رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل السادس والعشرون 26 بقلم ياسمين عادل
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل السادس والعشرون 26 بقلم ياسمين عادل
البارت السادس والعشرون
^^ليلة في منزل طير جارح^^
الفصل السادس والعشرون :-
”لـيلـة في مـنزل طـير جـارح“
____________________________________
امتلأ حلقها بالمرارة فجأة، وكأن سيقانها قد تجمدن في مكانها ولم تستطع تحريكهم أبدًا. ما سمعته على لسان “هاشم” كان متوقعًا من عقلها الذي بدأ بالشك منذ فترة؛ ولكن قلبها لم يصدق أبدًا، لذلك تعيش صدمة حقيقية الآن لأنها لم تستوعب أحكام العقل، فبقيت جامدة گالثلج، رغم أن النار تشتعل في أحشائها الآن. حركت أطرافها السفلية بصعوبة شديدة، كأنها تجرهم جرًا، ونظرت للدرج وهي تهبط عليه ليُخيل إليها إنها ستسقط من أعلاه، كما حدث تمامًا منذ لحظات، لقد قذف بها “هاشم” من أعالي السماء حتى ارتطمت بالأرض، فأحست وكأن جذورها تنخلع من اليابسة، كأنها تُقتلع من المكان الذي ظنت إنها تنتمي إليه، ولم يعد لديها أغصان لتحارب عن نفسها، حتى من أمنته على نفسها ظهرت حقيقته من خلف ذلك الوجه الضاحك المبتسم، المهذب والناعم، لقد كان طيرًا جارحًا قاسيًا، قذف بها إلى عرض البحر، وهي لا تدرك معنى السباحة.
سحبتها خطواتها لمكتبه، دخلته خِلسة لتستعيد هديتها الثمينة التي لم يستحقها أبدًا، وقد بدأت الدموع تتجمع في مقلتيها، فلم تعتاد بعد على الخذلان، ولا تقوى على هزيمة نفسها التي تتأمل العيش في سعادة، ركضت وعيناها تراقب الطريق، لئلا يراها أحد في حالتها تلك، لا سيما والدتها التي استمرت بالعيش هنا من أجلها فقط، الآن إذا علمت بالحقيقة ستدفعها للهروب من ذلك الرجل لا محاله، وهي في حاجه ماسّة للوقت، الوقت هو الخطة التي ستسعفها، ولو أن جرحها الغائر لن يكفيه الإسعافات الأولية؛ ويحتاج لتدخل جراحي.
*************************************
شد حزام الأمان على خصرهِ، ثم نظر عبر النافذة ليرى إنه ما زال واقفًا على أراضي بلاده. تنهد “مراد” مستعيدًا في ذهنهِ آخر لقاء بينهم، متعمدًا سكب الغلّ على مشاعره تجاهها، لعل ذلك يُفيد في حالته المستعصية أو يشفي جرحه قليلًا. أحس بأحد جلس إلى جواره، رائحة العطر تشير إلى هويتها، أنثى تميل للعطور الناعمة غير النفاذة، تسلل إليه شعور بإنه يتذكر هذه الرائحة جيدًا، أو إنه يحفظها من مكانٍ ما في عقلهِ؛ لكنه عاجز عن التذكر. تحركت رأسه قليلًا لكي يستكشف صاحبة العطر، ثمة فضول شديد يداعب حواسه الآن وهو منصاع إليه، حتى وقعت أنظاره على صفحة وجهها الجانبية، إنه يعرفها، مألوفة إليه ، فلم يمنع نفسه من محاولة التأكد من هويتها :
– آحم.. مساء الخير.
التفتت إليه برأسها ليتبين كامل وجهها، فرآها هي، جارتهِ الصغيرة، الملاك الذي كان يلعب معه في الصغر، “رقــية أبو سـالـم”، صديقة الطفولة وأنيسة ليالي المراهقة الطويلة. انتفخت عينا “مراد”، ولم تقل عنه الفتاة دهشة، إذ نطقت بأسمه غير مصدقة إنها تراه هنا الآن :
– مُـراد ؟!.. معقول ده انت؟.
ابتسم “مراد” تلقائيًا وكأن الغيمة التي حلقّت فوق رأسه لأيام طويلة قد انسحبت من السماء :
– أزيك يا روكا.. لينا سنين مشوفناش بعض!.
لم يقل وجهها ابتهاجًا عنه، بل إنه كانت مشرقة أكثر من اللازم :
– أنا كويسة.. وانت ؟.. طمني عنك وعن أخبارك؟!.
ثم انطفأت قليلًا وهي تسأله بترقبٍ غير ملحوظ :
– وندى عاملة إيه؟.
لتتحول إشراقتهِ لظلام مفاجئ، ظلام بدد البهجة خلال ثانية واحدة، ليجيب بدون أي تفكير :
– دي قصة اتقفلت من زمان.. ومش عايز في أول مقابلة لينا نفتحها تاني.
تضايقت بعدما تسببت في تحول وجهه للتعاسة الشديدة، ثم هطلت عليه باعتذاراتها كما كانت دائمًا :
– أنا أسفة مقصدتش أبدًا أضايقك.. انت زعلت؟.. Sorry بليز متزعلش.
ضحك “مراد” رغمًا عنه ليقول :
– انتي لسه بتعتذري كل ٥ دقايق زي ما كنتي؟!.
ابتسمت “رقية” وهي تشيح بعيناها عنه :
– أعمل إيه طبع.
– انتي رايحة تركيا ليه؟.
كانت سعيدة وهي تقدم نفسها گرائدة للأعمال في واحد ما أهم المجالات التي تعمل بها النساء حاليًا :
– أنا مسافرة في شغل يخص المكتب بتاعي، براند ملابس وانا مكتبي الوحيد اللي بيوزعه في مصر.
– هـايـل.
– وانت ؟.
أسند “مراد” رأسه على مقعد الطائرة وهو يجيب :
– سياحة.. محتاج أفصل.
أحست “رقية” بإقلاع الطائرة، ومازالت لم تتأكد من إحكام حزام الأمان بعد، فـ توترت بشدة وهي تحاول إغلاقهِ وبدا ذلك جليًا عليها، ليبادر “مراد” بتقديم المساعدة :
– متقلقيش يارقية بسيطة.. خليني أساعدك طيب.
بالفعل أغلق الحزام وأبتعد على الفور، ليسألها في توجس :
– انتي لسه بتخافي من الطيارات؟.
حاولت استعادة توازنها، لتقول بإبتسامة أظهرت توترها أكثر :
– لا عادي.. أنا تمام.
ثم أرادت أن تبعد دفة الحوار عنها :
– طمني عليك وعلى أحوالك.. عملت إيه السنين اللي فاتت؟.
***************************************
تقريبًا حصلت على ساعتين من النوم فقط، بعدما هربت الراحة من جفونها طيلة الليل، ولم تستسلم جفونها سوى مع شروق الشمس. فتحت “رحيل” عيناها وقد بقيت آثار الشمس على وجهها، لتحس بآلام متفرقة في سائر بدنها، وكأنها خاضت معركة أثناء النوم دون أن تشعر، فتآوهت وهي تنهض عن الوسادة، لينفتح الباب فجأة وبسرعة أفزعتها. دخل “هاشم” وعيناه معلقتين بها :
– صباح الخير.
فإجابت بصوت مرهق مكتوم :
– صباح النور.
تأملها قليلًا وقد تأكد شعوره بإنها ليست في حالتها الطبيعية، ليسألها بفضول :
– هو في إيه بالظبط؟.. من امبارح شكلك مش طبيعي، في حاجه انتي مش قايلالي عليها؟؟.
أومأت برأسها وهي ترفع عيناها إليه، لكي لا يشعر بشيئًا الآن على الأقل :
– لأ.. بس شكلي داخله على دور برد تقيل شويه.
اقترب قليلًا منها وهو يقول :
– ما هو باين.. عينك حمرا ووشك منفوخ كأنك منمتيش طول الليل.
نظر في ساعة يده قبل أن يقول :
– هبعتلك الدكتور يبص عليكي النهاردة انتي وليلى.. أحسن البنت تكون خدت البرد منك.
كادت تنهض عن الفراش فأشار لها كي تتوقف :
– خليكي انا مش عايز ولا فطار ولا حمام ولا أي حاجه.
نفت وجود نية گهذه لديها، وهي تجيب بجدية بيّنة :
– أنا داخلة الـ Toilet مش هعمل حاجه تانية.
أومأ رأسه متفهمًا، ومازالت عينه عليها إلى أن أغلقت الباب من خلفها، كأنه لم يصدق كذبتها، لم يقتنع بتلك النظرة التي تحاول إخفائها عنه، ثمة أمر مريب فيها، رغم إنها مدة قصيرة التي قضتها معه؛ إلا إنه فهم جزء كبير من شخصيتها، شخصيتها التي تحاول أن تتلاعب عليه الآن وكأنه لا يوجد أي شئ.
فتحت “رحيل” صنبور المياه عن آخره، لكي يغطي على أنينها الذي لم تستطع منعه، وخلعت عنها ثيابها أيضًا ومازالت الدموع تفيض من عيونها بغزارة، حتى دخلت المسبح أسفل المياة المنسابة على رأسها، فـ اختلطت بدموعها وغسلت وجهها من أثارها تمامًا. أطلقت زفيرًا طويلًا بعدما كتمت أنفاسها أسفل الماء، ثم نظرت للفراغ وقد تحجرت بقايا الدموع في عيونها، لقد وجدت مدخلًا للإنتقام لنفسها، لن تترك الأمر وكأنه لم يكن، لن تكون الجذع الضعيف المنكسر، عليها أن تقتص لنفسها من ذلك الجبار الذي لم يحترم قدسية قلبها وتلاعب به بين أصبعيه. لقد اكتشفت بفطنتها إنه منذ أول ليلة قضتها في منزله وهو يخطط لما هو فيه الآن، ليست من محاسن الصدف ولا ترتيبات القدر، بل كان كل شئ مدبر بإحكام، لقد سقطت فريسة بكل طواعية، والآن عليها أن تتخلص من الصياد قبل أن يضيق عليها القفص.
خرجت “رحيل” من دورة المياة ونظرت حولها، لم يكن هناك، فـ خطت محو الشرفة ونظرت من خلف الستار، لتراه بالأسفل يلاعب “ليلى” قبل أن يمضي في طريقه. عادت للداخل واستخدمت هاتفها لإجراء مكالمة هاتفية گأولى خطواتها لإستعادة الحق المهدر، وظلت في حركة مستمرة يمينًا ويسارًا حتى أتاها الرد :
– ألو.. أيوة يا بشمهندس معاك رحيل.. ياترى أقدر أستلم بيتي أمتى؟. آه.. طب كويس جدًا، خلاص هكلمك تاني بالليل ان شاء الله.. شكرًا.
أغلقت المكالمة، ثم بدأت تجري مكالمة أخرى، مكالمة جعلت الأدرينالين يرتفع في جسدها، وحرارتها تتضاعف من فرط الحماس :
– ألو.. صباح الخير ياست صباح، ياترى عرضك لسه موجود.. وانا كمان جاهزة أبيـع.
****************************************
محاولات بائسة منذ يومين للوصول إليه، لا تصدق إنه ابتعد لهذه الدرجة، لمجرد شكوك واهيه في رأسه اقتنع بها، وإنه مجرد أداة لتحقيق ما تريد وليس إلا ذلك.
كررت “ندى” محاولات الإتصال به عسى تجد هاتفه مفتوحًا؛ لكنه گالعادة مغلق، وحساباته الإجتماعية قد حظرها من عليها، كأنه انقطاع نهائي لا عودة فيه، بعدما مزق كل الخيوط الضعيفة التي كانت لا تزال تربطه بها.
ألقت “ندى” هاتفها على الطاولة، وقد ضاق عليها صدرها أكثر بعدما فقدت الأمل في الوصول إليه. فكرت في زيارة مكتبهِ، أو منزله؛ لكنها كانت خطوة ثقيلة للغاية، خاصة وإنها هي التي كانت تدفعه للإبتعاد عنها، هي التي رفضت العودة للعهد القديم، فـ رسخت برأسه أوهامه حيالها.
خرج “مازن” إليها وهي يتطلع لتعابير وجهها المقروءة، ثم جلس قبالتها وهو يسأل :
– لسه مفيش رد منه؟؟.
أومأت “ندى” رأسها بالسلب، فـ رفع عنها أخيها ذلك الحمل الثقيل :
– خلاص متتعبيش نفسك، أنا اللي هتكلم مع كاميليا لآخر مرة، ياأما تيجي معايا ياأما…. خلاص كده.
أنا مش هفضل مستني العمر كله ولا كأني كنت حاجه في حياتها.
مسحت “ندى” على وجهها وهي تسأله :
– هو الولد نام؟.
– آه.
نهضت عن مكانها وهي تقول :
– طب انا هروح اطمن عليه.
وهربت، أفضل ما تتقنه “ندى” كان الهروب، هكذا كان يدّعي “مراد” دائمًا، وعلى ما يبدو كان حكمه عليها صائبًا.
**************************************
تأخر گعادته، لم تسأله أين هو ولماذا تأخر كما كانت تفعل دائمًا، فقد سئمت تدليل إنسان أناني مثله، لم يفكر قط سوى في تحقيق أطماعه على حساب مشاعرها هي، ليس ذلك فحسب، بل إنه اشترى أرضًا بثمنٍ بخس وكأنه يستهزأ بها، بعدما أوهمها إنه دفع مبلغ باهظ من المال في أرض لا تستحق أبدًا هذا الرقم. ظلت ماكثة في غرفتهم، عيناها على الدبلة التي وجدتها اليوم ملقاه على المكتب، وكأنها ليست شيئًا معنيًا بالنسبة له، لم تستعيدها ولم تأخذها، لعل وجودها أمام عينيه يذكرهُ بأثمهِ، أو تكون هي السوط الذي سيجلده بلا رحمة، وقد لا يعاني في غيابها على الإطلاق. إنها تواسي نفسها الآن بإنه سيعيش في عذاب الضمير بعدما تهجره، وكل خشيتها هي أن يكون حجرًا قاسيًا لدرجة إنها لن تؤثر فيه.
انفتح الباب ليدخل منه “هاشم”، يبدو عليه الأرق والضيق معًا. لم تتحدث إليه أو ترحب بوجوده، بينما رأى هو تلك الحقائب الموضوعة جانبًا، ليسألها في فضول :
– إيه الشنط دي ؟.
– شنطي.
نهضت عن جلستها لتقف في مواجهتهُ وتقول :
– أنا عايزة أمشي من هـنا يا هاشـم.. طلـقـني….
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية ليلة في منزل طير جارح)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)