روايات

رواية لحن الأصفاد الفصل السابع 7 بقلم أسماء

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية لحن الأصفاد الفصل السابع 7 بقلم أسماء

 

 

البارت السابع (سجينة الظلام!)

 

 

 

❞لا تظن صمتي ضعفًا؛
السافل الذي بداخلي نائم و ليس ميت!❝
15

┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيفادا| كوخ الصخور
الثامنة صباحًا…
1
و بينما كان دارك يدير المفتاح في القفل، إلتقط صوت شخص ما ينتحب على بعد أمتار من مكان وقوفه، كان صوت روكسان، و يفِدُ كما هو متوقع من غرفتها المقفلة منذ سفره، هذه عودته من الرياض، و هذه بدايته مجددا في صراعات الكبرياء و العناد مع تلك المصيبة اللعينة!
4
شتم دارك في أعماقه متسائلاً أي مخطط ترسمه الآن لتلوذ بالفرار من سجنه، أغلق باب الكوخ بعدما دلف، و خطا بهدوء متتبعا النحيب المسترسل بقوة فيما كان كلبة الحراسة خاصته «إيجا» تتبعه و تدور حوله بلهاث كأنها تحاول إخباره بشيء مهم، حتى وجد نفسه يفتح باب غرفتها و يلقي نظرة، كان قد ترك كل الأبواب مقفلة بمفاتيحها، بما أن الشبابيك كانت مسيجة بشكل مبالغ فيه، فقد بدت غرفة رهينته لوهلة كزنزانة حقيقية، و تعذر عليه رؤيتها بوضوح وسط تلك العتمة، غير أنه أمعن النظر و إقترب خطوتين، ليدرك أنها و للعجب نائمة!
4
كانت روكسان مستلقية على سريرها شبه ميتة، كجثة هامدة، و لولا نحيبها و إرتعاش جسدها… لأقسم أنها فارقت هذا العالم، صدرها يهتز في شهقات متواصلة مزقت هدوء الغرفة، و يداها المصفدتان تقبضان بشدة على الفراش تحتها، أسنانها البارزة تعض شفتيها المرتجفتين بين فينة و ٱخرى، و دون أي كلمة تخرج من حلقها، ظلت تبكي حتى إستفزت أعصابه!
5
“ما اللعنة التي بك؟”.
لو أنها كانت في وعيها آنذاك، فمؤكد كانت ستصرخ به و تجيب: «لا لعنة بحياتي غيرك!»، و الغريب أن دارك أراد سماع ذلك منها، أراد أن تلعنه بشكل ما، أن تخرج عن صمتها المثير للريبة و تنطق بأي شيء كما تعود عليها، لكنها لم تصرخ، و لم تتكلم حتى، بل واصلت البكاء فقط، كأن الدموع و الشهقات هي لغتها الوحيدة المتاحة، أو كأن ما يملأ صدرها الآن أكبر و أفظع من أن تتحدث به!
1
نال دارك كفايته، فهو لم ينم منذ الليلة الماضية حين سافر إلى المملكة السعودية، و ها هو يعود أيضا عقِبَ لقائه بإيسميراي تايغرز دون أن يضيع لحظة هناك، لذا قرر أنه ليس في جوه المناسب ليشاهد الآن إحدى مسرحيات إبنة فارغاس اللعين، ثم إن صوت البكاء الضعيف هذا يذكره بأشياء لا تروقه، بأنها الضحية و بأنه الوحش، و يبدو أن هذا الإدراك و لسبب غريب مؤخرًا بدأ يزعجه! و في وثبة خاطفة جعلت الكلبة خلفه تتحفز و تنبح بصوت قوي، هجم على السرير، و أمسك كتفيها بقسوة صارخًا:”كفى! إخرسي! حركات العذراء المعذبة لا طائل منها، لن تستدرجيني للشفقة عليكِ بهذه التمثيلية، فأنا و الشفقة متنافران، ٱكتُمي صوتكِ اللعين… أو سأكتُمه بنفسي و للأبد!!”.
6
إستغرب دارك أن ما يتفوه به هو في الحقيقة أبعد ما يكون عما يريد فعله، تلك النزعة المجنونة للإنتقام منها، تلك النشوة التي كان يشعر بها حين تخطر له أفكار سادية ينفذها عليها، و ذلك المشهد الذي ينتظره بفارغ الصبر حين يفترس جسدها الطاهر أمام عيني والدها الوغد، كل تلك النوايا و الخواطر التي تقاذفتها أعماقه لأشهر أضحت شفافة و تكاد تغدو كالعدم في عقله الآن و هو ينظر إليها و يلمسها كما لو أنه يفعل ذلك للمرة الأولى، كأنما لم يعد هو السفاح الذي يعرفه في نفسه، و كأنما لم تعد هي الرهينة التي إختطفها من على الرصيف ذات يوم، كأنما محت صورتها تلك من ذاكرته، و أعادت رسم نفسها فيه بطريقة مختلفة تماما، بالبكاء! أمسك صوته و غضبه مُتأملاً وجهها الذي أغرقته الدموع و حبيبات عرق غريبة كانت تولد آلافا و تزحف على جلدها بشدة لتهوي إلى ملاءات الفراش تحتها، و هنا بدأ دارك يستنتج شيئًا فاته أن يقرأ له حسابًا، مرر يديه ببطء على كتفيها و ذراعيها ثم صعودًا إلى عنقها و جبينها، موقنًا أن حمى خطيرة كانت تفترسها دون رحمة، و هذا يؤكد أن نحيبها القوي لم يكن سوى هلوسة عرضية!
9
لم يكن هناك حصرٌ لعدد الشتائم و اللعنات التي كرَّرها بعد إكتشافه ذاك، ماذا كان يلعن بالتحديد…؟ تركه إياها طوال الليل تعاني أعراض الحمى و سفره إلى أبعد مكان عنها؛ أم إهتمامه بأمرها من الأساس؟ أم هو يا تُرى يلعن شيئًا آخر يجهله؟ حتى هو لا يعرف! و اللعنة إن أراد أن يعرف! عليه ألا ينسى أنها رهينته، هي قطعة من ذلك القذر داجيو، قطعة لعينة عليه الخلاص منها و من منجبها في أقرب فرصة، لكنها يجب أن تكون في كامل وعيها حين تأتي تلك اللحظة العظيمة، و لهذا سيفعل أي شيء الآن كي تُشفى!
8
بعدما حررها من الأصفاد و قرر ألا يعيد تعصيل عينيها، غيَّر دارك ثيابها الرطبة بٱخرى نظيفة و جافة، و بدأ بوضع كمادات على جبينها لتخفيض الحرارة، ثم إنتقل إلى حل آخر لتبريد جسدها المشتعل حرفيا، فوضعها عارية داخل حوض الحمام، و أبقى ستائر نوافذ الكوخ مسدلة لتمنع أي حرارة من الوفود، ثم فكر أن تمرير قوالب ثلج على باطن قدميها سيفي بالغرض، لكن ذلك كله لم ينجح في جعلها تتحسن، فلجأ لآخر فكرة يمكنها أن تنقذها!
4

لاس فيغاس| شارع فرعي غير معروف…
العاشرة و النصف قبل الظهيرة
كان مايلس يدخن سيجارته الثالثة في ذلك الصباح عندما مر من أمام مكتبة صغيرة و هو يفكر، لحسن حظه أن ذلك الشارع كان قليل الحركة نوعًا ما، و هكذا هي عادة شوارع لاس فيغاس في وقت باكر من النهار، فالصخب كله يستيقظ ليلاً و يبدأ بالتلاشي مع بزوغ الفجر، كان له سلوكه المميز و الغريب، يحافظ على مظهر الفتى المعذب الذي يعيشه أغلب الوقت، لكن السفاح الذي داخله دائم الصخب أيضا كليالي المدينة الضوضائية، و لا ينفكُّ يطلب من نسخته المهذبة سيجارة و بعض الإثارة!
2
نظر لإنعكاس صورته على زجاج واجهة المكتبة معدلاً بأصابعه تصفيفة شعره التي عبثت بها بعض النسمات، و إستمر خلال ذلك بالتفكير، على كل الإثارة تنتظره هذا المساء في سباق الفورمولا المنتظر، و ها قد حصل على سيجارتين أيضا منذ وقت قريب، و يكاد ينهي الثالثة، لكنه لم يتمكن من إنهائها، فقد أفلتت من بين إصبعيه، و سقطت أرضًا، و دحرجها الهواء ليدوسها عجوز عابر دون أن ينتبه، فيما كان صاحب السيجارة الشاب متجمدًا بمكانه ينظر شاخص العينين فاغر الفم لشيء ما خلف إنعكاسه على الواجهة الزجاجية، أو بالوصف الدقيق… من تقف خلف الواجهة دون أن تلاحظ عينين تمشطانها بتركيز من الخارج!
1
لم تكن الفتاة التي لمحها في الداخل جذابة كفاية لتجعله في تلك الحال، فكثيرات في تلك المدينة يفُقنَها جمالاً و أناقةً، بل لم تكن حتى تتميز بأي شيء عن أي فتاة رآها قبلاً، لكنها و بأغرب الطرق على الإطلاق سحرته، كيف؟ لماذا؟ و هل هذا طبيعي؟ هو لم يعرف و لم يكترث! و لم يمنح نفسه فرصة كي يحلل ما يحدث له، فقط إستسلم لجسده، و تحرك صوب مدخل المكتبة كرجل آلي، دفع البوابة الزجاجية الصغيرة، و قادته ساقاه إلى الداخل!
تجاهل الموظفة التي سألته بإبتسامة واسعة إن كان بمقدورها مساعدته في البحث عن كتاب ما، فقد بدا لها غير مألوف، و أنها تجربته الٱولى في تلك المكتبة، و بينما كانت الموظفة ترمقه من الخلف بحيرة، واصل مايلس تقدمه صوب قسم التاريخ الأمريكي القديم، إلى حيث لا زالت تقف تلك الفتاة فوق سلم مزدوج يستعين به رواد المكتبة للوصول إلى الرفوف البعيدة!
توقفت خطواته قرب السلم، و رفع بصره أكثر كي يحظى بنظرة أقرب و أدق لوجهها، و ليته لم يفعل، لأنه علق أكثر بتفاصيل حجبتها عنه واجهة الزجاج من قليل، كيف كان الشامة أسفل ذقنها، و تلك الرموش الطويلة التي تتمتع بها عيناها اللتين لم يحدد بعد لونهما لأنها لم تنظر نحوه، لم تكن شفتاها مكتنزتين و ليس عليهما أي أثر لأحمر شفاه أو مرطب شفاف حتى، و حين أزاحت خصلة طويلة من شعرها الأشقر القصير، تبين أنها لا تضع أي زينة على وجهها، إستمرت الفتاة في البحث عن المزيد من الكتب على ذلك الرف المرتفع، و كانت قد حملت ما يكفي من المجلدات الثقيلة على أحد ذراعيها، لكنها لم تقرر النزول، فيما إنتقل مايلس من مطاردة ملامح وجهها، إلى تمشيط قوامها و ملبسها العاديين.
لاحظ أنها ليست نحيلة كما يفضل الفتيات عادة، لكن هذا لا يعني أنها تعاني من السمنة أيضا، ببساطة، إمتلكت تلك الفتاة قوامًا بضًّا مع قامة طويلة فجعلها تبدو رشيقة هيفاء تحت ثيابها الواسعة التي لا تشف إنحناءات جسدها و تفاصيله، و مع حذاء رياضي أبيض يبدو أنها ترتديه بكثرة لشدة إنمحاء علامته التجارية الصغيرة، و سترة مفتش الشرطة الطويلة كاكية اللون التي طوت كميها إلى المرفقين، و التي و لا بد تعتبرها أهم قطعة في طقمها العشوائي!
أيقن أنها من النوع المثقف الممل، و تناسب تماما ما يرتديه هو، لكنها لم تكن تناسب و بأي شكل من الأشكال رجلاً من منظمة الويد السوداوية، و هل ذكره السفاح داخله بذلك في تلك اللحظة؟ كلا! هذه المرة، تحكم الشاب المهذب بالموقف، و سيطر عليه، مقررا أن يتمسك بهذه الشابة المملة، و أن يصبح جزءً من حياتها الرتيبة مهما كان الثمن!
2
و بينما كان مايلس يعقدُ العزم على ذلك، حركت الفتاة مجلَّدًا قديمًا لم يُلمَس منذ أشهر على ما يبدو، و حين لاحظت أن الغبار ملأ يدها، نفخت عليه كعادتها، مما جعل ذرات من ذلك الغبار تهوي و تبلغ أنف مايلس الذي كان لا يزال في الأسفل يراقب المشهد ببلاهة لم يعهدها في نفسه من قبل، الأمر الذي دفعه إلى العطس بقوة، فسبب ذلك الصوت المفاجئ للفتاة صدمة، لأنها ظنت أنها الوحيدة التي تتواجد في ذلك الركن من المكتبة، إختل توازنها، و حاولت أن تثبت جسدها على السلم، غير أن الأوان قد فات على ذلك، و كان من المستحيل أن تبقى متمسكة بالكتب و المجلدات الثقيلة، فتركتها تسقط متتالية لتحدث جلبة قوية و زوبعة غبار غير مسبوقة، شاعرة و هي ترتجف مغمضة عينيها أنها هي الأخرى ستحظى بنفس المصير، و تصبح جزءً مزريًا من تلك الفوضى العارمة!
و بالفعل سقطت و لم تعد تشعر بشيء ثابت تحت قدميها، لكن بدل الإرتطام المؤلم بالأرض، أحست و كأنها تسقط بين ذراعي شخص ما، مرت عليها لحظات ذعر و صعوبة في التنفس، قبل أن تتمكن من فتح إحدى عينيها ببطء، مستطلعة، لتتبين وجهًا شابًّا يبتسم لها بهدوء، و يردد:
“قبل أن تُحلِّقي إلى الماضي تأكَّدي أن أجنحة حاضركِ ثابتة… فكلما إرتفعتِ أكثر… كلما كان سقوطكِ أخطر!”.
3
لم تكن كلمات ذلك الشاب وحدها هي التي قيدت لسانها و أظهرتها بمظهر الحمقاء أمامه، فوسامته شلتها حرفيا، لم يسبق أن وقع بصرها على من هو أجمل منه، لم ترَ له شبيهًا في الواقع و لا خلف شاشات السينما، و لا حتى بأحلامعا، و الشيء الوحيد الذي خطر ببالها حين كانت تتأمله متعثرة بعينيها على وجهه… هو كتب التاريخ المصورة، كان أشبه بتماثيل إله الجمال في أساطير الإغريق القديمة و اللوحات التي جسدت أوصافه، و دون أن تعقِل ما الذي سيجري على لسانها، فكرت بصوت مرتفع، و تمتمت بذهول:
“أبولو…”.’¹’
4
“عفوا!”.
أدركت حماقة ما تفوهت به، فتداركت بخجل:
“المعذرة! لكنك… تشبه الإله الإغريقي إلى حد مدهش!”.
قالت ذلك، و ضمت شفتيها لبعضهما كالأطفال قبل أن تعدل من وضعية نظاراتها و تفرك مقدمة أنفها مضيفة بخفوت:
“أبولو…”.
“هل هذا يجعل منكِ في المقابل… كورونيس’²’ عشيقة أبولو؟”.
7
إحمر وجهها مما سمعته، فتحركت باضطراب لتذكره بأنه يجب أن يضعها أرضًا، بينما كان عقلها معجب بمعلوماته حول التاريخ، هل يزور المكتبات بكثرة أيضا؟ هل يعاني من هوس السهر و قراءة ملايين الصفحات القديمة مثلها؟
──────────────────────
‘¹’ أبولو: هو إله الشمس و الطب و الرماية و الجمال و الرجولة الخالدة في الميثولجيا الإغريقية.
‘²’ كورونيس: هي أميرة بشرية تُعرف في الأساطير بأنها عشيقة أبولو، و في رواية ٱخرى قيل أنها زوجته.
──────────────────────
“يبدو أنكَ طالب تاريخ!”.
هو طالب تاريخ؟ هذا لن يكون رأيها إن رأته ليلة أمس يقتلع قلب رجل أعمال بيديه لأنه فقط أخذ مناقصة مهمة من عائلة ليوني (إحدى عوائل المونسترز)…
7
رفع مايلس حاجبه، و رد بمرح:
“أيبدو ذلك حقا؟”.
ركزت على اللون الفريد لعينيه المنحرفتين إلى الأسفل بشكل جذاب، و هزت رأسها مؤكدة له إصرارها على رؤيته كطالب في قسم التاريخ بإحدى كليات فيغاس، لكنه صحح لها بطريقة كوميدية:
“كان بودي أن أكون ذلك الطالب المهووس بالماضي الذي تخيلته، لكنني للأسف… متسابق فورمولا عصري و مجنون!”.
3
رغم أنها من النوع الهادئ، لكنها إنجذبت لتلك الحياة الصاخبة، تصايح الجماهير الفائرة من حوله، و تباهيه في مضمار السباق و هو يقود سيارته ببراعة، و الحفلات المثيرة التي تعقُب كل فوز عظيم، كل ذلك شدها بشكل يعجب له، و فجأة وجدت نفسها تسأله كم مرة فاز، و متى كانت أولى تجاربه في المضمار، ثم ذكرت نفسها أن هذا الشاب و منذ لحظات قليلة أنقذها من سقطة خطيرة، فبللت شفتيها معتذرة عن ثرثرتها السخيفة، و نبست مرتبة شعرها الأشقر:
“أنا ممتنة لك!”.
أجاب مايلس مدققا بخصلاتها و أصابعها الرشيقة و هي تنحني لجمع المجلدات و الكتب محاولة تكديسها فوق بعضها على إحدى الطاولات القريبة:
“لم أفعل ما يستحق ذلك!”.
مضى يساعدها في لملمة الفوضى، و هو يعقب بينما هي تسترق إليه النظر من خلف نظاراتها الشفافة:
“جنبتني كسر ظهري!”.
ردت بسرعة و هي ترفع رأسها نحوه بشكل أوضح، فإبتسم مردفًا:
“في هذه الحال، أنتِ مدينةٌ لي إذن!”.
إستغربت ذلك، لكنها إبتلعت ريقها و قالت مخفية توترها الغريب:
“أجدنُي كذلك حقا، هل تنتظر مني رد الجميل بشكل ما؟”.
قرر مايلس ألا يتجنب تلك الفتاة كما يملي عليه المنطق، فكر لثوانٍ، ثم إبتسم بعمق و قال مستغلاًّ الموقف على طريقته المفضلة:
“الليلة… الساعة الثامنة… حلبة «دريم ريس» للفورمولا… إنه سباق العمر بالنسبة لي… هل ستأتين؟».
1
و دون أن تعرف ما الداعي لتحضر سباق سيارات مجنون، أومأت بالإيجاب، و همست:
“كيف سأعرف في أي سيارة ستكون؟”.
كانا قد إنتهيا من جمع الكتب، و نهضا سويا، ينفضان أيديهما، عندما أجابها بطريقة غامضة و مرحة في الوقت نفسه:
“ما يجب أن تعرفيه هو فقط إسمي…”.
مد يده بنية مصافحتها، و تابع قوله معمقا من إبتسامته:
“مايلس!”.
“فقط؟”.
قالت ذلك مستغربة لأنه تعمد عدم ذكر كنيته، فحافظ على إبتسامته المرحة مؤكدًا:
“صدقيني هذا فقط ما يهم… مايلس يكفي!”.
رغم إستغرابها، لم تعلق بشيء، و ظلت شاردة في تناسق ملامحه، و قوامه الملفت، كان نحيلاً نوعا ما، و مفتول الذراعين و الصدر، لكنه لم يكن ذلك الحسد المبالغ به، إنه حقا… «أبولو»!
“و أنتِ؟”.
إنتفضت متسائلة عن مقصده، فقال بمزاح:
“هل ستخبرينني بإسمكِ… أم أناديكِ كورونيس؟!”.
للمرة الثانية يتخضب وجهها بحمرة الخجل، تلعثمت للحظة، و ضحكت محاولة جعل اللحظة فكاهية أكثر منها محرجة، ثم سارعت للرد بصوت ناضلت لجعله يبدو طبيعيا:
“روما”.
6
إسم بدون كنية، هكذا هي الأخرى قررت أن يكون التعارف، خاليا من أي رسميات، حرا من كل التعقيدات الفارغة، و بفضل دعابات مايلس كاد الحوار يتحول لمشهد من فيلم عاطفي حين علق بإعجاب جلي:
“ظننتُكِ شخصية ٱسطورية… و تبين أنكِ حضارة بأكملها!”.
23
لم تعرف بالضبط ما إذا كان يغازلها أو يطلق مزحة مرحة، لكنها في كل الأحوال ضحكت، و أكدت له أنها و رغم شكلها البسيط و ملامحها العادية، و ثيابها العشوائية يمكن أن تكون جميلة جدا إذا ما حررت شفتيها في ضحكة واسعة!
في تلك اللحظة الخارجة عن الزمن، و حين طلبت الفتاة هاتفه كي تسجل عليه رقمها ليتواصلا بشأن دعوة السباق، زحف السواد إلى عقله، و تذكر أنه ليس فقط مايلس، إنه أحد سفاحي الويد العشرة، إنه قاتل مأجور، و التاريخ الوحيد الذي يرتبط بإسمه هو تاريخه الإجرامي و حصيلة ضحاياه التي تجاوزت المئات!
1
كور قبضتيه بقسوة محاولا أن يجيب بمرحه المعهود:
“تركت هاتفي بالسيارة، سجلي أنتِ رقمي، و ٱتصلي قبل الثامنة بعشرين دقيقة!”.
طبعا من الجنون أن يقدم لها دليله الإجرامي و موسوعة فنونه الدموية بنفسه، من يضمن أنها ستكتفي بتسجيل رقمها دون أن تتصفح معرض صوره بدافع الفضول؟ فقد تتوقع أي فتاة مكانها أن تجد صوره كمتسابق مشهور مع سيارته و جمهوره، لكنها ستصطدم بصور يلتقطها دائما لمن يقوم بتصفيتهم حتى يتأكد الكونغرس السفلي أن المهمة تمت بنجاح، ثم تخزنها مارفل في قاعدة البيانات السرية على حاسوبها!
2
فعلت الفتاة كما إقترح، و سجلت الرقم الذي أملاه عليها بحرص حتى لا تخطئ، فتجديد اللقاء به، كان رغبةً ملحةً على كوامنها في تلك اللحظة، و هذا ما عجزت عن تفسيره حين رأته يلوح لها مودعا، و ينصرف خارج المكتبة ليختفي في لمح البصر كما ظهر، و لتغرق هي في بؤس غير مسبوق في حين تنبس بينها و بين نفسها:
«شاب بهذه الوسامة! و حلبة سباق في حياتي أنا! ما الذي يحدث بحق السماء؟».
3
ما الذي يحدث بحق السماء؟ كان السؤال نفسه الذي يدور في خلد مايلس أيضا و هو يتجه نحو شارع آخر أبعد بأمتار، حيث صف سيارته، شابة تفتقر لكل مقومات الجمال التي ينجذب لها رجل مثله، بل إن المقومات الوحيدة التي تمتلكها… هي مقومات الملل و الكآبة! و مع ذلك تروق له الطريقة التي تعدل بها نظاراتها الطبية، يعجبه ذوقها الغريب في تنسيق الثياب التي لا تمت لبعضها بأية صلة، و قد سحره فعلا لون شعرها، و طول أهدابها، و كل ما يمكن وصفه بالعادي فيها، إنه يفقد صوابه حتما!
وضع نظارات سوداء أخفت لمعة المرح في عينيه، و إنحنى ليركب سيارته مديرًا ٱغنية هادئة تلائم شخصية فتاة مملة تسجن نفسها بين أسوار من الكتب القديمة، و دون أن يمنع لسانه، ردد بهدوء و نشوة:
“روما!”.

نيفادا| كوخ الصخور آنذاك…
كان من المتوقع أن يجلس شخص مثله بهدوء و لا مبالاة خارج تلك الغرفة و هو يتمنى موتها، غير أن دارك و طيلة تواجد طبيب الويد إدريك قرب روكسان، لم يتوقف عن الغدو و المجيء من جدار لآخر كأنه ينتظر مولودًا خارج غرفة ولادة!
7
كرر إدريك ما فعله منذ لحظات ليتأكد من صحة تشخيصه، راح من جديد يجس نبضها و يفحص حرارتها، ثم مرر المصباح الطبي فوق عينيها الناعستين حائرًا. آخر الأمر، جمع أدواته داخل حقيبته الطبية التي لا تفارق صندوق سيارته، و تبادل مع دارك نظرة حادة، قبل أن يحذره من تغطيتها بأي لحاف أو قماش من أي نوع حتى لا ترتفع حرارتها أكثر. فهم دارك أبعاد تلك النظرة من الرجل الذي إعتنى به كأب، لكنه لم يعلق بشيء، فيما إستمر إدريك ينقل بصره بين الأصفاد المدلاة من السرير، و التي من الواضح أنه كان يقيدها بها، ثم إستقر بصره على عيني دارك القاتمتين، و قال دون مقدمات:
“متى ستنسى ذلك يا دارك؟”.
1
“لماذا تسألني عن أمر لن يتحقق؟”.
جاء ردُّ دارك سوداويًّا، أكد من خلاله لإدريك أنه لا يملك أدنى نية في التخلي عن إنتقامه، أو نسيان ما عاشه بالماضي!
ظل إدريك ينظر إليه دون أي تعبير واضح، ثم أشاح عائدًا ببصره للفتاة المحمومة، و نهض عن طرف السرير مغيرًا دفة الحديث:
“الليلة لدي عشاء عمل مهم، لكن بعد ذلك أنا متفرغ… إذا أردت سأعود لمعاينتها مجددًا!”.
“لا أرى ضرورة لذلك، ستتحسن!”.
كان إدريك على خبرة كافية لتجعله متأكدا من أن روكسان لن تتحسن بتلك السرعة التي يتخيلها دارك، ربما ستستعيد وعيها بعد ساعات قليلة، و ربما ستنخفض حرارتها كذلك بفضل الأدوية التي حقنها بها، لكنها ستعاني لأسابيع أو أكثر من آلام في أطرافها و أسنانها بسبب البرودة التي تسربت إليها خلال الليلة الماضية، و قد يصل الأمر إلى عدم قدرتها على الحركة و السير بشكل طبيعي لمدة يصعب التكهن بها!
“وضعها سيكون شديد الحساسية، هل ستجيد التعامل معها بمفردك؟”.
سأل إدريك بعدما فرغ من شرح الأعراض الخطيرة التي من المرجح أن تنتاب روكسان بداية من أولى ساعات صحوها، غير أن دارك تحدث بسفالة لم يتحدث بها من قبل، و ضرب بكل ما قاله طبيب خبير مثل إدريك عرض الحائط متهكِّمًا:
“أنا و أنت نعرف تماما أننا منزوعي الرحمة، فلا تبحث داخلي شيء ٱنتُزِعَ مني منذ زمن إدريك، روكسان فارغاس رهينتي، و لا أحد يحق له التدخل في هذا… حتى أنت!”.
1
في تلك اللحظة و بينما كان ينسحب من الحوار بهدوء، و يتجه صوب الباب، أيقن إدريك أن من كان يحدثه للتو لم يتغير، لا زال الطفل نفسه الذي وجده قبل سنوات ملطخا بالدم يبكي على عتبة هذا الكوخ بالذات، و الذي أمسك يده بقوة هامسًا بخوف و هو يقدم له إبرة خياطة بيده الٱخرى:
«هل يمكنكَ إنقاذ أمي؟ هناك عدة خياطة في غرفتها، هل تستطيع خياطة أشلائها مجددا؟!».
20
رغم برودة صوت دارك الحالي، فقد لمس إدريك في نبرته بقايا خوف ذلك الطفل و ألمه و فزعه على أمه، و بنظرة خاطفة إلى الطاولة في غرفة المعيشة، لاحظ إدريك بسرعة بديهته أن شخصين كانا يجلسان مؤخرًا على الأريكة، حسنا، ليس من عادة دارك أن يترك أي زاوية في بيته فريسة للفوضى، لكن سفرته الأخيرة أجبرته على ترك كل شيء على حاله في غرفة المعيشة، و من الجلي له أن خاطفًا ساديًّا مثله -كما يحب أن يظهر الآن- لن يحرر رهينته و يجالسها و يشاركها الطعام و يشاهدا البرامج التلفزيونية سويا، إما أن دارك مختل بشكل يفوق إختلال السفاحين في الويد، أو أن هناك شيئًا غامضًا يدفعه للشعور بالرحمة و الشفقة تجاه تلك الفتاة!
غادر إدريك كوخ الصخور تاركًا خلفه مجموعة إرشادات طبية يعرف أن دارك سيتبعها بدقة للتعجيل من شفاء رهينته، لكنه لا يعرف ما الذي سيفعله إن إحتدم الصراع بين ماضيه و حاضره؟!
وضع نظاراته الشمسية على عينيه، و دلف سيارته الفارهة يمنح إشارة لسائقه الخاص كي يعيده إلى مقر الويد، و هو يساند فكرة واحدة تدور برأسه… روكسان فارغاس لا يجب أن تموت… لأن موتها أخطر حتى من موت الزعيم داجيو نفسه!
7
حين إبتعد صوت عجلات السيارة في الخارج، إنسحب دارك عن إستراق النظر من شقوق الأخشاب التي تسد نافذة الكوخ الأمامية، و عاد رأسًا إلى غرفة روكسان، هناك أنفق قرابة الساعة يرتب الأدوية و المكملات الغذائية التي تركها إدريك داخل صندوق صغير على منضدة قرب السرير، و يعد الحقنة الحيوية التي سيحقنها بوريدها حين تستيقظ، فجأة علا صوتها، و هذه المرة لم تكن تنتحب فقط، بل بدأت بتمتمات مبهمة لم يفهم منها شيئًا!
دنا منها يحاول الإصغاء لما تقوله، و للحظة أراد ضربها بشدة لأنها تزعجه بذلك البكاء و النحيب العالي، و تثير غضبه كلما تمتمت بشيء غير مفهوم، غير أنه لم يستطع رفع يديه و توجيه أي حركة عنف لها، فكر مرارًا في إزهاق روحها ليتخلص من كل ذلك، لكنه في الحقيقة لم يكن الخلاص الذي يبحث عنه و يخطط له منذ سنوات، فكر أيضا في تركها هناك تتعفن حتى الموت، لكن الموت بأي شكل من الأشكال التي يسمعها كل يوم لم يعجبه، أراد لها موتًا مفزعًا يصعق الألباب، و في الوقت نفسه شيء لعين داخله أراد لها الحياة، أرادها أن تتحرر و تنجو منه، و أن يكون الموت من نصيبه هو!
بدأ غضبه يتفاقم، و رغم يقينه أنها ليست في وعيها إلا أن أمرها بأن تخرس، و على عكس ذلك، إستمرت روكسان في مشهد نحيبها المتكرر، و بدأت تمتماتها تتوضح و تشف ما يجري على لسانها أو ما تعيشه بلا وعيها:
“إفتحي… إفتحي لي! المكان مظلم هنا، أرجوكِ مارغو… لن أكرر ذلك… إفتحي لي لمرة واحدة فقط! سأكون فتاة مطيعة! هذا الظلام يرعبني!”.
4
لم يفهم دارك مما قالته الكثير، من تكون مارغو التي تكرر إسمها؟ و ما العلاقة التي تجمعهما معا حتى تحلم بها؟ لكنه أدرك أنها كانت تحبسها في مكان ما عقابًا لها، هل حدث هذا في طفولتها؟ هل كانت مارغو هذه تحبسها في غرفتها لأنها تسيء التصرف؟ لكنها ناسكة كما يبدو عليها، و روحها الكنسية لا يفترض بها أن ترتكب السوء مثلما وصفت نفسها، هل يعقل أنها عابثة و مثلت عليه دور الراهبة العفيفة لتمنعه من أخذها بالقوة و تلويث سمعتها؟ و إن كانت بالحق عابثة… فلِمَ ستكترث لسمعتها هكذا و تخشى لمسه لها؟ هل الخوف كله محصور في موتها على يده بطريقة مأساوية؟ هذه الفتاة اللعينة أشبه بلغز شائك يصعب حله، لكن لا شيء يصعب على دارك ريغان!
1
“توقفي مارغو! لا تغلقي الباب! لا تتركيني لوحدي في هذا المكان المخيف! قلتُ لكِ أن الظلام هنا يرعبني!”.
رفع دارك حاجبه و هو يمحص كلماتها، إن كانت مارغو تحبسها في غرفتها، فلِمَ تصف روكسان الغرفة بالمكان المخيف؟ هل يعقل أنها كانت تحبسها بمكان آخر أسوء؟!
أصغى لهلوساتها حول مارغو و الظلام و المكان المخيف لساعة ٱخرى، و حين تأخر موعد إستيقاظها قرر أن يحقنها بفيتامين ما، من شأنه أن يساعدها على إستعادة وعيها، و بالفعل نجح الأمر، فشعورها بشيء صغير و حاد يخز جلدها، دفعها للتحرك بتذبذب على الفراش، ثم ها هي ترفع جفنيها ببطء، و آنذاك شعر دارك أنه لن يستطيع إبعاد ناظريه عن عينيها، كانت تمتلك أجمل عيني امرأة في الدنيا، أشبه بعيون الغزلان البرية، واسعة، نجلاء، في مثل لون البن القاتم، في مثل لون صخور نيفادا الشاهقة ليلاً، في مثل لون عينيه السوداوين تقريبًا، و لكن بحجم أوسع و بأهداب كثيفة شديدة الطول ملتوية الأطراف، عينان ناعستان براقتان يستحيل على سفاح مثله تجاهلها، ظلت ترمش بجفنيها لمدة طويلة و تتأوه بسبب آلام قوية هاجمت رأسها و أطرافها كما نوه إدريك سابقا، بينما كان دارك يزم شفتيه و يلعن نفسه لأنه بعدما نظر ثانية لعينيها المذهلتين لن يستطيع عصبهما هذه المرة!
3
لقد أبقاها لأشهر معصوبة العينين فقط كي لا ينظر لعينيها و ينبهر بهما كما حدث في أو مرة حين كان يراقبها من سيارته السوداء و ينوي إختطافها، فقط كي لا يؤثر جمالهما على مخططه الإنتقامي، أخفى تلك الفتنة كلها بعصابة سوداء، لكن ما لا يفهمه، إن كانت تخشى الظلام إلى ذلك الحد… فلِمَ لم تتوسله هكذا كي ينزع العصابة و يحررها من الظلام؟ هل الكبرياء و العناد منعاها من طلب رحمته؟ هل كانت تعلم أنه سيستمتع أكثر لو أنها توسلت؟ اللعنة على كل هذه الأسئلة! و اللعنة عليه لأنه يشعر الآن أن توسلها لن يجلب له أية متعة تُذكر، بل سيقهره لسبب غريب!
3
أغمض عينيه للحظة محاولاً ضبط أعصابه و تنقية أفكاره، و كان من المفروض أن يخلد إلى الراحة بعد إرهاق السفر، غير أن المدهش حقا هو نزوله على الفور إلى قبو الكوخ حيث يتواجد مخزن خاص بأسلحته و أدوات الصيانة و غيرها من الأغراض القديمة، ثم صعد ثانية و قد رسى على قرار لم يكن يخطط له منذ دقائق!
دلف الغرفة من جديد و قد جلب من المخزن مخلاعًا، و بدأ بإقتلاع المسامير التي ثبت بها الألواح الحاجبة لضوء الشمس في أول يوم لهما بشلك الكوخ، ربما سيزيد وفود الضوء من حرارة الغرفة، و ربما هذا سيرفع من حرارة جسدها، لكن النور في هذه الحالة أهم، إذا نزع العصابة السوداء، فيجب نزع أي شيء آخر يحجب عنها ضوء العالم الخارجي!
4
لماذا يفعل ذلك؟ لا جواب لديه حرفيا، سوى أن نصفا منه لم يعد يطيق تركها في ذلك الظلام، و بغض النظر عما يريد النصف الآخر فعله بها من أفعال مقرفة و سادية، إلا أن حقيقة وجود امرأة تدعى مارغو كانت تحبسها في مكان ما فعلت به فعلها، و أثارت الفوضى في عقله، إلى درجة أنه وظَّف فورًا واحدًا من جواسيسه كي يتقصى عن أمرها!
2
الغريب أن خاطف روكسان و سجانها نفسه متضايق… و يشعر بأشياء تتمزق داخله لمجرد خاطر أن شخصًا غيره قام بتعذيبها و سجنها قبله!
8
ضاعفت الضجة التي أحدثها أثناء خلع الألواح من صداع رأسها، لكن إختفاء العصابة عن عينيها و عدم وجود أصفاد حول يديها و قدميها شغلا عقلها في البداية، ما الذي حدث حتى حررها مجددا؟ و متى عاد تحديدًا إلى الكوخ؟ فكل ما كانت تذكره هو صراخها بسبب العطش الذي إنتابها بشدة، ثم شعورها خلال الليل ببرد قارس يزحف إليها من شقوق النافذة، مدركة أن بعض ليالي صحراء نيفادا تكون قاتلة لشدة برودتها، لمست ثيابها النظيفة التي تغيرت، و لاحظت أيضا بلمسة على أطراف شعرها الطويلة أن مغسول و مجفف بشكل جيد، و ذلك لم يكن غريبا تماما، لأن خاطفها سبق و حممها بنفسه، لكنه… لم يسبق أن جفف شعرها، ما الذي يحدث بحق السماء، و ما الذي كان يفعله منذ قليل حتى أحدث كل تلك الجلبة القوية؟
أخذ فوضى الألواح و ألقاها خارجا نافضا يديه، و عاد إليها ليقف على باب الغرفة في البدء صامتًا بارد الملامح، ثم تراجع آخذا طريق المطبخ، و أعد شيئًا ما، كانت قد إكتشفت أنها خائرة القوى، و لا تستطيع النزول من السرير حتى، فكيف بالهرب منه، فتمددت خائبة الأمل، و أشاحت عن الباب، ثم إنكمشت متخذة وضعية الجنين، فسبب لها ذلك ألمًا ساحقًا في ركبتيها، لكنها لم تأبه للألم الجسدي، و ظلت تذرف الدموع بصمت، أحست بدخوله مجددا للغرفة، فمثلت أنها نائمة حتى لا تحتك به، لكن دارك كشف أمرها من آثار الدموع على خديها، و أجبرها بعنف على الجلوس، تأوهت لأنه آلم ذراعيها حين أمسكهما بقوة، و شتم هو بين أسنانه مبعدا يديه عنها.
“كُلي!”.
وضع الصينية على حجرها، و قال ذلك بصلف تام ناسيًا أنها مريضة، و عائدة لتوها من حمى خطيرة كادت تقتلها، لكنها حافظت على شفتيها مطبقتين، و لم تنظر بإتجاهه، فغضب بشدة، لقد أراحها من الأصفاد، و إعتنى بها لساعات، و طبخ هذا الحساء اللعين بتركيز عالٍ حتى يتحسن مذاقه عما سبق، و يشفيها، و حفظ مواعيد الأدوية التي يجب أن يحقنها بها حتى شعر بأنه مربية أطفال لعينة، و الآن حتى بعدما نزع العصابة عن عينيها و ملأ غرفتها بالنور، لم تنظر إليه بعينيها الواسعتين، و لم تشعر بأفضاله عليها، إنها تستحق التعفن في الجحيم مثل والدها الحقير تماما، و مع ذلك حاول جهده أن يتصرف معها كما أوصى إدريك، و حاول تفهم وضعها الصحي، و عدم تعريض حياتها للخطر!
4
“أمسكي الملعقة و كُلي كالبشر!”.
إبتسمت بسخرية مردفة و هي لا تزال مشيحة عنه:
“مسخ يُحدثني عن البشر؟ عظيم!”.
سيطر على غضب متعاظم داخله، و قال بصوت تحذيري:
“لا تختبري صبري… لأنني لا أملكُ صبرًا بالأساس روكسان، إلتقطي الملعقة فورًا و كُلي!”.
“أنا أرفض أن أعيش على لحوم العُقبان… الأمر أشبه بأكل لحوم الجِيَف… و أنا لستُ وحشًا مثلك دارك ريغان!”.
نبست بذلك في وجهه، لكن دون أن تنظر داخل عينيه و تؤكد له أنها تعني ما تقوله كلمة بكلمة و حرفا بحرف، عندها كز على أسنانه، و أمسك فكيها بقسوة مديرًا وجهها نحوه بشكل مباشر، و هو يتمتم بوحشية:
“حين تمثلين دور الرهينة التي لا تخشى خاطفها الوحش و تعانده رغم أنه قادر على تمزيقها في لمح البصر، حينها… ٱنظري في عينيه… لا تكوني جبانة النظرات!”.
قبض على شعرها بيده الأخرى، حتى كادت تصرخ من الألم، ألصق جبينها بجبينه، و كاد يلامس شفتيها بفمه المستنفر لشدة قربهما، تنفس بقوة كوحش حقيقي، و تشبث بأنفها عطره الرجولي الذي قيدها أكثر مما كانت تقيدها أصفاده، و عزفت في عقلها مقطوعة سوداء، بينما أضاف هو بهمس حاد:
1
“ٱنظري داخل عيني، و قولي ما لديكِ، ما الذي ترفضينه أيضا؟ ترفضين لمستي؟ ها أنا ذا أضع يدي على جسدكِ دون أن تملكي القوة لدفعي بعيدًا! ما الذي يمكنكِ فعله لتحمي نفسك؟ ترفضين الظلام الذي أحطتكِ به منذ أول لحظة؟ ها قد نزعتُ الألواح عن نافذة غرفتك برغبتي أنا، و برغبتي أيضا أستطيع إعادة كل شيء إلى نقطة الصفر! فما الذي تستطيعين أنتِ فعله بمواجهتي؟ ترفضين عصب عينيكِ، صحيح؟ ترتعدين حتى الموت من الظلام! أخبريني الآن، و أنتِ تتنعمين بهذا النور من حولك… ماذا لو أعدتُكِ لسجنكِ المعتم مجددًا، و تركتُ تلك العصابة السوداء لصيقة بكِ حتى أقرر في أي يوم تموتين؟ أخبريني روكسان… كيف ستواجهين الظلام هذه المرة؟”.
خيَّم صمتٌ ثقيلٌ على الغرفة، تنفس فيه كلاهما بقوة، و ظن دارك أن ما قاله أخرسها نهائيا، لكن ما حدث بعد ذلك أخرسه هو، و سبب له صدمة لن يتخلص منها بسهولة، فقد إنفجرت روكسان في قهقهة هستيرية كما لم تفعل من قبل، و تمتمت بكل هدوء و بساطة و وجع دفين و بعينين مزججتين لا حياة فيهما:
“لكنني… سجينة الظلام منذ زمن بعيد!”.
3
ظل يرمقها بتوجس مما يجول بخاطرها، و ما تعنيه كلماتها الأخيرة، لتضيف و هي ترسم على شفتيها إبتسامة إنتصار باردة:
“ظننتَ أنكَ ملكُ اللعبة هنا، تحرك كل شيء حسب رغبتك، و لديك علم بكل ما يجري حولك، لكن ما لم تستطع إكتشافه عن رهينتك التي عصبتَ عينيها و عذبتها بالظلام لأشهر كانت في الأصل… عمياء!”.

 

 

 

0 0 votes
Article Rating
____

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x