لأقضي ما تبقى من عمري أجالسُ قبركَ و أمنحكَ نفسي في خيالي!”.
2
كانت شاعرية سوداء تلك التي برحت شفتيها و خالطت أنفاسه و طرقت على شفاهه، لكنها أطرت على تشوهات روحه، و عزَّت مُصابَه الجلَل كرجل فقد جوهر حياته! لم يُطِق إدريك صبرًا، هزمته سيريا بعنادها و حبها الذي لا يعرف من أين يبدأ و إلى أين ينتهي! رأى في عينيها رغبة جنونية للإمتزاج به و الغرق بتفاصيله فأطاع تلك الرغبة، قبض على عنقها بيديه الخشنتين، و إنحنى يقطف من شفتيها قبلتهما الثانية، و كانت هذه المرة أعمق من سابقتها، أكثر جنونًا، و مغلفة بشوقها و ألمه، ثم عرج لوجنتيها و جبينها، و مضى يلثم كل إنش من وجهها، و يبثُّ فوق جلدها المُثار أنفاسه المتلاحقة كأنه يسقي كل لثمة بما تكتنزه رئتاه من وله مكتوم!
“سيريا…”.
بدت لها تلك الهمسة أجمل شيء يمكنها سماعه، تفاجأت بدموع تملأ عينيها و ضحكات تتنازعها شفتاها، حشرت نفسها بين ذراعيه أكثر، و لعنت ثمالتها التي جعلت وجهه ينتفض و يرتخي كزبد البحر الفائض، كالأطياف! لكنها كانت رغم هذيانها و تذبذب وعيها تشعر بجسده يطبق على جسدها، و بكل ذرة من رجولته الفائرة تنغرسُ في أعماقها!
أرادته بكل جوارحها، و إكتشفت أنه كان طوال الوقت يريدها بدفق مجنون يفوق ما يخالج جوارح البشر، كانت لمسته تبدو كلمس المطر للأرض العطشى، و رغم أنه يلمسها بإستمرار في دور الأب مُذ عرفت النور، لكن لمسته هذه الليلة إختلفت، كأنه يفعل ذلك للمرة الأولى، كأنه كان يسقطُ فوقها من سماء شاهقة باحثًا عن شقوق في تلك الأرض العطشى كي تتشرَّبَ فيضه الغزير، و ترتوي… ترتوي دون إكتفاء!
لم تعرف ما الذي أثر بها تحديدًا… هل هو سُكر زجاجتي الخمر اللتين إحتستهما… أم سُكر الشهد المتساقط من فمه، أجل! كان إدريك يغمغم بالكثير قرب شفاهها و أذنيها، البعض علق بذهنها و أذهب ما تبقى لها من رُشد، و الآخر فرَّ من مساحة إدراكها بسرعة كومض ضوء الغرفة خلف رأسه، فلم تعِ كُنهَه!
“أتعرفين؟ إعتقدتُ مطولاً أنني أردتُ حدوث هذا، لكن تبين الآن أنني كنتُ أعيش فقط على وهم حدوثه!”.
لثمت نهايات أصابعه التي كانت تداعب فمها، و همست بعينين شبه مغمضتين:
“لم يعد ذلك وهمًا إدريك!”.
ركبت سيريا جنونها و جرأتها، و أمسكت أصابعه بإحكام تمررها فوق كل جزء مستنفر في جسدها، لتؤكد له كم هي راغبة به و كم هي حقيقية، ثم عاودت الهمس:
“ٱنظر إلي مليًّا، ٱشعرُ بجسدي الذي يتصببُّ إثارة بمجرد إصطدام أنفاسك به، أنا الآن… سجينة ذراعيك و حُرَّةٌ عينيك، قد أحلِّقُ بنظرة… و أهوي بٱخرى!”.
تلاعبت إبتسامة جذابة بثغره، إختلجت شفتاه، و إنغرستا بفاها مجددًا، يغمض عينيه مؤكدًا لعقله أنها بين يديه، تحت جسده، تسطع بٱنوثتها الغافية كبلورة صافية، كدمعة ترقرقت و ذابت عند الشفاه، فتركت مذاقًا لا يُمحى!
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا داركسان | صباح اليوم التالي…
5
رفعت روكسان جفنيها طاردة عنهما النعاس، و أمعنت النظر في النصف السفلي من جسدها الذي عجزت عن تحريكه، كيف ستتمكن من ذلك… و دارك يحتضنُ خصرها بقوة؟ أغمضت عينيها و فتحتهما عدة مرات تتأكد أن ما تراه حقيقة، هل بقيَا على نفس الوضعية طيلة الليل؟!
6
شعرت بالخِدر في ساقيها، لكنها حافظت على جمودها محجمة عن إيقاظه، وجدت منظره و هو ينام بتلك الطمأنينة و ذلك العمق أجمل منظر يمكنها تأمله في الصباح، لم تكن وضعيتها تسمح لها برؤية وجهه، لكنها تخيلت جفنيه المرتخيين، و أهدابه السوداء المتراكمة، و شفتاه المطبقتان دون برود أو سخرية، تخيلته طفلاً مجرَّدًا من قسوة الرجل الذي كبُر لينتقم، و أحبت إلى حد بعيد صورة ذلك الطفل، و بدأت بمداعبة شعره و هي تبتسم لخيالات عدة، كانت خصلاته المتهدلة على جبينه تنزلق من بين أصابعها كإنزلاق المياه، فشجعتها نعومة شعره على الغوص داخله أكثر، سحبت كميات كبيرة من الهواء لرئتيها، فلم تمتلئ أعماقها سوى بعطره، إبتسمت ثانيةً و هي تتذكر ما قاله ليلة أمس: «داخلي غسقكِ و داخلكِ دُجَايْ!» … هذا العطر حقا يشبه رعشة الخيوط الليل التي تهاجمها أسواط النور فتمزق شرنقتها الحالكة و تفجر منها شروقًا باهرًا!
تأكدت روكسان أنه يغط في نوم ثقيل، فقد إستمرت بمداعبة شعره و أجزاء من وجهه دون أن يستيقظ أو أن يأتي بأدنى حركة حتى، تحسست حاجبيه و محجري عينيه بيدين رشيقتين، مررت إحداهما على طول أنفه كما لو أنها تحفظ معالم شموخه، و حطت بالٱخرى على لحيته كأنها تنوي تشذيبها بطرفها الٱنثوي الغض! لكن ما إن بلغت بتلك اليد فمه، حتى تفاجأت به يقبل أصابعها بوهن، توقفت فورًا عن تحسسه، و تمالكت يديها شاعرة أن نبض قلبها سيتوقف، غير أن دارك قبض على يدها و أعادها لشعره مغمغمًا:
2
“لا تتوقفي! أحبُّ ما تفعلينه!”.
8
كان يتحدث و عيناه مغمضتان، إستأنفت روكسان مداعبة شعره في صمت، مصغية لأنفاسه المسموعة، ليضيف دارك و هو على حاله:
“أحبُّ أنكِ كارثتي التي تتجول على جسدي و ليس أغراضي فقط!”.
6
أرادت روكسان أن توضح له سبب قيامها بذلك، لكنها عجزت عن التوضيح لنفسها في المقام الأول! كانت شغوفة جدا بلمسه هذا الصباح، و كانت أيضا فارغة من أي تفسير!
رفع دارك رأسه قليلاً، و أسند ذقنه لسُرَّتِها، يحدق بها كأنه لم يفعل من قبل، تقفز من عينيه نظرة مشاكسة، و ومضة مشتعلة، و سِربٌ من الذكريات التي طرقت بابيهما في نفس اللحظة، هكذا فعل حين إستيقظت من قبل و صدمت بنومه محتضنا خصرها بينما تتألم، هكذا أسند ذقنه لسُرَّتِها بعدما إستفاق، و هكذا نظر و تكلم، بذات البحَّة المثيرة، و بعين اللهجة الجذابة المتكاسلة:
“هل كنتُ ثقيلاً أيضا هذه المرة؟”.
تذكرت ما وصفته به حينها، فكتمت ضحكة عنه، و أجابت بنعومة:
“كلا!”.
“جيد، لأنني أنوي النوم هكذا كل ليلة!”.
فكرت للحظات مزدردة ريقها، و تمتمت معترفة:
“لا يتعلق الأمر بثقلكَ؛ بل بهشاشتي!”.
“كوني هشَّة، سأكون أنا كل قوتكِ!”.
15
لم تتمالك إبتسامتها، فجلبت عليه مصيبتين معا، و وجد نفسه أسير تناضد أسنانها و لمعان شعرها المسكوب بتدرج فوق الوسادة وصولاً إلى الفراش أسفلهما، و حين أيقن أن لا قِبَل له بمقاومة الجمال الذي يستعمر دائرة وجهها البيضاء و الليل السرمدي المحيط بها، رفع نفسه بمسافة إنشات فقط عنها، و زحف لأعلى، ليصبح وجهاهما في مواجهة متكافئة، و دون سابق تمهيد أو تردد، أمطرها دارك بقبلات حولت فمها و عنقها إلى ساحة حرب، فكانت شفتاه هي المجانيق التي تفرض على حصونها حصارًا غير رحيم، و تلقي القبلات حيثما إبتغت كشُهب النار الحارقة، و كانت أصابعه هي كتائب الجنود التي تطوق شعرها و تكتب عليه عهدًا جديدًا من الخضوع لسحره!
4
أفلت فمها و نهض عنها غير مفارق مفاتنها بنظراته، فغضت عنه البصر و تكومت على الطرف الثاني من فراشهما لتنزلق خارج السرير قبله، لكنه كان أسرع، وثب أولاً يعترض طريقها نحو الحمام، و قال بينما يرفعها عن الأرض:
“إلى أين تنوين الذهاب يا كارثتي المتجولة؟”.
اضطربت و هي تجيبه:
“إلى الحمام… لكي أغتسل!”.
أخذها إلى هناك دافعًا الباب بقدمه، و عقب:
“لنغتسل سويا إذن!”.
1
“هل من الضروري أن تحملني؟ الأرضية ليست باردة!”.
1
أجاب دارك و هو ينزلها ببطء أمام المغسلة:
“لا تقلقي يا أجمل مصائب الكون، لن يكون هناك شيئ بارد بوجودي!”.
4
أجمل مصائب الكون؟! هذا ما يجعله مختلفًا و مثيرًا بشدة، طريقته الفذَّة في مغازلتها، لا أثر للطف في الكلمات التي يختارها، لكنه يجعلها عذبة بطريقة تذهلها!
إنحنت روكسان لتغسل وجهها أولا، فتطوع دارك بيديه لرفع شعرها الطويلة و جمعه في قبة داخل قبضته، و حين إنتهت، و حان دوره، جعل المياه المنسكبة من الصنبور تمر بيديها أولاً كأنه يتبارك بملمسها الطاهر ليستمر!
و عند مغادرتهما الحمام، عاود حملها، و إتجه بها هذه المرة للطابق الأرضي، فسألته بغنج متمسكة بعنقه:
“ماذا تفعل يا حاكم الويد الجديد؟”.
“أنتقمُ من حاكمتي التي حرمتني حملها كعروس إلى مخدعها!”.
تنفست ببطء مفكرة أنه على حق، لكن لا ذنب لها في هذا، كان إكتشاف أمس عنيفًا، لقد ظنت أنه تعمد الزواج منها ليصبح من أصحاب الدم الرمادي، لكن بعد معاملته لها بذلك الحنان، تأكدت أنه تزوجها زواجًا حقيقيًّا، ألم يعدها بأنه سيفوز بقلبها قبل أي شيء!
1
تغنجت بعينيها و هي تسأله:
“إلى متى ستستمر بحملي؟”.
“العمر بطوله لو أردتِ!”.
3
قضمت شفتها السفلى مسترجعة ذلك القول الآسر الذي جعل قلبها يجمح فجأة ليلة البارحة: «أنا لا أريد ليلة العمر بل أريد العمر يا روكسان!».
2
“فيمَ تفكر حاكمتي و هي تقضم شفاهها هكذا؟ أهو الجوع أم هي الرغبة؟!”.
4
تخضب وجهها و أشاحت مجيبة:
“لا هذا و لا تلك، أنا فقط…”.
“أنتِ فقط كاذبة يا روكسان!”.
3
حدقت فيه باندهاش، فتابع باسمًا:
“أجمل كاذبة رأيتها، و أجمل كذب سمعته جاء على هذا اللسان، أرى بوضوح الجوع و الرغبة يتصارعان داخلكِ و يفضحان أمركِ، لكن في الوضع الراهن، سأصبُّ جام إهتمامي على جوعِك… لأنني جائع بدوري، من يدري؟ ربما أكتشف أن أسرع طريق لقلبِ زوجتي يبدأ من معدتها!”.
3
لوت شفتيها و علقت:
“هذا المثل ينطبق على الرجل!”.
“حقا؟! دعينا نجرب!”.
نزل الدرج الكبير، و قبل أن يبلغ المطبخ، قفزت كلبته لايكا نحوه، تتمسح بساقيه، و تهز ذيلها معبرة عن شوقها لرؤيته، و كان مايلس هو من تولى إحضارها من كوخ الصخور إلى الفيلا قبيل وصول موكب العروسين.
خاطب دارك كلبته بلهجة جميلة لا أثر للبرود فيها:
“أعرف أنكِ تغارين يا لايكا، لكن عليكِ إعتياد الأمر، أصبحت لي زوجة الآن!”.
نشجت لايكا بحشرجة و شخير خشنين كأنها ترفض تقبل ذلك، غير أن دارك أضاف و هو يواكب سيره صوب المطبخ حاملاً زوجته:
“في مطلق الأحوال، أنا لم أتزوج فتاة غريبة عنكِ، أنتِ تعرفين مصيبتي روكسان منذ سبعة أشهر تقريبا!”.
1
وضع روكسان على أحد كراسي طاولة المطبخ، فعلقت هذه بتوجس من نظرات الكلبة التي إلتصقت بهما:
“لا أظن أنها تستلطفني!”.
نظر دارك لكليهما ملاحظًا للمرة الثانية إنكماش روكسان حين ترى لايكا، قبل أن يردف غير مقتنع بما سمعه و رآه:
“لايكا كلبة شرسة، و لا تتسامح مع من يضمر لي العداء، أما معكِ أنتِ، فأنا واثقٌ أنها ستكون حملاً وديعًا، لأن حدسها قوي و تقرأ الأرواح، و روحكِ أنتِ تحمل صفاء و رقة لا نهاية لهما!”.
باشر دارك بإعداد القهوة، فتدخلت روكسان متخلية عن مجلسها، و إستخرجت البيض و الحليب المعلب من الثلاجة لتعد قالب كيك صغير، و في ذلك الوقت سألته متذ متى و لايكا معه، ليسرد لها قصتهما و هو يسكب القهوة في دورقها الخاص كي تحتفظ بحرارتها!
كانت لايكا صديقة دارك الوحيدة، لم يكن شخصا ثرثارًا و يعبر بإسهاب عما يمر به، حتى السفاحين اللذين يحترمونه و تجمعه بهم رابطة ٱخوة وطيدة، كان يبقي بينه و بينهم جدارًا خفيًّا من البرود و التباعد، لكن يختلف الأمر بالنسبة لكلبته التي تشعر به دون حاجته للكلام، و تفوز بلمسته الحانية و كرمه فور إحتكاكِها بساقيه، رأت روكسان بعينيها كم تعني له، نظراته صوبها و إبتساماته لها أوضحت عمق العلاقة بينهما، أخبرها أنه إعتنى بها مُذ كانت مجرد جرو صغير، و أنها مستعدة لتمزيق أي شخص يتعرض له!
توقف دارك عن الكلام و مد يده لتناول المناديل، و مدت يدها في اللحظة ذاتها لإلتقاط كأسين زجاجتين تسكب فيهما عصير البرتقال، تصادمت يداهما، و تشابكت نظراتهما، فإبتسم مستلذا ذلك التلامس الطفيف بينهما، و تراجع قليلاً إلى الخلف ليسمح لها بالمرور بينه و بين المقصف و الإقتراب من الكؤوس الزجاجية أكثر، و راقبها ممررا عينيه النهمتين صعودًا و نزولاً على قدها الرشيق و هي تبسُط قامتها الهيفاء و تقف على أصابع قدميها و تجاهد لبلوغ الرف المرتفع، تأكد مبللا شفتيه بطرف لسانه أنها لن تبلغه مهما حاولت، لذا تدخل واضعا قبضتيه حول خصرها، و رفعها قليلاً، و سرعان ما أحاطت الكأسين بأصابعها و نجحت بإلتقاطها، لينزلها ثانية، و يتجها إلى طاولة الفطور في قاعة الطعام الفهمة، رتباها معا يدًا بيد، دون أن تفارق عينا دارك وجهها، و دون أن تهدأ عاصفة النبض المسعور في قلب روكسان، ثم جلسا متقاربين، هيأت روكسان فنجانين لسكب القهوة، غير أن زوجها دفع أحدهما بعيدًا، و سكب بنفسه السائل الأسمر منتظرًا أن تغرق فيه بأصابعها المرهفة قوالب السكر الصغيرة، فأسقطت روكسان قالبين داخل الفنجان و تأملت ذوبانهما متمتمة:
“حسنا، ها قد وضعتُ السكر!”.
“إذن ضعيه كما يجب!”.
رفع الفنجان لشفتيها، و أشار عليها كي تتذوق منه، فذلك هو السكر الحقيقي الذي سيجعل مذاق القهوة مميزًا بالنسبة له، فعلت روكسان ذلك و هي تبتسم برقة، و شاهدته يعيد ما فعله سابقًا و كانت غافلة عنه بسبب عمى عينيها، وضع فمه فوق آثار شفتيها على حافة الفنجان و ظلل عينيه بسعف أهدابه القاتمة مبقيا بصره قيد الحُمرة القاتلة التي أسكرت خديها و جعلت ثغرها ينضج و يطالب بقطافه، كأنها كانت تحسُد الفنجان على تلك القبلة!
6
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
منزل إدريك…
كان الصداع هو أول شيء شعرت به سيريا حين رفعت رأسها عن الوسادة الصلبة، فركت عينيها تتساءل حول سبب تصلب الوسادة بتلك الطريقة! لكنها حين أمعنت النظر مليًّا… أيقنت أنها لم تكن مجرد وسادة…
كانت تسندُ رأسها على صدر رجل قوي… و ليس أي رجل…
“ما… ما… هذا؟”.
وضعت يديها حول رأسها تعاني عسرًا في إستيعاب المشهد، إذن كل ذلك لم يكن مجرد وهم من نسج أحلامها، تلك المعاشرة الحميمة التي جمعتهما كانت… كانت حقيقة!
إنهارت قربه مجهشة بالبكاء حين إكتشفت دماء عذريتها تحتها، يدها بين أسنانها، و الدموع تبلل أذنيها و شعرها متسربة إلى الوسادة، أيقظ نشيجها إدريك، فإستند على مرفقه ناظرًا إلى وجهها المتمخض بمشاعر متضاربة، و أراد أن يأخذها بأحظانه مطبطبا، لكنه شعر بمرارة لا تطاق لأنه فعل ما كان يتجنبه طوال الوقت، و أشاح عنها ليغادر الفراش قائلاً:
“كنتُ أعرف أن أول شعور سيخالجكِ بعد الإستفاقة من ثمالتكِ… هو الندم!”.
جلس على طرف السرير و ظهره لها مضيفًا بلهجته الباردة:
“لا تبكي! سنعود لدور الأب و إبنته، و سننسى ما جرى هنا، سيموت كل شيء حيثُما وُلِد!”.
شعرت سيريا أنه يقتلع قلبها بتلك الكلمات، فإنتزعت يدها من قبضة أسنانها، و إنتفضت من مكانها متجاهلة الألم الذي وخزها، و وقفت أمامه بجسدها العاري تردد دون أن تكترث لأي شيء:
“أنا لا أبكي لأنني منحتُكَ نفسي، و لا لأنني فقدتُ عذريتي، بل أبكي لأنني لا أصدق هذا…”.
لمست يده مضيفة:
“لا أصدق أنني هنا أخيرًا… أنني عشتُ معكَ ما كنتُ أراه فقط في مخيلتي، لم أكن يوما في دور الإبنة يا إدريك، كنتُ دائما في دور العاشقة اللعينة، و أنت كنتَ في دور الأعمى، تتعمد عدم رؤية إحتراقي، و ليلة أمس إنجلت عنكَ غشاوة العمى، و سكبت فوق نيراني شهدكَ المُصفَّى أيقنتُ أنني ثملتُ لليلة واحدة بينما ثملتَ أنتَ بي طوال سنوات!”.
“سيريا…”.
أخفض بصره، و فتح فمه ليعلق بشيء مهم، غير أنها قاطعته مستطردة:
“ربما كان عقلي ثملاً و أنا بين ذراعيك… لكن مشاعري لم تكن كذلك… كانت كل ذرة مني راغبة بك!”.
“سيريا… فلنؤجل هذا الحديث… أنتِ تنزفين!”.
قال إدريك ذلك و هو ينظر للدماء التي تنزلق منها سيولاً تخطط فخذيها، أما هي فلم تعبأ بملاحظته، و تمتمت مقتبسة منه بروده الشهير:
1
“دعني أنزف… على الأقل هكذا… سأتأكد أنني لم أعد تلك الفتاة الحمقاء التي تدعي أنها إبنتكَ المتبناة، هذه الدماء تؤكد لي أنني بلغتُ مرادي… و أصبحتُ الفتاة التي ضاجعها إدريك و همس لها بكل تلك الكلمات المثيرة… لها فقط!”.
“و ماذا سيحدث بعد هذا يا سيريا؟”.
غرزت فيه نظرتها الحادة، و تابعت بشراسة السفاحة:
“لا شيء… فقط سأجعل كل شخص يقف ضد علاقتنا ينزف أيضا!”.
1
ترك فاصلاً من الصمت قبل أن يردف بنبرة جليدية:
“حتى إن كان هذا الشخص فردًا من عائلتكِ؟!”.
نظرت إليه بإستغراب مستفهمة:
“و لماذا ستقف عائلتي ضد ما أريده؟”.
“لأنها ستكون وصمة عار بالنسبة لهم أن تضاجع واحدة منهم… رجلاً من العائلة المعادية!”.
هل الأرض تميدُ بها أم ماذا؟ متى ستنتهي أسرار إدريك؟ متى؟ شحبت و هي تتفرس به متمتمة:
“ماذا تعني بحق الجحيم؟ من… من تكون يا إدريك؟ هل يُعقل أنكَ…”.
سدَّدت عيناه السوداوان نحوها نظرة حالكة لا أغوار لها، و قال:
“أنا من عائلة الليونز!”.
32
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس السفلية | مقر الويد…
كانت مارفل كعادتها كل يوم تزور داجيو في غرفة الإنعاش، جلست عند رأسه تطالعه بأسف و حسرة، و ربما بغضب أيضا، و بفيض من الرغبة التي دفنتها بأعماقها لسنوات و سنوات، تحسست يده الساكنة لا تدري هل تخاطبه أم تخاطب خيبتها:
“ليتني أستطيع خداعكَ كالجميع، ليتني ٱجيد التخلي عنك كما تخلوا، لكن ها أنا ذي كما ترى، كما أفعل كل يوم، كما ترغب نفسي المريضة، هل هذا عادل يا داجيو، منحتُكَ كل شيء، عقلي… جسدي… سنوات عمري… حتى إسمي أخذته مني دون مقابل… و كل ما إنتظرته منكَ أن تبادلني القليل من الحب… القليل فقط!”.
3
إستخرجت بطاقة هويتها تتأملها بفم ملتوٍ و تعابير متحجرة، قرأت إسمها الكامل عدة مرات دون أن تشعر بالٱلفة «مارفل فارغاس» لتهمس مكتشفة حنينًا غامضًا يمزق قلبها:
“أتعرف؟ أحيانا أفكر أنه كان جنونًا عظيمًا أن أترك عملي الحقير كراقصة في الكازينو، و أنغمس معك في هذه المنظمة اللعينة! ماذا كان سيحدث لو لم أتمسك بك؟ ماذا كان سينجرُّ على قلبي لو دُستُه تلك الليلة و لم أمنحكَ نفسي؟ ماذا كنتُ سأخسرُ لو لم ٱصغِ لنصيحة شقيقتي الكبرى مارغو؟ لو رفضتُ فقط و أقنعتُها أنني لا أسعى للمال بل لقلب رجل بلا قلب! لربما تفهمت و لم تدفعني لهذا! لربما إحتضنتني تلك الٱخت البليدة معتذرة و تركتني أتابع رقصتي مع الفقر و العُهر! لربما كان أفضل لي أن أكون عاهرة الجميع على أن أكون عاهرة الرجل الأسوء بين الجميع!”.
5
وثب قلبها مرعوبًا، و إرتدَّت إلى الوراء فزِعة حين أحست بيد داجيو تتحرك تحت قبضتها، لوهلة لم تصدق ذلك، و ربتت على صدرها مؤكدة لنفسها أنها فقط تتوهم، لكن الحقيقة كانت أقوى من أن تشكك فيها! فلم يقتصر الأمر على حركة طفيفة في اليد، داجيو… و على مرأى من بصرها الجاحظ… فتح عينيه… و جاهد للتمتمة بشيء ما، غير أن جسده كان أضعف من أن يطيع رسائل دماغه العصبية، إرتبكت مارفل حين رفرف بجفنيه مطولاً و نظر بإتجاهها يحاول قول شيء دون جدوى!
“داجيو! يا إلهي! لقد عُدت! كيف حالك؟ بماذا تشعر؟ قُل شيئًا! أو لا… لا تقل شيئًا! أرح نفسكَ أولاً و لا تجهد حُنجرتك!”.
“د… دا… دار…”.
أتت غمغمتُه مبهمة، فإنحنت عليه ترهف سمعها، ليردد ما قاله بشكل أوضح رغم شحوب صوته:
“دا…دارك… هل… إنـ… إنتهيتُم… منه؟!”.
7
«اللعنة عليك و على دارك!» هذا ما خطر على بالها قوله، لكنها أمسكت لسانها و ظلت تنظر إليه بجمود، لماذا تخيلت أنه سيقول مثلاً: «مرحبا مارفل! من الرائع رؤيتكِ مجددًا»؟ لماذا هي هناك بالأساس؟ لماذا إنتظرت صحوته طيلة سبعة أشهر؟ ألا يرى هذا الجاحد أنها أفنت نفسها من أجله؟ ألا تستحق حتى إبتسامة؟
كرر داجيو سؤاله بحشرجة، و ظلت هي صامتة، نظراتها لا تترجم سوى الخذلان، و عقلها يلح عليها أن تصب زيتًا فوق ناره، و أن تدوس على جراحه مثلما يدوس على قلبها دون رحمة، إنحنت عليه بشدة و همست متعمدة أن تجعل صوتها خبيثًا و شامتًا:
1
“بل هو الذي إنتهى منكَ و من الجميع!”.
عقد داجيو حاجبيه ينتظر أن تشرح له، فأضافت مارفل بأسنان مشدودة:
“دارك ريغان جرَّدكَ من تاجكَ الثمين و أصبح حاكم الويد الجديد!”.
“ما اللعنة… التي تلوكينها… أيتها الحقيرة؟ هل… فقدتِ عقلكِ؟”.
شخر مُكَشِّرًا في وجهها، فأردفت تزيده الفيض قطرات قاتلة:
“هل تعرفُ ماذا فعل أيضا؟”.
دنت منه أكثر مضيفة:
“ظفر بلقب ملك السفاحين، و بات من أصحاب الدم الرمادي… بعدما تزوج إبنتك!”
تزوج إبنته؟ اللعنة! ما الذي يسمعه؟ ماذا يحدث في الكون؟ ليس لديه إبنة! هو يعرف ذلك كما يعرف نفسه! حاول القبض على عنقها لخنقها، لكن جسده المتهالك خانه، و عجز حتى عن النهوض، و لم يكن بيده حيله سوى الصراخ و التخبط:
3
“عن أي إبنة لعينة تتحدثين يا سافلة؟”.
“أنسيتَ تلك الليلة يا داجيو العزيز؟ أنسيت روزا الجميلة و بطنها المنتفخ؟”.
1
سخط مردفًا:
“لكنكِ وعدتِ بقتلهما!”.
تذكرت مارفل ذلك الأمر الذي منحه لها حين علم بحمل روزا، و تذكرت اللحظة التي أخفت فيها روزا الحامل بمنزل شقيقتها مارغو لتعتني بها ريثما تضع مولودها، حدجته بنظرة باهتة غير نادمة على حمايتهما، و تمتمت:
“نكثتُ بوعدي!”.
2
“أيتها العاهرة الحقيرة! ستندمين على خيانتكِ لي!”.
هزت مارفل رأسها مرددة:
“لم أخُنك، بل ضمنتُ ورقة رابحة لأستعملها في الوقت المناسب، و ها قد حان وقتها! هل تعرف ماذا يعني أن تكون والد حاكمة الويد؟ يعني أنك ستظل المسيطر و إن خسرت مقعد الزعامة!”.
1
فكر داجيو بجدية في صواب كلماتها، و سمعها تستطرد:
“عليك الإعتراف أنني جالبة حظك و نقطة قوتك داجيو!”.
لوى شفتيه متوعدًا:
“أعترف أن عقلكِ الخبيث ألعن من عقول الكثيرين و نفعني على مدار سنوات، لكن هذا لا يعني أنكِ ستفلتين من العقاب، سأريكِ لاحقا ماذا يعني أن تطعنيني بظهري و تتمردين على أوامري مارفل!”.
1
نهضت و هي تعلق ساخرة:
“حسنا، فلندع العقاب لوقته، علي الآن مناقشة وضعكَ مع طبيبكَ الخاص!”.
إستوقفها قبل أن تتناول مقبض الباب مزمجرًا:
“لا أريد طبيبًا، أريد إدريك… فورًا! دعيه يحضر و يرى أن شقيقه الذي أطلق عليه النار بيده… لم يمُت!”.
38
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس العلوية | نزيف من شرنقة الماضي…
في الفيلا… إستمرت المداعبات الهادئة بين العروسين لوقت طويل، غيرا ثيابهما الحميمة لٱخرى أكثر رسمية، و خرجا إلى الحديقة ترافقهما لايكا مزهوَّة بمهمة حراستهما، تأملت روكسان الرجل و كلبته بمزيج من الإعجاب و الفضول، ثم سألته و هي تفكر في ما يمكن أن يحدث لو مدت يدها و داعبت عنق لايكا:
“هل تحب الكلاب منذ طفولتك؟”.
تجمدت الدماء في عروس دارك، كأنها لم توجه إليه سؤالاً، بل وضعت سيفًا قاطعًا على عنقه! تحاشى الإجابة قائلاً:
“دعي طفولتي خارج أحاديثنا يا روكسان!”.
لم يرُق لها أنه حدثها بذلك البرود مجددًا، فتمتمت عابسة:
“لماذا؟”.
أجابها دون أن تترجم تقاطيع وجهه أي شعور واضح يمكنها تحليله:
“لأنها لم تكن طفولة، بل جحيمًا!”.
حدست غضبًا عارمًا يستترُ وراء كل كلمة، غير أنها تمسكت بفضولها، و ضربت بغموضه عرض الحائط:
“لا بأس، سأصغي إليك، و لن ٱدير ظهري لهاته الجحيم! سأقبلها كما قبلتُك!”.
“أنتِ مخطئة سيدة ريغان، تقولين لا بأس؛ و كل البأس إجتمع في طفولتي!”.
كانت لديها قناعة قوية بأنه لم يصبح أقوى سفاح في العالم السفلي من فراغ! لا بد أنهد هناك ما تحطم داخله! إنها تريد أن تعرف؛ و تخشى أن تعرف أيضا! خمنت شيئًا أذهب سلام اللحظة، و نقلته من ساحة تفكيرها إلى لسانها دون تريث:
“هل لطفولتكَ علاقة بإنتقامكَ من داجيو؟”.
صرف دارك أسنانه، و قست أضراسه المتطاحنة، حتى كاد فكَّاه يتهشَّمان، و لاحظت روكسان ذلك التقلص و التجهم في وجهه، فأبت أن تدعه لصمته و غموضه هذه المرة، و تابعت تساؤلاتها بنبرة ناعمة:
“ماذا فعل حتى إستحق منكَ كل هذا الغضب؟”.
2
إستمر تقلص وجهه، فباتت ملامحه أكثر ظلامًا من إسمه، كمضغة شر تتوهج في وضح النهار بلهب أسود، و كانت أصابع قبضتيه تلتف و تشتد متراصفة مضغوطة، كأنها تتحيَّنُ فرصة لتشويه أي شيء! ترددت روكسان للحظات، قبل أن تقول الكلمات التي ستطلق المسخ من قفصه:
“هل قتل داجيو أمك؟!”.
توقعت كل شيء، إلا أن يجيبها دارك بأقسى عبارة ممكنة، و بأكثر برود ممكن أيضا:
“هو لم يقتل أمي فقط، بل قتل عائلتي بأكملها، و قتل معها كل شيء… داخلي… و حولي! لقد أماتني و أنا على قيد الحياة!!”.
رغم الغضب المخيف الذي بدأ يتجلى في عينيه الداكنتين، إلا أنها لم تخشه، بل دنت منه أكثر، و مسحت على يده بحنان متمتمة:
“أخبرني بكل ما عشتَه يا دارك، لا أسألكَ هذا بصفتي إبنة المجرم الذي شوه طفولتَك؛ إنما أسألكَ إياه بصفتي زوجتُك!”.
أدارت وجهه نحوها مضيفة بنفس الحنان:
“أيًّا كان ما ستقوله الآن و مهما بلغ ماضيكَ من بشاعة فلن تتغير نظرتي إليك، أنا لن أتخلى عنكَ يا دارك… طالما تصدُقُني القول!”.
أردف متأملاً عيون الريم التي تجعل من وجهها تعويذة سحر يستحيل فكُّها:
1
“لماذا عليكِ أن تسألي ذلك الآن؟ لماذا تريدين أن أشوه أول يوم لنا كزوجين بفض شرنقة الماضي و نبش جروح قديمة!”.
“ربما ٱحاول التعرف عليك و بناء جسور متينة نحوك! لقد منحتني البصر، دعني أمنحكَ شيئًا بالمقابل”.
فكر دارك قليلاً، و عاندها محيطًا كتفيها بذراعه:
“لا يعجبني أن أمنحكِ الألم!”.
“إذا كان من الضروري أن نتألم سويا لنتجاوز هذا، فلا أمانع مشاركتكَ آلامك! ألم اسمعني بوضوح حين أقسمتُ أمام الرب أن أكون معك في الضراء قبل السراء؟!”.
كانت جميلة جدا و هي تكترث لأمره، و تجادله بلطفها الآسر و عنادها المسترسل، لكنها كانت أيضا غضة و بريئة أمام الأهوال التي عصفت به، لذا وجد نفسه ممزَّقا بين الصمت و البوح، و آخر الأمر، حين ألحت بشكل متزايد، أفلت منه لسانه، فقال:
“حين كنتُ في الخامسة من عمري، كان والدي «آدم ريغان» أقوى سفاحي الويد و زعيمًا عليها، و كان الأدهى أيضا، إلى درجة أنهم أطلقوا عليه لقب «جينيوس» أي العبقري، هو الذي منح السفاحين مكانة مرموقة في العالم السفلي، هو من أسس الويد و أقنع الكامورا بمنح السفاحين الأقوى حق دخول مجلس الشيوخ و تقلد مناصب القضاة هناك! و هو من تعرض للخيانة في نهاية المطاف! القضاة الذين أصبحوا جزءً من مجلس شيوخ المافيا بفضله… إنقلبوا ضده فجأة و قرروا التخلص منه، فقط لمجرد أنه أراد أن يركُدَ للراحة وسط عائلته الدافئة، بين زوجته و أطفاله، بعيدًا عن دموية العالم السفلي و وحشيته!”.
5
آنذاك كان إدريك هو الآخر يسرُدُ ماضيه على مسمع سيريا و لم يكن بحال أفضل من دارك مسترجعا التفاصيل البشعة التي عاشها:
“في عشيرة الوحوش يتعين على الأبناء اللذين يبلغون سن الخامسة عشرة أن يخضعوا لإختبار جدارة قبل أن يتم مَهْرُهم، و المَهْرُ يعني حصولهم على مزايا الوحوش، فيضعون وشم العائلة التي ينحدرون منها، و يؤدون قسم فناء الفرد لصالح الجماعة و ما إلى ذلك من مراسم! و هكذا يفعل الليونز أيضا، كان والدي يرتب لمَهْرِ أخي الأكبر، فأوكل إليه مهمة التخلص من السفاح جينيوس و عائلته كي لا يسرب أي معلومات سرية عن العالم السفلي!”.
1
سألت سيريا مستغربة:
“و طبعا حسب القوانين السوداء لا يُقتَلُ السفاح إلا على يد واحد من عشيرة الوحوش!”.
“تماما! أراد والدي أن يستغل تصفية جينيوس ليثبت جدارة إبنه و الوريث الأكبر لليونز «دايفن ليوني»! لكنني تدخلتُ و أفسدتُ الأمر!”.
“لماذا؟”.
صمت إدريك لبعض الوقت، ثم أجاب:
“لأن جينيوس كان أكثر من مجرد سفاح بالنسبة لي، سبق و أنقذ حياتي و أنا مجرد طفل، و تلك الليلة حين سمعتُ بما يخطط له والدي و أخي، لحقت بدايفن إلى كوخ الصخور، و لم أستطع إنقاذه بسبب تأخري في قيادة سيارة والدتي المسروقة عبر الصحراء، لكنني منعتُ موت آخر فرد من عائلته، أنقذتُ ذلك الطفل البريء… ليصبح اليوم خلفًا لأبيه… حاكم الويد و ملك السفاحين!”.
طرفت سيريا بجفنيها غير قادرة على إستيعاب ما لفظه، و أردفت بتلعثم:
“هل… هل تقصدُ أن… د… دارك هو…؟!”.
“أجل! دارك إبن جينيوس، و لا أحد سواه يستحق الزعامة لأنها سُرِقت من أبيه بالأساس!”.
هزت سيريا رأسها تشعر أنها في كابوس طويل، فإلتقط إدريك يدها و أجلسها قربه، ثم جلب حقيبته الطبية، و إعتنق الصمت بينما يحاول إيقاف نزيفها و تنظيف جسدها من الدماء المسترسلة، و على الجانب الآخر… لم تكن روكسان أفضل حالاً، بل كانت في وضع لا تُحسَدُ عليه و هي تسمع خطايا والدها التي لا ترتكبها حتى الشياطين!
“كانت أمي عمياء و حاملاً في شهرها السابع، تروح و تغدو في المطبخ لتجهيز العشاء، أختي الرضيعة «آيس» ذات الستة عشر شهرًا نائمة، و أنا أحاول الإتصال بأبي كما طلبت مني لتتأكد أنه لن يتأخر في العودة، لكنه لم يجِب، و قبل أن أضع السماعة و أخبرها بذلك، تهشم باب الكوخ، فشحبت أمي، و أمرتني بالإختباء تحت سرير غرفتها، و حين سألتها من هناك، قالت أنهم أشباح الصحراء، و أنني لا يجب أن أغادر مخبئي مهما سمعت أو رأيت!”.
3
إتسعت حدقتا روكسان منغمسة معه أكثر في ذكرياته، و سمعته يأخذُ نفسًا متقطعًا و يردف:
“سمعتُ جدالاً سريعًا بينها و بين شخص آخر، و لم يكن صوتُه بمثل خشونة صوت أبي، لكنه قال كلامًا بذيئًا و عنيفًا أفاد به أنه قضى على جينيوس و حان دور زوجته و أطفاله، ثم تلا ذلك صوت إرتطام قوي صاحبته صرخاتها، صرخات لم أسمع مثلها بحياتي، تساءلت ما الذي فعلته بها أشباح الصخراء، و حين تم سحلها إلى غرفة النوم تبين أنه كان شبحًا واحدًا، لا… بل كان بشرًا، لكنه لم يحمل بين أضلعه قلبًا آدميًّا ليرحم به امرأة حامل، رأيتها تنزف و لا تملك قدرة على الصراخ أو الكلام بسبب الفأس التي غرزها برأسها، و رأيته يمزق ثيابها و يغتصبها بكل وحشية، لم أكن أفهم ماذا يعني كل ذلك، لا أعرف أين أنا و ما الذي أراه، و حين إنتهى من إغتصابها، سمع صوت بكاء شقيقتي آيس من الغرفة المجاورة، فضحك متجها نحوها، و سرعان ما عاد يحملها بين يديه و يخاطب أمي «من الواضح أنكما تحبان الأطفال كثيرًا! دعينا إذن نجعل صغيرتكما جزءً من حفل الأشلاء هذا!»، كانت أمي عاجزة عن حماية نفسها و جنينها، فكيف بحماية طفلتها؟!”.
3
لم تشعر روكسان بدموعها المترقرقة، كل ما شعرت به هو التمزق ألمًا، في حين واصل دارك سرده لأحداث تلك الليلة المأساوية بصوت ميت:
“كانت رغم عماها تحفظ موقع كل شيء حولها، لذا أيقنت أن السرير عن يسارها، فرفعت إصبعها قليلاً نحو شفتيها، تشيرُ علي بالصمت و البقاء مكاني، كأنها تقول لي «على الأقل ٱنجُ أنت يا أسْوَدِي الصغير!»، لم يحدث أن عصيتُ لها أمرًا أو رفضتُ لها طلبًا، كممتُ فمي، و ظللتُ أشاهدُ بضعفي و عجزي و براءتي ذلك الوحش و هو يقتلعُ الفأس من رأس أمي ليقطع أطراف آيس و هي حية، ثم تركها تنزف و تصرخ وسط كل ذلك الوجع، و عاد إلى أمي فصفعها عدة مرات يسألها أين ذهب صوتُها الآن، لأنه يريد تسجيل كل شيء للذكرى، ليتأكد أنها لا زالت تستطيع الصراخ، أحضر سِكِّينًا كبيرة من المطبخ، و شقَّ بطنها طوليًّا، و دون أدنى رحمة… إجتثَّ جنينها بيديه العاريتين، و مزقه أمام عيني، مزق الأخ الذي كنتُ أنتظر قدومه بفارغ الصبر، حوله هو و شقيقتي إلى أشلاء، و ما إن تأكد أنه إنتهى منهما، حتى فصل رأس أمي عن جسدها، و كان ينوي إقتلاع قلبها ليكون دليلاً على جدارته بلقب الوحش، لكن إتصالاً منعه من ذلك، و جعله يلعن و يغادر مسرح وحشيته فورًا!”.
20
جمدت النسمات الباردة التي كانت تهبُّ بينهما آثار الدموع على وجنتيها، و تمنت لو أنها مجرد حجر هناك لتتفادى الشعور بكل هذا القهر! مهلاً! هل كانت صرخات الرضيعة التي أسمعها إياها حين إختطفها تعود لآيس شقيقته؟ هل كانت يريها بطريقة مباشرة ماذا يعني أن تكون عاجزة عن حماية نفسها قدرة فقط على الصراخ؟ إنتابها الدوار فجأة، و غالبها الغثيان، فركضت إلى زاوية بعيدة في الحديقة لتتقيأ، إنحنت تستفرغ ما بجعبتها، أبعدت خصلات شعرها الداكنة عن وجهها، و عجزت عن الإلتفات ثانيةً لزوجها، لا يمكنها النظر بوجهه بعدما سمعته، و لا يمكنها أيضا المضي و تركه ليرتاح من واقع أنها إبنة ذلك الوحش، و لا يمكنها حتى مواساته! أي كلمات قد تواسي المرء بعد هذا؟ أغمضت عينيها، لتفيض دموعها من جديد، و تجهش بكاءً لاهثة في مكانها ذاك، إلى أن شعرت به ينحني و يحتضنها هامسًا:
“روكسان!”.
اللهاث و الدموع و الشهقات… فقط ما كان يصدر عنها، إشتدَّ ضمه لها، و مشَّط شعرها بأصابعه مضيفًا:
“كفى! لا تُحزِني عيون الريم خاصتي!”.
10
تشبثت بقميصه كغريق، و خاطبته بصوت تمزقه الشهقات:
“إذا كان موتي يُريحُكَ و يشفي غليلكَ فٱقتلني يا دارك، أنا لا أستطيع العيش بعد معرفتي كل هذا، مزقني كما تمزقت عائلتُكَ، قطع أطرافي كما تقطعت آيس! لن أعترض، لن أصرخ حتى، لن أتوسلكَ لتتوقف، خُذ ثأركَ و ضع حدًّا لهذا الوجع الذي يعبثُ بروحي الآن، أرجوك! أشعر أن قلبي يذوب من شدة العار!”.
10
إحمرَّت عيناه، و رفض كل إنش منه تنفيذ شيء كذلك! ضم رأسها لصدره طابعًا قبلة على جبينها، و قال بحدة:
“كفى هراءً، لا أريد سماع هذه الترهات ثانيةً، لو كان بإمكاني فعل نفس الأشياء بكِ، لما كنا هنا الآن، لما تزوجنا!”.
أغمض عينيه مستنشقًا رائحة شعرها، و تابع شاعرًا أنها الوحيدة التي تسحب منه الألم و تعوضه طمأنينةً:
“لا ذنب لكِ، حتى لو حملتِ دماء ذلك الخسيس، أنتِ لستِ هو!”.
1
إندهشت روكسان لمدى تغيره و تأثره بها، سبق و توعدها بالمصير نفسه الذي نالته أمه، ردد في مناسبات كثيرة أنه سينهش لحمها و يمزقه أمام عيني داجيو، لكنه لم يفعل، و لا نية له بفعل ذلك مستقبلاً، لا سيما حين أبعد رأسها عن صدره، و أبقاه بين كفيه و هو يتأرجح ببصره بين عينيه الباكيتين و يضيف:
“أنتِ موسومة ريغان، سيفنى ريغان لأجل ألاَّ تُمَسِّي بخدش واحد!”.
3
تمتمت بصعوبة:
“لا ذنب لعائلتكَ أيضا!”.
“ذنبهم الوحيد أنهم ينتمون لجينيوس، لكنني لا أكنُّ اللوم لأبي لأنه جرفنا إلى هذه الحفرة السوداء، لا أحد يعرف كيف إنجرف هو أيضا، لا أحد يعرف القصص الكاملة إلا إذا عاشها!”.
نكف دموعها بأصابعه، و عقَّب على نفسه:
“في قصتي الخاصة لم أتعود على قتل شخص بريء، ظننتُ أنني قادرٌ على ذلك إذا فكرتُ فقط في حقي بالإنتقام، لكنني إكتشفتُ خلال الأشهر التي قضيتُها معكِ أنني لستُ مثل داجيو، أنا أقتل فقط من يستحقون الموت، و أنتِ لا تستحقِين ذلك!”.
“و لكن…”.
غطى فمها بيده مانعًا عنها أي مجادلة، و قال بصوت نافذ:
“لا أريد لكن يا مصيبتي، أنتِ منهارة بسبب ما سمعتِه، لذا أريد أن تهدئي الآن، و تغتسلي من هذه الدموع، و تحاولي نسيان طفولتي المشوهة، أمامنا الكثير لنفعله اليوم، فلنستمتع بواقع أننا تزوجنا البارحة!”.
لم تعرف روكسان كيف سارت بمعيته حتى غرفتهما، و نفذت ما أملاه دون شعور واضح، هل هي تتألم من أجله أم تشعر بالخزي من علاقتها بداجيو أم كلاهما يتناوبان على تفتيتِ قلبها؟!
إرتدت سيريا كامل ثيابها، و بدأ ألمها يخفُّ تدريجيًّا، بعدها أصغت لإدريك و هو يسردُ لها كيف خدع أخاه دايفن بذلك الإتصال الكاذب ليوهمه بقدوم الشرطة، و كيف إقتحم البيت و وجد دارك الطفل الذي توسله كي يخيط أشلاء أمه و يعيد الجنين إلى رحمها!
“إزدادت علاقتي مع والدي و أخي سوءً حين أخفيتُ عنهم المكان الذي وضعت فيه إبن جينيوس الناجي، تركته في ملجأ للأيتام، و ظللتُ أزوره من حين لآخر، دون أن أخبره أنني شقيق قاتل عائلته، من جهة ٱخرى كنتُ أزور صديقة لي في مدرسة داخلية قريبة من الملجأ، كانت «سونا» فتاة في العاشرة مثلي، من عائلة طبيعية، لم تربيها الوحوش، خجولة و بريئة، ٱعجِبتُ بها إلى حد بعيد، و لم تكن لدي فكرة أن ذلك الإعجاب سيدمر حياتها، عجز دايفن عن معرفة مكان دارك، لكنه إكتشف وجود سونا بحياتي، فقرر أن ينتقم مني لأنني ٱفسد دائما خططه المتوحشة، و لكِ أن تتخيلي ماذا كان شعوري حين فتحت عيني ذات صباح و وجدتُ رأسها المقطوع إلى جانبي، و ما تبقى من جثتها داخل خزانتي، كان غضبي جنونيا حين واجهتُ والدي بذلك، و كان ردُّه أقسى من الصخر و هو يبتسم بفخر: «لماذا أنتَ غاضب؟ دايفن يثبت جدارته كأسد حقيقي، كأكبر وريث لعائلة ليوني!» لم يترك لي خيارًا آخر، أجبرني على تأديبه بنفسي!”.
إزدردت سيريا ريقها، و تابع إدريك دون ندم:
“فاجأته ذلك المساء و هو يضاجع فتاة ٱخرى في غرفته، و دون أن أفكر مرتين، أخذتُ أركله بين ساقيه بكل غضب يشحنني، و لم أتوقف إلا حين رأيتُه ينزف، إستخرجتُ سِكِّينًا خبأتُها بين ثيابي، و هممتُ بقطع رأسه أيضا، لكنني تجمدتُ حين تذكرتُ وجه والدتنا، كان دايفن إبنها المفضل، كانت تحبه أكثر من جميع أبنائها، أكثر من نفسها حتى! إرتعشت يدي و أنا أتخيل ردة فعلها حين ترى رأس مدللها المقطوع، دستُ كل شيء من أجلها، دستُ ألمي و ألم سونا و ألم دارك… و تركتُه يعيش! و بدأتُ أنا بالموت يومًا بعد يوم! كان أول قرار صدر في حقي أنني منفيُّ من العائلة و من عشيرة الوحوش بأسرها، جردوني من لقب ليوني و تركوا لي الإسم وحده، إدريك فقط، كأنني لقيط مجهول النسب! و لم يكفِ هذا والدي، بل قرر أن يكون أكثر قسوة بحقي… و”.
4
“و ماذا؟”.
سألته سيريا، فأضاف مجيبًا و قد أوحى صوته للمرة الأولى بتأثره:
“خدرني أثناء نومي، و أخذ إحدى خِصيتي ليزرعها بجسد دايفن، كان يهمه فقط الإبن الأكبر دون غيره، قال بكل عنجهية أن نسله أهم، لأنه الأفضل، لأنه وحش مثله! كان ذلك الجراح اللعين الذي أنجبنا غير عابئ بشيء سوى السلطة على عرش الٱسود، أراد لإبنه الأفضلية بين أبناء العائلة الباقين، و هذا لم يمنعه من سحق إبنه الأوسط إدريك، لماذا سيهتم؟ أنا لم أكن مثله! أردتُ فقط أن أكونا جراحًا ينقذ الناس و يحصد الإحترام في المقابل، لكنه حولني لمجرد وحش آخر، وحش مختلف، نهشه الظلم، و مزقته الوحدة!”.
12
نهض و سكب لنفسه كأسًا من الشراب، ثم تابع ببرود:
“و أنا بدوري صنعتُ وحوشًا، بعدما نُفيتُ من العشيرة، و أصبحت بطاقة محروقة، إنضممتُ إلى منظمة السائرين في الظلام، و أحضرتُ دارك من الملجأ كي يصبح واحدًا من المنظمة، و في نفس الوقت كنتُ أزاول دراستي كأي شخص طبيعي، حصلتُ على شهادة الباكالوريا في نفس السنة التي وجدتُكِ فيها، حين رأيتكِ أدركتُ كم أنا بحاجة لعائلة، أنا… أنتِ… دارك… ثم مايلس و الباقين… كبُرَت العائلة، و أصبح لي وجود داخلكم! و ظننتُ أنني تخلصتُ من شبح دايفن اللعين، لكنه عاد للظهور، بعدما أغوى إبنة عائلة النمور روزا تايلور و جعلها تحمل منه، بفضل جزء مني أنا، مارس قذارته ثانيةً و أصبح أبًا لروكسان، لكنها لم تكن لترى النور لولا تدخلي، كان دايفن ينوي التخلص من روزا و الجنين معا، إتفق مع عشيقته مارفل فارغاس على وضع السم في شرابها داخل الكازينو، لكنني هددتُ مارفل و أجبرتُها على حمايتهما، فأخذتهما إلى منزل شقيقتها مارغريت فارغاس، و ظل دايفن مختفيا لفترة طويلة بعدما أقسم التايغرز أن يمزقوه حيا إزاء فعلته، ثم رسم خطة شيطانية كي يحتفظ بحياته، و يصبح أقوى، غير ملامحه على يد جراح بارع، و أطلق على نفسه إسم داجيو فارغاس، و إدعى أنه كان مجرمًا في أسوء سجون العالم، و عقِبَ خروجه من السجن كما خدع الكل… إنضم للويد مقدما خدماته كقاتل ممتاز، ليفوز لاحقًا بلقب السفاح الثاني بعد جينيوس، و يصبح الزعيم بعدما ظل مقعد الزعامة شاغرًا لسنوات!”.
2
صمت لبعض الوقت، و سأل مستطردًا:
“هل كرهتِني حقا حين أطلقتُ عليكِ النار و منعتُكِ من قتله؟”.
لم تجد سيريا ما يُقال، فأضاف إدريك و في عينيه لمعة غريبة تشبه أشباح الدموع:
“لم أفعل ذلك من أجله، بل من أجلكِ أنتِ، لو قتلتِه، لإنتهى أمركِ، لما تركتكِ الميغا تفلتين من العقاب، لحسن الحظ أنني أجبرتُ مارفل على تزييف الحقيقة و كتابة حادثة ٱخرى أدت إلى إصابتكما في اللحظة نفسها، و لحسن الحظ أن الميغا و الكونغرس صدقا رواية هجوم مجهولين على المقر!”.
لم تجبه سيريا، لم تردف حتى بحرف واحد، دنت منه و أمسكت يده تدعوه للجلوس ثانيةً، أبعدت الكأس عن يده الٱخرى، و تكومت على نفسها فوق حجره كما كانت تفعل و هي مجرد طفلة، تستنجد بأي حنان أبوي يُذكر في صدره، تطرق على قلبه كأنها تردد «أنا هنا… سأكون لك… الإبنة و الخليلة و الٱم…!» لتهمس في أذنه بعد وقت طويل من الصمت:
“أتعرف دادي؟ اللعنة على الميغا و الكونغرس لأنهم سمحوا لكل هذا بأن يجري لك!”.
أغرق إدريك أنفه و فمه في أمواج شعرها دون أن تعي سيريا أنه كان يخفي إبتسامته هناك!
3
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
إنقضت ساعات الصباح شاحبة، و حظي الداركسان بغداء هادئ، روكسان علقت في الصمت و الإكتئاب بسبب ماضي زوجها العنيف، و تحجر والدها المتوحش، أما هو فظل فقط يراقبها عن كثب، و يتساءل كيف يرسم الإبتسامة على وجهها مجددًا؟!
بعد الظهر سأل دارك زوجته إن كانت ستقف بوجهه و تحن لوالدها لو قابلته، فأجابته بوجوم:
“مستحيل! لن أحن لرجل لم يرف له جفن و هو يجتث جنينا من رحم أمه!”.
1
عاد إلى الحديث بصراحة:
” قد أفعل به الأسوء!”.
فردَّت و هي تشعر أنها فارغة من أي شفقة نحو داجيو:
“أمثاله ممن لا يتعضون يرسل لهم الرب عقابا من الجحيم، و أنا أثق أن دارك ريغان هو العقاب الذي أرسله الرب لداجيو!”.
“إذن تعالي يا سيدة ريغان! دعينا نبث بعض الرجفة في قلوب شيوخ المافيا الأعزاء هذه الليلة!”.
“قبل ذلك… أريدُ أن نقوم بشيء أهم!”.
أصغى إليها دارك بإهتمام، فأضافت:
“لنذهب إلى الصلاة!”.
لم يظهر عليه أنه شغوف بتلك الممارسة الدينية، فتابعت بصوت مقنع و نبرة رقيقة تذيب الصخر:
“أعرف أنك لستَ رجلاً متدينًا، و ربما لا تؤمن بوجود الرب حتى، أعرف أن الصلاة و الكنيسة و الصليب… كل هذه الأشياء لا تعني لك شيئًا؛ لكنها تعني لي أكثر مما تتخيل!”.
2
كيف لا تعني له و هو الذي لا يمرُّ بالكنيسة إلا و يتذكر تفاصيل روكسان؟ كيف لا يعني له الصليب و هو الذي ترك تلك القلادة حول عنقه لأشهر؟! لمست وجهه بيديها الناعمتين، و همست كما لو أنها تخاطب الطفل المدفون داخله:
“أريد أن أؤدي الصلاة اليوم أكثر من أي وقت مضى!”.
أدهشها أنه وافق فورًا دون أن ترهق نفسها في التوسل و الإستجداء، أخذها في غضون وقت قصير لكنيسة سانت مارونيت، حيث جددت لقاءها بالأب لوثر شاكرة صنيعه معها ليلة أمس، ثم قالت له كلامًا جعل دارك يجحظ و يتسمر بمكانه:
“لن تكفي شمعة واحدة يا أبتِ! أريدُ أن تشعل أربعة شموع، لأنني سأصلي من أجل عائلة زوجي، من أجل حصولهم على السلام!”.
نظر دارك لظهرها و شعرها الطويل المنسكب خلفها بإسترسال و دعة، و أغلق عينيه يتمتم بصلاته مثلها، لم يكن يجيد أي شيء متعلق بحياة الكنيسة، لا يعرف شيئًا عن الصلاة و الدين و الوقوف في حضرة الرب، لكنه صلى، صلى أن تُستجَابَ صلاتُها!
10
حين إنتهت روكسان من الصلاة، إلتفتت إليه ليغادرا، لكنها تجمدت فجأة، هذا اللحن الذي تسمعه يذكرها بالكثير، إستدارت هي و دارك في اللحظة نفسها نحو البيانو الأبيض الذي تعودت العزف عليه، و تساءلت روكسان من الفتاة الغريبة التي تعزف في مثل هذا الوقت «لاكريموزا»؟ ليدنو منهما الأب مفسرًا حيرتها:
“إنها «ماري توين» عازفة الكنيسة الجديدة، عينتها الٱسقفية منذ أشهر مكانكِ، و اليوم لديها بروفا خاصة، ستعزف في جنازة شخص مهم غدا، و عليها أن تجيد عزف هذه المقطوعة بالذات!”.
1
إبتعد عنهما الأب لوثر مودعًا، و مضى يحدث العازفة ماري بعاطفته الأبوية المعهودة، فيما كانت روكسان مبحرة بذكرياتها، تحن لكل شيء عاشته بين تلك الجدران الشامخة، تحن لملمس المفاتيح البيضاء و السوداء، تحن لكل مقطوعة و لحن! لاحظ دارك مدى تأثرها برؤية البيانو خاصتها و بجلوس عازفة ٱخرى إليه، فوقف خلفها و إنحنى فوق كتفها متمتماً:
“أتساءل كيف ستكون لاكريموزا بعزف أناملكِ؟!”.
نظرت إليه مبتسمة بحزن، و أردفت:
“قصة العازفة روكسان إنتهت يا دارك، و بدأ عهدها الجديد كحاكمة لمنظمة خطيرة، رحلت ملاك الكنيسة و عوضتها السيدة ريغان! هذا هو قانون القدر… بعض الأمور لا تظل على حالها!”.
مساءً… دعا دارك الكل لاجتماع تنصيبه رسميًّا كزعيم، حضر القضاة و ممثلو العشائر الثلاث كما هو متعارف عليه في لوائح القواعد السوداء، و إلتفوا حول طاولة ضخمة داخل قاعة الإجتماعات بمقر المنظمة، و حانت لحظة دخول الزوجين ريغان، سيد و سيدة الويد، الحاكمان الجديدان، فإتجهت كافة الأبصار إلى بوابة القاعة، لكن ما أدهش الجميع هو دخول دارك لوحده في البداية، قبل أن تلج روكسان القاعة خلفه متباطئة و هي في أتم أناقتها، ترتدي فستانًا رسميًّا في لون البُن منسجما مع شعرها و عينيها الداكنين، و ترفع رأسها بشموخ و وقار!
وقف دارك عند رأس الطاولة ينتظر وصولها إليه، و تلكأ مؤجلاً لحظة جلوسهما حتى يجلس الكل، فضحك أحد القضاة و لعلع صوتُه ساخرًا:
“يبدو أن حاكم الويد الجديد يفتقرُ للذوق، ألم تسمع عن قاعدة «السيدات أولاً» يا ريغان!”.
إنحرف بصرُ روكسان ناحية زوجها، فرأته يبتسم بهدوء و ثقة، و أحست به يضغط على يدها بلطف، كأنه يبث فيها الشجاعة لتواصل الوقوف أمامهم بثبات! قبل أن يردف بصوت جعل حلق القاضي الساخر يجف و تقاطيعه تنكمش:
“السيدة الحقيقية لا تدخلُ مكانًا إلا خلف ظهر سيدها لترك مسافة الأمان… و هنا أنا السيد… و أنا أيضا مسافة الأمان!”.
8
حدجه القاضي بنظرات ساخطة، فزاده دارك خزيًا و إذلالاً بقوله:
“و في قادم المرات أيها القاضي… راجع اللوائح جيدا، فيبدو أنك لم تسمع عن القاعدة التي تنص على مخاطبة الزعيم بلقب منصبه… لا بلقبه الشخصي!”.
1
جعل دارك زوجته تجلس أولا، و جال بنظره في وجوههم قبل أن يضيف و هو يجلس بدوره:
“تعمدتُ أن تصل السيدة ريغان أخيرًا، لأنها حاكمة الويد، و ليست مجرد امرأة يسوسها الرجل، لذا أنتم من يترتبُ عليكم إنتظار وصولها… و ليس العكس!”.
لم يسبق أن شعرت روكسان بذلك الكم من الزهو من قبل، و لم يسبق أن شعر القضاة بذلك الكم من التحقير و التفاهة كما لقوا من دارك الليلة، ألقى الزعيم الجديد كلمته، و قرأ على الحاضرين مخططه للعمل أيضا كواحد من قضاة مجلس الشيوخ، و كان يتعمد العودة إلى زوجته في كل نقطة، فيسألها ما الذي تراه مناسبا هنا، و بماذا تشير عليهم هناك… كأنها محور العالم! كل ذلك… و القضاة يتميزون غيظًا، لا سيما و أن ممثلي العشائر -و خاصة ممثل البراتفا نيكولاس يامينوف- كانوا في تمام الرضى على ما يدور في تلك القاعة!
و حل ميعاد تقديم الشراب، و كانت عادة القضاة و الممثلين أن يحملوا هدايا للزعيم الجديد بمناسبة منصبه، فكانت هدية القضاة زجاجات شامبانيا فاخرة، غير أن روكسان لم تهضم ذلك، و خامرها الشك، لتهمس فجأة في أذن دارك:
“لا تشرب! لا تثق بهم!”.
بلغه الساقي، و سكب له كأسًا تفيضُ حوافها بزبد المشروب المتلألئ، و رأت روكسان نظرة الخبث تقفز من أعينهم، و صلَّت أن ينتبه زوجها لذلك أيضا و يمتنع عن الشرب، لتتفاجأ به يوقع الكأس فيكسرها و يعلن ببرود:
“يُقال… إذا كسبتَ شيئًا جديدًا… إكسر شيئًا قديمًا لكي لا تفقده!”.
كشَّر أحد القضاة، و لوى فمه مزدريا ذكاء ريغان اللعين، فتأكدت روكسان أن الشراب به عِلَّة كما شكَّت، و ما إن طُوِيَ الإجتماع و غادروا المقر… حتى جمعت زجاجات الشراب و لواحقها، و تخلصت منها بنفسها في الحاويات، و حذرت زوجها من مكيدة يُبيِّتُها القضاة… لأنها لم تطمئن لنظراتهم نحوهما، على أن دارك هدأ من مخاوفها، و أكد لها أنه يمسك برقابهم في قبضته، و أن الحقيبة التي أحضرتها له مايڤا ليلة زفافهما… هي ورقته الرابحة ضد القضاة!
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)