روايات

رواية لحن الأصفاد الفصل الرابع عشر 14 بقلم أسماء

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية لحن الأصفاد الفصل الرابع عشر 14 بقلم أسماء

 

 

البارت الرابع عشر (إنعكاسه المُحرَّم!)

 

 

 

نيڤادا|كوخ الصخور…
حين أنزلها دارك أرضا و فتح باب الحمام، ولجته روكسان بكامل رضاها، و بدأت بخلع ملابسها تحت نظره المستغرب، فأكثر شيء كان يتوقعه هو المعركة الضروس التي تنشب بينهما كلما دنا منها و لمسها!
لكنها باتت الآن هادئة… بشكل مريب!
تكورت بإستكانة داخل الحوض، فجثا دارك بالقرب منها، و ملأ المياه بالصابون المعطر، تحاشى إلتقاط الليفة كعادته، و أفرغ على كف يده ما يكفي من هلام الإستحمام، و راح يفرك كفيه معا، قبل أن يغطي جلدها الرطب بذلك الهلام، إنتشرت رائحته أكثر، و عبثت بأعصابه، غير أنه نجح في مراوغة رغباته المستنفرة، و أبقى نظره قيد عينيها الفارغتين من أي حياة!
كان يفكر في الإنضمام إليها كما تشير عليه رغباته، لكن… و لدهشته من نفسه… غير الخطة… و إكتفى بتحميمها فقط… سامحا لها بإحتلال الحوض، ساعدها في الوقوف آخر الأمر، و شملها بنظرة طويلة، ضمت روكسان ذراعيها إلى صدرها شاعرة برعشة عارمة، فأرسل دارك يده ملتقطا منشفته دون أن تفارق عيناه وجهها، لفَّها بإحكام، يغطيها من الكتفين وصولاً لركبتيها، ثم حملها إلى السرير يضعها بهدوء على حافَّته، و سأل دون مقدمات:
1
”أما زالتِ تتألمين؟“.
أيقنت أنه يقصد آلام دورتها الشهرية، هزَّت رأسها نافية دون أن تنطق ببنت شفة، فسأل مجددًا كأنه يستميت ليسمع صوتها:
”هل تشعرين بالبرد؟“.
لم تكن أسئلته ودودة، فنبرته إتسمت بالبرود، و كلماته بدت حادة و هي تغادر ثغره، لكن الإهتمام الغريب الذي حملته تلك الأسئلة جعلت فم معدتها يتراقص!
هزَّت روكسان رأسها هذه المرة بالإيجاب، فجلب منشفة ٱخرى و أحاط بها شعرها المبلل آمرا:
”جففي شعركِ جيدا! ستسري فيكِ الحرارة!“.
راحت تنفذ ما يمليه دون إعتراض أو لجاجة، كأنها فقدت جذوة العناد، و لم يعد الخارج يلهمها بالهروب، و لا باتت الحياة بأكملها تهمها لتواصلها خارج سجن معذبها!
لم يعجب ذلك دارك، لم ترق له روكسان الذابلة، فقرر أن يستنطقها بأية طريقة، و أن يستعيد تلك الرهينة الجريئة التي لم تكن تدخر فرصة لمواجهته و معاكسة تياره، أما هذه التي تنجرف مع أي شيء يرسمه… فليست روكسان أبدًا!
3
فتح باب الخزانة كما لو أنه يرغب بشقها نصفين، و كدس قربها عددا لا يُحصى من أثواب النوم السوداء التي إقتناها لها، كي تختار واحدًا و ترتديه الليلة، غادرها الجمود أخيرًا، تلمست تلك الأثواب مصعوقة، و تمتمت غير مصدقة:”من أين أتيت بهذه؟“.
أجاب ساخرًا:
”من الخزانة!“.
علقت ساخطة:
”هذا لا يُعقل! أنا واثقة أنني أحرقتُ كل مشترياتك!“.
أردف معتدًّا بنفسه:
”لم يكن ذكاءً منكِ أن تظني ذلك!“.
إنحنى متعمدًا تصادم أنفاسه بشفتيها، و أضاف بغرور:
”هل فكرتِ حقا أنني سأتحامق و أقدم لكِ كل ما أنفقتُ وقتا و جهدا في إقتنائه بنفسي… لتُتلفيه ببساطة؟“.
قبضت روكسان على الفراش تحتها بغضب مكتوم، و لم تنبس بحرف آخر، صفق دارك على نفسه باب الحمام، و فضَّل أن يغتسل تحت المِرش على الغطس داخل الحوض حيث كانت هي!
بدأت سيول الماء الساخنة تنزلق على جسده، جاعلة جروحه الحديثة تنزف من جديد، تصاعد البخار كثيفًا يحجب عنه الرؤية، تصاعدت معه ذكرى قطرات دم تلطخ وجهه، أغمض عينيه يهرب من المشهد، لكنه غرق فيه أكثر، كانت ٱمه تُمزَّقُ أمامه، جسدها ملقى على أرضية الغرفة نفسها، مستسلمة لما يُفعل بها، مبتسمة لصغيرها الذي يختبئ تحت السرير كي لا يُكشفَ أمره و يُمزَّق هو الآخر!
قهقهة داجيو تصاعدت كذلك، يعقُبها تصاعد أنفاس ٱمه، لم تعد بها روح، سكن جسدها حين نُحِرَت عنقها و فُصِل رأسُها تماما عن جذعها، غادرت الحياة عينيها، و لم يعد هناك أي دفء يلفُّ الغرفة؛ سوى… قطرات الدم الساخنة على وجه دارك الصغير!
فتح عينيه على وُسعهما، أوقف تدفق مياه المِرش، يخطو بعيدًا عنه، رفع يدًا يزيل بها طبقة البخار عن وجه المرآة، و حدق في إنعكاسه بحدة، عليه أن يجعل داجيو يختبر شعورًا أسوء مما خطط له في البداية، لم يعد يريد تدميره، إنه الآن يسعى لجعله يدمر نفسه بنفسه!
حين غادر دارك الحمام، مرتديا روبه الأبيض الخاص، كان يتوقع أن كارثته الجميلة ستزداد جمالاً داخل أحد الأثواب الحميمة التي وضعها تحت تصرفها، لكنه فوجئ بها داخل قطعتين من ثيابه هو، قميص وبرية واسعة إبتلعت أزيد من نصف جسدها، و سروال من القطن السميك لو لم تطوِ أطرافه لما إستطاعت الوقوف به!
4
مرر بصره ببطء عليها و هو يتساءل بتسلية:
”يا له من زي مثير! من أين أتيتِ به؟“.
”من خزانتكَ العظيمة!“.
راق له أنها تتكلم، و أنها تجاريه على الأقل، فتح الخزانة يفتش عن شيء يرتديه هو الآخر، و جرى على لسانه سؤال ثانٍ:
”مقاساتنا مختلفة! ألم تلاحظي هذا يا روكسان؟“.
تجاهلته للحظات، فأضاف بعدما وجد قميصًا و سروالاً مناسبين:
”القطع التي إخترتها لكِ أنسبُ لمقاسك!“.
قذفته بتلك القطع مزمجرة:
”خُذ! إستمتع بأثوابكَ الخليعة إن كانت تروقك إلى هذا الحد! أنا واثقةٌ أنها ستناسبكَ أكثر مني!“.
3
تفادى دارك القذائف بنجاح، ثم علق غير غاضب منها عكس ما توقعت:
”تناسبني صاحبة الأثواب أكثر!“.
4
كشَّرت في وجهه، فإتسعت إبتسامته، كأنه يقول لها: «أجل! أنتِ أفضل بهذه التكشيرة!»، شعرت به يقترب، فتراجعت للخلف محافظة على تجهم وجهها، و إضطرت للإستناد على سطح المنضدة الجانبية للسرير خلفها، و أثناء ذلك شعرت أنها تستند على شيء آخر فوق المنضدة، لكنها لم تكترث بسبب إنفعالها، لتسمعه يعلق بصوت حميم خلط إدراكها بالوهم:
”لأنها تبدو فاتنة… حتى داخل ثيابي الواسعة! إنها طاقة الجسد، ٱنوثتك تطغى على كل ما يغلفها!“.
2
تجاهلته ثانيةً، لكن كلماته سكنتها طويلاً، و سحبتها نحو الصمت مجددًا، أما هو فغير دفة الحديث بصوت غريب:
”أما زلتِ تشعرين بالبرد؟“.
لم تجبه، و كان جليًّا أن ذلك ما تشعر به حقا، لأنها لم تختر أكثر ملابسه سُمكًا عن عبث، لكنه تابع دون إبداء أي شعور:
”لا بأس! لن تشعري بالبرد بعد لحظات!“.
سمعته يحدث جلبة في الأدراج حولها، ثم بلغتها جلجلة تعرفها، أصابتها بتعاسة أكبر، إنها غير مخطئة، هذه نفسها جلجلة الأصفاد القديمة، لكنها لم تحاول هذه المرة الفرار أو المقاومة، لأن ذلك لن يجدي نفعًا، و لن يغير شيئًا، يبدو أن دارك ريغان المتوحش إستيقظ من سباته!
رفعت يديها من تلقاء نفسها جاهزة للقيد، لكنه لم يصفِّدهما إلى بعضهما، بل باعد بينهما، و جعل كل يد تُصفَّدُ إلى عمود من السرير، فبدت كأنها ستُصلبُ بذنب ما! فكر دارك أن يجردها من القميص الوبري، لكنه أيقن أن ذلك سيجمدها بردًا، فمزق مقدمته فقط، و ما إن برز صدرها، و وقع بصره على أثر حرق الصليب، حتى تناول عُدَّته، و باشر تنفيذ نواياه!
أحست بنار عنيفة و غادرة تكويها، ظنت أنه يعيد الكرَّة، و يجعل من حرق الصليب أوضح، إنتقاما من عنادها، لكنها لم تملك أدنى فكرة عما يفعله في الحقيقة! عقِبَ لحظات، خلص دارك من عمله، مسح بشيء بارد و لزج على تلك المساحة من الجلد الحساس، ثم إنحنى أكثر ليتأكد أن الشكل النهائي مثالي كما أراده، و ما إن لمع ذلك الرمز تحت ناظريه، حتى إبتسم بخفة، و أعلن فخورًا و هو يحررها من قيد الأصفاد:
”إنتهينا، أصبح الوسم على جسدكِ، و أصبحتِ أخيرًا… إنعكاسًا لدارك ريغان!“.
4
لاحظ إحمرار جلدها إثر ما وشمه، فمرر عليه أنامله مستطردًا:
”هذا الرمز الذي وسمتكِ به، سيجبرُ الجميع على الإنحناء لكِ!“.
من جهتها، كل ما فكرت فيه هو أنه سبب لها ألمًا لا يُطاق، أيًّا كان ما رسمه على جلدها بعُدَّة الوشم خاصته، و أيًّا كانت رمزيته القوية، فقد جعل روحها تصرخ بالأعماق! غطَّت صدرها العاري بطرفي القميص الممزق، و إنكمشت على السرير مرتجفة! كرهت تجدُّدَ الآلام، كرهت وجودها قربه، كرهت واقع أنها مجبرة على البقاء تحت سقفه حتى لا تتسبب بهروبها في موت شخص آخر، و كرهت حتى التفكير في مأساتها!
تركها بمفردها لبعض الوقت، و عاد إليها عند الساعة الثامنة ليطعمها، أكلت بأطراف شفتيها، دونما شهية، و غض دارك بصره عن ذلك موقنا أن السبب هو موهبته الكارثية في الطبخ! جمع في النهاية الأطباق و نظفها جيدا، ثم أجرى إتصالا مع مايڤا، و لم يكترث لإنشغالها بمهمة خطيرة آنذاك، بل أملى عليها أوامر جافة، و حذرها من التأخر في تلبيته مساء الغد، ثم مضى ينظف ما سببته روكسان في غرفة الجلوس من فوضى و دمار، حسنا، لم يطل الدمار أكثر من الأريكة و ما عليها، كان الكوخ أساسا بحاجة لجولة تنظيفية مُنذ يومين، شعر بالقرف و الإشمئزاز و هو يكنس بقايا الرماد بعيدًا، لكنه تمهل جاحظا و هو يلحظُ خصلات قاتمة تلمع ما بين خُفَّيه، قرفص يجمعها على كفه، صرف أسنانه ممتعضا، مدركًا أنها خصلاتها المقطوعة، ظفرها معا، و لفَّها حول معصمه كسوار خاص، ثم تخلص من كل مقص داخل كوخه، فقط حتى لا تكرر فعلتها، قبل أن يخرج أكياس القمامة بنزق، و يلقى الأريكة بين الصخور و هو يطلق شتيمة خافتة!
3
لاحظت روكسان عودته، فغادرت السرير و تمتمت ببرود بينما تخطو خارج غرفته:
”ٱريد النوم في غرفة ٱخرى!“.
قطع عليها دارك الطريق، فاصطدمت بصدره العريض، إلتقط مرفقيها مانعًا سقوطها، و أردف بحدة:
”النوم خارج هذه الغرفة… محظور!“.
و دون أن تحظى بفرصة لتتمرد و تعاند، أدار المفتاح في القفل مرتين، ثم إنتزعه بعنف، و إتجه صوب النافذة، و حين تردد صوت إرتطام شيء معدني بالصخور، خمنت أن هذا المجنون قد ألقى المفتاح دون أن يفكر حتى!
1
ليؤكد لها صحة تخمينها بكلماته المستفزة:
”و الآن… لا مفتاح… و لا خروج من هنا حتى الصباح!“.
سخرت منه رغم خيبتها:
”و كيف ستخرجُ صباحًا بعدما حبستَ نفسكَ معي؟!“.
”سأكسر الباب، ثم أصلحه، ثم أعاود كسره إن رأيتُ لذلك ضرورة!“.
10
كان الواضح أنه المتفوق مهما فعلت، لمح دموع العجز تنحدر على خديها، فإقترب منها و نكفها بإصبعيه و هو يدفع كتفيها ببطء لتعود إلى السرير، تمددت روكسان شاعرةً أن الكابوس لن ينتهي، و لمست يده الممدوة أحد تلك الأشياء الموضوعة على المنضدة، و أثارت فضولها أكثر هذه المرة، فتحسستها أكثر، لتكتشف ذاهلة أنها تلمس غلاف كتاب، و ليس أي واحد، كان كتاب برايل، الشيء الذي أمضت عمرها تحلم بامتلاكه في بيتها، في غرفتها الخاصة، و بين يديها طوال الوقت، الشيء الذي نوت حرقه دون تفكير، إرتعشت يدها، أدركت عنوان الكتاب الذي تستكشفه بأناملها، في الوقت الذي كان هو يستلقي على الجانب الآخر و يسحبها نحوه، «النور الذي فقدناه»! لم تمانع أن يضمها بقوة، لم تملك أصلاً أي جلادة لتفعل، كان عقلها متجمدا، و جسدها كذلك، إنتظر دارك لحظات، و سرعان ما تأكد أنها مطيعة و في أتم الجاهزية للنوم، دس يده من بين أطراف القميص الممزَّق، و عبر نهديها وصولاً إلى ما دون سُرَّتها، أبقى كفه المبسوطة هناك، و همس يسألها للمرة الثالثة:
”هل تشعرين بالبرد؟“.
همهمت بـ «لا»، فتجدد همسه و كان هذه المرة أقرب لأذنها:
”ماذا عن الألم؟ هل إختفى؟“.
2
أرادت أن تصفعه، إستفزتها صفاقته، و عذبها تناقضه، و تجاهله لكل آلامها مركزًا فقط على ألم الحيض، تركت فاصلاً طويلاً من الصمت ذارفة المزيد من الدموع، ثم أجابته أخيرًا:
”لم أعد أعرف ما هو الألم!“.
لكن أنفاس دارك المتباطئة أخبرتها أنه أغرق في النوم على الفور، كأن جسد روكسان منومه الخاص، و إحتضان بشرتها الرقيقة المناقضة لخشونته هو كل ما يحتاجه ليسترخي و يرمي العالم خلف ظهره!
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيڤادا|مقبرة مهجورة خارج لاس فيغاس…
منتصف الليل
أوقف إدريك سيارته خارج السور المهدم، و ترجل منها واجمًا، ليجد الرجل الذي ضرب معه موعدًا بإنتظاره، كان في مثله طوله، يتردي فوق بدلته القاتمة معطفا أسودًا شديد الطول، و يبقي يديه قيد جيوبه، قبعته الواسعة تلقي بظلالها على وجهه، فلا تظهر ملامحه بجلاء، لكن إدريك كان على مقدرة رؤية لحيته الشائبة الكثيفة، فكان كلما قابله في تلك المقبرة يلقبه كذلك: «اللحية البيضاء»!
7
كان إسم اللحية البيضاء شهيرًا بالروايات المأثورة، حمله سابقا قرصان بحري أرعب العالم بخطورته، ثم ظل في عقول الناس أشبه بٱسطورة نائمة، و لم يكترث إدريك لمعرفة ما إذا كانت شخصية القرصان حقيقية أم من نسج خيال الكُتَّاب، لكنه أطلقه على رجل المقبرة لإمتلاكه نفس اللحية، و لغموضه المريب أيضا!
6
كانت لقاءاتهما تقتصر على البرود و البُعد، يلاحظ كل منهما مجيء الآخر و وقوفه عند أحد القبور، يتبادلان نظرة صامتة، ثم إيماءة تكاد لا تُرى، إلى أن ينتهي اللقاء برحيل واحد منهما، و كان يصاحب رحيل إدريك أزيز عجلات سيارته و الغبار الذي تخلفه، أما اللحية البيضاء، فلا يصاحب رحيله سوى الصمت، كأنه شبح ليس إلا!
أما اليوم فهي المرة الٱولى التي يرغب فيها إدريك برؤيته و يخطط لذلك، لا فكرة لديه من يكون، و لا لماذا يقف دائما عند قبر مجهول دون إسم، غير أنه صمم على طلبه الليلة، فقصد المقبرة نهارًا، و ترك له رسالة على ذلك القبر الغامض:
«قابلني عند منتصف الليل!».
كالعادة وجده عند نفس القبر، و لم يكن لرسالته التي ثبتها بالحجارة أي أثر، فعلم إدريك أنه إستلمها، تقدم ليقف قبالته، و ما إن رفع الرجل رأسه قليلاً، حتى برقت عيناه الضيقتان، و شعر إدريك أنه ينظر لشخص مألوف، لكنه لم يطل التحديق به، تبادلا إيماءة شاحبة كما تعودا، و دون مقدمات، أشار اللحية البيضاء إلى ساعة يده، و قال بنبرة صقيعية:
”الثانية عشر و دقيقة… مقابلتُكَ بدأت! ماذا تريد؟“.
”محاكمة عادلة!“.
ظل رجل المقبرة جامدًا، عيناه فقط تتحركان، سقط بصره فجأة يراقب ما يفعله إدريك، و آنذاك فهم ما المطلوب منه، فمد يده إليه موافقًا، و تناول ما قدمه إدريك، لتبدأ المحاكمة، و تفرَّ طيور الليل عن أسوار المقبرة فزِعة من الصوت الذي أفسد سكونها!
2

منزل إدريك بعد ساعة…
نظرت سيريا للمرة الألف إلى جسدها الذي عكسته المرآة، آثار حزامه الحمراء تحولت للون البنفسجي، و لم تشعر برغبة لوضع أي مساحيق خافية، رغم أنها طلبت الكثير منها عبر الهاتف، و قد ظنت ليشا التي زارتها قبل ساعات و هي ترى طلبية مساحيق التجميل الضخمة أن سيريا المسترجلة فقدت عقلها، أغلقت سحاب السترة التي كانت ترتديها، بعدما فشلت في تغطية الآثار، جعلتها موسيقى الأمطار في الخارج تشعر بخمول أكبر، و ما هي إلا لحظات حتى سمعت صوت سيارته قرب المنزل، إدريك وصل، و لا رغبة لها برؤيته، ليس بعدما آلم جسدها فحسب، بل بعدما آلم قلبها بتجاهله لوجودها حوله منذ تلك الليلة اللعينة!
كان صوت خطواته على الدرج يتردد بقوة في رأسها، على أنها رفضت الإكتراث لوصوله، و سدت أذنيها، مر بجانب غرفتها، و توقف للحظات، فتوترت و إندست بسرعة تحت اللحاف تدعي غطيطها في نوم عميق، و أملت ألا يدخل، لكنه فعل، أدار المقبض ببطء، و دفع الباب متقدما صوب سريرها، فاحت رائحة الكحول مستعمرة الغرفة، فإرتجف قلبها لواقع أنه ثمل، و هي الحال الوحيدة التي يقول و يفعل فيها أشياء غريبة عنه و أحيانا جميلة جدا، إهتزَّ سريرها، فأدركت أنه جلس على حافته بوزنه الثقيل، و لم تصدق نفسها حين شعرت بقطرات باردة تسقط على ذراعها، إهتز السرير ثانيةً إثر وقوفه، رحل إدريك، و رحلت معه رائحة الكحول، و قطرات الماء، إنقلبت تتحسس ذراعها، و ركزت نظرها على آثاره حذائه فوق الأرضية، لتخمن أنه عاد إلى المنزل مبللا بأكمله بسبب المطر، لكن التخمين الأكبر تأثيرًا على قلبها هو أن يكون إدريك قد رغب بلمس آثار قسوته على جسدها، و حين عجز و شعر بالذنب… غادر فورًا!
7
نقبت له عن عذر لفعلته و لم تجد، نزلت إلى الأسفل، و هي تفكر أنه مارس طقوسه الغريبة مجددًا، فلإدريك عادة لم تكن لسواه، كان ينتظر الليالي الماطرة ليختلي بنفسه وسط المقبرة، و يحتسي الكحول حتى يثمل! و كانت هي الوحيدة التي تعلم بذلك و لم تشي به لأحد!
دلفت المطبخ باحثة عن شراب يرطب حلقها، و لاحظت أن خزانة المشروبات الكحولية كانت خاوية، لتتساءل بقلق إلى أي درجة ثمل إدريك، و إن كان قد أسرف في الشرب إلى هذا الحد، فكيف قاد سيارته حتى المنزل، أم أن شخصا ما أوصله، ألقت نظرة من النوافذ العالية، ليثبت لها أن سيارته هي التي وصلت منذ قليل و لا تزال مركونة بشكل عشوائي في الباحة، و هذا زاد إرتباكها، و ضاعف قلقها، فتركت مشروبها المرطب، و تسلقت السلالم بخطوات واسعة، و هرولت بإتجاه غرفته، وجدت الباب مواربًا، بحيث إستطاعت إستراق النظر دون الدخول، و كان ما رأته صادمًا و رهيبًا بكل المقاييس!
في ذلك الوقت، و بينما كان إدريك قد إنتزع سترته و قميصه المبللان، و أولى الباب ظهره، شمل ما ظهر منه بنظرة باردة، و إسترجع ذكرى حديثة… تحديدًا قبل ساعة…
|Flashback|
المقبرة|محاكمة عادلة…
…ظل رجل المقبرة جامدًا، عيناه فقط تتحركان، سقط بصره فجأة يراقب إدريك و هو يفك زر سترته و يخلعها عن جسده المصقول، ثم يفعل الشيء نفسه مع القميص، و يستلُّ حزامه الجلدي دافعًا به نحو اللحية البيضاء و هو يقول:
”فلتكن محاكمة غير رحيمة كما كنتُ أنا! و لا يوقفنَّكَ إلا لمحُ دمي!“.
9
و آنذاك فهم ما المطلوب منه، فمد يده إليه موافقًا، و تناول حزام إدريك، لتبدأ المحاكمة، و تفرَّ طيور الليل عن أسوار المقبرة فزِعة من صوت الجلدات المسترسل الذي أفسد سكونها!
2
كان رجل المقبرة يجلد النصف العلوي من جسد إدريك دون رحمة تُذكَر، و لم يكن المُحاكَم نفسه ليطالب برحمة أو شفاعة، أراد فقط أن يشاركها الشعور، كان بإستطاعته أن يوكل مهمة المحاكمة إليها نفسها، لتذيقه من نفس الكأس بيديها، لكنه شديد اليقين أنها ليست بمثل قوته، و لن تنزل به العذاب المستحق مهما حاولت، أو ربما لن تحاول رفع يدها حتى في وجهه، لا أحد، لا أحد ممن حوله كان سيتجرأ على رفع قبضته في وجه إدريك، لذا كان على غريب أن يظهر و يحاكمه كما يستحق، شخص يوازيه طولاً و صلابة، شخص ميت الأعماق… كرجل المقبرة!
بدأت آثار الجَلد تستحيل جروحًا نازفة، و شرعت قطرات المطر تغسل دمه، فأمسك اللحية البيضاء الحزام ممتنعا عن تعذيبه أكثر، و ألقاه بالقرب منه في صمت، ليتحرك إدريك بجهد ملتقطا حزامه و قطع بدلته المنزوعة، و ينسحب صوب سيارته، لكن ليس ليغادر، بل ليبدأ ممارسة طقسه المفضل، لقد توقع هطول مطر عند منتصف الليل، لذا ملأ صندوق السيارة بزجاجات المشروب، حملها بين ذراعيه، و جلس بعيدًا عن ذلك الرجل الغامض يفرغ في جوفه قنينة تلو الٱخرى، و السماء الملبدة تفرغ عليه غيثها الذي جمح دون هوادة فجأة!
2
|End Of Flashback|
لم تشعر سيريا بذلك القدر من الألم قبلاً، كانت المرة الأولى التي ترى فيها إدريك على تلك الحال، و كان من المستحيل أن تطيق ذلك، هل فعل بنفسه هذا؟ أم أن شخصا آخر هو المسؤول؟! حركت يدها لتدفع الباب و تقترب منه، لكن شيئًا كامنا فيها منع ذلك، و أجبرها على الإبتعاد عن حدوده، و العودة ركضًا لغرفتها، حيث يمكنها أن تبكي بحرقة، جففت دموعها آخر الليل، تذكرت حوارًا تجاذبته مساءً مع زميلتها ليشا حول العرض الذي أتت به، فحسمت قرارها، موقنة أن بقاءها لن يجر على كليهما سوى القهر و الألم، و أرسلت لرقم ليشا عبارة مقتضبة:
«لقد قبلت، أرسلي لي العنوان فور إستيقاظك!»
كانت «ليشا» إحدى سفاحات الويد الشرسات، كما أنها تمكنت السنة الماضية من حجز مكان لإسمها ضمن قائمة السفاحين العشرة الأخطر على الإطلاق، تشبه إلى حد كبير مايڤا، بشعر ذكوري قصير، و قامة ممشوقة، و شخصية جريئة، لكن تختلف عنها في شقرة شعرها و إخضرار عينيها الواسعتين، فكانت أشبه بالقطط الجبلية المتوحشة، كما أنها الوحيدة في المنظمة التي تحب وضع حلق فضي صغير أينما تسنى لها ذلك، على حاجبها، و أذنيها، على نهديها، و حتى على أحد أنيابها العلويين!
و لم تكن كثيرة الظهور في المنظمة، لإنشغالها الدائم بعمليات التصفيات الصغيرة، و التي تنجزها للتخلص من شخصيات برزت على الساحة الفنية و السياسية من فترة وجيزة، و تتقاضى لقاء ذلك مبالغ جيدة!
و إلى جانبها أيضا، كان هناك سفاحٌ آخر يحظى بشهرة واسعة في المنظمة، رغم ندرة حضوره بينهم، لكن لا أحد ينكرُ أنه كان و لا يزال من أخطرهم، حتى إن إسمه الحقيقي تلاشى، و بات يُدعى فقط… «سيفاك» و الذي يعني صاحب العيون السوداء، و لكن البعض يصر على أنه فاز بالإسم لكثرة سفكه الدماء!
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيڤادا|كوخ الصخور…
إستمر المطر الغزير حتى ظهر اليوم التالي، و لم تفعل روكسان سوى القراءة من أول كتاب لمسته أمس، ثم الجلوس قبالة جهاز التلفزيون تصغي لبرامج الأخبار المتتابعة بضجر، كان دارك قد وضع لها كرسيا بدل الأريكة التي أحرقتها أمس، ثم إرتدى معطفا مضادا للبلل، و خرج ليصطاد، لكنه عاد خائبا، فسائر مخلوقات الصحراء ربضت داخل الأعشاش و الأوكار تنتظر إنتهاء المطر، لم ترَ روكسان تعابيره، إلا أنها وثقت أنه ولج الكوخ و علق بندقيته عابسًا، و بينما كان دارك يقصد المطبخ مرغما على طهو حساء لعين آخر… و دون لحم أيضا… نقل المذيع خبرًا جمد الإثنين:
«رغم سوء حالة الطقس الغير المعتادة… أصرَّ أصدقاء الشابة المفقودة روكسان فارغاس و عدد كبير من طلبة معهد الفنون في لاس فيغاس على شق مسيرتهم نحو كنيسة سانت مارونيت أين سيشعلون شموع الأمل لظهورها مجددا».
ظل بصر دارك متعلقا بأمارات وجهها، و كلمات المذيع تحفر عقله، نبض صدغاه بعنف، كان ينتظر فقط أي حركة تحرر منها ليقمعها في محلها، لكن المدهش، أن روكسان قمعت كل حنين و حزن شعرت بهما، و إزدردت ريقها بغصة، قبل أن تخاطبه في أتم البرود:
”دارك… هل تستطيع تغيير المحطة؟!“.
بدل ذلك أطفأ دارك الجهاز نهائيا، و أعلن بصوت نافذ:
”يكفي هذا القدر، ستجلسين معي في المطبخ!“.
رافقته إلى هناك في صمت، وضع لها كرسيا و طاولة صغيرة هذه المرة على مقربة من النافذة، فأمكنها أن تحس برذاذ المطر يلامس وجهها، إنحنى دارك كي يسحب الكرسي إلى الوراء حتى لا يضايقها ذلك، لكنها ضغطت على معصمه هامسة و على ثغرها أجمل إبتسامة رآها:
”لا تفعل! أريد البقاء هكذا! أحب هذا الشعور! أستطيع أليس كذلك؟“.
تحرك شيء ما بصدره، لم يعرف هل للمستها دور في ذلك أم أنه تأثير إبتسامتها البريئة؟! و قبل أن يجد جوابًا، ضاقت شفتا روكسان، و بدأت في تحسس معصمه بتركيز، هل ما تلمسه خصلات شعر مضفورة أم أنها فقدت قدرتها على تمييز الأشياء؟! بكل الأحوال، دارك سحب يده بسرعة، و خسرت فرصة التأكد من شكوكها، إنتقل إلى المقصف يعد الحساء بوجوم، و ظلت هي مكانها تعمل عقلها بجهد، و تجمع تخمينات عدة معا، لتصل إلى تحليل دقيق لشخصية دارك ريغان!
1

فكرت أن التعرف على أي إنسان يقتضي الإحتكاك به و الغوص بحياته اليومية، لكن العيش مع دارك تحت سقف واحد و مشاركته غرفته و سريره و حتى ثيابه… كل ذلك غير كافٍ لتحدد أي نوع من البشر هو، تركت مجلسها بعد دقائق تنضم إليه أمام المقصف، فكر أنها جائعة! فتمتم بجفاف:
”سيجهز الحساء في غضون دقائق!“.
”لهذا هو سيء دائما!“.
2
إستغرب ما لفظته، و إستغرب أكثر البهجة التي تحدثت بها، كأنها تريد الآن أن تجد داخل سواده القاتم لونا جميلاً، أرجعت خصلاتها خلف أذنيها، و أضافت مفسرة و هي تتحسس مقدمة الموقد بأصابعها و تقلل النار تحت القدر:
”هكذا يطهو البشر… على نار هادئة، ليأخذ الحساء وقته كي يستوي، و يغدو مذاقه طيبا!“.
1
تحسست ظهره مستعينة به كي تتجاوزه إلى الطرف الآخر من المقصف، و مدت ذراعيها تلتقط علبة البُن، و دون أن تستشيره حتى، تابعت قولها تفتح غطاء العلبة و تبحث عن آلة الإسبريسو:
”البشر يضيفون أيضا مع الملح بهارات تتبيل، يمكنها أن تغطي غياب اللحم بشكل سيدهشك!“.
لم يكن في مطبخه أي بهارات غير القرفة و الفلفل الأسود، أضاف منهما القليل بصمت، و راقبها بدقة و هي تعد القهوة كأنها تبصر كل شيء، و لم يتمالك سؤاله بعد ذلك:
”كيف تفعلين هذا؟“.
فهمت مقصده بسرعة بديهتها، فحاولت أن تسترسل في لطفها معه:
”أحفظ مواضع الأشياء!“.
حرك الحساء قليلاً ينهمك في تحليل أفكاره، فيما كان قلبها يقفز مع كل نبضة، ربما التقرب من رجل مثله يبدو جنونا لغيرها، لكنها باتت مضطرة للبقاء معه، و حياة كهذه لن تكون سهلة عليها إن تواصل صراعهما، ثم إنها لا تدري، لعل بعض اللطف من جانبها يجعله يلين لها و يرحمها، و يتراجع عن التمسك بها و الثأر من خلالها!
1
أعلنت آلة الإسبريسو عن جاهزية القهوة، فأعدت كوبا، و مدت يدها كي تسكب في جوفه السائل الأسود الساخن، لكنه وقف في طريقها، و تولى ذلك مع كلمات وجيزة:
”ستحرقين نفسك!“.
”شكرا!“.
تمتمت و هي تمد يديها ليمنحها الكوب، لكنه تأخر في ذلك، فقلقت متسائلة:
”ما الأمر؟“.
”نفذ السكر!“.
تنفست الصعداء لأن الأمر ليس بالخطورة التي توقعتها، و إبتسمت تمد يديها أكثر و تعقب:
”لا بأس! سأتناولها هكذا!“.
وضع الكوب في حوزتها، فنفخت عليه لثوانٍ، و أخذت رشفة سريعة بسبب سخونتها، لم يكن طعمها رائعا، المرارة كانت مذاقًا مكروهًا بالنسبة لها، لكنها تحملتها لتحيا، إنها بالأساس مكرهة على الكثير، و لن تشكل مرارة القهوة الكريهة فرقًا، أبعدت الكوب عن شفتيها تقدمه له، و إنتظرت متوجسة أن يدلقه عليها، أو يركله في إتجاه آخر، أو أن يتجاهلها تماما، غير أنه تقبله، و تعمد أن يضع فمه حيث وضعت هي فمها، و أن يتذوق ما تذوقته!
5
بحثت بعدها عن يده حتى وجدتها، و غمدت أصابعها المرهفة داخل تلك القبضة، ليضغط عليها دارك بشكل آلي، و لم يرُق له أنها باردة، و حين سحبته كي يجالسها قرب النافذة، أوصد الشباك، فعاودت فتحه، و آنذاك علق بحدة:
”بات الجو باردًا!“.
”القهوة دافئة… و يدكَ أيضا!“.
”ما الذي تحاولين فعله يا مصيبتي؟!“.
11
”أحاول التعود عليك!“.
ٱخِذَ بتلك الكلمات العفوية، لكنه لم يظهر ذلك، سحب يده بعيدًا ليدخن سيجارة، و بعد مرور وقت قصير لاحظ أن النسمات المتدفقة من النافذة تجعل ما ينفثه من دخان ينعطف نحوها، فسحق السيجارة بقبضته و أوصد شباك النافذة للمرة الثانية، و عاودت هي فتحه متمتمة:
”أرجوك! لا توصدها ثانية، نحن بحاجة لنافذة بيننا، و لهواء يحرك أشياء كثيرة، الثوابت لن تسمح لنا بفهم بعضنا! لقد حاولتُ طيلة أشهر معاكستك و حرق كل ما يمتُّ بصلة لك، لكنني لم أحاول أبدًا فهمك!“.
صمتت لبرهة و تابعت ثانيةً برنة ندم:

”كنتُ دائما تلك الشابة اللطيفة التي تجلب في أثرها النور، لكن إذا كان قدري أن أنغمس في ظلامك، فلن أعارض! أعرف أنك مجرم، أنك مهووس بالقتل، و أنك ملطَّخٌ بالخطايا، أعرف أنني لا أمثل بالنسبة لك سوى خطة إنتقام، لكنني لن أعارض أيًّا من هذا! سأعيش معك هذه الحياة كما هي، فقط لو أنكَ تسمح لي بشيئين قبل أن تقتلني!“.
سأل دارك فورًا:
”و ما هما؟!“.
أخذت نفسًا عميقًا، و أكملت:
”أولا: أريدُ أن أظهر للعلن و أفنِّدَ فرضية تعرضي لأي مكروه… و أنني إختفيتُ بمحض رغبتي! أريد لمسرحية إختفائي أن تنتهي! و أن يرتاح هؤلاء من قضيتي!“.
1
”و ثانيا: …؟!“.
”أريدُ أن أكون أول من يقابل المدعو داجيو حين يستفيق من غيبوبته!“.
1
”و ثالثًا…“.
أردفت بحيرة:
”لم أطلب سوى شيئين!“.
”لم تطلبي ثالثهما، لكنني سأمنحكِ إياه قبل أي شيء آخر!“.
”ماذا تقصد؟“.
”مساءً تعرفين! حين نذهب إلى الويد!“.
و مضى بعد ذلك يحدثها عن المنظمة بشكل وجيز، فكان كل ما قاله أنها أداة قتل بشرية، و في نظرهم كل ما يرتكبونه مشروع، لأن نظرتهم السفلية تفرض عليهم ذلك النمط المختل من التفكير، ثم أنهى موجزه بقول بارد:
”نحن لا نسير في الظلام، بل الظلام يسير داخلنا أيضا، و يمتدُّ إلينا، و يجبرنا على الإختلاط به!“.
على أن روكسان فاجأته برد أكثر برودة:
”ما الجديد في هذا؟ لقد ألفتُ السير في الظلام منذ سنوات! أظن أننا نتشابه، الفرق الوحيد هو في مقاساتنا!“.
2
إبتسم كلاهما، لكن إبتسامة دارك تبخرت ما إن حلل كلماتها، و تذكر ماضيه، و واقعه، فوضع مسدسه على الطاولة و جعلها تلمسه متسائلاً:
”هل سبق لكِ أن حملت شيئًا كهذا؟ لا! إن حمله يعني حمل أعباء كل من لمسوه قبلك و كل من سيلمسهم رصاصه بأمر منك، و من أجل هكذا أعباء، يجب أن يكون جسدكِ مجرَّدٌ من الروح!“.
رفضت أن تصدق أنه بلا روح، الرجل الذي يقتل لأنها تأذت، الرجل الذي يمزق لأن شيئا يخصها سيُسرق، الرجل الذي يفكر في راحتها و ما تفضله و يقتني ما يناسبها و ما يبهجها ليس أبدا دون روح! أجزمت أن روح دارك ريغان مثقلة بالأعباء ليس إلا، و لعل عبء الإنتقام هو العبء الأكبر!
1
تحسست تفاصيل المسدس بحذر، ثم سألت بتعجب:
”ألا تخشى أن أستعمله ضدك الآن؟“.
”إذا كنتِ في موازاة مع العبء الذي سيحمله موتي… فاستعمليه!“.
ذكرها ذلك بلحظة فتحه الباب لها و تحذيرها من قتل كل شخص يقربها، لذا سحبت يديها، و أردفت بقوة:
”لا يمكنني تحمل عبء الموت، لأنه ليس قرارنا بل قرار الرب، لكنني سأتحمل عبء قراراتي، و أنا قررتُ أن أكون جزءً من عالمك… دارك ريغان!“.
”في هذه الحال؟ هل تستطيعين أن تكوني السيدة ريغان؟ هل ستتحملين عبء هذا الإسم؟!“.
14
نبض قلبها بجنون عقِبَ ما سمعته، خالت أنها أخطأت في إلتقاط كلماته، لكنه جعلها تصدق ما لمس ٱذنيها حين أضاف و هو يستوي واقفًا و يباعد بين أطراف القميص متحسسا الوسم على صدرها:
”لقد وشمتُ ترميز المرايا على صدركِ فوق حرق الصليب، بحيث يعني الحرف الأول من الإسم و إنعكاسه أن حامله موسوم و محرم قتله، و كل شبر من المافيا اللعينة يخشى هذا الوسم، لكن القدر يحب الإبتكار و الإضافة، فالوسم نفسه الذي يشكله حرف إسمكِ الأول حين يجتمع مع إنعكاسه يرمز أيضا… إلى حقيقة أنكِ يجب أن تصبحي إنعكاسي… و أن إسمكِ في العالم السفلي يجب أن يتغير إلى… روكسان ريغان!“.

 

 

 

0 0 votes
Article Rating
____

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x