رواية لحن الأصفاد الفصل الحادي عشر 11 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الحادي عشر 11 بقلم أسماء
البارت الحادي عشر (اثم وقديسة)
❞لا تُراهن على هَوسِي بها…
أستطيع محو العالم لتبقى رائحتُها فقط!❝
لاس فيغاس|أمتار قليلة قرب كنيسة «سانت مارونيت»
السائرون في الشوارع يخبُّون على الأرض كما دأبوا مُذ عرفوا للسير معنى، لكنهم… و دون إستثناء… حين كانوا يلمحون ذلك الرجل الغامض ذو النظرات الميتة… يرتعشون لسبب يجهلونه، بعضهم يغير وجهته حتى لا يصطدم به، و آخر يعود من حيث أقبل حتى يقتل كل فرصة للمرور قربه و الإحتكاك بكتفه!
إلى ذلك الحد… كان دارك ريغان ملفتًا للنظر و مثيرًا للمخاوف في الوقت نفسه! كبِئر مجهولة لن تفكر أبدًا مهما بلغت بكَ الشجاعة في النظر لقعرها!
3
كان قد تتبع إحداثيات الرسالة التي وصلته منذ الصباح، و في غضون لحظات قليلة، وجد نفسه أمام الكنيسة الأكبر في فيغاس… «سانت مارونيت». ركن سيارته هناك، و ترجل منها مباشرًا في إتخاذ خطواته باتجاه الصرح الديني، لم تكن تلك الكنيسة مقصده، و لا كان هو ذلك الناسِك المتدين الذي يلثم عتبات الكنائس و يركع أمام تمثال المسيح معترفًا بخطاياه، هو حتى لا يحفظ كلمة واحدة من الأناجيل، لكن المفارقة المدهشة… وجود قلادة صليب تتدلَّى على صدره… قلادة رهينته العمياء روكسان!
13
لا فكرة واضحة حول سبب تمسكه بها، كان بمقدوره رمي القلادة و الجلوس باستمتاع لمشاهدة صاحبتها تلعنه على ذلك الفجور، لكن في الحقيقة… لو أنه فعل… لكان هو من سيلعن نفسه!
توقف لوقت قصير قرب الكنيسة، فكَّر في شعور البشر حين يُصلُّون، إن كان صادقًا مع نفسه، فهو بلا عقيدة… بلا إيمان… و بلا شعور… و هكذا يرى أنه حرٌّ من كل القيود، و ليس مضطرًّا لأداء أي صلوات… عدا صلاة آثم… يؤديها و هو يفترشُ الجثث! لكنه يعلم في قرارة نفسه أن كل جثة تسقط بسلاحه تذكره بقيده الأزلي… القتل!كان مشهدًا شاذًّا، وقوف آثم على بوابة الطاهرين ليس بالشيء الجديد، و إنما ما لم يسبق حدوثه… هو توقفُ سفَّاحٍ مثل دارك هناك، و إهتمامه الغامض بتأمل المبنى القديم، أزعجته قدسيَّة العتبات رغم تراب النعال الذي كان يحمله الداخلون إليها، و عنَّفه شموخ أبراجها الشاهقة، هكذا أيضا هو شموخها، و هكذا ظلت مقدَّسة رغم محاولاته السادية لتلويثها، كأن كل شبر من تلك الكنيسة لا يشبه إلا… روكسان!
1
إنتزع قدميه بحدة من هناك، و دس يديه في جيبي سترته مستأنفًا السير، و معدودة هي الأمتار التي قطعها ليبلغ مبتغاه.
طرقةٌ على الباب المنشود ردَّدها صدى الهدوء الذي يكتنف ذلك الشارع… مجرد طرقة واحدة كانت كافية بالنسبة له، سواد ثيابه و وشومه جعل أي مارٍّ من هناك ينكسُ عينيه و يخشى إطالة النظر لهذا الوافد الغريب، حتى الغربان لم تملك شجاعة لمناظرة قتامته، إستوحشت منه و مضت تنتفض من على أسطح المنازل المحيطة به و تفرُّ لشارع آخر!
1
مدَّت مارغو أذنها لاعنة و هي تمتصُّ حبة مسكن تنجدها من صداع الثمالة، بحق السماء… من يطرق مرة واحدة؟ كانت متكورة على أحد مقاعد غرفة المعيشة تشتُم حظها، و تشاهد كعادتها برامج الحياة الإجتماعية المضجرة، لكنها و لسبب ما كانت أكثر بهجة مقارنة بحياتها، فكرت في تجاهل الطارق، فلها ما يكفيها بين تلك الجدران من تعاسة، مثلاً… جبل أوانٍ مقرفة لم تنظف منذ ليلتين متعاقبتين، و لم يكن ينقص سوى أن تأتي في أثر ريحها أسرابٌ من ذُباب الجِيَف!
1
تنهدت باصقة حبة المسكن لشدة مرارتها، ثم سارت تعرُجُ و تتأرجحُ نحو الحمام لتتقيأ، و إعترفت لنفسها خلال ذلك أن روكسان اللعينة كانت تجيد العناية بكل شيء هنا، صحيحٌ أنها كانت عمياء، لكنها لم تتخلَّف يومًا عن تنظيف المطبخ و ترتيب بقية الغرف عقِبَ عودتها من دوام المعهد، هزَّت رأسها كالكلاب المسعورة و حقدت عليها أكثر، و بهمهمة مخنوقة عبرت عن ذلك الحقد:
1
«الحقيرة! كانت أفضل مني حتى و هي بلا بصر! لكن أين هي الآن؟ لقد إختارت لنفسها حياة رغدة مع عشيق ما و نسيت أمر عمتها العجوز!»
10
زمَّت مارغو شفتيها بغيظ لأن تلك الأفكار تزيد من حدة نبض الصداع داخل رأسها، و أملت لو تكون هي الطارقة… لو تبين أنها هي فعلاً… لأوسعتها ضربًا بكل غرض يعترض طريقها… و لأعادتها إلى الصفر… إلى القبو الموحش… حيث كان يفترسها الصقيع و الجرذان! لكن ذكرى مهمة قفزت إلى ذهنها فجأة، قد يكون الطارق مؤجر المنزل جاء به الطمع في قبض إيجار هذا الشهر!
3
و لو أن ذاك البغيض يكاد يكسر الباب حين يطرقه عادةً عكس ما يفعله الآن، إلا أنها أجبرت نفسها على الفتح له، لكنها لم تتبين سحنة المؤجر الأربعيني الفض، و الذي كان يلقي تحية سريعة فور رؤيتها و ينطلق في سيل من الثرثرة مطالبًا بماله دون حرج أو صبر! بل كان الوجه الذي ألفته على عتبتها مختلفا، كان رجلاً أصغرَ بعشر سنوات تقريبا من المؤجر، و لا توحي ملامحه بأنه عادي، شملته بنظرة كسولة نزقة بلغت حتى قدميه، ثم عرجت لوجهه مجددًا و هالها أن تكتنفها رعشة غريبة، كأن الشتاء بكل ثقل برودته و غموض لياليه وقف فجأة أمامها!
فغرت فمها كما لو أنها تود التثاؤب، و سألت بغير تركيز:
“ماذا تريد عند هذا الصباح اللعين؟”.
أجابها الصمت المطبق من جانبه، و لدقائق لم يكن دارك يفعل شيئًا سوى حفر وجهها المغضن بنظراته الميتة، نقل بصره بين تقاطيعها المجعدة، و لم يجد أي شبه بينها و بين روكسان، لا إمتلكت عينين كعيون الغزلان الواسعة، و لا إنسدل على كتفيها المقوسين شعرٌ داكنٌ شديد الطول و النعومة مثلها، و لا توشَّحَ جسدها المُسِنُّ ببشرة صافية و رقيقة كبشرة تلك العذراء التي أسرها! و غياب تلك التفاصيل أثار حفيظته و منحه دافعًا إضافيًّا لتنفيذ نيته!
“هل هذه خدمة ما؟”.
ظنت أنه عامل توصيل أو ما شابه، لذا طرحت عليه السؤال، و للصراحة، لم تبعث فيها نظراته الباردة الراحة، و لم يرُق لها صمته الطويل، على أن دارك قرر أن يجيب سؤالها الثاني، و بطريقته الخاصة:
“بل هذه نهاية الخدمة… مارغو!”.
1
عجِبت لما سمعته، و لم تجد فرصة سانحة لتتراجع إلى الخلف و توصد الباب بينهما، لأنه سبقها، و نطح رأسها برأسه فأرداها صريعة، ثم دخل مغلقا الباب بهدوء، جال بنظره لثوانٍ فيما حوله كما لو أنه يتعرف على أثاث المنزل و نظامه، قبل أن يحضر كرسيًّا لنفسه و يجلس مدخنًا سيجارة فوق رأسها…
14
مضى وقت طويل و مارغو على الأرض، نزيف أنفها جف، و موطن النطحة على أرنبته إزرقَّ و إستحال بنفسجيًّا، تحرك جفناها برعشة عابرة، و تحركت معهما أصابع دارك تنفض جمرة السيجارة لتسقط متشتِّتة و تكوي أجزاء متفرقة من خدها، صدرت عنها شهقة قصيرة إثر ذلك، و همَّت برفع نفسها ناهضة و هي تفتح عينيها على وسعهما، لكنها فشلت في فصل جسدها عن الأرض، لأن الدقائق التي غابت فيها عن الوعي، كانت كافية لدارك كي يقوم بجولة نافعة في المكان، فإستطاع العثور على مطرقة و صندوق مسامير، و راقت له فكرة أن يثبت جديلتها الشائبة و أطراف ثيابها بأخشاب الأرضية!
انبرت تصرخ دون تفكير:
“النجدة! أغيثوني!”.
كان صراخها كعدمه، لأن دارك إحتسب ذلك مسبقًا، و رفع صوت جهاز التلفزيون إلى حد يمنع وصول أي صوت آخر للخارج، إرتجفت مارغو حين أدركت ذلك، حاولت تحريك يديها لتحسس إصابة أنفها المؤلمة، غير أن كُمَّي قميصها كانا مسمَّرين بالأرضية أيضا، فأرتعدت رعبا و هي تسأله مجددا بهستيريا:
“من تكون؟ ماذا تريد مني؟ لماذا تفعل بي هذا؟”.
2
“لم أفعل شيئًا بعد!”.
بعدما تمتم ببرود، إستلَّ السكين الصغيرة التي دسَّها بين ثيابه بدل المسدس، و كانت حادة و دقيقة… أشبه بمشرط الجراحة الذي يدور غالبًا بين أنامل إدريك. نظر للسكين ثم للمرأة العجوز، و دون تردد… غرزها في صدرها، و إستمع متلذذا لأنينها بينما يحشر ركبته في فمها مانعًا إياها من الصراخ!
5
“سنتمترين فقط قرب القلب… طعنة عبقرية! أليست كذلك؟”.
4
أرعبها البرود الذي يتحدث به، و مضت تتمزَّقُ ألمًا إثر الطعنة، و تسحبُ كميات أكبر لصدرها لاهثة، نهض دارك عن الكرسي، فانكمش جفناها مفكرة أنه سيعاودُ طعنها، غير أنه إكتفى بالدوران حولها، و سأل بنبرة جافة:
“أين كنتِ تحبسينها؟”.
1
غمغمت بألم باصقة بعض الدم:
“من… من تقصد…؟”.
1
أجاب دارك دون أن يتوقف عن السير بتؤدة حولها:
“الفتاة اللعينة التي كانت تعيش هنا؟”.
3
تأكدت مارغو أنه يشير لروكسان، و إستغربت إهتمام هذا الغريب بها، من يكون؟ أ هو أحد أفراد الشرطة اللذين حققوا لأشهر في قضية إختفائها؟ لكن لماذا؟ لقد ٱغلِقت القضية، و ٱعتُبِرَت هاربة بمحض رغبتها، حتى صديقتها كايت كفَّت عن المجيء رفقة ذلك الرائد المزعج لإستجوابها! ماذا يجري إذن بحق السماء؟ لماذا يسأل هذا الرجل الغامض عنها الآن؟ و الأرعب… كيف يعرف بالأساس ما كانت تفعله بها و هي طفلة؟
“لماذا تسأل عنها؟ ما الذي تعنيه لك؟”.
“تخيلي أنها مأساتي الأكبر… و أكثر شخص عبث بعقلي في الآونة الأخيرة…! لكن… ماذا ستفهم عجوز مثلكِ مما يجول في عقل لعينٍ مثلي؟!”.
8
داس بقسوة على أصابع يدها مستطردًا:
“كُفِّي فضولكِ الآن… و تذكري أنني الوحيد المُناط بالأسئلة هنا!”.
أمسك لسانه لبرهة من الزمن، عالج ياقة قميصه كأنه لا يدوس على يد إنسان، ثم لمس قلادة الصليب، لتدرك مارغو ملاحظة لمعان ذلك الشيء المألوف على صدره أن روكسان تعني له… أيًّا كانت الرابطة التي تجمعهما، و لا شيء يمنعها الآن من التصديق بأنه حضر لا لشيء… سوى كي ينتقم!
برز صوته البارد مجددًا:
“خلف أي الأبواب كانت تقبع في الظلام… مارغو؟”.
طريقته في نطق إسمها نشرت داخلها فزعًا لا يُطاق، حاولت الإنكار، غير أنه حذَّرها من أن الأكاذيب لا تنفع، و لن تُجيرها من العذاب الذي يضمره لها بكل الأحوال، لذا أغمضت عينيها منهزمة، و همست بخوف:
“القبو!”.
“لماذا؟”.
شعرت مارغو أن تفسير ما كانت تفعله بها لن يكون في صالحها، لكنها كانت تخشى هذا الغريب بجنون، نظرته الباهتة لوحدها تجعل الدم يتبخر من عروقها، لذا أجابت سؤاله بصوت متقطع:
“لأنني… كنتُ… أمقتُها… كنتُ أشعرُ بالعار كلَّما… نظرتُ إليها!”.
ران صمتٌ ثقيلٌ على المنزل رغم صوت التلفزيون الحاد، الصمت كان في عقل مارغو حقيقةً، محدثها لم يردف بشيء، و إكتفى بالتوقف عن دورانه، ليقرفص عند رأسها، و يتأمل وجهها بشكل مقلوب، بينما كانت هي تشعر بخدر في أطرافها، و تحاول تخمين ما يفكر به، و كي تستميل شفقته باتجاهها مضت تستطردُ بصوت مزقه نشيج البكاء:
“كانت لقيطة! مجرد… وصمة عار… على عائلتي و إسمي، رحل والدها… دون يسأل عن عشيقته اللعينة، ثم فطست والدتها هي الأخرى… تاركة كل الحمل على عاتقي، ماذا كان يمكنني أن أفعل ببذرة الشيطان تلك؟ لم أستطع رؤيتها كطفلة… كنتُ أراها… فقط… إبنة غير شرعية!”.
3
راحت مارغو تردد ذلك و تكرره بفم ملتوٍ و بكاء مرير على أمل أن يرأف بها هذا الرجل الغامض، غير أن دارك قد علَّق بعد كل ما قالته و هو يمسح على شعرها ببرود ثقيل:
“أتعرفين يا مارغو؟ إنها المرة الأولى التي أتجاذب فيها حديثًا مع جثة قبل قتلها بلحظات! لكن يجب ذلك الآن، عليكِ فهم بعض الأمور و أنتِ في طريقكِ إلى الجحيم!”.
إستخرج هاتفه من جيب السترة، شغل موسيقاه المفضلة، «لاكريموزا»، ثم مضى يردُّدُ مع أصوات الأكابيلا الباردة في أذن العجوز:
«مليء بالدموع…
سيكون هذا اليوم… مارغو!»
شحبت مارغو متوقعة موتها المحتوم، إنه و لا ريب شيطان لعين! مسخ حقيقي! يقيم شعائر جنازتها و هي حية! زاغت عيناها، و همَّت باستجدائه مجددًا، لولا أنه قطع عليها المحاولة قبل أن تبدأ، و بحركة غير رحيمة… كسر عظمة كتفها و قال بينما يصغي لتدفق صرخاتها مع الموسيقى:
1
«عندما يخرجُ من الرماد…
الرجلُ المذنبُ كي يُحاكَم!»
صمت قليلاً و إبتسم ببطء كأن به مسّ:
“هل أنتِ جاهزة لتُحاكَمي؟!”.
صرخت ثانيةً حين كسر كتفها الٱخرى مستطردًا بغضب مجنون:
“لا أحد سواي يعذِّبُ روكسان…!”.
قطع أذنيها… و لسانها… ثم إقتلع عينيها مضيفًا بنفس الجنون و الحنق:
10
“لا أحد سواي يكتب لها الظلام أو النور!”.
ثم مضى يوجه لصدرها أزيد من خمسين طعنة و هو يزمجر بصوت خشن و عينين جاحظتين:
“لا أحد سواي يغلقُ بابًا في وجهها… لا أحد سواي يزرع الدموع في عينيها الجميلتين… لا أحد سواي يملكُ الحق في لمسها… أعرف أنها لعينة مثل الكل، لكن لا دخل للكل بلعينة تخصُّني!”.
29
بات دارك مغطى بالدم، و لأول مرة لم يتقزز من تلك السيول القرمزية فوق جلده و ثيابه، بل لأول مرة يجد لذة قوية في القتل، أخذُ ثأر روكسان راقه، و البطش بمن كانت تعذبها بدا له تجربة مميزة، لم يفكر في نفسه هذه المرة كسفاح ذو عقل إجرامي خطير، فكر في نفسه فقط على أنه منتقمٌ يستردُّ حقًّا عظيمًا، و يرسمُ حدوده الشرعية… بالدم!
أدرك أن مارغو باتت جثة هامدة، لا صراخ… لا أنفاس… و لا حركة! إنتهى الإستجداء… و لم يعد يسمع سوى تشابك صوت التلفزيون بتراتيل الموت التي تسترسلُ من هاتفه، حينها… أطفأ كليهما، و إستقام ببطء مزيلاً بظهر يده بعض الدماء عن وجهه، بدأ يخطو هادئا صوب الحمام، فتح المرش، لتنسكب المياه فوق جسده، إغتسل جيدا من قذارة دمائها دون أن يخلع ثيابه، ثم إنتقل إلى المطبخ، حيث يتوقع أن يجد مواد التنظيف، و ما هي إلا ساعة واحدة أعاد فيها كل شيء كما كان، وضع مارغو في كيس أسود، إستنشق رائحة الكلور المنتشرة حوله منبسطًا، ثم قرر أن يبحث عن غرفة روكسان، تسلق الدرج للطابق الثاني حيث كانت بانتظاره فقط غرفتان، إحداهما عرف من فوضاها أنها للعجوز العفِنة، و الٱخرى كانت كما توقع… لروكسان!
دلفها مجيلاً بصره على كل تفاصيلها، كانت مرتبة بشكل لا يؤكد إلا أنها لفتاة هادئة و منضبطة، و رغم بساطة ما رآه، إلا أنها كانت الشيء الوحيد الذي أثار إعجابه في ذلك المنزل. إقترب من سريرها، و مد يده يمررها على فراشها العادي، فالتصقت بأصابعه مسحة من الغبار المتراكم، القذرة مارغو لم تنظف هنا أبدًا، بل و اللعنة أنها لم تلج الغرفة على ما يبدو!
أدرك أن النوافذ لم تُفتَح مُنذُ غياب صاحبتها، و أشعة الشمس لم تطرق هذه الزاوية من المنزل لأشهر، إنتقل لمنضدة تجاور السرير، خمن أنها كانت تجلس قبالتها لتفعل شيئًا ما، لكن المنضدة لم تحمل كُتبًا و لا أي شيء يشير لدراسة أو نشاط معين، أيًّا يكن، روكسان عمياء، و لا يعقل أنها ستحتاج لكتب أو سيَّالات هنا! سحب أول درج فوجده خاليا، فعاود دفعه للداخل، لكنه فوجئ في الدرج الثاني بمسجلة صغيرة، أخذها بين أصابعه يديرها مفكرًا، ثم ضغط على زر التشغيل، و أصغى لصوتها الملائكي يتدفق نحو أذنيه بشكل آسر:
«أنا ٱدعى روكسان فارغاس… و لأنني عمياء فستكون هذه مذكراتي الصوتية… لا أرى من الضرورة أن أذكُرَ سِنِّي… لكن الجدير بالذِّكر هو أنني ولِدتُ اليوم… حين تلامست يدي مع يد ٱستاذي الموسيقي عفوًا… و لأول مرة!…»
33
إسودَّت عينا دارك مُصغيًا لما بعد ذلك بوجه جامد و نظر حاد:
«…أعرفُ أنه يلاحظُ إعجابي به، رغم أنني لا أرى تعابيره حين يجلس قربي و نباشرُ العزف على البيانو سويًّا… لكن… أستطيع الشعور بميله لي، أنا واثقةٌ أنه معجبٌ بي… بطريقة ما… و يبادلني الشعور ذاته… ربما يكون غابريال هو ملاذي من هذا الواقع القاسي… ربما هو الرجل المقدَّر لي… ربما هو من سيقفُ إلى يميني أمام المذبح… و يردد على مرأى من المسيح و القِس… أنه لن يترك يدي!»
13
إهتاج دارك عقِب ما إقتحم أذنيه، جُنَّ جنونه، و فكر في سحق المسجلة تحت نعليه، على أنه توقف فجأة مقررا أن يتريث و يتابع الإصغاء للمزيد، و سيكون حثالة رذيلة إن لم يكتشف حالاً من يكون غابريال هذا؟! و لأجل أي شيء هي معجبة به!
تنفس بحدة و هو يضغط على زر التمرير لتسجيل آخر، فسمعها تقول هذه المرة بصوت طفولي راقه و عذبه بنفس الدرجة:
«لم أخبر أحدًا بهذا من قبل… لا صديقتي كايت… و لا زميلي في العزف سيث… و لا حتى الأب لوثر الذي أعتبره بمثابة والدي!»
جلس دارك على مقعد المنضدة ينظر إلى الفراغ بسخط محاولاً تخيل هذا الغابريال و صوت روكسان لا يزالُ مسترسلاً بعذوبة:
«أشعر براحة أكبر لأنني أقوم بتسجيل هذه الكلمات لنفسي… أو ربما لشخص ما سيجد مسجلتي بعد رحيلي عن العالم… تأكد أيها الشخص… أن قلبي لم ينبض من قبل مثلما يفعل حين يتحدث غابريال…»
5
إشتدُّ ضغطه على أسنانه و هو يسمع المزيد:
«أشعر أنني أطفو إذا ما بدأ فقط في وصف الكتب التي يطالعها بشغف… أو إذا طلب مني عزف مقطوعة ما بحضوره…»
كوَّر قبضته يضعها فوق ركبته، و طفا بغضبه المجنون فوق صفحة البرود، لكن ما سمعه تاليًا شفط منه كل قطرة غضب، و امتص هياجه:
«…أساسًا… لو لم يعلمني الطريقة المثلى للمس مفاتيح البيانو… لما ظفرتُ أبدًا بوظيفة عازفة في كنيسة مهمة كسانت مارونيت!»
3
ومضت عيناه متذكرا الشعور الذي إعتراه قبل ساعة حين وقف متأملاً الكنيسة، كأنه كان يتأمل روكسان نفسها، هل يُعقلُ أنه إستشعر العلاقة التي تجمعها بذلك المبنى الديني؟ هل هو كائنٌ يشعر بأية حال؟
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
إحدى شوارع فيغاس الهادئة|مقهى باركلين الكوري
في غرفة خلفية للمقهى… تتواجد سلالم دائرية تقود لأعلى، لطابق صغير و رحب رغم ضيق مساحته و بساطة ما وضع به من أثاث، يقتصر المكان على ثلاث غرف، واحدة كمطبخ، و هذه توصل المرء لغرفة المعيشة، و التي تفتح بدورها من خلال باب مقوس على آخر و أصغر غرفة من البيت… بيت السيد «يوري» أو «سيد الزهور»… كما تفضل روما تلقيبه!
كان يوري رجلاً آسيويًّا، في التاسعة و الأربعين من عمره، يحبُّ إرتداء ثياب الرسَّامين التي تلفُّه بهالة من الطاقة، و يُعرَفُ في تلك الناحية من فيغاس بمشروباته العشبية التي تسحر كل من يتذوقها… و بالزهور النادرة التي يزين بها كل جزء من مقهاه و الشقة التي تعلوه!
لا أحد يستطيع تحديد أصل يوري باركلين بشكل دقيق، لكن يجمعُ كل من يرونه على أنه من كوريا الجنوبية نظرًا لطوله قامته و شكل وجهه الرفيع!
هذا و هو المعروف بطبعه الهادئ أيضا، و بوديته الشهيرة بين رواد مقهاه، لا سيما حين فتح بابه منتصف ليلة أمس لشابين يتصاخبان ضحكًا، و منحهما إبتسامته الواسعة دونما تردد، و لأنه يعرف الشابة الشقراء حق المعرفة، فلم يمانع إستقبالها هي و رفيقها الغريب، و تقديم شراب الساكي لهما!
غمغم مايلس و هو يجلس إلى المقصف و يقبض على كأسه شاكرًا يوري:
“و ما هو الساكي؟!”.
ضحكت روما تجيبه لأن سؤاله كان خافتًا و موجهًا لها:
“شرابُ الألوان السبعة للسعادة… أو كما يقول آخرون… شرابُ الآلهة و مفتاح العمر الطويل!”.
قبضت على كأسها هي الٱخرى، و أحنت رأسها ممتنة ليوري، ثم تابعت شرحها لمايلس و هي تشجعه على تذوقه:
“إنه شاربٌ ياباني من الأرز و الماء، به نسبة قليلة من الكحول، و يوري باركلين يجيدُ صنعه باحترافية عالية، مثلما يجيدُ صنع أي شراب آسيوي غيره!”.
نظر مايلس إلى الرجل المبتسم متسائلاً بهمس:
“هل هو ياباني؟”.
2
“بل كوري!”.
أخذت رشفة من كأسها، و تابعت بوجه بريء:
“إنه أكثر من مجرد صديق بالنسبة لي، فقد إعتنى بنا منذ نعومة أظافرنا كأننا نعني له كل ما في الحياة!”.
“من تقصدين بالشخص الآخر؟”.
إنتبهت لواقع أنها لم تحدثه عن أهم شخص بحياتها، و ضحكت ثانيةً مجيبة:
“أخي الأكبر… كِيان!”.
إلتفتت تاركة الكأس، تنظر عميقًا في عيني مايلس، و أضافت معجبة ببريق عينيه السوداوين المناقض لزرقة عينيها:
“هو و يوري… يمثِّلان العالم بالنسبة لي!”.
شعر مايلس أن مفعول الساكي بدأ يسري في جسده، كأنه بات مخمورًا من أول رشفة، غدت نظرته ناعسة، و دنا منها بعض الشيء، فاجأتها حركته، و تجمدت بمكانها، للحظة فكرا في الشيء ذاته، ماذا لو جمعتهما قبلة؟!
غير أن يوري أجلى حنجرته عن عمد حتى يطرد ذلك الخيال قبل تحققه، و يسترعي إنتباههما، تورد وجه روما مشيحة عن قسمات مايلس الجميلة، و سمعت يوري يعلن قبل أن يختفي داخل الغرفة الخلفية و يتخذ السلالم نحو الشقة العلوية لنيل قسط راحته:
“لا تنسي إغلاق المقهى حين يغادر رفيقك!”.
ذُهِل مايلس لغرابة تصرفات صاحب المقهى، لا سأل عن علاقته بروما، و لا أبدى حتى رغبة في التعرف عليه، هل هذا وُدٌّ زائدٌ أم شيء آخر لا فكرة له عنه؟!
لكنه لم يشغل باله كثيرا بذلك، فقد كانت الفتاة البسيطة التي تجالسه بعقلها التقليدي أكثر جاذبية من أي شيء آخر في العالم، و لو أن أبناء الميغا رأوه الآن بقرب فتاة مثلها يحتسي شرابا يابانيا و على وجهه تعبير الفتى الأبله… لقتلوه في أرضه!
إنهمك معها طوال الليل في أحاديث متشعبة، و دارت كؤوس الساكي بين أصابعهما أكثر مما دار رقاص الساعة على الجدار، و كان متوقعًا ليوري أن يستقظ صباح هذا اليوم و يجد الشابين في مكانهما، يرخيان رأسيهما بشخير مسموع على سطح المقصف، و حولهما كؤوس فارغة لا تزال محتفظة بعطر الساكي المخمر!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
منزل إدريك…
4
أنهى حمامه بفتور، لفَّ خصره بمنشفة غطت نصف جسده السفلي فحسب، و سار عائدًا لغرفته، حيث يستطيع تجفيف نفسه، و إنتقاء واحدة من بدلاته الأنيقة، إستعدادا ليوم آخر في هذا العالم اللعين، لكنه لم يتمكن من ذلك، إذ ترددت صرخة مأتاها من داخل البيت… من غرفة سيريا بالتحديد!
نسي إدريك أنه شبه عارٍ و هو يندفعُ بشراسة خارج غرفته، نسي أن آخر موقف جمعه بإبنته المتبناة كان غير طيب مثل كل مرة، و كان كل ما يفكر فيه أنها في خطر، حسنا، حقيقةً… علاقتهما كارثيَّة مقارنة بأي أب و إبنته، لكن الجميع يشعر بشيء قوي بينهما، شيء لا أحد يفهم كُنهه؛ و لا حتى هما!
كانت سيريا في لباس النوم أيضا، تجلس على حافة سريرها رافعة قدميها النازفتين، حين هجم إدريك على الباب، و دلقه بعنف، وقف وسط الغرفة مقلبا رأسه يبحث عن المهاجم اللعين، لكن… لم يكن هناك سواها، نظر بعصبية لدمائها، و للحظة فكر أنها كسرت غرضًا ما و داست بحماقة على شظايا الزجاج، كان على وشك توبيخها، و ما إن خطا نحوها حتى لمح بجانب السرير شيئًا لم يرَ مثله من قبل!
“ما اللعنة التي أراها؟”.
لم تجبه سيريا، بل لم تستوعب أنه إقتحم غرفتها شبه عارٍ، لأنها كانت مأخوذة بما كُتِبَ على الأرضية بأشواك الزهور الحادة:
«أعرفُ سِرَّك الصغير!»
تذبذبت سيريا بين فحوى الرسالة و الطريقة العنيفة التي كُتِبت بها، و لماذا في غرفتها تحديدًا؟ فلا أسرار تخفيها عن أحد… سوى عشقها المهووس لأبيها المتبني!
أما إدريك فقد بدأ العرق البارد يلف جسده و يبلله أكثر، لأنه أدرك بوضوح أن الرسالة موجهة له هو دون غيره، و تُرِكت عن عمد في غرفة سيريا، لأن السرَّ الذي يكتمه… لا يتعلق بسواها!
5
“اللعنة!”.
فرَّت شتيمة عنيفة من بين شفتيه، فسألته سيريا مدارية ألمها من الأشواك التي داست عليها:
“ماذا يعني هذا؟ من اللعين الذي يمكن أن يتسلل إلى غرفتي و يترك أشواكًا بهذه الحدة؟”.
باغتها بنظرة قاتلة، فبدأت بنزع الأشواك من قدميها بوجه متموج ألمًا، و تابعت:
“لماذا أنتَ صامتٌ هكذا؟ أرى من رد فعلكَ أنكَ تعرف جيدا من المرسِلُ، هل هذا تهديد من عائلة الليونز؟ هل يلوون ذراعكَ بشكل ما؟ أخبرني فقط ما الذي يستخدمونه ضدك؟ ما هو هذا السر؟”.
تمكنت من نزع آخر شوكة مع آخر كلمة نطقتها، و آنذاك كان إدريك قد فقد هدوءه، أمسك ذراعيها و هزَّها بعنف محذِّرًا:
“لا تحاولي أن تسأليني عن هذا أبدًا يا سيريا، فقد يسبب لكِ الجواب لعنة لن تتخلصي منها لبقية حياتِك!”.
تنفس كلاهما بقوة، ثم لاحظا في نفس اللحظة أنهما ليسا في المكان و الشكل المناسبين ليخوضا أي نقاش أو مجادلة، منظرها و هي في ملابس كاشفة و حميمة جعل شيئًا قويًّا يتحرك داخله، و من جهتها سقط نظر سيريا لعضلات بطنه المنحوتة و التي يغزو نهايتها شعر طفيف أكسبه مزيدًا من الرجولة، فازدردت ريقها، بينما كان عقلها المهووس يفترض خيالات و خيالات، لكن أيا من تلك الخيالات لم يتحقق!
1
أفلت إدريك ذراعيها، و تأكد بحركة سريعة أن المنشفة لا تزال حول خصره، ثم شملها بنظرة لم تجد لها معنى، و إستدار على عقبيه ليغادر الغرفة، شعرت أن مواطن لمساته تحترق كلما إحتكَّ بها الهواء، إنهارت جالسة بصمت، شيء يعتصر قلبها، تبا! هي تعرفه! تعرف ذلك الشعور القاتل! تعرف كم يعشقه قلبها اللعين! تعرف أن لا حل لذلك العشق سوى الفناء! تعرف أنها لا تعشقه فحسب، بل تحيا بذلك الشعور، و تجد من خلاله معنى لوجودها!
داخل غرفته… فتح إدريك الخزانة بغضب لينتقي البدلة اللعينة، لكنه لم يستطع نسيان منظر قدميها النازفتين، أغمض عينيه بقوة، و في اللحظة التالية رأته سيريا يقف على بابها مجددا، حول خصره نفس المنشفة، و ما تبقى من جسده عارٍ، لكن كانت معه هذه المرة حقيبة يحمل بها عادة أغراض الإسعافات التي قد يحتاجها كطبيب!
3
كانت لا تزال بثياب النوم الحميمة، جالسة على السرير و هي شاردة برسالة الأشواك الغامضة، فإقترب و أمرها بجفاف:
“تمدَّدي و إرفعيهما!”.
1
“أرفع ماذا؟”.
سألت بغير تركيز، فأجاب بإقتضاب:
“ساقيكِ اللعينتين يا سيريا!”.
كادت تنفجر ضحكًا لأن هذا يبدو مشابها لشيء آخر في خيالها، فقد راودها ذلك الحلم لسنوات، أن يُداهم إدريك غرفتها بلهفة، و يأمرها برفع ساقيها لغرض المضاجعة لا التطبيب! سيطرت على نفسها، و تمدَّدت كما أمر، و فكرت أن تغمض عينيها حتى لا يذيبها منظره و هو على تلك الفتنة، و على ذلك القرب! إلا أن رغباتها فيه تمردت، و أجبرتها على تأمل كل إنش منه طالما هو ملكُ عينيها!
“سأضع قفلاً لنافذة شرفتك!”.
1
قال ذلك و هو ينهي معالجة قدمها الأولى، فأردفت بسرعة بينما تمنحه القدم الٱخرى:
“ضع واحدًا على نافذة شرفتكَ أيضا!”.
“ليس هناك داعٍ، لا يستطيع أي متسلل تجاوز بابي، لذا لن يصل إليكِ و يؤذيكِ أثناء نومكِ!”.
أنهى عبارته بثقة، و لم تشك سيريا في قوله، فالتسلل لغرفة إدريك مرادفٌ للإنتحار، على أن ذلك لم يكن ما رمت إليه، و ها هي تصحح له بصوت طغت عليه ٱنوثة لم تكشفها له من قبل، ربما لكونها مستلقية تحت بصره و لمساته بتلك المنامة الحميمة، و الحق أن ذلك يثيرها إلى حد كبير:
“ليس هذا ما قصدته يا إدريك، قصدتُ أن تكون أنتَ بعيدًا عن الأذى أولاً!”.
1
تشابكت نظراتهما لثوانٍ خاطفة، لمعت عيناها كأنها تؤكد له أنها تخشى عليه أكثر مما تخشى على نفسها! ركز إدريك بكل إدراكه في مداواتها، كان يدقق النظر في جلد قدمها الرقيق لعله يلمح شوكة ما لم تنزعها، و كانت هي ماضية في إفتراس جسده القوي بعينيها الجائعتين!
رغم أن لمسته الخبيرة كطبيب خلت من أي رقة أو حنان تبحث عنهما، لكنها منحتها رعشة لا تصدق، يكفي أنه لمسها، أجل يكفي ذلك القدر بالنسبة لها، يمكن أن تضحي بعمرها من أجل أن يستمر في طبع كفيه على جلدها، و لو بغير مشاعر كالتي تحملها له، إلى ذلك الحد هي… عاشقة!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيڤادا|مقبرة مهجورة خارج لاس فيغاس…
نفث دارك دخان سيجارته الأخيرة، فشكَّل حاجزًا ضبابيا بينه و بين القبر الذي يتأمله، قبل أن تسرق الرياح الباردة ذلك الضباب و تسافر به إلى مكان آخر.
سحق علبة السجائر الشاغرة بعقِب حذائه الأسود، و تمتم بصوت ينافس برودة أجساد المدفونين في جوف تلك الأرض:
“أنتِ غاضبة مجددًا لأنني لطختُ يدي بدماء جديدة… أعرف! لكن حتى غضبكِ لن يوقف كل هذا، حتى أنا لن أفعل! لا تنسي أنكِ كنتِ دائما تتفانين في عشق اللون الأسود، و ها قد أصبح إبنكِ كما تحبين، أسودًا حتى العظم، تماما مثل الإسم القاتم الذي إخترتِه له!”.
قرأ إسمها على الحجر للمرة الألف، و أضاف:
“إعذري سفاحًا مثلي لأنه لا يجيد الصلاة من أجلك، أعرف أنكِ تتفهمين هذا، لم أملأ قبركِ بالورود، ستتجاوزين هذا أيضا، لأنني جلبتُ لكِ جارة جديدة، أنا سيء جدا إذ أدفنُ ضحاياي بالقربِ منكِ، لكن فكرة ترككِ وحيدة هنا أسوء، أعرف أنهم ألعن من الشيطان، لكنهم حين يموتون يتطهرون من آثام البشرية، و حين يلتقون بكِ، سيدركون لأجل أي شيء كانت نهايتهم على يدي!”.
5
إنتهت سيجارته الأخيرة، و معها إنتهت الدقائق المعدودة التي تجمعه عادة بقبر أمه، إستقام نافثًا آخر سحابة رصاصية من الدخان، و تمتم ناظرًا لقبور كل من قتلهم سابقًا بما فيهم قبر مارغو الجديد:
“إشرحي لهم أنتِ، حدِّثيهم عن أسوَدِكِ الصغير!”.
أخذته خطواته نحو سيارته المركونة خارج سور المقبرة المتآكل لفرط قدمه، و قاد مباشرة بإتجاه فيغاس، بينما كانت أصابعه تشغل المسجلة الخاصة برهينته، جمع بفضل مذكراتها الصوتية ما يكفيه ليعرف من يكون غابريال اللعين هذا، و كان من حسن طالعه أن روكسان وصفت بيته بشاعرية مستفزة كما لو أنها رأته، و السر في أنها ترى الأشياء بروحها، لكنه سيحرص على ألا ترى غيره، سواء ظلت عمياء أو أبصرت، لن يكون رجل بحياتها سوى… دارك ريغان!
كرر سماع المقطع السابع بفكٍّ مشدود، و كان آخر مقطع على المسجلة:
«…تقول كايت عنه بيتًا عاديًّا للغاية، تصفه على أن صباغته الصفراء الباهتة تتماشى مع سكون الصحراء، قرميده الأبيض يشرح نفس الناظر، و لا يتكون سوى من طابقين فقط، نمرُّ كلانا من أمامه كل أحد، فهو لا يبعدُ كثيرًا عن الكنيسة، و تستغرب هي حين أخبرها أن بيت غابريال جميل جدا، تظنني لا أراه، بينما أراه بوضوح، و أرى من خلاله روح غابريال الراقية، و كثيرًا ما أطلب منها التوقف لأستنشق عطر الورود التي يزرعها بنفسه في حديقته الصغيرة!»
أوقف دارك السيارة بعنف، و هذه المرة لم يكترث لركنها وفق قوانين المدينة، لماذا سيكترث لأي شيء خارج عن قوانينه الخاصة، و قوانينه توجهه الآن نحو محو المدعو غابريال من على وجه البسيطة، و قريبًا… سيمحوه من ذاكرتها أيضا!
لم ينتظر تغير لون الإشارة الحمراء، لا وقت يضيعه! و بينما قطع الشارع الكبير غير آبه بالسيارات المسرعة التي كادت تصدمه لولا إنحرافها في الوقت المناسب، كانت عيناه الداكنتان تبحثان بجنون عن جدران باهتة الصُّفرة يتوجها قرميد أبيض، و ما إن تعثَّر بها، حتى كشَّر، لأن رجلاً بمثل مواصفات غابريال خرج من الباب الأمامي للبيت نفسه، و الواضح أنه لا يملكُ سيارة، أو لعله من مفضلي السير، تماما كما يفضل سائرٌ في الظلام مثل دارك!
لاحقه لدقائق، و كانت نيته في البداية إزهاق روحه، لكن تلك النية تبخَّرت حين إنعطف غابريال إلى شارع أضيق، و دلف مكتبة، و باشر البحث عن كتاب موسيقي من أجل إثراء معرفة طلابه بالمعهد، في حين ظل دارك خلف زجاج الواجهة يراقب حركته البطيئة من رف لآخر، و يحاول فهم ما يجذب روكسان إليه، بماذا هي معجبة تحديدًا؟ بثيابه الخالية من السواد؟ بوجهه الوسيم؟ هي لا تبصر كل ذلك! نظر دارك للرفوف المتاخمة بالكتب، و حينها فقط تذكر ما قالته في إحدى مذكراتها الصوتية:
«من المؤسف حقا أنني لا أستطيع إقتناء كُتُبِ المكفوفين… راتبُ العزف في الكنيسة لا يكفي سوى لسداد تكاليف الدراسة في المعهد… و لإسكات مارغو… أعرف أنها قاسية و لا تحبني… لكنني لا أحمل ضغينة تجاهها… و ربما يوما ما ستُهديني بنفسها كتابًا أستطيع مطالعته… حين تدركُ كم أحبها و كم يحزنني أنها لا ترى حبي رغم قدرتها على الإبصار!»
دفع باب المكتبة، و دلف هو الآخر، ليس ليقتل أستاذ الموسيقى، بل ليطرح على أمينة المكتبة سؤالاً لم يكن ليتوقع أن يجري على لسانه يومًا:
“أريد كُتُبًا يمكن لعمياء قراءتها!”.
5
صحَّحت له الفتاة مبتسمة بودية:
“تقصدُ كُتُبَ البرايل!”.
“ماذا يعني هذا؟”.
كان ذلك جديدًا على السفاح ريغان، و بعيدًا تماما عن نمط حياته المألوف، لكن للصراحة، هدوء المكتبة راقه، وجد فيه شيئًا مشابهًا لهدوء المقبرة و الكنيسة… و روكسان! و دون أن ينتبه… نسي أمر غابريال الذي وجد كتابه المنشود و نقد البائع الواقف عند عند مقصف الدفع، ثم رحل!
“البرايل هي الكتابة التي يقرأها الشخص الكفيف سيدي!”.
تناولت من الخزانة التي خلفها كتابًا يدور حول الجغرافيا الأمريكية، و فتحت أول صفحة، ماضية في لمسها ليفهم مقصدها، ثم أضافت:
“يكفي أن يتحسَّسَ القارئ الكفيف هذه الحروف المنقوشة على الورق ليعي ما كُتِبَ هنا!”.
“أريد مجموعة كبيرة من هذه الكُتب!”.
قال دارك فورًا، فسألت أمينة المكتبة مرجعة كتاب الجغرافيا الأمريكية لموضعه:
“لكنك لم تحدد أي نوع منها سيدي، و الأهم… لأي فئة عمرية تريدها؟”.
“شابة عشرينية!”.
أجاب ثانيةً دون أن تحيد عيناه أو أن يرمش، فقد كان يتخيل روكسان في وجه الأمينة، عاودت هذه الأخيرة سؤاله بشكل أدق:
“ألديكَ فكرة عما تحبه هذه الشابة؟ هل تميل للتاريخ و الأساطير، أو لفقه الديانات، أو للفلسفة الوجودية مثلاً…!”.
1
بدت له الفتاة و كأنها تتحدث لغة أجنبية، الحق معه، كان عالم روكسان أجنبيا عنه، أو بالأحرى، كان هو العنصر الأجنبي… في تلك المكتبة… و في عالم رهينته!
إسترسل دارك في خياله متمتمًا:
“هي شامخة مثل الكنائس و مرهفة مثل الموسيقى… هذا ما أعرفه!”.
7
إبتسمت الأمينة معجبة بعمق وصفه، قائلة في قرارة نفسها أنه أول زائر لمكتبتها يملكُ ذلك الشكل الغامض و يقول مثل تلك الكلمات! هزت رأسها مفكرة و هي تُردف:
“حسنا، أتصور أن هذا النمط يفضل الكثير، لِمَ لا تهديها مجموعة متنوعة؟ سأنتقي لكَ كتاب برايل من كل نوع، و لا شك لدي أنها ستسعد بها و ستقدر لك ذلك!”.
لم يفكر دارك في رد فعلها، كل ما فكر فيه أنه يمنحها ما حرمت منه، و ستكون مجرد كائن لعين إن لم تمتن له!
4
حين دلف سيارته و معه الكتب، وضعها فوق المقعد الجانبي، و ضغط على دواسة البنزين ليتجه صوب محلات ٱخرى في المدينة تعنى بأغراض النساء، و للأسف… حين تعلق الأمر بالثياب و الأحذية لم يأخذ رأي الباعة، بل مضى يلتقط كل ما هو أسود و ضيق، ليتناسق اللون الحالكُ مع شعرها و عينيها، معزِّزًا بياضها، و ليبرز المقاس الضيق رهافة خصرها الناعم!
ثم حان دور العطور و الحلي، حتى أدرك آخر النهار أنه تأخر كثيرًا، ذكر نفسه أنه تركها بمفردها تعاني آلام دورتها الشهرية، و أعراض الحمى اللعينة، و لا ريب أنها تتضور جوعًا، و كم كانت نادرة تلك اللحظة التي بدأ يفكر فيها دارك ريغان كإنسان… لا كخاطف سفَّاح!
4
كانت الشمس قد غرُبَت و إنزوت خلف الجبال، حين إنطلق دارك يقود بسرعة على طريق العودة لكوخ الصخور، لكن أضواء خافتة في الأفق جعلته يبطئ إلى أن توقف تماما، لا يزال الكوخ بعيدًا، و ربما لن يصل قبل أن تصبح صحراء نيڤادا معتمة تماما، و هؤلاء الغرباء اللذين إحتلوا الطريق و أشهروا أضواء كشافات هواتفهم في وجهه لا يعقلون في أي ورطة أوقعوا أنفسهم، هكذا سيتأخر أكثر، و هذا لا يعجبه على الإطلاق!
كانوا سبعة أشخاص في البداية يسدُّون المنفذ الوحيد للسيارات في تلك الناحية، ثم إنضم إليهم آخرون، و باتوا يناطحون سقف الأربعين رجلاً، في أعمار مختلفة، و بأشكال متشابهة، بعضهم يتسلحون بعصي البيسبول و السلاسل الغليظة، و غيرهم عُزَّل يكتفون بحمل الهواتف التي تنير المكان بكشافاتها، لم يضعوا مائة وشم مثله، و لم يرتدوا جميعا الأسود فقط كما يرتديه هو، لكنه حين ترجل من سيارته و شملهم بنظرة سريعة، أيقن أنهم أفراد عصابة شوارع جُدد، مجرد حمقى!
دقق النظر في وجه أحدهم، الذي إتسم بسحنة داكنة و رأس صلعاء، تذكر أنه رآه من قبل في الصُحف، و كان مطلوبا للعدالة مقابل مبلغ مرتفع من المال لأنه قام بعشرات عمليات السطو مع أشخاص مجهولين، و قتل أزيد من ستة عشر امرأة بعد إغتصابها بطريقة وحشية، أغمض دارك عينيه متذكرًا مشهدًا عنيفًا من الطفولة، لكنه سيطر على رغبته في القتل آنذاك، فهو يرفض أن يطيل البقاء خارج الكوخ أكثر، سيكتفي بتحذيرهم الآن!
“أخلوا الطريق!”.
أردف أحدهم بسخرية:
“لِمَ لا نستبدل الطريق… بسيارتك؟ إخلاؤها و منحها لنا يبدو أفضل!”.
تشاركوا ضحكات صاخبة بدت له خطأ فادحًا في حق صبره، فومضت عيناه بشكل لم يفهموه، و قال:
“كما تريدون!”.
تشاركوا هذه المرة نظرات صامتة، دون ضحكات، ليس إثر ما قاله، بل إثر ما رأوه يلمع على صدره و هو يفتح سحاب سترته و يبحث عن شيء ما في جيوبه الداخلية، كان أحدهم ضليعًا في الحلي، لذا عرف على الفور أن قلادة الصليب التي برزت و راحت تتدلى فوق صدره ليست عادية أبدًا، أقسم لرفاقه أنها نادرة و باهضة الثمن، و أنه سبق و رأى قطعة تشبهها تُباع في السوق السوداء بمبلغ خيالي، مبلغ يمكن أن يشتروا به متحف سيارات بأكمله!
عندها إبتسم صاحب البشرة الداكنة بخبث، و تقدم الآخرين خطوة باتجاه دارك مصرِّحًا و هو يستخرجُ خنجرًا:
“لن نخليَ الطريق… حتى نتسلَّم القلادة التي معك!”.
كأنه قال سلمنا رهينتك العذراء، كأنهم و بصوت جماعي طالبوا بروكسان للتو، لم يسبق أن إسودَّت عيناه إلى ذلك الحد، إرتعد أنفه نرفزةً، و كشَّرَ ساحبًا مشرطه الدقيق من بين ثيابه و هو يردفُ بصوت حمل ما هو أكثر برودة من صقيع الليل في الصحراء:
2
“إذن… مزِّقوني أولاً!”.
في لمح البصر بدأ أفراد العصابة بالإلتفاف حوله، يتوقعون له شرَّ هزيمة، لكن دارك وضع كل شيء على المحك كي يحتفظ بالقلادة، مهما كان الثمن! صعقهم بحركات قتالية لم تكن في حسبانهم، و أسقط أكثر من نصف عددهم في وقت قصير، ثم بدأ عددهم يتضاءل إلى أن بقي فقط رجلان، أحدهما كان ذو البشرة الداكنة، و الواضح أنه الأقوى بينهم، تقدم نحوه الآخر واثبًا يستخدم سلسلته الفتَّاكة، إلا أن مشرط دارك كلَّفه الكثير، فقد وثب في اللحظة ذاتها، و عقر عنقه بسرعة أدهشت رفيقه و أثارت سخطه، لفظ أنفاسه أمام عينيه، مثل سابقيه، حينها جن جنونه، و إزدادت رغبته بإنتزاع القلادة من رقبته، و باتت المعركة بين رجلين، على أحدهما أن يموت!
كان دارك مغلَّفًا بدماء رجال العصابة اللذين خسروا حياتهم على يديه، و مغلَّفًا بدمائه أيضا، فقد نجح بعضهم في إصابته بأسلحتهم البيضاء، إلا أنه نجح ببراعة و خفة في تفادي الإصابات القاتلة، لكن بالحديث عن آخرهم… فقد كانت التجربة أشرس… و أعنف بمراحل!
كان خصمه يستخدم خنجره إضافة لسلسلة رفيقه الذي فطس قبل قليل، و مع ذلك لم يتمكن من القضاء على دارك، خسر كل عصابته، و رغم كل ما غامر به… رأى أن القلادة تستحق، و أن حاملها اللعين أصعب خصم نازله في حياته، حتى أنه شعر بإرتجاف قلبه الواضح حين كاد دارك يغرز مشرطه في جمجمته، لولا أنه إنحنى بمرونة، ثم تدحرج بعيدًا يلتقطُ أنفاسه، تراجع دارك نحو سيارته لاهثًا، فظن الآخر أنه سيلوذ بالفرار، و هكذا سيخسر فرصة الحصول على القلادة، لذا ركض بنيَّة منعه، و آنذاك أيقن دارك أن عقله الذكي هو أقوى أسلحته، فقد فتح باب السيارة بسرعة ليصطدم به مقاتله و يتكوَّر أرضًا، مفلتًا سلاحيه ليمسك بدلاً منهما فكَّه المكسور! و قبل أن ينهض ثانيةً، و يستردَّ ما سقط منه، إنقضَّ عليه دارك كنسور الصحراء الجائعة، و إنهال فوقه باللكمات المتوحشة، عبثًا حاول الآخر حماية نفسه بيدين عاريتين، زحف بعجز يتمسك بمقعد السيارة، و كادت يده الملوثة بالتراب و الدم تلامس كُتُبَ روكسان، لكن دارك إلتقط خصمه قبل حدوث ذلك التلامس، و لم يرحمه رغم ثقته أن نهايته الموت بكل الأحوال، أهداه لكمات ٱخرى أعنف محت ملامح وجهه و هو يصرخ بجنون:
“لا أحد يضع عينه على ما يخصُّني! و روكسان بكل ما يعنيها تخصُّني… تخصُّ دارك ريغان فقط!”.
31
حين شفى غليله منه، رمى به وسط الطريق متعمدًا، إمتطى السيارة و لهاثه لا يزال مسموعا، نظر لإنعكاس الصليب اللامع في المرآة الصغيرة أمامه، و إنطلق بأقسى سرعة ممكنة، لينتفض هو و كل ما بسيارته فور دهسه لجثة ذاك الأرذل اللعين، فرمل كازًّا على أسنانه مُصِرًّا على معاودة الكرَّة و دهسه ثانيةً ثم ثالثةً، ثم وجد لهاثه يخف، و أعصابه تسترخي حين تابع مسيرته وسط سكون الصحراء، و ما إن لمح قرميد كوخه يبرزُ من بين الصخور العملاقة التي تسيجُه، حتى بدا له و كأنه تركه منذُ سنوات!
3
خلع سترته و قميصه رغم برودة الطقس ليلاً، و أزال بهما الدماء عن يديه جيدًا، فإن هو حمل إليها الأغراض التي إقتناها… لا تتلوث!
سمعت روكسان صوت عجلات سيارة تقترب، ثم تفرمل و تتوقف، كانت قد إستيقظت بعد الظهر، و تناولت حبة الدواء و القهوة، ثم أجبرت نفسها على الحبو إلى غاية المطبخ، أين أمضت قرابة الساعة تبحث عن شيء يؤكَل، لكنها إكتشفت أن دارك تخلص من الحساء الذي لم يرُق لها، و هكذا خاب أملها في إسكات صرخات جوعها، كانت بحاجة لتناول أي شيء مهما كان مذاقه سيئًا، فهي تفقد خلال دورتها الشهرية الكثير من الدماء، و لا بد لجسدها أن يحصل على تعويض في المقابل، و الآن… ها قد عاد خاطفها بعد تأخره المحيِّر، و لا فكرة لديها عما سيفعله بها إن قبض عليها تتجول بحرية في مطبخه، لكن دارك حين إكتشف ذلك، رفع حاجبيه في البداية مندهشًا، ثم إبتسم واضعًا مجموعة الكتب و بقية الأكياس على أريكة غرفة المعيشة، و أشار إلى علبة بيتزا كانت آخر ما إشتراه من المدينة، و حاول أن يقود بسرعة لتستطيع تناولها دافئة، قبل أن يصادفه أولئكَ الأرذال و يتسببوا بتأخره!
“اللعنة… لقد فقدت حرارتها تقريبًا!”.
2
لم تفهم روكسان ما الذي يفعله هذا الرجل المجنون، هل وضع في الحسبان ما قالته حين عبرت عن مقتها للأشياء الباردة؟ هل يريد زعزعة كرهها له أم أنه حقا فكر بما تحبه؟ لا يعقل! هو خاطفها! هو مجرد قاتل مريض لا يملك ذرة شعور ليفكر فيها و يرأف بحالها؟ لكنه… لكنه إعتنى بها في أكثر لحظات المرأة إحراجا، حممها مرارا و تكرارا، حماها من آلام الدورة بإحتضانه لبطنها طوال الليل، و ترك لها دورق القهوة دافئا و حبة المسكن هذا الصباح، كيف يجدر بها أن تفكر فيه؟ كيف يجدر بها أن تتصرف مع رجل مثله؟ كيف تستطيع فهمه؟ و بصياغة ٱخرى… هل يفهم هو نفسه؟ هل يدرك أنه يعتني بالفتاة نفسها التي توعدها بإنتهاك حرمة جسدها و إنهاء حياتها ثأرًا لأمه؟
بعدما أقنعها بالجلوس إلى الطاولة إنتظارا للعشاء، وضع دارك قطع البيتزا خاصتها في الفرن كي تحصل على بعض الحرارة، أما خاصته، فلم يمانع تناولها كما هي، سألها بشكل طبيعي كيف تشعر الآن، فأجابته أنها أفضل حالاً، و سألته بدورها أين أمضى النهار، فجاء جوابه في نبرة هادئة:
“أتبضَّع لفائدتكِ يا بلائي!”.
6
صدمتها إجابته، أو بالأحرى لم تصدقه، سفاح يتبضع من أجل رهينته؟! من الأحمق الذي يمكن أن يصدق مزحة كهذه؟
“أهكذا يمزحُ أمثالك؟!”.
إستقام دارك ليرفع صحنيهما عن الطاولة، لكنه و بسبب الهجمات العنيفة التي خلفها عليه الصراع مع عصابة الشوارع تلك… فقد توازنه، و سقط دفعة واحدة غائبًا عن الوعي، محدثًا إرتطامًا عنيفًا بالأرض، إرتجف قلبها و هي تسمع ما سمعته، نادته بقلق، ثم بخوف:
1
“ماذا هناك؟ ما هذا الصوت؟ أنت… أيها القاتل ريغان! هل أوقعتَ شيئًا ثقيلاً؟ هل أنتَ… على ما يُرام؟ دارك! دارك! لماذا لا تجيبني؟”.
2
تركت مقعدها رافعة يديها في الهواء تعتقد أنها ستبلغه و ستلمسه، و ستجد أنه كما هو… بخير، لكنها تعثرت بشيء ما… دافئ، إعتدلت و تحسست ذاك الشيء، فشهقت مكممة فمها، إذ لم يكن ما لمسته إلا جسده الهامد!
كان أول شيء قامت به هو تحسس صدره بحثًا عن قلبه، لتتأكد من إستمرارية نبضه، لكنها وجدت النبض ضعيفًا جدا… و وجدت معه أيضا… شيئًا باردًا لم تنسَ ملمسه حتى بعد حرمانها منه لأشهر… قلادة الصليب خاصتها!
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)