روايات

رواية فوق جبال الهوان الفصل الأربعون 40 بقلم منال سالم

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية فوق جبال الهوان الفصل الأربعون 40 بقلم منال سالم

 

 

البارت الأربعون

 

 

خلال اجتماعهم الدوري، والذي يُعقد أسبوعيًا، ناقشت القيادات الأمنية التقارير الواردة من كافة أقسام الشرطة عن أحدث الجرائم وما تم حله فيها، وكذلك ما يزال قيد التحقيق. تولى أحد كبار الضباط، ممن يعتلون أعلى المراتب مناقشة قضية “الهجام”، فاستطرد متسائلًا في اهتمامٍ يشوبه الانزعاج:
-لسه مافيش جديد؟
أجابه الضابط الأقل رتبة في شيءٍ من الحذر:
-يا فندم المراقبة مستمرة على “زهير الهجام”، ولحد دلوقت مش قادرين نمسك عليه حاجة تدينه بشكل صريح…
رمقه قائده بنظرة حادة، فأكمل على نفس الوتيرة:
-ده زي ما يكون عارف إننا بنراقبه، ومتعمد يعمل كل حاجة تثبت إنه مواطن صالح.
رد عليه معترضًا:
-مافيش حد بيفضل حريص طول الوقت، لازم في وقت يغلط…
ليسكت هنيهة قبل أن يضيف:
-وبعدين ماينفعش نسيب “مروة” الضحية اللي أرشدت عن أخوه دمـــها يروح هــدر! أنا متأكد إنه ورا اللي حصلها.
علق عليه الضابط مسترسلًا في الإيضاح:
-المشكلة يا فندم إن مكان وقوع الجريمة غير المكان اللي لاقينا فيه الجثة، فصعب نربطه بيها، ده غير طبعًا أخوها وجوزها، كل واحد لاقيناه في مكان مختلف.
أخبره بيقينٍ:
-بس ده ما يمنعش إنه يكون متورط معاهم، مين ليه مصلحة يأذيهم غيره؟
هز رأسه مؤيدًا:
-فعلًا!
تساءل قائده مرة أخرى:
-راجعتوا كاميرات المناطق دي؟
ليأتي جوابه محملًا بالخيبة:
-للأسف برضوه مش كله متركب فيه كاميرات، ده غير إن وقت نقل الجثامين كان بالليل، والرؤية تعتبر متعذرة.
انزعج للغاية مما أسفرت عنه نتائج التحقيقات، وأصدر أوامره الصارمة بلهجته القوية:
-أنا عايز المراقبة تزيد على “زهير”، مافيش نفس يطلع منه إلا ويكون عندي خبر بيه.
رد في طاعة تامة:
-تمام يا فندم.
لينتقل الحوار إلى أمر آخر متعلق بعمليات الاحتيال على المواطنين باستخدام وسائل الاتصال والنصب الالكتروني.
……………………………………….
بملامحٍ واجمة، ونظراتٍ حادة تعكس ضيقها، جلست “دليلة” على المقعد الخلفي لسيارة الدفع الرباعي ملتصقة بالنافذة بإذعانٍ، وإلى جوارها شقيقتها التي بدت متقبلة لما يجري بهدوء، فيما استقرت والدتهما في الناحية الأخرى، لتتابع بعينين ناريتين “غيث” وهو يُحادث تابعه على مسافة عدة خطواتٍ قبل أن يعود الاثنان معًا ليجلسا في المقدمة.
تولى “وهدان” قيادة السيارة، ليدير “غيث” رأسه ناحية ضيفاته الثلاثة قائلًا:
-السكة طويلة هبابة، فلو عايزين تناموا خدوا راحتكم.
شكرته “عيشة” بامتنانٍ:
-كتر خيرك يا ابني، احنا بس مش حابين نتقل عليك.
قال في شيءٍ من العتاب اللطيف:
-ماتجوليش إكده يا حاجة، احنا نشيلكم فوق راسنا.
امتدحت حُسن أخلاقه قائلة بابتسامةٍ راضية:
-ابن أصول، ربنا يحميك لشبابك…
لتسود نبرتها رنة من القلق وهي تسأله:
-صحيح مافيش أخبار عن “فارس”؟
تنهد مخاطبًا إياها في تحيرٍ:
-والله يا حاجة أني مش عارف أوصل لـ “وهبة” صاحبنا، ربنا يسمعنا خير إن شاءالله.
ردت في تضرعٍ ورجاء:
-يا رب أمين.
أخبرها مجددًا وهو يختطف نظرة سريعة نحو “دليلة” الشاردة في تأمل الطريق من جهتها:
-لو ناجصكم حاجة جولولي، أني رقبتي سدادة.
حافظت على ودية بسمتها حينما ردت:
-تسلم وتعيش.
بينما مالت “إيمان” قليلًا نحو شقيقتها تسألها بصوتٍ هامس، لئلا يسمع حوارهما صاحب السيارة:
-ساكتة ليه يا “دليلة”؟
في نبرة متذمرة اشتكت إليها:
-هقول إيه يعني؟ هو حد بيسمع كلامي مثلًا؟
جاء ردها منطقيًا:
-بالعقل كده احنا هنروح فين واحنا في البلد الغريبة دي اللي لواحدنا؟
لتسخر منها “دليلة” بامتعاضٍ:
-نقوم نوافق على كلام الجدع ده، ونروح معاه مكان الله أعلم هيكون فيه إيه.
ردت عليها مؤكدة:
-ده وضع مؤقت، لحد بس ما نطمن على “فارس”، وبعد كده كل حاجة هتتحل.
بدت غير مقتنعة بردها، لتتحول بناظريها نحو والدتها عندما وجهت إليهما سؤالها الأمومي المهتم:
-عايزين حاجة يا بنات؟
بادرت “إيمان” بالرد في تهذيبٍ:
-تسلمي يا ماما، احنا كويسين.
لتلكزها “عيشة” بيدها في حجرها قائلة بشيءٍ من الإلحاح:
-جربي كده تكلمي ابن عمك تاني.
امتثلت لرغبتها، وأخبرتها بعد لحظاتٍ:
-تليفونه مقفول لسه.
عاد شعورها بالقلق يتغلغل أكثر فيها، فهسهستٍ في حيرةٍ وترقب:
-ربنا يستر ويسمعنا خير.
في تلك الأثناء، حاول “غيث” لأكثر من مرةٍ التواصل مع “وهبة” إلا أنه فشل في الوصول إليه، مما انعكس تأثير ذلك على وجهه، فغطت تكشيرة عظيمة كامل قسماته، ليتساءل “وهدان” مستفهمًا:
-مافيش جديد يا بيه؟
اكتفى بهز رأسه بالنفي دون أن ينبس بكلمة، فيما واصل تابعه القيادة وقد راح الصمت يخيم ببطءٍ على رؤوس الجميع.
………………………………………
عاد مضطرًا إلى مطعمه ليتابع أعماله العالقة بالرغم من انشغال ذهنه بالتفكير في كل ما هو متعلق بها، ومع ذلك كان “زهير” يتعامل بعصبيةٍ وضيق مع من يجيء إليه. ففضل المعظم تجنب الحديث معه ريثما تهدأ أعصابه.
لاحقًا أتى إليه “عباس” ليخبره في توجسٍ مرتاب:
-الدبابير حطينا في دماغهم يا كبيرنا.
التفت بمقعده ناظرًا إليه قبل أن يسأله، وسحب الدخان تتصاعد من بين شفتيه:
-في حاجة تانية حصلت؟
أعطاه الجواب التفصيلي المحمل بالتحذيرات:
-عيونا اللي جوا مبلغين إن الراس العليوي فاتحة ملفك، وبتحقق في كل حاجة ليها صلة بيك.
شردت عيناه للحظةٍ، ثم أخبره بغموضٍ وقد اعتدل في جلسته ليطفئ عقب سيجارته المشتعل في المنفضة المصنوعة من الكريستال والموضوعة على سطح مكتبه:
-عايزين نشوف حاجة نلبخهم بيها عننا الفترة الجاية.
هز رأسه مرددًا:
-اللي تؤمر بيه.
أمسك “زهير” بقلمه الحبري، وراح يرسم دوائر مبهمة على ورقة فارغة أمامه، لتتحول بعد برهةٍ إلى اسم ذي معنى، فتحدث في لهجة آمرة وكأنه يقرأ ما خطاه بصوتٍ مسموع:
-صفي حسابنا مع جماعة “العِترة”، وبلغ عن مخازنهم بتاعة البضاعة إياها.
تفاجأ “عباس” بقراره الخطير، وحذره في استرابةٍ:
-بس كده هنفتح على نفسنا جبهة جديدة يا ريس!!!
قال بغير مبالاة بعدما طوى الورقة وألقاها نحو سلة المهملات الموضوعة على مقربةٍ من مكتبه العريض:
-مش فارق معايا، أهوو يتلخبوا مع الدبابير شويتين لحد ما أخلص أنا حواراتي.
مجددًا أذعن لمطلبه قائلًا:
-اللي تؤمر بيه.
ليعود “زهير” ويسأله بعينين قاسيتين:
-محدش ظهر لسه منهم؟
هز رأسه نافيًا وهو يجيبه بما يشبه التفخيم:
-لأ لسه، أنا زارع ناسنا قصاد بيت عمتها ما يتنقلوش لا ليل ولا نهار.. بس…
تردد في إبلاغه بالبقية، فأمره بغير صبرٍ:
-بس إيه؟ كمل!
أطلعه مباشرةً على ما يعرف:
-جماعة “العرباني” عاملين جنازة للواد “فارس” إنما إيه، حكاية!
لوى ثغره متمتمًا في نبرة آمرة، وإصبعه موجه نحوه:
-تخلي عينك عليهم، وخصوصًا “وهبة”، ده اللي يعرف أراضيهم.
مرة ثانية أومأ برأسه مؤكدًا:
-اطمن يا ريس “زهير”.
غادر بعدها “عباس” ليستغرق “زهير” مجددًا في أفكاره التحليلية عنها. كز على أسنانه متحدثًا إلى نفسه:
-طرف الخيط اللي هيوصلني بيهم عندك يا “وهبة”!
…………………………………..
احتشدت منطقة المقابر الخاصة بعائلة “وهبة” بمئات الأشخاص ممن أتوا من كل حدبٍ وصوب لأداء صلاة الجنازة على ذلك الفقيد الغالي، فصيته المعروف سابقًا في جماعة “العرباني”، جعل الكثيرون يتوافدون لتوديعه للمرة الأخيرة.
لم يكن ليتم الأمر بسهولة بسبب طبيعة وفاة “فارس” الجنائية، إلا أن الوساطات تدخلت لإنهاء الإجراءات القانونية واستخراج تصاريح الدفن بعجالةٍ، وعلى إثرها قام “وهبة” بنقل جثمانه إلى مقابره الخاصة، ليتم مواراة جسده الثرى، وبعيدًا عن مقابر عائلته الموجودة في بلدته الأخرى، ليتحول الأمر إلى ثأر شخصي، خاصة عندما أصدر أمره الذي لا رجعة فيه بعدما انتهت مراسم الدفن:
-مافيش عزا إلا لما ناخد بتــــار المرحوم، سامعين؟
تحولت نبرته للقتامة عندما صرح بما كان مفهومًا للجميع:
-ومعروف من مين.
هتف أحد أتباعه في طاعةٍ، ونائبًا عن الغالبية:
-تمام يا كبيرنا.
ليأتي أحدهم مسرعًا وهو يصيح في نبرة متلهفة:
-يا معلم “وهبة” مسكنا المقاطيع دول وهما واقفين حدانا.
تحولت الأنظار تجاه من جاءوا مع آخرين وقد تم تقييد أياديهم وراء ظهورهم بالأربطة، ليصيح أحدهم محتجًا بنبرة هجوميةٍ وهو يستنكر اعتقـــاله:
-في إيه يا عم؟ ما تشيل إيدك، هو احنا عملنا حاجة أصلًا؟
دنا منه “وهبة”، وثبت نظراته النارية عليه أولًا قبل أن يطوف على البقية وهو يسأله مستعلمًا، وفي نبرة متعصبة نسبيًا:
-إنت مين ياض إنت وهو؟ مين مسلطكم علينا؟
صدمه برده المستفز:
-احنا واقفين في أرض الحكومة، إيه اشترتوها؟
سرعان ما مد “وهبة” يده ليربت بخشونةٍ على مؤخرة عنقه، كأنما يصفعه عليه، ليقول هازئًا:
-قولتلي بقى، أر ض الحكومة، وماله يا خفيف…
ثم وجه أمره إلى أتباعه بلا رأفةٍ:
-خدوهم على التكية أما تشوف حكايتهم إيه!
قاوم الرجل من يجروه جرًا بعيدًا عن المقابر وهو يهدر عاليًا:
-ما تبعد إنت وهو!
إلا أن أتباع “وهبة” نجحوا في السيطرة عليه، ووأد مقـــاومته في مهدها، ليتم سحبه كالذليل بعيدًا وأحدهم يوبخه:
-انجر وإنت ساكت.
…………………………………..
الحركة الثابتة للسيارة، حفزت خلايا جسدها المرهقة على الاسترخاء تدريجيًا، والاستسلام لتأثير سلطان النوم، فغفت “دليلة” في مكانها وعيناها تتأملان الطريق الزراعي الذي طغى بأطيافه على مداركها، لتسحبها الذاكرة إلى لمحاتٍ منسية من طفولتها البعيدة.
وقتئذ، كانت لا تزال طفلة في السابعة من عمرها تقريبًا، وتقيم كالعادة خلال العطلات الصيفية مع أبويها وشقيقتها في منزل جدتها بالبلدة. كم أحبت طريقتها البدائية في تفريغ البيض لإنتاج فرخ الدواجن باستخدام مصباح كهربي وصندوق من الكرتون! انبهرت برؤية الأفراخ الصغيرة ذات اللون الأصفر الزاهي وهي تصدر نقنقتها أثناء تناول الحبوب الموضوعة لها.
ودت لو استطاعت رؤيتها وهي تحلق في السماء مثل بقية الطيور، ففكرت في استغلال وقت القيلولة، حيث ترتاح جدتها، لتقوم بإخراج كل فرخٍ على حدا، ودفعه من الشرفة لتستحثه على الطيران، إلا أنه كان يلقى حتفه بمجرد أن تلقيه من على السور، فتحزن لأن محاولتها قد فشلت، وتعاود الكرة من جديد مع فرخٍ آخر، على أمل أن ينجح أحدهم في الطيران.
آنذاك شاهد “فارس” ما تفعله وهو يمر بالصدفة من أسفل بيت جدته، ففزع للمشهد، خاصة عندما أبصر الأفراخ المتوفية المتكومة فوق بعضها البعض، فهرع إلى الداخل معتقدًا أنها ستحاول اللحاق بهم، والقفز من الأعلى مثلهم لتختبر نظريتها الساذجة.
أمسك بها من ذراعها وجذبها إلى الداخل وهو يلومها:
-ينفع اللي عملتيه ده؟
لم تستطع “دليلة” الرد عليه، فبكت بصوتٍ مرتفع لصراخه العالي في وجهها، فخشي أن يعنفها أحدهم أو تُعاقب بقسوةٍ حينما يتم اكتشاف ما فعلته بعفويةٍ، فقرر أن يتحمل المسئولية عنها، وأخرج فرخًا صغيرًا من العشة الكرتونية، وحبسه بين أصابعه مدعيًا أنه على وشك إلقائه، لتأتي جدتهما وتراه وهو يحتبس الفرخ داخل قبضته، فصاحت فيه بانفعالٍ:
-إنت بتعمل إيه يا واد يا “فارس”؟
أعاد وضع الفرخ في العشة وأخبرها بسخافةٍ وهو يغمز بطرف عينه لـ “دليلة”:
-برمي الكتاكيت يا نينة علشان يطيروا، بس البت دي خافت وأعدت تعيط.
لطمت جدته على صدرها في جزعٍ، واندفعت تجاهه لتوكزه بقسوةٍ في ذراعه قبل أن توبخه:
-إنت اتهبلت ياوله؟
ثم ألقت نظرة على العشة فاكتشفت نقصان عددهم، لتنظر سريعًا من الشرفة، وترى البقية وقد نفقوا. ضربته بغيظٍ في ظهره قبل أن تزيد من توبيخها له:
-كده موتهم يا عبيط؟ استفدت إيه دلوقت؟
رد بثباتٍ وبما يستفزها، وكأنه يتعمد إبعاد الشبهات عن “دليلة”:
-بلعب يا نينة، ابقي فرخي غيرهم!
استشاطت غضبًا من رده، وكررت ضربه في ظهره وهي تتوعده:
-والله لأقول لأبوك يأدبك، ما إنت ناقص رباية وعيارك فالت.
هرب من ضرباتها المتلاحقة قائلًا بغير مبالاة:
-قوليله، مش خايف.
انفعلت أكثر عليه، وانتزعت خفها من قدمها لتقذفه في وجهه، وصوت صراخها الحانق قد ازداد:
-اطلع برا يا وله، ماشوفش وشك هنا تاني!
تفادى ضربتها الأكيدة بأعجوبةٍ، وقال وهو يضحك ليزيد من شعورها بالغيظ:
-لأ هاجي، سلام يا نينة.
ثم اندفع ركضًا نحو الخارج قبل أن تقذفه بالخف الآخر، لتدمدم بعدها الجدة في كدرٍ:
-واد عفريت، أنا عارفة طالع لمين.
تأملت بعينين حزينتين العشة، لتقول في أسفٍ بعدما تناقص عدد ما أنتجته للنصف تقريبًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! ذنبهم إيه بس يروحوا هدر؟ يا خسارة تعبي ومجهودي فيهم!!
لتظل “دليلة” متسمرة في موضعها وهي تبكي خوفًا ورهبةً من جدتها، فاعتقدت الأخيرة أنها تشعر بالأسف لما حدث للأفراخ الصغيرة، فأقبلت عليها، وسحبتها إلى حضنها لتضمها، ثم مسدت على ظهرها بترفقٍ قبل أن تخاطبها في نبرة تبدلت للحنو:
-ماتعيطيش يا “دليلة”، أنا عارفة هما صعبوا عليكي، بس نعمل إيه في الواد اللي مطفحنا الدم ده، دايمًا تاعبنا معاه.
استفاقت “دليلة” من غفوتها القصيرة وهي تشعر برطوبة غريبة في عينيها، تحسست بأطراف أناملها أسفل جفنيها، فتيقت أنها كانت كانت تبكي أثناء نومها، سرعان ما مسحت ما بلل وجنتيها بحذرٍ، وتساءلت مع نفسها في حيرةٍ وريبة:
-اشمعنى افتكرت الحكاية دي دلوقت؟!
………………………………
لم يكن ليلاحظ أنها كانت تبكي بلا شعورٍ منها إلا حينما استدار فجــأة للخلف ليبحث عن طرف الوصلة الكهربية حتى يتمكن من تمريرها إلى هاتفه المحمول لشحنه، تلقائيًا وقعت عينا “غيث” على وجهها، فرأى دموعها تنساب بتتابعٍ رقيق وهي مستغرقة في النوم، فتعجب من حالها، وقطب جبينه باندهاشٍ ممزوجٍ بقليلٍ من الحيرة والفضول، ليتدارك نفسه بعدما أطال النظر إليها، خاصة حينما تململت في نومتها، فعاود التحديق أمامه مخاطبًا “وهدان” في جديةٍ، وكأنه يغطي على ما فعل للتو من تجاوزٍ غير مقبول:
-لما يجابلك جامع على الطريق وَجِف عنده، عايزين نلحقوا الصلاة.
رد عليه مبديًا استجابته المعتادة لأوامره:
-حاضر يا بيه.
استفاقت “دليلة” من نومها، ومسحت دمعها خلسة، لتتساءل في صوتٍ شبه متحشرج:
-لسه قدامنا كتير؟
تولى “وهدان” الرد عليها، فحادثها في شيءٍ من الرسمية:
-هانت يا ست، جربنا نوصل.
ليتدخل “غيث” في الحوار مقترحًا، وكأنه يسعى لخلق سبل الحوار معها:
-احنا هنجفوا في استراحة إقريب، علشان تريحوا شوية بدل التكتيفة دي.
أوجزت في تعقيبها عليه:
-ماشي.
حرك “غيث” رأسه قليلًا للجانب، ودون أن ينظر تجاهها على وجه الخصوص سألها:
-عاوزة حاجة نجيبوهالك؟
استمرت في الرد باقتضابٍ:
-شكرًا.
أضاف بعدها وهو يعبث بهاتفه:
-أني لسه معنديش خبر عن ولد عمك “فارس”.
تنهدت قائلة وهي تشير نحو شقيقتها الغافلة:
-“إيمان” كانت بتحاول تكلمه من بدري بس تليفونه على طول مقفول.
وضع الهاتف على أذنه متابعًا كلامه إليها:
-وأني بكلم جَريبي، هو كان إمعاه، جايز يطمنا.
لم تعرف بماذا تعلق، فاستخدمت الرد التقليدي المعتاد لتبدو مهذبة وفي نفس الآن تنهي الحوار بينهما بلباقةٍ:
-خير إن شاء الله.
تعذر عليه إتمام المكالمة، فصرَّ على أسنانه في استياءٍ، وكبت رغبة ملحة في إطلاق سبة نابية، ليشير بيده نحو واحدة من الزوايا المخصصة لإقامة الصلاة قائلًا:
-وجِف إهنه.
رد في طاعةٍ:
-ماشي يا بيه.
لتتباطأ بعدها سرعة السيارة وهي تنعطف بالقرب من ذلك المسجد الصغير، ليتحدث “غيث” بصوتٍ مرتفع نسبيًا بعدما استفاق الجميع:
-هنريحوا إهنه ربعاية.
استحسنت “عيشة” فكرته، وقالت وهي تدعك بيدها ركبتها لتخفف من التيبس السائد فيها:
-أه وماله…
لتبدو متحرجة نوعًا ما وهي تكمل كلامها إليه:
-أنا بس … محتاجة أخش حمام.
قال في تفهمٍ:
-هنشوفولك يا حاجة، متجلجيش.
شكرته في امتنانٍ كبير:
-كتر خيرك يا ابني، مدوخينك معانا.
عاتبها في أدبٍ:
-ماتجوليش إكده.
………………………………..
بعد برهةٍ كانت كلًا من “إيمان” و”دليلة” تقفان أسفل تعريشةٍ مصنوعة من سعف النخيل، لتستظلا بها، وهما تستندان بظهريهما على جانب السيارة، بادرت الأولى بالحديث مشيرة بيدها نحو الترعة الصغيرة الظاهرة أمامهما:
-المكان ده مش بيفكرك بالبلد عند نينة الله يرحمها؟!
قالت وهي تستخدم طرف حجابها لتجفف العرق من جبينها:
-بصراحة، مش أوي.
اندهشت للغاية من نسيانها لغالبية تفاصيل الطفولة المشوقة، وراحت تستفيض في إنعاش ذاكرتها بكل ما تذكره:
-إزاي؟ ده احنا قضينا أحلى أيام مع بابا الله يرحمه والعيلة هناك، كنا بنقعد في الغيط، ونصطاد سمك من الترعة، ونطلع على القناطر، ونلعب عند الطاحونة، جايز علشان إنتي كنتي صغيرة فمش هتفتكري معظم اللي عملناه وقتها.
اكتفت بالنظر إليها في عدم اهتمام، لتضيف “إيمان” بعدها بتسليةٍ:
-بس الحق يتقال إنتي كنتي شقية أوي.
بدت إلى حدٍ ما في حالة من الاستغراب وهي تردد:
-أنا؟
أكدت لها بمرحٍ:
-أيوه، كل شوية مصيبة والتانية، بس مافيش زي اللي حصل وقت ما وقعتي في الترعة.
راحت ومضات عجيبة تضيء في عقلها كأنها فلاشات متلاحقة لعدسة كاميرا لا تتوقف عن التصوير. حاولت “دليلة” مقاومة تأثير ما يراودها من شعور مزعج بالإنكار التام:
-مش فاكرة حاجة من دي!
فيما ظلت “إيمان” تستفيض في توضيحها:
-يا بنتي وقتها كنا بنلعب استغماية، احنا والعيال اللي في سننا، وكان معانا “فارس”، كان بيجري وراكي وعايز يمسكك.
تجسدت مشاهد خيالية لما كان يجري آنذاك، أرض خضراء فسيحة، مقسمة إلى أجزاءٍ متفاوتة في المساحة، تنمو فيها محاصيل متنوعة، وعدد من الأطفال يركضون هنا وهناك وهم يلهون في سعادة.
بدت نبرة شقيقتها كالمؤثر الصوتي الذي يظهر في الخلفية حينما يقص الراوي تفاصيل حكايته على جمهور المشاهدين، فأخذت تضيف وهي تستحضر الأحداث في ذهنها:
-إنتي كنتي عمالة تتنططي من هنا لهنا، وفجأة ببص عليكي، ملاقتكيش…
اقتحمت الذكرى عقلها، تذكرت أنها كانت تركض سريعًا أثناء لعبة الغميضة لتهرب من ابن عمها الذي لم يكف عن مطاردتها في كل مرة تسنح له الفرصة لفعل هذا مستخدمًا مســـدســه اللعبة لتهديدها، كانت تمقت الخسارة في مواجهته، فقد اعتاد على التفوق عليها وإلحاق الهزيمة الساحقة بها، ليظل يسخر منها غالبية الوقت، فحاولت الاختباء منه بالركض تجاه المصرف المائي، إلا أن الأرض الطينية الرطبة جعلت قدمها تزل وتسقط في القاع، لتبدأ المياه العميقة في ابتلاعها.
أكد لها صوت شقيقتها ما استعادته ذاكرتها:
-رجليكي فلتت، ووقعتي في الترعة، بس كانت أكبر من دي بكتير، والمياه فيها بتجري بسرعة.
خفق قلب “دليلة” بقوةٍ، فما زال تأثير ابتلاعها للمياه قســرًا يؤلم صدرها، فقد كانت عاجزة عن التنفس، وتقاتـــل لرفع جسدها الضئيل للسطح.
أكملت “إيمان” المشهد المنقوص بقولها:
-ساعتها “فارس” نط وراكي، وحاول يجيبك قبل ما تغرقي، ما هو كان الوحيد اللي بيعرف يعوم فينا.
كانت تخشاه وقتها، وظنت –نظرًا لصغر سنها ومحدودية تفكيرها- أنه قفز ورائها لإكمال مهمته في القبض عليها والتخلص منها؛ لكن هذه المرة كانت عن طريق إغراقها في المياه لمجرد تحقيق النصر عليها، فقاومته، إلا أنه أصر على الإمساك بها، وجرها نحو حافة الترعة، لتؤكد “إيمان” على صحة ما تذكرته:
-شدك، وطلعك، وإنتي كنتي قاطعة النفس، لحقك عمنا الله يرحمه، وأعد يفوق فيكي، وكلنا كنا خايفين بصراحة عليكي.
نظرت إليها بعينين زائغتين، فتابعت:
-ولما سألك وقعتي إزاي، كل اللي كنتي بتقوليه “فارس”، “فارس”، وبس.
لحظتها أحست بوخزٍ في صدرها، فخوفها من الهزيمة جعلها تكرر اسمه بلا وعيٍ لتوحي للجميع بأنه السبب وراء ما حدث لها، وهذا ما أشارت إليه شقيقتها حينما أكملت:
-فافتكر إنه هو اللي زقك، باعتبار إنه متعود يعمل مشاكل كتير، فخد حتت علقة قصادنا، كسر فيها عضمه، ولولا بابا جه واتدخل محدش كان عارف ممكن يحصله إيه.
لم تجرؤ “دليلة” حينها على قول الحقيقة، والاعتراف بكونها المخطئة في الركض نحو موطن الخطر بإرادتها، ولاذت بالصمت، خاصة عندما صدر الأمر الصارم من جدتها بمنع “فارس” من الاقتراب منها كليًا، فارتاحت لما اعتبرته قرارها الحكيم لكونه يجبره على الكف عن مضايقتها تمامًا. كم كانت ساذجة وقتها!
استنكرت تفاصيل هذه الذكرى المأساوية قائلة بجمودٍ، ومحاولة الحفاظ على ثبات نبرتها:
-أنا مش فاكرة حاجة زي كده.
رفعت “إيمان” حاجبها للأعلى مرددة:
-معقولة!
تجهمت تعبيرات وجهها عندما ردت:
-أيوه، ويالا خلينا نقعد في العربية لأحسن أنا تعبت.
لم تجادلها كثيرًا، وقالت وهي تتبعها لتجلس بجوارها:
-زي ما تحبي.
………………………….
على الجانب الآخر، وبجوار المسجد الصغير، تمكن “غيث” أخيرًا من مهاتفة صديقه بعدما فرغ من أداء فرضه، ليأتيه الخبر الصادم بمـــقتل “فارس” أثناء تواجده بالمشفى في ظروف غامضة للعامة؛ لكنها معروفة لمن هو قريب منه. ضغط على أسنانه مدمدمًا في حنقٍ:
-عملها واد الحـــرام إياه!!!
جاء صوته محملًا بمزيجٍ من الأسى والضيق:
-أيوه يا واد عمي، وتـــاره بقى في رقبتي دلوقت.
دون أن يفكر مرتين أعطاه “غيث” وعده له هو الآخر:
-احنا ماهنسبيهوش واصل.
فيما أوصاه “وهبة” بتشديدٍ:
-المهم عايزك تحافظ على الأمانة اللي عندك، لحد ما نجيبوا حق اللي راح.
قال مؤكدًا فيما يشبه اليمين الغليظ:
-اطمن، محدش هيقدر يمسهم طول ما هما معايا.
ليتابع “وهبة” حديثه الجاد هاتفًا:
-وأني مش هشيع حد من طرفي عند قرايبه اللي في البلد يبلغهم، هروح هناك بنفسي، وإياك أشوف حد من طرف واد المحـــروق ده، هجيب خبره ساعتها.
أيد رأيه بلا مراجعة:
-اعمل اللي يلد عليك، وأني معاك فيه.
تساءل بعدها “وهبة” في تحيرٍ:
-هتبلغ الجماعة عندك؟
سكت للحظةٍ قبل أن يُعلمه بما انتواه فعليًا:
-نوصلوا عندي الأول، وبعد كده هجولهم، قبل إكده مش هينفع.
استحسن تفكيره قائلًا:
-الصح أعمله، وطمني.
أنهى “غيث” المكالمة معه، ووقف في موضعه لبرهةٍ محاولًا استعادة هدوء أعصابه، فلم يكن من اللائق أن يعاود الالتقاء بهن وهو على هذه الحالة الحانقة، إلا أنه تعهد لنفسه ألا يترك ثلاثتهن في مواجهة رمز الشر اللعين المسمى بـ “زهير” دون أن يردعه ويمحو ظلامه من على وجه البسيطة ………………………………………… !!!

يتبع…

 

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى