رواية لحن الأصفاد الفصل الخامس 5 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الخامس 5 بقلم أسماء
البارت الخامس
❞على أطراف أصابعي أعبرُ الليل كما لو أنني أجتازُ حقل ألغام… مخافةَ أن تنفجر قصة ما نسيتُها و لم تنسَني!❝
4
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
مقر الويد|ساعة خارج الزمن…
رفعت سيريا جسدها عن السرير و قد استبدَّ بها السأم من وضعها ذاك، الإستلقاء يجعلها تبدو مثيرة للشفقة، هكذا قناعتها!
الممرضة التي كانت تتفحص جرحها منذ قليل لم تعد للحضور بعدما حدثتها بفظاظة، اللعنة! من أين يتدبر إدريك ممرضات كتلك؟
كانت واثقة أن كل من يقتحم عالمهم برغبته أو قسرًا نهايته الموت، و رغم إزدرائها مظهر تلك الفتاة المتزمت و زيها الأبيض المقيت اكتشفت أنها تشعر نحوها بالأسف، لا يستوي شعورها ذاك مع وحشية سفاحة من طرازها… لكن و اللعنة لقد شعرت بذلك!
زفرت بحاجبين مقطبين و نظر زائغ مراقبةً باب الغرفة يُفتَحُ مجدَّدًا، و شبح الممرضة العنيدة يتجلى، الواضح أنها ليست كما ظنت للحظات خلت، هذه الفتاة إما تسترخصُ روحها أو تطيع أوامر شخص أقوى من سيريا و أكثر توحشًا، آه! أغمضت عينيها بقوة تعتدل في جلستها بيدها السليمة، و تخمن في ذات الوقت أنها و لا ريب واحدة من أوراق إدريك الخفية…
فلكل شخص في عالم المافيا أوراقه الخاصة، أفرادٌ مجهولون لا يعرفهم سواه، يعملون لصالحه، يستخرجهم في مناسبات معينة -و حساسة غالبًا، لينفذوا مهمات أكثر دقة و سرية من تلك التي يُناط بها السفاح، و لا أحد يعلم أين يتواجد هؤلاء أو كيف يمكن الوصول إليهم سوى زعيمهم المباشر.
فإذا تلقى شخص مثل إدريك مهمة تصفية رجل سياسي من أجل الحفاظ على مصالح منافس له، فإنه ينفذ عملية القتل بيده، ثم يوكل مهمة البحث عن أي وثائق خطيرة كان القتيل يحتفظ بها لواحد من أوراقه الخفية…
و يحق لرجل المافيا التخلص من الأوراق التي يرى أنها بدأت تشكل ضده خطرًا، كتلك التي تقع بين أيدي الشرطة، أو التي تعرف عن عالمه أكثر مما هو مسموح لها!
تماما كما فعل دارك مع إحدى أوراقه الخفية، حين قرر أنه في غنى عن مزيد من خدماته، و فجر سيارته! و لا عجب أنه قبيل ذلك تذكر ما يقوله إدريك باستمرار: «لا تترك أوراقك الرابحة تنمو أكثر مما يجب… فيصبح من المستحيل بترها… و تغدو أنتَ في النهاية الجزء المبتور!».
1
الشيء الأهم في ذلك العالم الحالك… أن تكون بلا آثار لتتمكن من المُضي، لكن سيريا لم تكن لتقتنع حقيقةً بذلك، تدرك حتمية الأمر على فتاة مثلها، غير أن الإدراك ليس هو نفسه الإقتناع! ربما يحتاج المرء لحظات قليلة ليدرك أمرًا مماثلاً؛ إلا أن العمر بأسره قد لا يكفي ليبلغ حدود القناعة التامة به!
“لِمَ لا تحلِّين عني؟”.
تمتمت سيريا من بين أسنانها و الممرضة ماضية في محاولة الكشف على جرحها للمرة الثالثة خلال تلك الليلة، كانت كل منهما عنيدة إلى حد متطرف، تسحب الٱولى ذراعها إلى الناحية الٱخرى مكشرة كلبؤة تم إنتهاك حرمة عرينها، فيما لا تتزحزح الثانية عن مكانها تصر على القيام بعملها كاملاً!
“ليس قبل أن يطيب جرحكِ!”.
“اللعنة على جرحي! ٱغربي عن وجهي!”.
تجاهلت الممرضة صرخة سيريا في حين عضت هذه شفتها تستمر أعماقها بتوجيه شتائم لا حصر لها لمسخ قلبها الوغد، اللعنة عليه لأنه يفعل بها هذا، أخذ سلاحها، و أجبرها على ملازمة هذه الغرفة حتى يتأكد أن إصابتها لن تكون متبوعة بمضاعفات! اللعنة! اللعنة! لِمَ لا يلاحظ مضاعفات قلبها؟!
و ما إن حاولت الممرضة وضع يدها على الضماد، حتى وجدت نفسها تتعرض لركلة قوية أرسلتها إلى الجدار، تأوهت شاعرة بشيء ما كُسر داخلها، ليزداد المشهد توتُّرًا بدخول إدريك للغرفة آنذاك! و بنظرة واحدة أدرك سبب تكوُّر الممرضة أرضًا متألمة، و تحفُّز قطته المتشردة فوق سريرها لإبراز مخالبها الحادة أكثر!
و دونما رد فعل مدمر، أو عواصف غضب محتملة منه، حول بصره عن المدعوة «إبنته» و نظر ببرود نحو الممرضة مشيرًا بعينيه في صمت ناحية مخرج الغرفة، لتلملم هذه الأخيرة نفسها و هي لا تزال أثناء ذلك تتأوه، و تغادر المكان مطيعة الأوامر.
1
توقعت سيريا أن يجلس قربها كأي أب طبيعي و يسألها باستنكار عن سبب هياجها الطفولي و تمردها الأرعن، لكنه و اللعنة أغلق الباب بكل هدوء خلف الممرضة، و تقدم نحوها بخطوات ثقيلة جعلت الغثيان يراود معدتها، إنه الخوف اللعين الذي لا تشعر به سوى في حضوره! وقف فوق رأسها بكامل أناقته المعهودة و هيبته الطليقة، و أغرق في الصمت! كان لإدريك وسط العلويين و السفليين مظهر خاص، مميز، و نادر نوعًا ما، لم يكن قاسيًا تماما مثل دارك، و لا كوميديا مرحًا مثل مايلس، و لا حتى ساخرًا مثل داجيو، كان فريدًا لا شبيه له، شعره الأسود الممشط بعناية إلى الخلف و ذقنه الحليق على الدوام، و بدلاته الكلاسيكية الباهضة توحي للناظر أنه رجل أعمال صارم يحرك شركات العالم أجمع بأصابعه، فيما قد يخيل له أن أصابعه الخشنة قادرة على كسر أي شيء تقبض عليه، و عينيه الكحيلتين قادرتان على نخر أي جسم تطالعانه!
1
رفعت بصرها نحوه، فبدا لها رأسه متصلاً بالسقف من فرط طوله الفارع، أرادت أن تضحك لذلك الخاطر، لولا نظرته الميتة التي جمدتها، إنطلق صوته كأنه ينطلق من الجدار المتحجر خلفها و ليس من حلقه:
“جرحكِ يعني جرحي، و لا يمكنكِ لعنُ ما هو لي!”.
12
أيقنت أنه سمع آخر عبارة جرت على لسانها قبيل دخوله الغرفة، و الحق أنها كادت ترقص لذلك، لكنها عادت و ذكرت نفسها أنه ليس سوى الرجل الذي يتصرف كأب لعين… أمام الجميع؛ و حتى و هما على إنفراد! و إذا قال أنها له… فهذا لن يعني غير واقع أنها لن تكون بحياته أكثر من إبنته المتبناة!
2
أبقت ذراعها بعيدًا عنه، تخشى لمسة منه تفجر كل ما بها من أسرار محرمة، ليضيق صبره هو، و يسحبها نحوه بعنف، و يغير الضماد بطريقة جعلتها تزم شفتيها ألمًا، لاحظ إدريك ذلك، و لم يكن متصالحًا مع ما يراه، عضها لشفتها على ذلك النحو أثار أعصابه، و بدلاً من أن يخفف قسوته عليها، بالغ في الأمر، كأنه يؤذيها لتستعيد رشدها و تثوب إلى حقيقة ما!
“ألم يصدر أمر تصفيتي بعد؟”.
ظل صامتًا، ثابت النظرات، فأضافت ضاحكة بسخرية:
“ألم تشكوني مارفل إلى الكونغرس العظيم بعد؟ أي عائلة تقرَّرَ أنها ستقضي علي؟ الليونز أم الوولفز؟! آه! أرجح أنهم التايغرز، فهم السبَّاقون دائما لاصطياد مسوخهم!”.
لا يزالُ إدريك على صمته المريب، نظرت إليه مجددًا مستغربة عدم رده، و كما في كل مرة تصطدم بعينيه، فشلت في قراءتهما، غير أنها بدأت تستنتج أن أمرًا غير طبيعي يحدث!
“ماذا هناك؟ لا تقل لي أنك تفضل نيل شرف قتلي بنفسك؟ أتعرف؟ هذا سيكون أفضل من لا شيء! بعد كل ما عشته… الموت على يدي أبي العزيز لن يكون كارثة عظمى!”.
1
أخيرًا قرر إدريك وضع حد لصمته، فقال يضع يديه في جيبيه كأنه يلقي خطابًا مملاًّ:
“لو كنتُ أرغب بقتلكِ لما كنتِ الآن ترددين هذه السخافات بوجهي!”.
3
رفعت حاجبيها ساخرةً من جديد:
“هذا يعني أنني لن أكون فقيدة الويد الجديدة! عظيم!”.
زفر بهدوء، و أردف بوجه يخلو من أي تعابير واضحة:
“حسنا، ٱشكري السماء أن صفعكِ ليس على لائحتي الليلة، يكفيني ما يجري خارجًا سيريا، لا تعبثي بأعصابي أكثر!”.
كأن لك أعصاب يمكن العبث بها بالأساس! رددت ذلك في عقلها كقطة جبانة، غير أنها انتبهت فجأة لما لفظه و هو يفك ربطة عنقه و يبدو لأول مرة مُذ دلف إلى الغرفة كأنه يغرق داخل بوتقة سوداء لا قرار لها!
نبست بهزء:
“ماذا؟ هل مات زعيمنا المُبجَّل أخيرًا؟!”.
وجه لها نظرة سوداوية، ليس لأنها تنتظر نبأ موت الزعيم أكثر مما تنتظر ترك هذه الغرفة، و ليس لأنها قالت ذلك بوقاحة سافرة لا يتسامح معها عادةً، بل لأن ما كان على طرف لسانه أسوء بكثير!
قال و هو يثبت نظراته على عينيها الجميلتين:
“كلا! شخصٌ آخر على وشك الموت، و الشياطين وحدها تعرف ماذا يحدث هناك بينما نحن نخوض هذا الحوار!”.
1
ارتكزت على ركبتيها تثنيهما و تجلس على السرير في مواجهته لتغدو أقرب إليه، و أكثر تركيزًا على ملامحه و لغة جسده!
“ماذا تعني؟ من… من على وشك الموت؟ قُل شيئًا! أنتَ… لا تعني…”.
للمرة الأولى قرأت سيريا عينيه، و يا ليتها عمت قبل أن تفعل، من اللعين حقا أن تستنتج أمرًا كذلك، كان واضحًا منذ البداية أن تحرك الوحوش ضد دارك شيء متوقع، إنها القواعد في النهاية، و كسرها حكرٌ فقط على العشيرة الكبرى، حتى عوائل الوحوش الأربعة أنفسهم لم يحدث أن اعترضوا عليها أو كسروها لأي سبب كان!
وثبت عن سريرها كالمخبولة، حب الأخت فيها فقط ما كان يحركها، غضب اليتيمة التي ستخسر عائلتها مجددًا هو ما كان يغذيها، شعرت أن مكب القمامة يسحبها نحوه مجددًا، أحست حقا بأذرت مقيتة تقيدها من كل حدب و صوب، و تحجب عنها معالم ذلك الأخ الذي قد لا تراه ثانيةً، دارك لم يكن مجرد سفاح آخر بالنسبة لها، دارك يعني الكثير، تماما مثلما يعني لمايلس!
“إثبتي مكانكِ!”.
قبض عليها إدريك بسرعة قبل أن تبلغ الباب، فصرخت به تضرب كتفيه ناسيةً أنه الرجل الذي رعاها طيلة حياتها و يُفتَرض بها احترامه:
“أفلتني! أنتَ لا تفهم! من الخطأ أن يفعلوا هذا بدارك! لقد أمضى حياته ينفذ أوامرهم دون اعتراض، لم يحدث أن خانهم، إذا استغنوا عنه، فنحن لن نفعل، فقط أفلتني و سأدافع عنه، سأقدم روحي عوضًا عن روحه!”.
4
“مايلس و دارك يُعوَّلُ عليهما، أما أنتِ… فلا تحلمي!”.
3
رفعها عن الأرض، و كم كان من القاسي عليها أن يخونها جسدها، و تشعر بقواها تخور بشكل مريع، ماذا يعني؟ بأي هراء تفوه للتو؟ لا يُعوَّلُ عليها؟! كيف؟! إنها السفاحة التي أزهقت قرابة الثمانمائة روح دون أن يرف لها جفن! و ها هو أكثر شخص تثق به يُشكك بقواها!! وضعها على السرير ثانيةً، و رغم أنها استمرت تصارعه بأطرافها لتتحرر و تهبَّ إلى نجدة أخويها، غير أن قوة الرجل إنتصرت، و هزمتها!
كان يطوقها بذراعيه، و يضغط بجسده الضخم فوق جسدها النحيل يُبقيها ملكًا للسرير، أسيرة عضلاته المصقولة التي لا تتزحزح، قيدها حرفيا، منع عنها الحركة، غير عابئ بصراخها المتدفق في أذنه!
“دارك لا يجب أن يموت… أنا قادرة على حمايته! مايلس يفقد تركيزه أحيانا… دعني أذهب!”.
3
“كلا! لا ضرورة لوجودكِ هناك، إصابتكِ ستجعلكِ هدفًا تاليًا للموت!”.
أصر إدريك على إبقائها تحته متمتما بذلك، فزمجرت تنتفض من الخوف و الغضب و العجز:
“لا أهتم! اللعنة… إنه دارك، ألا تراه… كأخيك الأصغر؟ ألن تحرك ساكنًا لدرء الأذى عنه! أستبقى باردًا هكذا تشاهد فردًا منا يُنهش بين أنياب الوحوش؟”.
تمتم إدريك مجددًا ببرود سحقها:
“أنا لا أربي أشخاصًا يُنهشونَ بهذه السهولة، ثم لسنا نحن فقط من نهتم لأمره و نهبُّ لنجدته!”.
ماذا يقصد؟ من يمكن أن يهبَّ لإنقاذ دارك و مايلس إن تكاثروا عليهما؟ حاول عقلها تفسير أبعاد كلماته، لكن شيئًا حادًّا وخز أعلى ذراعها، تأوهت بخفة مدركةً بعد فوات الأوان أنها إبرة مهدئة، إدريك اللعين! لم تنتبه خلال تصارعها معه أنه تناولها بيمناه من على المنضدة الجانبية للسرير كي يحقنها بها و يخمد رغبتها في ركوب جنونها و إنقاذ دارك!
“ليتكَ تحقنني بالسم… لينتهي كل هذا… إدريك!”.
1
نبست بتلك الكلمات تشعر أنها مُنتهكة! محاصرة بشيء وهمي! لا حيلة لها سوى تحريك شفتيها بآخر ما تبقى من قوة! نطقها إسمه مجردًا من لقب الأب كان خارج توقعاته في تلك الوضعية، كأنما جعله سماع ذلك يتحول لتمثال أصم فوقها، تأملها للحظات و هي تغمض عينيها تدريجيًّا، و تستسلم لمفعول المصل الذي بدأ بالإنتشار داخل أوعيتها الدموية، ظل مخيما عليها… ينظر… فقط ينظر لبعثرة شعرها البني، و جفنيها المتورمين، و لم يعرف ما إذا كان يمارس النظر كشخص طبيعي أو ينقب بين قسمات وجهها و خصلاتها المتناثرة على الوسادة… عن شيء ما؟!
…
نيفادا| أكثر من خمسة عشر ميلاً خارج لاس فيغاس…
كان صدى الوادي السحيق لا يزال يردد صوت الإنفجار القوي الذي نجم عن سقوط السيارة، و كان مايلس لا يزال ماكثًا هناك على الحافة، ينتحب كالنساء للمرة الأولى بحياته، مكررًا إسم أخيه، شاعرًا أن الإنفجار حدث بأعماقه و ليس أمام عينيه، غطى وجهه بيديه المتربتين، يأخذ أنفاسًا متقطعة، كما لو أنه يلهث، كان الشعور طاحنًا، كأنه خسر كل سباقات العمر في لحظة واحدة! و خلفه روكسان قد ربضت كصنم لا يتحرك، حتى أنها نسيت نزع العصابة عن عينيها، و ظلت معتمدة على سمعها تتساءل ما القصة؟ حقا ما القصة؟ هل سقط ذلك المجنون و إنتهى أمره؟ هل مات؟ هل إنتهى عذابها؟ هل رحمها القدر أخيرًا؟ بماذا يُفترضُ أن تشعر الآن؟ بالغبطة و الإمتنان لأنها و بعد أيام حالكة تخلصت من خاطفها السادي… أم بالشفقة و الأسف لأنه بالنهاية إنسان و نهايته كانت شنيعة لا يستحقها شخص مثله؟ و هل في مقدورها بالأساس معرفة أي شخص هو و ماذا يستحق؟!
8
نكَّس مايلس رأسه نحو الأرض، قبض بيده على رمالها المحمرَّة، يقسم في قرارة نفسه أنهم سيدفعون الثمن! كان ليسمح بأن يؤخذ منه أي شيء و أي دم… إلا دم دارك!
1
و في اللحظة التي أعقبت رفع رأسه… لمح يدًا سمراء قوية و موشومة بأشكال يحفظها أكثر مما يحفظ إسمه، كانت تتشبث بالحافة، لا يعقل! كلا! إنه لا يتخيل ذلك و لا ريب! يستحيل أن يقضي أخوه نحبه بهذه البساطة، أجل! ما يراه صحيح، حقيقي كحقيقة الوجود، أمعن النظر فاقدًا لقدرته على النطق و الحركة، تلا ذلك إنضمام اليد الثانية لها، و بكلتا اليدين المتشبثتين بالصخور إرتفع جسدُ دارك من العدم، يدفع نفسه لأعلى لاهثًا، اللعنة! لا… لا… بل إن ما يحدث هو النعيم بحد ذاتها! يمكنه الموت بسلام بعد رؤية هذا! أدرك أنه حذق و ماهر كفاية لينجح في القفز من السيارة و التشبث بالصخور قبل أن ينتهي به الأمر في الأسفل، إنفجر ضحكًا بهستيريا غير مسبوقة، حتى ظنت روكسان أنه جُنَّ من الصدمة! و هرع يسحب ما تبقى من جسدهد دارك إلى بر الأمان، قبل أن يرتمي عليه في عناق طويل!
17
“أنا لا أصدق! تبا لي! بل أنا أصدق بكل ذرة مني أنك حي!”.
1
إسودَّ وجه روكسان و خفق قلبها مسعورًا حين سمعت الرد بصوت خاطفها النرجسي:
2
“دارك ريغان لن يموت إلا حين يقرر بنفسه متى و كيف… و لأجل ماذا!”.
8
حاول دارك تخليص نفسه من ذلك العناق، فيما تصرف مايلس كعلقة حقيقية!
2
“كفى! تعرف كم أمقتُ هذه الحركات!”.
“لا يهمني اليوم ما تحب و ما تمقت يا رجل! ما يهمني حقيقةً هو عودتك!”.
2
ربما من الجنون وصف المشهد بالشاعري، لا سيما و الأمر يتعلق بمسوخ المافيا، لكن، نعم… كان المشهد جميلاً بطريقة شاذة عن منطقهم الأسود، أعني… هم لا يعرفون شيئًا إسمه النهاية السعيدة، واقعٌ أسود… لا ملامح واضحة له، و لا أحد يستطيع التكهن بما سيحدث في اللحظة التالية، حسنا، ربما لمح دارك بطرف عينه لومبرغيني سوداء مركونة على بعد أمتار منهم، و يدًا مسلحة تخرج من النافذة، و ربما توقع أيضا أن رصاصة ما مصوبة إليه الآن، بما أنه صاحب الرأس المطلوبة! لكنه و بينما كان يبطح مايلس أرضًا ليحميه، فوجئ بالرصاصة تخترق كتف روكسان من الخلف، و بعدها لم يعد هناك ما يمكن أن يفسر الفوضى التي حدثت!
12
روكسان ممددة على الأرض غارقة بمزيد من الدماء، مايلس لا يزال منبطحًا لم يستوعب بعد سرعة الأحداث، و دارك الذي زحف نحو الفتاة بسرعة باذلاً جهده في تغطيتها و الضغط بيده على مكان الإصابة!
1
“من هذا اللعين الآن؟”.
صرخ مايلس يفكر في طريقة ما للخروج من كل هذا، فأردف دارك و عيناه تطوفان بغضب على السيارة السوداء تارة و على ملامح روكسان الغائبة عن الوعي تارة أخرى:
3
“وغد آخر من أوغاد إيسميراي!”.
1
“كيف السبيل للتخلص منه الآن؟ لا سلاح بحوزتنا”.
نظر دارك حوله عله يجد ما يفكر به، و تمتم مرغمًا:
“أعتقد أنني أعرف كيف، لكنها مجازفة جنونية!”.
شحب مايلس مكشرًا، و قال بسرعة:
“لا مزيد من جنونكَ دارك، كادت فكرتكَ السابقة تودي بحياتك!”.
1
“لكنها أنقذت حياتكما!”.
فكر مايلس في تلك اللحظة ما الذي يهمه بحياة تلك الفتاة، لماذا يختطفها و يخشى على سلامتها في الآن نفسه؟ لم يكن لا المكان و لا الزمان مناسبين لطرح ذلك التساؤل، لكنه فعل، و ساوره فضول عجيب ليفهم تركيبة دارك العجيبة!
“حياتكَ أيضا مهمة أخي… على الأقل بالنسبة لي!”.
1
تبادلا نظرة عميقة، كان دارك يعبس كلما سمع مايلس أو سيريا يناديانه بالأخ الأكبر، لم يكن يحب ذلك، و لا يحب عناقًا منهما، و لا حتى يهتم بإلقاء التحية أو المجاملات، كان واضحًا بشكل خادش، و حادًّا إلى درجة قاسية، و رغم كل صفاته اللعينة أحباه، و وجدا بظلامه و سوداويته عائلة!
1
أضاف مايلس بعناد:
“رجاءً دارك… إذا كانت الفكرة تخاطر بحياتك حصرًا… فأنا أعترض… إما أن نعود معا؛ أو نلقى حتفنا ها هنا سويا!”.
و بينما هما يتجاذبان ذلك الحوار، إنفجرت اللومبرغيني السوداء متناثرة بقاياها المشتعلة هنا و هناك، تاركةً الرجلين في دهشة حقة، ليثبت بنظرة منهما إلى الجانب المعاكس أن سيارة ٱخرى كانت تتابع ما يجري، و أن صاحبها هو من أطلق رصاصة دقيقة استهدفت خزان الوقود في اللحظة المناسبة!
دقق مايلس النظر في السيارة، كانت صفراء رياضية من نوع “فورد”، و كان لوحها الأمامي مألوفًا له مثلما هو كذلك في عيني دارك اللتين مسحتا أدق تفاصيلها مخمنًا نفس الإستنتاج، ليُفتَح باب السائق فجأة، و تترجل منها فتاة في أواسط عقدها الثالث، شاحبة البشرة، بشعر شديد القِصر و السواد، ترتدي بنطال جينز ملتصقا بساقيها المنحوتتين، و جزمة رياضية، و سترة بيضاء بقلنسوة منزوعة و سحاب، و بدون أكمام، كأن صحراء نيفادا ليست قارسة كفاية خلال الليل لتجعلها ترتعش! خطت الفتاة نحو الثلاثة بتؤدة، فيما كانت الرياح خلفها تمحو أي أثر تتركه جزمتها على الرمال، و ما إن بلغت حدودهم، حتى أدرك دارك أنه صائب بتخمينه، و إلى جانبه صاح مايلس فخورًا بدخولها الٱسطوري في لهجة طريفة:
2
“آه مايڤا! سُحقًا لأمثالك! ليس عدلاً أن تعلني عن دخولكِ دائما بهذه الفخامة!”.
7
ركلت حجرًا قريبًا منه، و ردَّت بابتسامة ثقة تكلل شفتيها الصغيرتين:
“لو سُحِقَ أمثالي… لما كنتَ على قيد الحياة!”.
3
“هذه واحدة فقط لكِ، لاحقًا سأعرف كيف أحطم غرورك!”.
“سنرى!”.
قالت ذلك تشبك ذراعيها أمام صدرها، و عيناها تمشطان روكسان و دارك، أيقن هذا الأخير أي سؤال ستنطق، و فضل أن يغير دفة الحديث قبل إنطلاقه، فمزق خرقة من قميصه و لفها بإحكام حول جرح رهينته، ثم قال مخاطبًا مايڤا مستغربًا:
“قيل أنكِ في مهمة طويلة بطوكيو…”.
2
سافرت مايڤا بذاكرتها إلى ظهيرة هذا اليوم، حين تلقت ذلك الإتصال العاجل، و أجابت بهزة من رأسها، فتابع و هو يحمل الفتاة بين يديه و يقف على ساقيه:
“و ها أنتِ ذي فجأةً هنا…”.
“انتهت مهمتي هناك، و انتهى شيء اسمه «كيوغن»!”.
2
نظر إليها مايلس بتشكيك، إنه يعرف أنها تلقت أمرًا بالسفر إلى طوكيو للقضاء على عصابة كيوغن الخطيرة و هي مجموعات تشكلت من مافيا الشوارع في طوكيو و بدأت بالتكتل مؤخرًا و منافسة عشيرة الياكوزا’¹’ حك أرنبة أنفه و هتف معلقًا عن ثقة:
2
“حسنا، حسنا، لن أصدق أنكِ قضيتِ على عصابة كاملة لوحدكِ!”.
1
“هذا شأنُك!”.
1
قالت مايڤا غير مكترثة، لا وقت لديها الآن لشرح كوارثها في اليابان، فلم يرسلها إدريك من أجل الثرثرة، تأكدت أولا أن لا مزيد من المنتحرين اللذين ينوون مهاجمة دارك، ثم دعتهما فورًا للحاق بها إلى سيارتها مرددة:
“لا يجب أن نضيع لحظة ٱخرى هنا، دارك، لا تقلق… إدريك يستطيع علاجها إن كانت تعني لكَ شيئًا!”.
2
لم تعرف مايڤا لِمَ تفوهت بذلك، فليس من المألوف أن يكون السفاح مرتبطًا بشخص ما أو لديه اهتمامات في العالم العلوي، لا على الصعيد العاطفي و لا على أي نحو آخر! لكنها قالت ذلك و حسب، و تلقت بعدها نظرة مميتة من دارك، جهزت نفسها لأسوء الردود، غير أنها سمعته يردف بنبرة باهتة:
“بما أن سيارتي أصبحت مُضغة نار في الأسفل، فلا أرى غير خاصَّتكِ وسيلة للخروج من هنا، لكننا لن نقصد مقرَ المنظمة الآن!”.
أضاف و هو يمدد روكسان على المقاعد الخلفية ثم يجلس قرب رأسها:
“… بل مكانًا آخر أكثر سوادًا!”.
4
───────────────────────
¹•الياكوزا: عشيرة مافيا شهيرة في اليابان، تعتمد من حين لآخر على خدمات الويد، لكنها لا ترتقي لمستوى العشائر العظمى الثلاثة (الميغا) لذا فهي تعتبر من المافيا العادية.
7
───────────────────────
اتخذت مايڤا مكانها خلف المقود واضعة نظاراتها السوداء بابتسامة صغيرة، دون أن تستفسر عن المزيد، هذا هو دارك، مجرد وغد غامض من أوغاد الويد، و هي و اللعنة تحترم هذا الوغد، و تحب طريقته السوداء في صوغ الكلمات، و تتبع خطواته دون عناء التساؤل و التفسير. امتطى مايلس المقعد إلى جانبها مستعدًّا لمغامرة ٱخرى و هو يعلق بكوميديته المعهودة:
“شكرا لكما على هذه الليلة اللعينة!”.
4
جارته في مزحته تغيظه بتكشيرة مضحكة:
“على الرحب و السعة، من الرائع العودة لسماع حماقاتكَ عزيزي مايلس! أراهن أنكَ ستحلم بي الليلة!”.
“أنتِ على حق… ستكونين حتمًا في أسوء كوابيسي!”.
2
بعد عشر دقائق من القيادة الجنونية عبر طرقات واسعة و ملتوية محفوفة بالصخور العالية، و تحت إشارات دارك و تعليماته، كانت مايڤا قد أوقفت السيارة حيث رغب، رغم تخصص سيارتها الأمريكية في الطرقات المفتوحة و المنبسطة، إلا أنها كانت سائقة ممتازة لتبلغ المكان المطلوب في وقت قياسي، ليس باحترافية مايلس طبعًا، لكن… كانت كذلك نوعًا ما آنذاك، ربما لأن حالة روكسان كانت مستعجلة و بحاجة لتطبيب فوري، أيًّا يكن… دارك يعرف ما يفعله و عليها أن تثق به و بقراراته، إذا رأى أنه قادرٌ على التصرف مع الأمر بنفسه فهذا ما يجب أن يحدث!
“هنا؟!”.
تمتمت بذلك و هي تلاحظ كوخًا قديمًا بين صخرتين ضخمتين، و لا يوجد حولهما سوى الرمال و الفراغ الذي ردد صدى العجلات المفرملة! يا له من حصن عظيم يا دارك!! لا أسوار تحميه… لا حراس… و لا شيء قد يردع عنه الهجوم سوى الصخرتين!
“هل المكان آمن؟”.
1
إتسع الصمت بعد ذلك، طامسًا كل شيء، فاستسلمت مايڤا لرغبته بأن يعتني بنفسه دون تدخل أحد! أخذ دارك رهينته من السيارة، يأمرهما بالرحيل، و ظل واقفًا يتأمل الكوخ بنظرات مبهمة، للحظة لم يعرف نفسه أمام حجم السواد الذي غلف ذلك المكان، كانت الأخشاب المتينة التي تراكمت فوق بعضها مشكلة ذلك البيت بنية اللون، قد نجت من العثِّ و الرطوبة بفضل حرارة المنطقة، و سقفه الأحمر قد شحب من فرط تعرضه للشمس باستمرار، غير أنه ظل يراه أسودًا!
تأكد أن أضواء السيارة و أزيزها إبتعدا كليًّا، أسقط بصره على وجه روكسان الأبيض من شدة شحوبه، و كال لها حقدًا أعمى، ليس لأنها فقط رهينته، و ليس لأنها كانت جميلة جدا على الألم الذي تمناه لها، و لا لأنها كانت تنام بين ذراعيه كأنها ملاك، كأنها تعرضت للعنة جمال بدل رصاصة، لا… كل حقده عليها فقط لأنها كانت الشيء الوحيد الذي إذا تأذى سيتأذى معه داجيو أضعافًا… و هو بحاجة ماسة لإيذاءه حتى آخر فجر!
33
…
مقر الويد|آخر ساعات الليل…
دلفت مارفل مكتب رب عملها متثائبة، لم تحظَ بنوم كافٍ منذ وقت طويل، رسائل لعينة إلى العشائر، و ليالٍ بيضاء عند رأس داجيو الذي بات أشبه بالموتى على ذلك السرير الشاحب، تنهدت دافنة أشياء كثيرة داخلها… مستعيدةً مظهر المرأة الآلية، و جالت ببصرها الدقيق في الزوايا الصامتة و على الأغراض الجامدة، ثم أغلقت الباب بحذر شاعرةً أن بالغرفة تغييرٌ غير طبيعي، إلتقط جسدها طاقةً مختلفةً لم تكن هناك في آخر مرة، لتفاجأ برؤية مقعدها ذي العجلات الذي تجلس عليه عادة على مقربة من رئيسها مدونة ملاحظاته يدور ببطء… و وجهًا ٱنثويًّا شاحبًا، ضامر التفاصيل، عابث النظرات، يتجلى من اللاشيء!
1
و انطلق من بين شفاهه الصغيرة صوتٌ مخيف بقدر رقته مخاطبًا مارفل:
“أخيرًا عادت ثعلبة الزعيم!”.
2
رغم جمود نظرات مارفل، إلا أن كل ما بجسدها كان يرتجف حين رأت مايڤا تجلس على مقعدها و تطالعها بعينين لا أثر فيهما للحياة!
2
تماسكت ظاهريًّا متجاوزةً الصدمة، و تمتمت:
“متى وصلتِ؟ لِمَ لم أعرف بعودتِكِ من طوكيو في حينها؟”.
2
حركت مايڤا أصابع يدها اليسرى كما لو أنها تعتصر شيئًا وهميًّا، و بابتسامة سامَّة أجابت رافعةً حاجبيها:
1
“أنتِ لا تملكين الويد لتحيطي بكل تحركاتي عزيزتي مارفل!”.
3
لم يرق لها ما سمعت، لكنها تصرفت كأنه لم يطرق أذنيها، و خطت نحو مقعد الزعيم الشاغر جالسةً عليه!
“إذا لم يكن وجودكِ في هذه الساعة بالمكتب إعلانًا عن عودةِ جلالتِك، فما القصة إذن؟”.
1
فتحت الحاسوب الأسود، و نقرت على بعض مفاتيحه توحي بذلك أنها عنصر مهم في المنظمة، و أنها محمية من طرف الزعيم نفسه، لتضرب مايڤا بكل ذلك عرض الحائط، و تغادر المقعد المتحرك تقوم بنصف لفة حول طاولة المكتب، وقفت خلفها مدركةً أن نبضها بات هستيريًا في تلك اللحظة، و انحنت عليها هامسةً كما تفعل الأفاعي:
3
“القصة… هي أن لا قصة ستتمكنين من روايتها لأسيادِك بعد اليوم أيتها الساقطة… على الأقل تلك القصص التي تخص السفاحين العشرة!”.
5
تحركت مارفل تنوي الفرار لثقتها بأن ما سيحل بها ليس طيبًا، لكن مايڤا قبضت عليها في الآونة المناسبة، كمَّمت فمها بيد، حتى كادت تكسر فكيها، و تشطرهما لنصفين، ثم أمسكت باليد الأخرى أصابع يمناها مضيفةً بهمس متوحش لا يشبه نبرتها اللطيفة قبل لحظات:
“… طلاءُ أظافركِ جميل، أحمر، يذكرني بالدماء التي رأيتُها على جسد دارك منذ قليل، كم يلزمُكِ من وقتٍ لوضعه بهذا التناسق؟”.
2
ضغطت أكثر لتصدر عن مارفل حشرجة قوية و هي ترد على مضض:
“…خمسُ… دقائق!”.
ضحكت مايڤا باستفزاز مردفة:
“…مؤسف! هذا يوضح كم نحن مختلفتان! أنا مثلاً… لا يأخذ مني الأمر أكثر من ثوانٍ تافهة…”.
أصبحت ضحكتها خشنة و هي تضيفُ في أذنها ضاغطةً أكثر على يدها الحبيسة:
“…لا أقصدُ وضع طلاء الأظافر بالطبع…”.
لهثت مارفل فزعةً بحق حين خمنت ما تقصده، هذه اللعينة لا تضع أي طلاء على أظافرها، أغمضت عينيها عاجزةً عن الفكاك، انهمرت دموعها مصطحبة معها كحلها الأسود في خطين متعرجين عبر بشرتها المتغضنة ألمًا، لقد… كسرت أصابعها بالفعل، بكل قسوة ممكنة، حطمت عظامها كأن يدها من ورق، و حرمتها حق الصراخ، لتمنحها آخر همسة قبل أن تغادر صافقة باب المكتب خلفها بعنف:
4
“لا تكتبي ثانيةً أشياء تكلفكِ أجزاءً من جسدكِ الأنيق… لأنني في كل مرة أجدِّدُ أساليبي و قد أعوِّض الكسرَ بالقطع!”.
9
…
نيفادا| كوخ الصخور…
«لستِ لي… لستِ مني… كنتِ دائما له… كنتِ دائما قطعة القذارة التي ألقاها داخل جسدي و فر!! كنتِ و ستبقين أكثر ما أكره بكل حياتي لأنكِ الرابط اللعين الذي لا يصِلُني بشيء غيره!!!»
10
…تكرَّرت تلك الكلمات الجارحة في عقلها الباطن كلطمات أمواج غاضبة على الصخور، تردَّد صدى الماضي داخل رأسها فارضًا نفسه بعنجهية، عادت روكسان لوعيها، و عاد كل شيء لمحاصرتها دفعة واحدة، اكتشفت بضيق صدر و يأس بالغ أن الأصفاد الباردة لا تزال حول يديها، و العصابة لا تزال تستأثر بعينيها، لكنها لم تكن رابضةً على الأرضية القاسية كما في المرة الماضية، منحتها السلاسل الجديدة الموصولة بأصفادها بعض الحرية للمس أطراف السرير الذي كان تحتها، لكن… كان من المستحيل جمع يديها أو مد إحداهما للمس وجهها و نزع العصابة، شعرت بألم طفيف أعلى كتفها، و بتثاقل في ذراعها، لتتذكر تلك الرصاصة التي ٱصيبت بها، كيف نجت؟ و أين هي الآن؟ الروائح التي تشتمها حولها و ملمس الملاءات أسفلها لا توحي بأنها عادت إلى نقطة الصفر، إنها تتعرق بشدة، مما يعني أن لا مكيف في المكان، هذه المرة… إلى أي جحيم أحضرها ذلك المختل؟
5
سمعت ضربًا متواصلاً خارج الغرفة التي وضعها بها، كأنه كان يدق مسمارًا ما، ماذا يفعل بحق السماء؟ تململت في محلها غير قادرة على الصبر أكثر ليأتيها بنفسه.
كان دارك قد انتهى من دقِّ كافة المسامير و تأكد من ثبات الأخشاب مكانها حين إلتقط صوت صراخها:
“ماذا تفعل عندك؟ دارك ريغان! يجب أن تضرب هنا! ألم تعد تريد النيل مني! تعالَ و خلصني!”.
3
وضع المطرقة جانبًا، و تحرك ببطء نحوها، انتظرت أن يكسر الباب غضبًا من جرأتها، لكنه فاجأها بهدوء لم تتوقعه، و ما زاد من اضطرابها وقع دعساته المسترخي على الأرضية كأنه كان يستعرض جسده المثير على مرأى من جمهور عريض مهووس به! ازدردت ريقها حين أغلق الباب بتؤدة خلفه و و دنا منها تاركًا أنفاسه تتجول على جسدها بينما يتفحص جرح كتفها، اكتشفت فجأة أنها تكتم أنفاسها خلال ذلك، و تكاد تختنق، فحررت زفرة طويلة مرتعشة عبر شفتيها، و تمسكت بمزيد من جرأتها متسائلة:
“لماذا تنقذُ رهينتَك المعذبة؟ أي نوع من البشر أنت دارك ريغان؟!”.
“النوع الذي لا يحق لكِ طرح أي سؤال عليه!”.
زمَّت شفتيها بحدة معلقة على رده المتكبر:
“من تظن نفسك؟”.
حافظ على صمته، فتخبطت بحيرتها، و استرسلت في كلماتها الحادة:
“ما الذي كنتَ تفعله خارجًا؟ تُعدُّ مقصلةً لقطع رأسي أخيرًا!”.
للحظة ظنت أنه لن يجيبها سوى بالصمت كما كان يفعل منذ قليل، لكنه أفلت من عقال الهدوء على حين غرة، و لم تصدق أنه قهقه بملء فيه إثر ما قالته، تجمدت منتظرة ما في أعقاب ردة فعله الشاذة، و في النهاية التقط أنفاسه، و أجاب كشخص عادي:
3
“لم يعد للمقصلة ضرورةٌ في هذا الزمن، ثم لا داعي لتلويث المكان بدمِك، أكره تنظيف قذارتِك، لا تنسي هذا!”.
3
“أستغربُ كره القذارة لنفسها!”.
21
ردَّت عليه بقوة راقت له رغم حقده عليها، لكن ما قالته لم يثبط رغبته في طمس روحها، لذا استطرد متجاهلاً ببرود أنها تتحداه -مؤقتًا على الأقل:
“خنقُكِ بيدي العاريتين سيشعرني برضى أكبر، لكن… اللعنة! علي تأجيل هذا الآن، تأمين البيت أهم!”.
فكرت قليلاً، و علقت بدهاء:
“هذا يعني أن هجومًا آخر محتمل!”.
“يبدو أن لديكِ عقلاً يعمل!”.
لاحظت أنه ساخر بشدة اليوم، فدنت منه بدورها لتعبث بأعصابه كما يفعل معها، و نبست:
“ماذا فعلتَ حتى باتوا يطالبون بروحك؟”.
“أشياء لن تعرفيها مهما حاولتِ الغوص داخلي!”.
3
قال ذلك ناظرًا لنبض مستنفر في عنقها، ثم ابتسم مستمتعا بتوترها الذي تحاول جاهدةً إخفاءه، و تابع:
“لماذا تخشين الهجوم المُحتمل؟ لن أسمح لهم بقتلكِ يا مصيبتي! أنا فقط من سينالُ هذا الشرف العظيم، أنتِ لعنة حياتي… و أنا فقط من يحق له طردك!”.
1
صرت على أسنانها مغتاظة من نرجسيته، و نبست هذه المرة بقوة ناسية أنها في مواجهة مع شخص مجرد من الشعور و الإنسانية:
“أنا لا أخشى ذلك المصير، موتي على يديك أو على يدي غيرك لن يشكل فرقًا بالنسبة لي، إن كنتَ تريد وضع حد لحياتي… فتفضل… افعل ذلك الآن… و أرِحني!”.
2
مد يده خلف عنقها مدعيا أنه يلامس بشرتها الرقيقة، ثم فجأةً… شدَّ شعرها بقسوة يسحبها نحوه لتختلط أنفاسهما، و همس بنبرة لا تُفسَّر:
3
“لكني لا أريدُ لكِ الراحة، لا يزال الوقتُ باكرًا على قتلكِ، لن تموتي يا روكسان، ليس بعدما أنتهي منكِ!”.
أخذ منها الأمر وقتًا لتجد الحروف و ترتبها على لسانها متسائلة باستغراب:
“ماذا تعني بانتهائكَ مني؟! إلامَ ترمي؟!”.
مرَّر أصابعه بخفة على جانب من وجهها، فأدارته بعيدًا عنه تتقزز من لمسته، لتتسع ابتسامته أكثر و هو يجيبها:
“أليسَ واضحًا ما أعنيه؟ ألم تدركي بعد أنني أخطط لأخذكِ و بأسوء الطرق؟”.
7
شحبت و تقلبت معدتها فور سماع ذلك التصريح المتفاخر منه، ليضيف غير آبه بشعورها:
“كان ودِّي أن يتحقق ذلك الآن قبل أي وقت آخر، لكنكِ نجوتِ بفضل والدكِ الوغد!”.
7
إبتعد عنها دارك مستقيمًا يفرد طوله الفارع و يمشط الغرفة متحركًا من جدار لآخر بعصبية، كأنه كرة نار متأججة تتقاذفها زوايا تلك الحجرة، و لا يتحملها أي شبر لأكثر من ثانية، حدق بالفراغ حوله كما لو أن كل ذرة منه تحمل إليه ذكريات جحيمية تغذي نيرانه أكثر فأكثر، في حين ظلَّت روكسان فاغرة الفم تصغي فقط:
“كان يجب أن يكون ذلك الوغد متكوِّرًا هنا عند قدمي… يتوسلني كي أتوقف عن نهش جسدِ إبنته العفيف، لكنه يصارع الموت الآن في مكان آخر، لا بأس، هي مسألة وقت فقط، و ستأتي اللحظة التي أراه فيها يزحف محاولاً بعجز و ذل إنقاذ آخر نقطة من شرفه!”.
11
هاجمها مجددًا قابضًا بعنف على زنديها الهزيلين و هزها بشدة يزمجر بصوته الأجش:
“سأفعل بكِ ما فعله والدكِ بأمي… أمام عيني!”.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)