روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم منال سالم

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم منال سالم

 

البارت الثاني والأربعون

 

كانت جالسة باسترخاءٍ على الأريكة الذهبية التي تتوسط غرفة الصالون، وعيناها تتابعان بفتور ما تبثه شاشة التلفاز من عرضٍ تشوقي لواحدٍ من المسلسلات القادمة. لم تكن الابنة المفضلة لدى أبيها، ولم تكن البكرية، كانت ترتيبها الأخير في سلسلة من الشقيقات، لم تعلم إن كان من حسن الحظ أم لا أن نسل والدها اقتصر على الإناث، فأصبحت لدى كل منهن مهمة بعينها، إما زيادة الأملاك، وقف الثــأر، توطيد العلاقات القائمة على المصالح الشخصية.
الاختيار وقع عليها لتكون سببًا في إنهاء خصومة ممتدة بين العائلتين، لم تعشق زوجها، ولم ترغب في الزواج به، إلا أنها كانت مضطرة لتنفيذ قرار كبير العائلة، خاصة بعدما تزوج من خفق الفؤاد لأجله وصار ملكًا لغيرها، فبات جميع الرجال سواسية لديها؛ لكن –وحسبما اعتقدت- يبدو أن لعنة ما طاردتها، فتوفي زوجها بعد فترة وجيزة، لتغدو أرملة، وتعود إلى بيت عائلتها حاملة ذلك اللقب التعيس وهي في ريعان شبابها.
أمسكت “أحلام” بمبرد الأظافر، وراحت تساوي أطرافها لتتناسق معًا. تنهيدة مرهقة قد تحررت من بين شفتيها أثناء ما كانت تتثاءب، فيومها لا جديد يحدث فيه إلا حينما يعود “غيث” إلى البلدة، لحظتها تنتقل للإقامة في قصر عائلته طوال فترة النهار، لتعود وقت المغرب إلى بيتها، على أمل أن يشعر بها يومًا، ويوافق على الزواج منها بعدما فشل هو الآخر في زيجته المشؤومة، تلك التي انتهت بفضيحة زلزلت كيانه، وجعلته عازفًا عن الارتباط مجددًا، آه لو يمنحها الفرصة، لذاق من حلاوة العشق وعذوبته ما يطرب القلب وينعشه!
أتتها خادمتها صائحة في نبرة متلهفة:
-ست “أحلام”، يا ست “أحلام”!
لم تكلف نفسها عناء الالتفاف للجانب لرؤيتها، وسألتها بفمٍ ملتوٍ:
-في إيه يا به؟ مالك خاوتة دماغي على المسا إكده.
بالكاد التقطت “نعمة” أنفاسها لتخبرتها بأساريرٍ مبتهجة على الأخير:
-البيه “غيث” رجع بالسلامة.
ما إن سمعت اسمه حتى انتفضت من موضعها لتهتف بلوعةٍ واشتياق:
-واد عمي!
واصلت خادمتها إخبارها بنفس القدر من الحماس:
-لسه “سنية” جافلة معايا السماعة ومبلغاني يا ست البنات.
ألقت “أحلام” بمبرد الأظافر على السطح الرخامي للطاولة الموضوعة قبالتها، وأعطتها أمرها وهي تطرح على شعرها الحريري الأسود المسترسل حجاب رأسها:
-أوام هاتي خلجاتي خليني أروح أطمن على مَرَت عمي.
ناولتها عباءتها السوداء لترتديها فوق ثيابها المزركشة، فيما أضافت “نعمة” في شيءٍ من التحذير:
-الحاج “راشد” إهناك بردك.
وكأنها لم تلقِ بالًا لما فاهت به، وقالت بغير اكتراثٍ:
-أهوو أبجي أرجع مع بوي، ولو كان مشى أي حد من الغفر يعاود بيا.
عاونتها على الانتهاء من ارتدائها، لتلقي نظرة سريعة على هيئتها في إحدى المرايا المعلقة على الجدران قبل أن تصدر لها أمرها التالي لتتبعها:
-ياله يا به ماتضيعيش وقتي.
في التو انتعلت “نعمة” خفها لتركض خلفها مرددة:
-وراكي أهوو يا ستي.
………………………………..
أصبح مسموحًا لثلاثتهن بالدخول إلى بهو القصر، بَهَر نظراتهن تصميمه الداخلي الأنيق، والذي يتماشى بصورة متناغمة مع لون الأثاث المتنوع ما بين الفاخر والعصري، وكأنه استعراضٍ لمدى ثراء تلك العائلة. تأملت “إيمان” الأرضية اللامعة وخطت بحذرٍ على السجاد كأنما تخشى أن يتسخ بفعل حذائها غير النظيف، فيما وقعت عينا “دليلة” على الصورة الزيتية المعلقة لأحدهم على ذلك الجدار، كان يبدو مهيبًا من الوهلة الأولى، توحي نظرته بالصرامة والقوة برغم كبر سنه. شتت بصرها عن الصورة التي استرعت اهتمامها عندما تكلمت “فاطمة” لتحادثهن في ترحابٍ:
-اتفضلوا من إهنه.
أشارت إلى غرفة الصالون، حيث كانت فسيحة، يغلب عليها الطابع العتيق رغم حداثة الأثاث بها، إلا أن اختيار كل قطعة فيه نمَّت عن تمسك العائلة بكل ما هو أصيل وقديم. جلست “دليلة” في المنتصف بين والدتها وشقيقتها الكبرى على الأريكة المتسعة، لتقوم “فاطمة” بالجلوس في مواجهتهن، وعلى وجهها ابتسامة بشوشة، استطردت تخاطبهن بأسلوبها الودي الملحوظ:
-ماتشلوش هم حاجة واصل، إنتو هنا فوج راسنا.
ردت “عيشة” في امتنانٍ:
-كتر خيرك يا حاجة، احنا عملنالكم قلق.
استعتبتها في لطافةٍ وهي ترفع حاجبيها للأعلى:
-بردك هتجولي الكلام اللي يزعل؟!
في التو أخبرتها وقد لازمها شعورها بالحرج من كرمها المبالغ فيه:
-ماقصدش والله.
تابعت “فاطمة” قائلة وهي تشير بيدها:
-الجصر أهو جصادكم شِرح وبِرح ويرمح فيه الخيل.
علقت “عيشة” عليها باسمة:
-اللهم زد وبارك.
فيما واصلت “فاطمة” حديثها الودود إليها:
-مسافة بس ما تغيروا خلاجتكم هتلاجوا السفرة جاهزة.
عادت لتشكرها مرة ثانية:
-كتر خيرك والله.
التفتت بعدها “فاطمة” برأسها للخلف لتوجه أمرها إلى خادمتها قائلة:
-بت يا “سنية” الحاجة جاهزة؟
أسرعت ناحيتها مجيبة إياها وهي تومئ برأسها:
-إيوه يا ست الحاجة، كل اللي أمرتي به عملته.
عاودت “فاطمة” النظر إلى ثلاثتهن وهي تكلمهن بابتسامتها التي تشي بطيبة لا مثيل لها:
-هتلاجوا فوق في أوضتكم خلجات نضيفة، غيروا فيهم وهستناكو تحت ناكلوا سوا.
أشارت “عيشة” بعينيها لابنتيها لتنهضا معها، وقالت في إيجازٍ:
-حاضر.
لتقف “فاطمة” بدورها، وتعطي أمرها الجديد إلى خادمتها:
-معاهم يا به، وريهم السكة.
في التو تقدمت للأمام لترشدهن قائلة:
-ماشي يا ست الحاجة.
وقفت عند درج السلم، وأشارت نحوه هاتفة:
-اتفضلوا يا هوانم
تحركن خلفها على الدرج الرخامي المفروش ببساطٍ أحمر سميك، ليصعدن جميعًا إلى الطابق العلوي حيث تتواجد به غرف النوم على مختلف مساحاتها.
……………………………………..
في غرفة خارجية ملحقة بالقصر من باب جانبي، تشبه المضيفة التي يجتمع فيها أغلب رجال العائلة وكذلك الضيوف، جلس “غيث” مع والده وعمه بناءً على طلب الأخير لمعرفة هوية هؤلاء النسوة الأغراب، خاصة مع عدم اقتناعه بحجة انتمائهن لعائلة “وهبة”.
ألح “راشد” بسؤاله الفضولي مجددًا بعدما انصرف الخفير الذي صب الشاي الساخن لثلاثتهم:
-ما جولتليش مين دول يا “غيث”؟ وما تجولش قرايب الواد “وهبة”، احنا عارفين رجالتهم وحريمهم نفر نفر.
بعد لحظة من التفكير أجابه بردٍ محايد، لا يسمن ولا يغني من جوع:
-دول جماعة معارفه من البندر، وهو وصاني بيهم، هيجعدوا إهنه يومين ويروحوا لحالهم.
نظر إليه بتفرسٍ، لينتقل لسؤاله المتشكك التالي:
-وليه ماروحوش عند قرايبه؟ هما أولى بيهم!
أتاه جوابه حازمًا ومستنكرًا في نفس التوقيت:
-وأني من ميتى برد حد جاصدني في خدمة ولا معروف؟!
دبَّ “راشد” بطرف عكازه الأرضية محتجًا:
-ما هو الحكاية دي مش داخلة مخي واصل يا ولد خوي، وأني طالما مش مقتنع لازم أجف على أساسها، وخصوصًا إن الفار بيلعب في عبي.
فيما نفخ “زكريا” في سأمٍ من تطفل شقيقه المزعج، وقال لينهي الحوار في هذه المسألة بشيءٍ من الهزل:
-بعدين ياخوي نشوفوا الفار اللي محيرك ده، اشرب شايك جَبل ما يُبرد.
انزعج “راشد” من طريقة شقيقه في صرف انتباهه عن ذلك الأمر، وهب قائمًا ليقول في تذمرٍ:
-اعتبرني شربته، أني ماشي.
نهض “غيث” ليودعه بلا ابتسامٍ:
-في سلامة الله يا عمي.
لم ينظر تجاهه، وواصل سيره المتعصب نحو الباب، ليسمعه كلاهما وهو يبرطم بضيقٍ قبل أن يصفق الباب من ورائه:
-جبر يلم العِفش.
عاد “غيث” ليجلس مجاورًا أبيه، فتكلم الأخير في هدوءٍ:
-ما تخدش على خاطرك من عمك، إنت أكتر واحد عارف حميته.
هز رأسه معقبًا في تفهمٍ:
-اطمن يابوي، أني مش صغير.
تفرس “زكريا” في وجه ابنه متابعًا بنبرة شبه محذرة:
-المهم شوف هتتصرفوا إزاي مع جماعة “وهبة” وتبلغهم بالخبر المشجؤم إياه.
شعر بانقباضةٍ في قلبه ليضيف بتوجسٍ:
-دي أكتر حاجة أني خايف منيها.
تنهد والده قائلًا وهو يضم يديه معًا فوق رأس عكازه:
-ربك يعديها على خير.
…………………………………
فاقت غرفة الضيوف توقعات ثلاثتهن، فقد ظنن أنها غرفة عادية، مثل تلك الموجودة في الفنادق زهيدة السعر، إلا أنها كانت على العكس تمامًا، حيث امتازت بفخامة الأثاث، وكِبر حجم السريرين اللذين وضعا متوازيين ليتسعا لعائلة كبيرة الحجم، بجانب دولابٍ ضخم مكون من أربعة ضلف، فيكفي لوضع الثياب وغيرها من المتعلقات الشخصية دون تكديس، أما الستائر فكانت من قماش القطيفة زي اللون الزيتوني الدكان، وحجبت من ورائها شرفة متسعة تطل على الحديقة الخلفية للقصر، بالإضافة إلى حمام خاص ملحق بالغرفة يحتوي على كل ما يلزم للاستخدام الشخصي.
هتفت “إيمان” بشيءٍ من الإعجاب وهي تتأمل تفاصيل المكان:
-ماشاءالله، أنا ماشوفتش كده في حياتي.
ردت عليها “دليلة” وهي تدنو من الفراش لتمعن النظر في العباءات النظيفة المرصوصة بعناية على طرفة
-شكلهم ناس مش عادية.
فيما قالت “عيشة” بتعففٍ:
-ربنا يزيد ويبارك.
لحقت “إيمان” بشقيقتها، ومدت يدها لتتفحص العباءات المنزلية عن قرب، كانت جميعها بنفس المقاس، مزركشة بالورود الصغيرة، ويغلب عليها الألوان الداكنة، فتنوعت ما بين بني، وكحلي، وأسود.
لدهشتها عندما فتحت واحدة، وجدتها لا تزال ببطاقتها الورقية، وذلك يدل على عدم استخدامها. افترت شفتاها متسائلة بتعجبٍ:
-معقولة الست جيبالنا هدوم جديدة؟
علقت عليها “عيشة” في رضا:
-ربنا بيوقفلنا ولاد الحلال.
في التو بدلت “إيمان” ثيابها، وقامت بارتداء العباءة ذات اللون الكحلي، ودارت حول نفسها قائلة بمرحٍ:
-هي مش مقاسنا صحيح، بس قماشها نوعه كويس أوي.
لتعقب عليها “دليلة” بعدم اهتمام:
-أهي أي حاجة تقضي الغرض.
لكزتها “إيمان” بكتفها في ذراعها قائلة بتدللٍ:
-بس الست متوصية بينا.
لتهتف “عيشة” قائلة بصرامةٍ وهي تشير إلى كلتيهما:
-بطلوا رغي والبسوا أوام، مش عايزين نتأخر على الناس اللي منتظرينا تحت.
امتثلتا لأمرها، وأكملت “دليلة” تغيير ثيابها فارتدت العباءة التي يغلب عليها اللون البني، فيما وضعت “عيشة” العباءة ذات اللون الأسود على بدنها، ليتحركن بعدها خارج الغرفة.
…………………………………
انطلقت سيارات متفاوتة الموديلات تعج بعشرات الرجال المدججين بمختلف أنواع الأسلـــحة البيضاء بجانب بعض البنــادق والرشاشات الألية نحو التَبَّة العالية بغرض اقتحامها، وإحـــراقها عن بكرة أبيها، والقضاء تمامًا على كل ما فيها. كان “العترة” يجلس في مقعد الراكب في السيارة الرئيسية التي تتولى قيادة هذا الموكب الخطـــير، طرق بيده بقوةٍ على البدن المعدني لبابه مناديًا أتباعه:
-مش عايز يفضل للمكان ده أي أثر، يتمحى من على الوجود.
قال أحدهم نيابة عن البقية:
-ماشي يا ريسنا.
فيما هبط الرجال قفزًا ووثبًا ومترجلين من كافة السيارات، وأسرعوا بالتقدم نحو المدخل الوحيد المؤدي إلى التَبَّة، ومن ورائهم صوت “العِترة” يشدد عليهم:
-والكلب “زهير” يجيلي تحت رجلي هنا…
أشهر ســـلاحه النـــاري في الهواء محذرًا الجميع:
-محدش يمسه، أنا هاخد روحه بإيدي.
رد أحدهم مومئًا برأسه:
-اللي تؤمر بيه.
ليصدر أمره المحمل بدفقاتٍ كبيرة من الحماس:
-هجوم يا رجالة!
انطلقوا مسرعين نحو الداخل، وصيحاتهم المرتفعة تسبقهم، ليحدث التلاحم البدني العنيف بين طرفي المشاجرة، وما بين كرٍّ وفرٍ تدافعت الجموع هنا وهناك حتى غدا المكان في حالة فوضى عارمة.
…………………………………
مثل تلك الأخبار العاجلة تنتقل بسرعة البرق إلى الجميع، وصل النبأ إلى “عباس”، والذي بدوره نقله إلى رب عمله الجالس بجواره في سيارته المتجهة إلى حيث يتواجد “وهبة”. بحذرٍ بائن على ملامحه استطرد مخاطبًا إياه وهو يحاول التركيز على الطريق أيضًا:
-في أخبار مش ولابد يا كوبارتنا.
تساءل الأخير مقتضبًا وهو يفرك جبينه:
-خير؟
ازدرد ريقه وأبلغه:
-“العِترة” ورجالته هجموا على التَبَّة.
وكأنه لا يعبأ بالكارثة التي حلت على عقر دار عائلة “الهجام”، وتساءل في برود جليدي عجيب:
-فيها حاجة مهمة؟
هز رأسه نافيًا وهو يخبره:
-لأ، احنا نقلنا كل اللي يخصنا في المخازن الجديدة.
أراح رأسه للخلف، وقال بنفس النبرة غير المهتمة:
-سيبوها يشبع بيها، وخلينا نشوف اللي ورانا.
اعترض عليه بانزعاجٍ لم يستطع إخفائه:
-بس سمعتنا يا كبيرنا، دي مهما كان آ…
قاطعه بحزمٍ:
-مش وقته، في أولويات عندي، وأنا مش في بالي غير حاجة واحدة وبس.
لم يرغب في مجادلته، وابتلع ما يريد قوله في جوفه ليمعن النظر في ذلك التجمع المريب لأفراد القوة الأمنية، والمتواجد على مسافة عدة أمتار. جف ريقه في حلقه، وتمتم بشيءٍ من القلق:
-في لجنة قصادنا.
أغمض “زهير” جفنيه، وسأله بهدوءٍ أعجب:
-مش ورقنا سليم؟
رد مؤكدًا بما لا يدع مجالًا للشك:
-أيوه يا كوبارتنا.
فرقع بإصبعيه قائلًا:
-خلاص دوس ما يهمكش.
نفذ مطلبه، وتابع قيادته للسيارة حتى وصل إلى كمين الشرطة المرابض على جانب الطريق. استوقفه الضابط المسئول عنه آمرًا بلهجته الصارمة:
-اركنلي على جمب.
خفض “عباس” من زجاج نافذته، وتساءل وهو يحاول الابتسام بسخافةٍ:
-خير يا باشا؟
أوجز في إجابته:
-رخصك.
في التو أخرجها من الجيب الجلدي المثبت أعلاه، أعطاها له لينظر إليها، وتحدث متصنعًا الابتسام
-الرخص سليمة وكله تمام.
صاح فيه الضابط بما يشبه الزمجرة:
-مش إنت اللي هتعرفني شغلي.
خاطبه في حذرٍ:
-يا باشا مقصدش.
فيما تحدث “زهير” بهدوءٍ وهو يميل برأسه للجانب ليتمكن من رؤية الضابط:
-سيب الباشا يشوف شغله يا “عباس”.
تراجع الضابط مسافة متر بعيدًا عن السيارة، وحادث زملائه بجديةٍ قبل أن يعاود الاقتراب منهما وهو يلقي أمره النافذ:
-لملي بطايق الناس دي كلها واكشف عليها، واللي عليه حاجة حطه في عربية الترحيلات.
اندهش “عباس” من قراره الغريب، واحتج في إنكارٍ جم:
-ليه يا باشا؟ احنا عملنا إيه بس؟
شد الضابط مقبض الباب ليفتحه، وأمره في رنة هازئة نسبيًا:
-انزلي يا حلو.
اضطر على مضضٍ للاستجابة لأمره، بينما خاطب ضابط آخر “زهير” من زاويته:
-منور يا “زهير”.
التفت الأخير ناظرًا تجاهه وهو يسأله باستغرابٍ:
-الباشا يعرفني؟
اتسعت ابتسامة الضابط المغترة، وراح يخاطبه في شيءٍ من النشوة:
-أومال؟ ده إنت في نشرة مبعوتة علشانك مخصوص.
قطب جبينه متسائلًا في تعجبٍ:
-مش فاهم.
أجابه وهو يجذب المقبض ليفتح ناحيته من الباب:
-في أمر ضبط وإحضار ليك يا “زهير”.
ترجل مرغمًا من موضع جلوسه، وسأله في انزعاجٍ متزايد:
-ده علشان إيه؟ أنا معنديش مشاكل مع حد.
قبض الضابط على ذراعه، ودفعه معه للأمام قائلًا:
-هتعرف لما تروح النيابة، خدوه على البوكس
تغلب شعوره بالضيق على شعور الصدمة الذي انتابه للحظةٍ، ليجد نفسه في لمح البصر مقيدًا بالأصفاد، وأخرون يقتادوه نحو عربة الشرطة المصفحة، ليهتف معترضًا:
-أنا عايز المحامي بتاعي.
تعمد الضابط تجاهل صيحاته، وواصل عمله مع البقية التابعين لـ “زهير”، ليتم وضعهم بالكامل داخل سيارات الشرطة.
………………………………….
احتلت تلك اللمعة المتشوقة عينيها بمجرد أن وطأت قصر عمها الكبير، فكم كانت تمني نفسها لتكون إحدى سيداته، وخليفة لزوجة عمها في تولي شئونه، فقط إن كانت قد تزوجت بابن عمها “غيث”، إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن!
أقبلت “أحلام” على “فاطمة” لتحتضنها بقوةٍ، وأحنت رأسها على جبينها قبل أن تنحني على كفها لتقبله مرددة في وديةٍ وحرارة:
-مَرَت عمي.
جاء رد الأخيرة شبه معاتب:
-فينك يا “أحلام” من بدري؟
لتتحول نبرتها إلى العبثية وهي تخبرها ضاحكة:
-توك ما سمعتي إن “غيث” إهنه جيتي أوام؟
تخضبت بشرتها بحمرة نضرة لتقول وهي تجذب طرف حجابها نحو فمها، كأنما تستحي مما تعرفه عن مشاعرها جيدًا:
-متجوليش إكده يا مرت عمي، إنتي توحشتني جوي جوي.
ردت بغير تصديقٍ:
-لأ واضح.
لئلا تظن أنها تتكاسل عن زيارتها، أخذت تستفيض في التبرير لها:
-وما ليكي عليا حلفان، بفضل أتحايل على بوي عشان يخليني أجي، بس هو راسه وألف سيف أجعد في البيت، وأني على يدك محبوسة ليل نهار هناك، وما بصدق تاجي فرصة أجي إهنه.
ربتت على كتفها بترفقٍ قبل أن تعلق عليها في نبرة أظهرت تعاطفها وكذلك دعمها:
-ياما كان نفسي “غيث” يكون من حدك ومن نصيبك، بس هو رافض الجواز نهائي، وخصوصي بعد اللي عملته فيه مَرَته الأولى.
الجميع هنا مسخرٌ لخدمة مصالح العائلة أيًا كان وضعه، فجاءت زيجة “غيث” هي الأخرى من أجل تلقي الدعم اللازم للظفر بمقعدٍ في البرلمان، ليمنحهم المزيد من النفوذ والسلطة، إلا أن زوجته كانت تبغضه، وأذاقته من صنوف الكراهية والحقد ما دفعه ما لا يتحمله إنسان سوي.
ازدادت الأمور تعقدًا، وأصبح ليله مثل نهاره كالجحيم بعدما خالفت عائلتها وعدها بتقديم الدعم لأحد أبناء عمومته في الانتخابات النيابية، لتصبح زيجته غير مجدية بالمرة، ومع ذلك لم يحاول ظلم زوجته، وتعامل معها بالحسنى والمعروف، ورغم هذا قابلتها بالإساءة الشديدة، لينهي معاناته معها بالطلاق، فأقامت الأفراح لانفصالها عنه، وتزوجت بآخر بمجرد أن انقضت عدتها، ليشعر بالمهانة والذل، خاصة مع تردد بعض الأقاويل المغلوطة بشـأن ارتباطها بذلك الشخص أثناء زواجها منه، إلا أنه وأد تلك الشائعات التي مست سمعته بلا رأفة، وألزم الجميع بمنع التحدث عنها تحت أي ظرف، وإلا لتعرضوا لغضبته الشديدة، فانصاعوا له بعدما رأوا ردة فعله، وظل وحده من يكبت في نفسه مشاعره الانتقامية فقط لئلا يورط العائلة في صراع جديد.
زفرت “فاطمة” الهواء من رئتيها هاتفة في أسفٍ:
-لو مكانش أبوكي ركب دماغه وصمم يجوزك وإنتي لسه بنته صغار كان زمانتك جاعدة معايا إهنه، وعيالكم بتجري حواليا.
التمعت عينا “أحلام” بدمعاتٍ خفيفة متأثرة وهي تعقب:
-الله يسامحه بوي، ظلمني وظلمه، وصمم يجوزني عشان التار يُجف، وفي الآخر أني اللي ترملت، وشبابي راح هدر.
مرة ثانية ربتت على كتفها قائلة في تعاطفٍ:
-بكرة ربنا يعوضك بابن الحلال اللي يستاهلك.
لم تخجل من إخبارها صراحةً بما يعتمل قلبها قبل عقلها:
-وأني مافيش في جلبي غير واحد هو اللي ريداه.
ابتسمت في تعاطفٍ قبل أن تقول بنبرة متضرعة:
-ربنا يهديه .
مالت “أحلام” عليها لتخاطبها في صوتٍ خفيض، وكأنها ترجوها:
-زني عليه أكتر يا مرت عمي، وهو ماهيزعلكيش واصل.
هزت رأسها مرددة في تفهمٍ
-إن شاء الله، وربك يعمل اللي فيه الخير.
لتتساءل بعدها وعيناها المتلهفتان تبحثان عنه:
-أومال هو فين؟ مش باين ليه؟ لسه جاعد مع عمي؟
أوضحت لها نافية:
-لأ، هو بيتكلم مع جماعة “وهبة”.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بقليلٍ من التحير والدهشة:
-مين دول؟
بتلقائيةٍ أخبرتها:
-حريم تبع “وهبة” صاحبه.
سرعان ما قصف قلبها بقوةٍ وهي تردد في انزعاجٍ ملأ تعابير وجهها:
-حريم!!!
تابعت “فاطمة” إخبارها بحسن نية:
-أني معنديش تفاصيل، بس الظاهر إنهم جاصدينه في خدمة كبيرة، وإنتي عارفاه ما يتأخرش عن محتاج واصل.
مدفوعة بشعور الغيرة الذي استحوذ عليها، هتفت “أحلام” معترضة على لجوئهن إليه تحديدًا:
-وما راحوش ليه لـ “وهبة”؟
قالت وهي تهز كتفيها:
-ماخبرش.
اعتصرت “أحلام” قبضة يدها، وضغطت على أصابعها حتى ابيضت سلامياتها وهي تدمدم في صوتٍ خافت:
-يا خبر بفلوس دلوجت يبجى ببلاش.
…………………………………….
حينما جلس مع ثلاثتهن في غرفة الصالون، تأمل هيئتهن التي تبدلت بعدما ارتدين عباءات والدته، كانت “دليلة” الأكثر نحافة بينهن، فبدت كمن يغرق في ثوبها الفضفاض، خاصة وهي تحاول لملمة ذيله لئلا تتعثر فيه، ولولا عظم الموقف وجديته لابتسم على مظهرها الطريف أثناء سعيها لجعله ملائمًا لحجمها الضئيل.
بمجرد أن بدأ “غيث” كلامه، اكتسبت نظرته نحوهن رهبة مخيفة، مما جعل شعورهن بالقلق يزداد، خاصة حينما استطرد ممهدًا بجديةٍ غريبة:
-إنتو عارفين إن كل حاجة بتحصل بأمر الله، ومافيش حاجة بتتم من غير مشيئته، حتى الإنسان منينا، من جَبل ما يجي على الدنيا دي، وهو معروف ميتى هيتولد، وميتى هيفوتها.
لم تملك “دليلة” من مفاتيح الصبر ما يجعلها تخمن الغرض من وراء مقدمته الطويلة، فقالت على عجلٍ، وكأنها على وشك التشاجر معه:
-معلش ممكن توضح يا عمدة إنت مجمعنا ليه؟
ركز بصره ناحيتها، وقال مصححًا في صرامةٍ:
-في الأول أني ماسميش عمدة، أني البيه “غيث”، أو الكبير.
ردت في لمحةٍ من الاستهزاء:
-ده لقب يعني ولا إيه مش فاهمة؟
على مضضٍ تقبل ما شعر به من طريقة كلامها غير الظريفة، وأخبرها:
-الكل متعود يناديني إكده من صغري.
لتنهرها “عيشة” قائلة في توترٍ:
-سيبونا من الفرعيات دلوقت، وخلونا في المهم.
تحول بعينيه ناحيتها قائلًا:
-معاكي حق..
سكت لهنيهةٍ كأنما يستجمع نفسه، وقال بعدما ضغط قليلًا على شفتيه:
-الموضوع يخص “فارس” جريبكم.
في نبرة لهفى سألته “عيشة”، كما لو كانت تتوق لمعرفة ما يثلج صدرها عن أحواله:
-فاق وبقى كويس؟ طمنا عليه إلهي يسترك.
غامت تعابيره بالكامل حينما تحدث إليهن:
-واد الحـــرام إياه طاله وهو عاجز في المشتشفى، وهجم عليه.
ردت عليه “إيمان” مستوضحة:
-قصدك اللي ما يتسمى “زهير”.
اكتفى بهز رأسه إيجابًا، لتهتف “عيشة” في هلعٍ وهي تضرب على فخذيها بكفي يدها:
-جيب العواقب سليمة يا رب.
وجد صعوبة في استكمال باقي حديثه، إلا أنه حاذر في اختيار كلماته ليعلمهن بالمصاب الجلل:
-وأمر الله نفذ.
وكأن عقلها توقف عن التفكير، فلم يستوعب التفسير المفهوم لجملته البسيطة تلك، فسألته “دليلة” لتتأكد:
-يعني إيه؟
عاود النظر ناحيتها قائلًا بحزنٍ صريح:
-هو راح عند اللي أحسن من الكل.
صرخت “إيمان” متسائلة في فزعٍ:
-تقصد إنه مات؟
أومأ برأسه متمتمًا:
-إيوه.
انفلتت منها شهقة عالية، كتمتها بيدها، فيما رددت “دليلة” بذهولٍ متعاظم:
-لأ مش ممكن.
لتقول “عيشة” في أسى وقهرٍ:
-لا إله إلا الله! لطفك يا رب.
لم تتقبل الحقيقة من الوهلة الأولى، وأنها لم تكن متورطة في مســألة اغتيـــاله، بل على العكس شعرت بكونها المسئولة عن فقدانه، سرعان ما ارتفع صراخ “دليلة” المستنكر، وشعورها بالذنب قد تغلغل فيها:
-أنا السبب في اللي حصله، أنا السبب!
انتفضت واقفة والدمع يطفر من عينيها بغزارة، وشقيقتها قد نهضت كذلك لتواسيها وهي تبكي بحـــرقةٍ:
-اهدي يا “دليلة”.
أبعدت يدها التي امتدت لتمسك بها صارخة فيها:
-شيلي إيدك عني…
لتواصل تعنيف نفسها بقســاوة حديثها اللائم:
-لو مكانش جه معانا واتورط ويانا، كان هيفضل عايش.
انفجرت باكية، وامتزجت نهنهات بكائها مع نواحها:
-أنا كده كل اللي بيعرفني بيمــــوت.
فيما حملق “غيث” في دهشةٍ حائرة في تلك الشابة التي تبدلت أحوالها للنقيض كليًا، وقال بقدرٍ من التعاطف:
-وحدي الله يا أستاذة، كله مجدر ومكتوب.
وكأنه لم تسمع شيئًا، ظلت تصرخ في جنونٍ، وهي تلطم على خديها:
-أنا السبب، أنا أذيته زمان ودلوقت.
واندفعت نحو الخارج في سرعة لتلحق بها شقيقتها محاولة مواساتها، بينما انخرطت “عيشة” في نوبة بكاء تفطر القلوب، وأخذت تولول رحيله الغادر:
-كبدي عليك يا ابني، دمك راح هدر.
أدهشه التغيير الذي حل بـ “دليلة” بعدما علمت بمصرع ابن عمها، وتغاضى عن التفكير في شأنها مؤقتًا، ليرد فيما يشبه الوعد:
-اطمني يا حاجة، حق “فارس” هيرجع، واللي غدر بيه هيتحاسب.
……………………………………
مدفوعة بإحساسها الكبير بالذنب، انطلقت على أقصى سرعتها خارج القصر، غير عابئة بنداء “فاطمة” لها، فلم تكن تعي شيئًا سوى أنها الوحيدة الملامة على فقدان حياته غــدرًا، يا ليتها لم تورطه في مشاكلها المهلكة لربما كان لا يزال متواجدًا بينهم!
لحقت بها “إيمان” لتستوقفها عند باب القصر الخشبي، فأمسكت بها من ذراعها ترجوها:
-استني يا “دليلة” علشان خاطري، فهميني رايحة فين السعادي؟
نفضت قبضتها عنها، وقالت من بين دموعها الغزيرة، وبصوتٍ باكٍ:
-أنا بأذي أي حد يقرب مني، أرجوكي ابعدي عني.
عادت لتمسك بها من رسغها هاتفة في خوفٍ:
-ما تقوليش كده.
مجددًا استعادت يدها من أسفل أصابعها لتسألها في ألمٍ متزايد:
-المرة الجاية هيكون الدور على مين فيكم؟ إنتي ولا ماما؟
نظرت لها شقيقتها بعينين غارقتين مثلها في الدموع، فيما استمرت “دليلة” في مخاطبتها بعزمٍ رغم انخراطها في البكاء:
-ما هو مش هيسيب أي حد بحبه غير لما يأذيه علشان يوصلي…
كفكفت دمعها المسال بظهر كفها، وأضافت حاسمة أمرها:
-فأنا ريحاله علشان أنهي حواره معايا، حتى لو كان هيموتني، المهم تكونوا إنتو بخير.
فُجعت لقرارها الصــادم، وصاحت مستنكرة ما اعتبرته طيشها:
-إنتي بتقولي إيه؟
باحت لها فيما يشبه الاعتراف المشوب بالندم الشديد:
-أنا ظلــمت “فارس” معايا، لا عمره سمع كلمة حلوة مني، ولا حتى شاف معاملة كويسة، ورغم كده مـــات غدر علشان يحميني، ضحى بعمره علشان أفضل أنا عايشة…
طفرت الدموع مرة ثانية بقوةٍ من عينيها، لتصيح بعنادٍ رغم خطورة اختيارها:
-هستنى إيه تاني؟ لما يساومني على حياتكم؟
أدركت “إيمان” أن شقيقتها الصغرى لم تكن في حالة ذهنية واعية، تشوش تفكيرها بفعل تأثير الصدمة، وما تقرره الآن نابع عن شعورها الكبير بالذنب وتأنيب الضمير، فخاطبتها بصوت العقل لعلها تستفيق من حالة التيه التي استحوذت عليها:
-اسمعيني يا “دليلة”، إنتي بترمي نفسك في النار، اللي زي ده مش طبيعي، ده شخص مريض.
هتفت بتصميمٍ قبل أن تهرول نحو البوابة الحديدية:
-يكون زي ما يكون، خلاص أنا تعبت.
أسرعت في خطواتها لتلحق بها وهي تناديها في رجاءٍ:
-يا “دليلة” استني بس.
تجاوزت البوابة والخفراء المتواجدين عندها لتهتف قبل أن تركض على أقصى سرعة بعدما رفعت ذيل العباءة لئلا تتعثر فيها:
-خدي بالك من نفسك ومن ماما.
لم تتمكن من اللحاق بها، فقد كانت أكثر خفة عنها في حركتها، فتجمدت في موضعها متسائلة بتحسرٍ، ونظرة العاجز تطل من عينيها:
-أتصرف إزاي دلوقت؟!!!
ركضت عائدة إلى الداخل القصر لتطلب المساعدة ممن فيه، فهم أقدر من يكون على التعامل مع تلك الأزمة الحرجة برويةٍ وحكمة.
…………………………………
وقفت “أحلام” تتصعب بشفتيها بعدما رأت التصرف الأرعن لتلك الشابة الغريبة، وما زاد من شعورها بالحقد نحوها اعتقادها أنها تعمدت التعالي على سيدة القصر، وتجاهل الرد عليها عندما نادتها، فأخذت تزدريها بتحاملٍ وتحيز:
-أما بت معندهاش لا حيا ولا خشى؟ مش تراعي البيت اللي هي ضيفة فيه؟
على عكسها بدت “فاطمة” متعجبة من حالتها الغريبة تلك، وبررت اندفاعها قائلة:
-الله أعلم إيه اللي حصل وخلاها ترمح بالشكل ده.
بينما ظلت “أحلام” على موقفها المعادي لها مرددة:
-بردك يا مَرَت عمي فيه أصول بنعملوا بيها، ولا حال بنات البندر سايب إكده!!
لتركض “إيمان” صائحة بنبرة مستغيثة أقلقت الجميع:
-الحقيني يا ماما أوام.
على إثر صوتها المستنجد هرعت “فاطمة” إليها متسائلة في توجسٍ:
-خير يا بتي؟ إيه اللي حُصل؟
لتأتي “عيشة” هي الأخرى إليها متسائلة بصدرٍ مضطرب:
-في إيه يا “إيمان”؟
نظرت إلى أمها وهي تجيبها بما جعل قلبها يسقط عند قدميها فزعًا ورعبًا:
-“دليلة” عايزة تروح لـ “زهير”.
هتفت مستنكرة رعونة قرارها:
-إيه الجنان ده؟
لتبحث بعدئذ عنها بعينيها متسائلة وهي تمسك بكتفي ابنتها:
-هي فين؟ سبتيها لواحدها؟
أجابتها وقد طأطأت رأسها في أسفٍ:
-جرت برا، أنا ملحقتهاش.
انتاب الفضول “أحلام” فمالت على زوجة عمها تتساءل مستفهمة:
-هما بيتحدتوا عن إيه يا مَرَت عمي؟
ردت عليها بتحيرٍ:
-العلم عند الله.
راحت “عيشة” تلطم على خديها صارخة:
-يا حرقة قلبي على بنتي!
من خلف الجميع استمع “غيث” لما حدث، وتقدم للأمام مرددًا في استنكارٍ غاضب:
-كيف ده يُحصل؟
وكأن في حضوره نجدة إلهية من السماء، التفتت “عيشة” إليه تتوسل مشاعره بقلب الأم المكلوم:
-بالله عليك يا ابني ترجعهالي.
أكد لها بكلمته التي لا ترد:
-اطمني يا حاجة، أني مش راجع إهنه إلا وهي معايا.
فيما تابعت “أحلام” تصرفه بشيءٍ من الحقد والغيرة، ودمدمت في هسيس مستهجن وهي تميل نحو زوجة عمها:
-سامعة يا مَرَت عمي؟ بت البندر هتجرجر زينة شباب البلد وراها؟
لتخبرها “فاطمة” بتريثٍ:
-اهدي بس، خلينا نفهموا الأول إيه اللي حُصل.
صرَّت “أحلام” على أسنانها في غيظٍ، لتحادث نفسها:
-والله مانك هينة يا بت البندر! عينك واسعة وبجحة!
………………………………………..
وكأن ساقيه تسابق الريح، هرول “غيث” نحو الخارج مناديًا على تابعه “وهدان” ليأتي له بسيارته على عجالةٍ، قبل أن يتجه نحو البوابة الخارجية للقصر ليعنف الخفراء الجالسين على المصطبة، فهدر فيهم بغير تساهل:
-كيف تسيبوا البوابة مفتوحة إكده؟ أي حد يدخل ويخرج بمزاجه!!
رد عليه “بدوي” متعللًا:
-يا بيه سعادتك مادتناش الأمر نجفلوها.
عنفه بوجهه المحتقن من شدة غضبه:
-نجوموا نسيبوها مفتوحة على البحري؟
لم يجرؤ على النطق بالمزيد، ليأتيه الأمر النافذ الذي يجب عليه إطاعته:
-من هنا ورايح محدش لا يدخل ولا يخرج إلا بأمري، فاهمين؟
رد في طاعةٍ:
-حاضر يا بيه.
ليدعس على دواسة البنزين ويقود سيارته على الطريق باحثًا عن ضالته وسط العتمة السائدة.
………………………………….
فقدت “دليلة” السيطرة على مشاعرها المنفعلة، وراحت تركض بغير هدى باحثة عن الطريق المؤدي إلى محطة القطار، إذ ربما تلجأ لمساعدة أحدهم لتحصل على تذكرة تمكنها من العودة إلى مدينتها، فتتمكن من اللقاء به وإنهاء ذلك الصراع الدمـــوي الذي طال كل أحبتها.
ورغم الظلام الذي ساد من حولها، إلا أنها لم تكن خائفة، فشعورها بالذنب تغلب على أي مشاعر أخرى قد راودتها. دفعها الأدرينالين الذي تفشى في كامل بدنها على التحرك بخطواتٍ سريعة، وكأنها في سباقٍ مع الزمن، ليلمحها “غيث” من بعيد أثناء بحثه عنها فزاد من سرعة سيارته، ليتجاوزها قبل أن يقطع عليها الطريق ويسده بعـرض السيارة.
شهقت مفزوعة من الحركة الفجائية لقائد تلك المركبة، وتسمرت في مكانها محاولة التقاط أنفاسها، لتتفاجأ بـ “غيث” يهبط عنها موبخًا إياها بغلظةٍ:
-كيف تخرجي من الجصر إكده؟
في البداية نظرت إليه مصدومة من أسلوبه الحاد معها، قبل أن تستعيد زمام نفسها وترد عليه بعنادٍ غير مكترثة بفارق القوى الجسمانية بينهما:
-دي حاجة متخصكش، أنا حرة أعمل اللي عايزاه.
أدرك أنها في حالة غير واعية، تستلزم التعامل بلينٍ وتعقل، فسألها في نبرة قد خبت حدتها:
-وخيتك وأمك مالهومش حق عليكي؟ ده قلبهم انفطر من وقت ما عرفوا اللي نويتي تعمليه.
شعرت بتلك الغصة الجارحة في حلقها وهي تخبره صراحةً:
-ما هو علشان أحميهم أنا هرمي نفسي في النار، المهم محدش يقرب منهم.
كانت صادقة في مشاعرها نحو عائلتها، فلامس ذلك قلبه، ومع هذا تعامل معها بشيءٍ من الصرامة، فقال مشيرًا بيده:
-ده اسمه جنان!
طوحت بيدها في الهواء قائلة بعدم مبالاة:
-يبقى زي ما يبقى.
ظل على أسلوبه المتريث معها وهو يخاطبها بلغة العقل لعل رأسها المتحجر يلين قليلًا:
-يا بت الحلال اغزي الشيطان وتعالي معايا الجصر، وهناك نشوفوا هنعملوا إيه.
ردت عليه بتصميمٍ:
-مافيش حاجة هتتعمل غير اللي أنا عايزاه.
هز رأسه مبديًا عدم ممانعته لرغبتها، وقال:
-وماله، نتحدتوا هناك.
استشعرت وجود لمحة من السخرية في طريقته معها، فتراجعت خطوة للخلف بعيدًا عنه، ونظرت إليه بتحدٍ قبل أن تهتف بتعصبٍ:
-هو إنت بتاخدني على أد عقلي؟ فكرني عيلة مثلًا، وبتضحك عليا بكلمتين؟
ضرب كفه بالآخر مستنكرًا عنادها الأحمق، ودمدم مغتاظًا:
-لا إله إلا الله، هو أني جولت حاجة أصلًا؟!
ليصدح صوت عواء حيوان ما بالقرب منها، فأجفلت، وانتفضت تتلفت حولها خيفة وهي تتساءل:
-إيه الصوت ده؟
قال مفسرًا بهدوء:
-إنتي هنا في الطل، وطبيعي نسمعوا صوت ديابة الجبل.
ضيقت عينيها متسائلة بتشككٍ:
-ديابة! تقصد الديب اللي بنشوفه في الأفلام؟
أومأ برأسه بالإيجاب مؤكدًا:
-إيوه.
لينتصب بعدها في وقفته، ويتخذ وضعية تحفيزية غريبة جعلت شعيرات جلدها تقشعر، خاصة مع أمره غير الممازح:
-خليكي مطرحك.
دق قلبها بقوةٍ، وراحت تضم قبضتيها متسائلة وقد انكمشت على نفسها:
-في إيه؟
يبدو أن ذلك الذئب الشــارد قد وجد طريدته بعدما اشتم رائحتها، فسار على قوائمه مقتربًا منه، وأنيابه تقطر لعابًا مقززًا، لترتجف كليًا عندما أخبرها وهو يشير بعينيه نحو الأمام:
-هو وراكي.
لم تجرؤ على النظر خلفها، وسألته بصوتٍ مرتعش، محاولة الاعتقاد أنه يمزح معها فقط:
-إنت بتهزر صح؟
هز رأسه نافيًا ومحذرًا وقد أخرج من جيب جلبابه ســلاحه النـــاري:
-لع! خدي بالك ليهجم عليكي، ده نابه والجَبر!
تكرر عوائه المصحوب بزمجرةٍ متحفزة، لتستدير ببطءٍ وتجده على مسافة بضعة أمتارٍ منها، فكتمت بيدها شهقة صارخة كادت تخرج من جوفها، لتشعر بقبضة “غيث” على ذراعها قبل أن يجذبها خلفه، ليقف بجسده أمامها مشكلًا حائلًا بينها وبين ذلك الذئب الغادر.
بغير خوفٍ، وبثباتٍ يدعو للإعجاب صوب فوهة مســـدسه نحوه محاولًا التصويب عليه من موضع وقوفه، فضغط على الزناد دون تردد حينما اتخذ وضعيته، ليركض الذئب هاربًا من محيط المكان، فقال “غيث” في استياء بعدما فشل في إصابته:
-فلت ابن المحظوظة!
أعاد وضع المسدس في جيب جلبابه متابعًا وهو يستدير نحو “دليلة” ليكلمها:
-الحمد لله، عدت على خير.
إلا أن الأخيرة لم تستطع أعصابها تحمل كم الإثارة والضغوطات العصيبة في ليلة واحدة، فأغشي عليها وسقطت فاقدة للوعي، ليتلقفها في الحال بين ذراعيه قبل أن يُطرح جسدها أرضًا، وقد جزع لرؤيتها على تلك الحالة الضعيفة، فحملها برفقٍ وهو يردد في قلقٍ عجيب لم يشعر به من قبل نحو أي امرأة:
-يا ساتر يا رب، مالك بس؟ ما كنتي بخير ………………………. !!!!!
……………………………………

يتبع…

 

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى