رواية صرخات أنثى الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم آية محمد رفعت
البارت التاسع والتسعون
طرق على باب الغرفة، قبل أن يدلف للداخل بهيبته الحاضرة، يتجه بخطوات مسموعة للفراش الذي يتوسده “آدهم”، خطف المقعد المجاور له ولازم صمته، حتى حرك آدهم رأسه الموضوع من فوق عينيه الشاش ومن فوقها قناع بلاستيكي صغير «Eye Shield» تجاه الحركة الخافتة جواره، ظن بأن آيوب قد صعد من الكافتريا بالقهوة والطعام، ولكنه التقط كل خبرة الاسطورة، وابتسم مرددًا:
_ باشا؟
وضع ساقًا فوق الآخرى واستند على كفه يراقبه ببرود لحق نبرته:
_كنت فاكر أنك لما تنجح تخبي عن عيلتك كلهم هتقدر كمان تخبي عن القائد بتاعك!
رفع جسده للاعلى، وحاول الاعتدال بجلسته أكثر:
_الموضوع بسيط ومش مستاهل أن حضرتك تيجيلي بنفسك والله، دكتور عمر قالي إن العملية مش هتتخطى الساعة والنص، وفعلًا ٤٠ دقيقة وخرجت، وبعدها بتلات ساعات بدأت البشاير.
غير الجوكر محل جلوسه، وجلس يجاوره، ثم مد يده يتفحص الشاش الابيض باستغراب:
_عمر قالي إن العملية نجحت، بس أنت لسه لابس القناع ده ليه؟؟
أجابه وهو يحاول الوصول لمحل جلوسه:
_امبارح لما شالوا الشاش حسيت بنور قوي، مقدرتش أتحمله، فالدكتور عمر قالي هفضل بالشاش ده لحد النهاردة بليل، وبعد كده هيتشال على مراحل لحد ما يطمن إن العين رجعت لطبيعيتها.
هز رأسه وهو يتساءل بمكر:
_يعني التعافي الكلي في أد أيه؟
أجابه وقد لمس فيه رائحة الخبث:
_خلال أسبوعين.
اتسعت ابتسامته خبثًا، ومال إليه يخبره:
_المهمة اللي عندي مش هتستناك للمدة دي، أنا هتكلم مع عمر بنفسي وهظبط معاه الامور.
_مهمة أيه؟؟
سؤال تلقائي، فضولي خرج بلهفة منه، فابتعد عن محله وإتجه ليميل جوار محل جلوسه، يهمس له:
_من اللحظة اللي هترجع فيها طبيعي هينكشف أمري ليك، فقولت اختصر على نفسي وعليك المسافات وأوكلك بالمهمة الخطيرة دي.
حديثه كان غير مفهوم، لطالما كان لغزًا متحركا، يصعب على أي شخص أن يحل عقدته، درس مراد اندهاشه، وقد وصل الفضول لمحله فقال وهو يدور حول الفراش، حتى وصل للشرفة، يزيح الستار عن النافذة، ووقف يراقب أحد رجاله وهو يقوم بتعطيل آيوب باستعلامه عن عنوان معين،ليمنح لهما الوقت للحديث بسرية تامة، فقال ويده موضوعة بجيب بنطاله:
_إنت عرفت إن زوجة دكتور علي كانت بتباشر شغلها على نفس مشروع عمران، والجديد إن صاحبه جمال نزل الموقع وبدأ شغل بالفعل.
وأضاف وقد استدار له في التو:
_وده خلى الكلاب تخرج من جحرهم وعايزين يكرروا اللي عملوه مرة تانية، يتخلصوا منها ومنه ومن أي حد هيستكمل اللي بدأه عمران، ويمكن نجاح خطتهم الاولى وإشاعة وفاة عمران خلاهم يتحركوا بعشوائية وبدون ما ياخدوا احتياطاتهم، تقدر تقول وقعوا ورا الاشاعة اللي سبكناها زي ما توقعنا بالظبط.
حاول آدهم النهوض عن الفراش، بينما يهتف بصدمة:
_إشاعة!!!
وصل بالفعل لمحل وقوف الجوكر، وقد تسارعت أنفاسه الحادة:
_لما كنت في مكتب حضرتك، قولتلي إنك لسه بتدور ورا الموضوع وهتبلغني أول ما هتوصل لمعلومات تخص عمران؟!!
ابتسم وهو يراقب ملامحه المنفعلة، وقال مدعيًا براءته التامة:
_أنا!!! حصل امته ده يا آدهم؟؟ وبعدين هو إنت بتيجي الجهاز عندنا وإنت في حالتك دي؟؟
سيطر على انفعالاته بصعوبة بالغة، واتجه حتى بات يقابل محل وقوفه، وبهدوء زائف قال:
_أنا لما كنت براجع السيناريو كله، وقفت عند مكالمتك ليا يوم حادثة عمران، وده معناها إنك كنت على علم بكل اللي بيحصل، مهو مش معقول علي يبلغك قبلها بساعات بسيطة وفريقك بيوصل للمكان بالسرعة دي، باشا إنت مخبي أيه؟
نزع يده من جيبه، وقال بخبث داهي:
_آدهم عيب تكلم القائد بتاعك بالنبرة دي، أنا مش حاوي يعني!!
تخلى آدهم عن نطاق صبره الطفيف، وقال برجاءٍ ملموس:
_مراد باشا، عمران عايش؟
سحب نفسًا طويلًا واستدار يتمتم بحزمٍ:
_فك الشاش ده وتعالى بكره استلم مهمتك يا سيادة المقدم.
قبض بقبضته على حواف المقعد المقابل له، حتى كاد أن يدميه بين ذراعيه، رق له الجوكر وابتسم بمكر:
_مش حابب تعرف تفاصيل المهمة طيب؟
حبس غيظه الشديد وقال يجيبه:
_مش هتفرق، بما إن العملية نجحت هستلم من حضرتك الملف وهبدأ اشتغل على طول، وأنا بنفسي هعرف الاجابة على سؤالي ده.
تأمله مراد قليلًا وبثباتٍ رزين قال:
_الفريق لما إتحرك عشان يقدموا الدعم لعمران وصاحبه فعلا ملحقهوش، وزي ما قولتلك بالظبط، احتمال وقوعه بالمية عايش بيقطع الشك إنه ميت، بس اللي انا خبيته عنك هو أني بالفعل أتاكدت من المستشفى اللي هو موجود فيها، وامنتله حماية من بعيد لبعيد، لحد ما أقدر أمسك الكلاب دول، اصرارهم رهيب بايقاف المشاريع اللي عمران وفريقه شغال عليهم، بس المرادي هنقدر نوقعهم.
غزت الكلمات عقله الذكي الذي تعطل فجأة عن استيعاب مغزاه، فتساءل بشكل مباشر:
_يعني عمران عايـــــــش!
رد عليه بابتسامة صغيرة:
_عايش ومع واحد من رجالتنا بيشتغل في المستشفى اللي كان فيها، وحاليًا عايش معاه في بيته، الخلاصة إنه تحت عنينا يا آدهم، لازم تسافر واستنى إشارة مني بعد ما تتمم مهمتك، محتاجك تأمنله الحماية اللازمة وترجع بيه للقاهرة، بعد ما تنفذ مهمتك وتقضي عليهم.
سقط المقعد الذي يستند على حافته ارضًا بينما يحاول نزع الشاش عن وجهه ليتمكن من رؤيته، فاذا بمراد يندفع إليه ويصيح فيه:
_أيه اللي بتعمله ده، إنت فقدت عقلك ولا أيه؟
هدر بانفعالٍ جنوني:
_جبت القسوة دي منين يا باشا؟؟ كنت حاضر وشايف بنفسك علي وهو بيموت قدامك، لما عرفت الاخبار دي كلها مبلغتوش ليه؟
أسنده مراد للفراش وقال بهدوءٍ يمتص من خلفه غضبه:
_أنا هراعي الحالة اللي إنت فيها كويس يا آدهم، بس خد بالك إنك أكتر شخص مينفعش يتكلم بالنبرة دي، مسامحتي ليك لإني اتعرضت لنفس الموقف اللي إنت بتمر بيه دلوقتي، ووقتها وقفت في وش رحيم عشانك، بس أنا عارف إنه قراره صح زي ما أنت عارف إن اللي أنا عملته ده هو الصح.
وأضاف بصوتٍ جهوري صارم:
_أولًا أنا مكنش ينفع أجازف وأعرض حياة عمران للخطر وهو أساسًا مكنش تخطاها لسه، ثانيًا ودي الاهم مكنش ينفع أوجع علي مرتين، لأن بمجرد ما هيتعرف إنه لسه حي هيحاولوا يتخلصوا منه تاني، وتالت وعاشر وإنت عارف كويس إنهم مش أشخاص عاديين، باللي أنا عملته ده خليتهم يفقدوا الامل أن المشاريع هتقف، باستمرار فاطمة زوجة علي وجمال صاحب عمران، ومع أول حركة هتيجي منهم هيتكشف قدامنا مين من رجال الاعمال اللي بيساعدوهم في مخططاتهم القذرة دي جوه مصر، الموضوع مطلعش يخص عمران بس، في أكتر من رجل أعمال مصري اتقتل بنفس الطريقة.
عبثت معالم وجه آدهم بحيرة، وردد بعدم تصديق:
_معقول عمران يعمل كده، يبعد عن علي وعن مراته وأهله ويقبل يعيشهم بالعذاب ده؟
ابتسامة حزينة تشكلت على وجه الجوكر، بينما يصدمه مرة أخرى:
_مش بإرادته إنه يبعد، مجبور… عمران فقد الذاكرة بعد الحادثة اللي إتعرض ليها يا آدهم!
*****
قاد فترة من الوقت، وهو يهاجم ذاك الوجع الخافت بمنتصف صدره، ثمة شيئًا يئن داخله، لدرجة جعلته يتوقف بالسيارة فجأة، فاذا بموسى يتمسك بكفه وهو يسأله بقلقٍ:
_خواجـــــة مالـك!!!
وأتاه صوت صباح هي الاخرى تتساءل بقلقٍ:
_خد إديله يشرب يا اسطى موسى.
تناول منها الزجاجة وقربها إليه، فتجرع المياه ومال على مقبض السيارة يهمس:
_مش عارف مالي، قلبي بينبض بسرعة غريبة وحاسس إن مخنوق ومش قادر أخد نفسي.
فك موسى حزام السيارة عنه، وظن ما به لجهد ما تعرض له:
_ما أنا قولتلك بلاش تسوق إنت لسه تعبان وإنت اللي اصريت.
فتح باب السيارة ومضى إليه، يساعده بالهبوط عن السيارة، ونقله لمقعده بحرصٍ، بينما يعود للقيادة، وبعد دقائق سأله بريبةٍ من صمته الغريب:
_أحسن دلوقتي، ولا ألف وأرجع المستشفى اللي كنا فيها؟
وضع يده فوق رأسه وردد له:
_لا مش مستاهلة أنا كويس، كمل طريقك.
استكمل القيادة، وعينيه تختطف نظرات للمرآة الامامية، حتى قبضت عليها عيني صباح، فسألها ليخفي حرجه:
_الحاجة بقت أحسن دلوقتي يا أبلة؟
هزت رأسها بامتنان:
_الحمد لله اتحسنت بعد الجلسة اللي عملتها، معلش يا أسطى موسى عطلتك إنت والخواجة معايا.
ارتسمت بسمة هادئة على وجهه الرجولي، بينما يجيبها:
_مفيش المجاملات دي بينا يا أبلة، الحاجة في مقام أمي الله يرحمها، ربنا يقومهالك بالسلامة يا رب.
التفت لها يتفحص ابنته، ومال يتابع القيادة بفرحة زارته فور أن رأها تغفو بين ذراعيها:
_ما تصحيها لتتعب رجلك يا أبلة، الطريق لسه طويل!
استحضرها نعومة بصوتها تجهلها هي:
_هي مش تقيلة للدرجادي، اطمن أنا مرتاحة.
حانت من عُمران ابتسامة صغيرة، وقد أيقن أن شرارة الحب الأولى قد اندلعت بينهما، بينما استمر الحديث يقودهما بينما تغفو والدتها وابنته ويدعي عُمران هو الآخر استكانته، ومازال ذراعه موضوع على عينيه.
تهافت الحديث بينهما من كل صوب، حتى قص لها موسى بإيجازٍ عن الموقف الذي استرعاه حينما كان يشتري المياه والمناديل الورقية:
_لما رجعت ملقتكوش، والحاجة قالتلي ان الخواجة نزل معاكم تشتروا أكل، يدوب بلف ورايا لقيت واحدة ست حامل ماشية على الرصيف تايهة خالص، لدرجة إن كان في اتوبيس كان هيشيلها من على الرصيف، لولا إني شدتها، معرفش كان مالها، مساهمه قدامها ومش فايقة لأي حاجة بتحصل حوليها.
أبعد عمران يده عن جبينه وقد إزداد فجأة وجع قلبه، بينما ردت صباح بحزن:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، يمكن شافت حاجة فزعتها، أو جالها خبر وفاة حد من أهلها وهي على الطريق، متعلمش.
حرك كتفيه بعدم علمه الصريح:
_معرفش، بس لمحت شاب وبنت بيجروا عليها، ممكن يكون ده جوزها وقفشته بيخونها، حكم الناس العلوي دول بيغيروا الحريم زي الجزم لمواخذة.
انتهى الحديث بينهما، بينما مازال عالق داخل عُمران، لا يعلم ما الذي يصيبه بالتحديد، ما له بقصة تلك الفتاة التي قصها موسى وحدثت بالصدفة الباحتة.
انخفضت رماديتاه لدبلته، ولا يعلم لما اعتصر اصبعه بين يديه كأنه يضم صاحبة الخاتم باحتواء، مال للنافذة وقد ازدادت العتمة القاحلة داخله.
*******
ترك سيارته مصفوفة بالاسفل باهمال، وإتجه للمقعد الخلفي حيث تحتضن زوجته مايا، وتبكي متأثرة بحالها، التقفها منها بينما تصرخ فيه فاطمة:
_مش عارفة تأخد نفسها، بسرعة يا علي.
حملها منها وهرول بيها لداخل المركز الطبي الخاص به، فهرولت إليه الممرضات بالسرير المتحرك، وضعها علي وصاح بتوتر:
_دكتور يوسف فين؟؟
قالت آحداهم:
_الاستقبال اتصلوا بيه وبلغوه.
وقد أتاهم يوسف راكضًا، يعين حالة مايا بنظرة مروعة:
_مالها يا علي، حصل أيه تاني؟!
لم يتمكن من الحديث، لقد غادرت عنه الكلمات وتركته وحيدًا، نظرة خاطفة من “يوسف” إليه، جعلته يشعر بحجم ما يعيشه، فالتقط منه السرير ودفعه برفقة الممرضات داخل باب العمليات المفتوح، ومال يهمس له:
_طالما مفيش نزيف، اطمن.
وتركه يميل على المقاعد المجاورة لغرف العمليات بانهاكٍ شديد، توقفت “فاطمة” على بعدٍ منه، تضم الحائط وتخفي وجهها الباكي من خلفه، لم ترغب في رؤية زوجها بتلك الحالة، احتبست شهقاتها قدر ما تمكنت وانهارت دون أن يصل صوتها إليه.
شعرت بكفه الدافئ يلامس كتفها، فراقبت المقعد حيثما كان يجلس، فوجدته فارغا، استدارت خلفها فاذا به من يشد من مسكتها، بكت وعينيها تشكو إليه وجعها العميق عليه، ورددت بصوتٍ مبحوح:
_أنا عاجزة ومش قادرة أهون عليك كل اللي بيحصل ده، حقك عليا يا علي.
وضع يده خلف رأسها، وجذبها إليه، بينما يحيط بذراعه الاخر خصرها، يرفعها عن الأرض ويميل هو على كتفها كأنما هو من بحاجة لضمتها وليس العكس.
تراجع بخطاه للخلف ومازال يحملها ويضمها بعاطفته، تراجع حتى اختبئ بها بزواية معتمة بجانب الطرقة، بعيدًا عن الآعين التي قد تلمح طرفًا صغيرًا من رفعة فستانها الأسود، زوجته الحبيبة مازالت ترتدي الاسود حزنًا على أخيه!
مزق لحظات الصمت بينهما، بصوته المبحوح:
_خليكِ جنبي ومعايا، وأنا مستعد أتحمل ضعف الوجع اللي بعيشه يا فاطمة.
مالت ليتركها تلامس بقدميها الأرضية الرخامية البيضاء، بينما مازالت يديه تحتضن وجهها، مالت “فاطمة” تطبع قبلة عميقة على باطن كفه، ورددت بعشقٍ لم يصل له أحدٌ من قبل:
_سلامة قلبك من كل وجع، أنا عارفة أن كل اللي بيحصلك ده من كتر حب ربنا سبحانه وتعالى ليك.
وتابعت وهي ترسم ابتسامة تغاير دموعها المنسدلة كالشلال:
_وأمنيتي الوحيدة إنك تكون زوج ليا في الآخرة زي ما كنت ونعم الزوج ليا في الدنيا يا علي.
فاجأته بمدى حبها الشديد له، لدرجة تخلت عنه كلمات الغزل في غرامها، بينما يلتفت لنظراتها الغاضبة وإذا بها تدفع يديه عن وجهها قائلة بغيرة:
_أنت أكيد هتفرح بالحور العين وهتفكك مني، أنا بدعي ربنا يجمعني بيك وإنت مش هيبقى همك غير الحور العين!
ضحك رغمًا عنه، واتبعها، فوجدها تجلس على المقعد القريب من غرفة العمليات، ترمقه بضيق، جاور جلستها وقال ضاحكًا:
_طيب بالنسبة لتضحيتك العظيمة بتاعت امبارح، مش كنتِ عايزة تضحي بيا وتجوزيني مايا؟
اشارت باصبعها تحذره:
_ده في سبيل حمايتها وحماية ابنها، بس بصراحه اتصنت عليك وإنت بتتكلم في الموبيل امبارح بليل، وفرحت جدًا لما عرفت إنك بتدور على أدلة ضد باباها، اتصدمت لما عرفت انه شغله مش نضيف.
ورفعت عينيها إليه تخبره باعجاب:
_مطلعتش سهل يا علي، عايز تحبس الراجل!!
تأهبت رماديتاه بغضب استحضره مجرد التفكير بما فعله هذا المقيت، فهدر بخشونة:
_هدفعه تمن اللعب مع حد من جوه عيلة الغرباوي، هو السبب في الحالة اللي وصلتلها مايا، بسبب خناقتها مع فريدة اتوهمت إنها شافت عمران قدامها.
تلاشت ابتسامتها فور أن تذكرت الحالة التي باتت عليها “مايا” فجاة:
_طيب مش ممكن تكون شافته فعلًا يا علي؟
حرر الهواء العالق برئتيه وقال بألم:
_أنا شوفت الشاب اللي كانت واقفة معاه، وفاكره إنه عمران، هو اللي شدها من قدام العربية ووقف اتكلم معاها.
واستدار إليها يتعمق بعينيها:
_أنا حاسس إنه عايش يا فاطمة، بس زي ما ماما قالت مستحيل يكون عايش ويقبل يسيبنا في الحالة دي!
أردات الا تزيد من وجعه، ولكن رغمًا عنها قالت وقد تركت العنان لدموعها وحزنها المركون:
_أنا عمري ما عرفت يعني أيه أخ الا لما كان جنبي، عيشت حياة غريبة، محستش فيها بذرة حنية مرة من أخ من اخواتي، عُمران كان بيأكدلي كل مرة إنه كان الرزق والعوض عن قسوة اخواتي التلاتة، خوفه عليا واحترامه الكبير ليا حسسني إن مش بس أنت اللي ادتني الاحترام اللي اتجردت منه يا علي، هو كمان ساهم في جزء كبير من علاجي، فمش سهل عليا إنه فجأة كده يختفي، أنا ممكن اكون اتغيرت وبقيت أقوى من الأول، بس من وقت ما اختفى من الشركة ومن كل مكان وأنا حاسة بوجع مش قادرة اوصفهولك، عشان كده بديكم كلكم أكتر من عذر على الحالة اللي وصلتوا ليها.
ورفعت عينيها الباكية إليه، تشكو له ذاتها وهي تجفف دموعها في طرف حجابها :
_أنا أسفة بزيد عليك أنا كمان يا علي.
فرق ذراعيه فمالت إليه، ربت على رأسها بخفة وعينيه يتقطر منها الدمع، دقائق وخرج يوسف، فتركها واتجه إليه يسأله في لهفة:
_طمني يا يوسف.
ربت على كتفه وهو ينزع نظارته:
_الحمد لله ده اغماء بسيط، حالتها وحالة البيبي مستقرة جدًا، هتخرج حالًا لاوضة عادية، هتعلق المحلول ده وتقدروا تمشوا على طول.
واتجه ليغادر وهو يشير لعلي:
_تعالى معايا يا علي، عايزك.
ترك زوجته واتجه خلفه يتبعه إلى المكتب، وما أن جلس قبالته حتى قال باسترابة:
_لما حاولت أفوقها كانت بتقول إنها شافت عمران!!!
تنهد بوجعٍ، وقال:
_اعتقد إنها اتوهمت ده، بسبب مشكلة بسيطة حصلت بينها وبين فريدة هانم، لكن أنا شوفت الشاب اللي كانت واقفة بتتكلم معاه، مكنش هو يا يوسف.
تهدلت معالمه بحزنٍ شديد وهمس بخفوت:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!
******
_يعني أيه عايز تخرج؟ آدهم متهرجش الدكتور بيقول مينفعش تخرج الا بكره الصبح، عشان عينك!
قالها آيوب بغضب شديد من أخيه الذي ما لبث الا يومه الثاني بالمشفى الخاص ويريد الآن الخروج، اغلق جفنيه نصفه في محاولةٍ لمواجهة الضوء القوي، حتى يتمكن من رؤية حذائه، ولكنه لم يحتمل فاغلقهما سريعًا.
انحنى آيوب يجذب الحذاء ويعاونه بارتدائه، بينما يهتف آدهم بثبات:
_هو قال إن بالكام ساعة دول النور اللي ضارب عيني ده هيبدأ يهدأ واحدة واحدة مع العلاج والتعليمات اللي قالها، فأنا هلتزم باللي قاله وهلبس النضارة.
انتصب آيوب قبالته وقال بضيق:
_مفيش فايدة فيك يا آدهم، دماغك ناشف وعنيد.
استقام بوقفته هو الآخر وأمسك يده:
_خرجني بس من هنا، ويا ريت توديني بيت البشمهندس جمال، محتاج أشوفه وحالًا.
تعجب من مطلبه الغريب، وهتف مستنكرًا:
_اشمعنا!!
زفر بنفاذ صبر:
_وبعدين معاك بقى يا آيوب، انجز مفيش معايا وقت.
استند على كتفه، وما كاد بالتوجه لباب الغرفة، حتى وجد “عمر” بوجهه، يحمل كيسًا بلاستيكًا ممتلئا بالأدوية، ويبتسم لهما ببسمته الجذابة، تنحنح آيوب ومال لأخيه يهمس له:
_أهو الدكتور قفشنا وإحنا بنهرب، عاجبك إنت وضعنا كده!!
تعالت ضحكات عمر، واقترب منهما يهدر بابتسامته التي زادت من وسامته:
_ميهمكش يا بشمهندس آيوب، أنا واخد على كده، ما قولتلك عندي نسخة زي اخوك الكبير في البيت.
وتابع وهو يمد يده بالادوية له:
_وعشان عارف إنه هيعمل كده جبتلكم الادوية بنفسي، وقولت اطمن آيوب لان الباشا مش هيفرقله صحته زي النسخة اللي عندنا في البيت، فتأكد أن ظباط الداخلية والمخابرات معندهمش قلب ولا اهتمام بحجم اصابتهم، من الآخر طول ما أنت بره المجالين دول فانت عندك قلب.
تنحنح آدهم بحرجٍ، وقال يخفي فعلته:
_هو مش حضرتك أكدتلي إن العملية نجحت، يبقى أيه لزمة قعدتي هنا.
مازحه مدعيًا جديته:
_آه ده انت لحقت تزهق مني بقى، طيب مش تستنى لبكره عشان تشوف شكلي على الأقل!!
قاطعه بابتسامة جذابة:
_بالعكس ده أنا متحمس أشوفك يا دكتور عمر، اول ما الرؤية توضح عندي هاجي بنفسي ازورك في مكتبك.
كان من دواعي شرفه التعرف على ضابط بشهامة عمر الرشيدي، وهو يعلم كل العلم بذلك الامر، قدم عمر الدواء إلى آيوب وقال:
_غلبتني بذوقك يا حضرة الظابط، وعمومًا بنجاح العملية وبعد ما تأخد الدوا ده هتبتدي تشوف وشوش مبهمة بالاول، وتميز ملامح قريبة، خطوط خفيفة، وطبعًا لازم راحة تامة و ممنوع أي إجهاد بصري أو بدني وده إعتبرني مقولتوش لانك مش هتعمل بيه.
ضحك آيوب ونطق باستهزاء:
_ده مخالف من تاني يوم سعاتك!
أكد له عمر ضاحكًا:
_لولا تشديداتي عليه كان عمل العملية إمبارح ومشى على طول.
صافحه آدهم بحرارة وشكره بامتنان:
_شكرًا على تعبك معايا يا دكتور، وأوعدك إن هيكون لينا لقاء قريب بإذن الله.
قالها وانصرف برفقة أخيه على الفور، مغادرًا للمشفى الخاص بـ”عمر الجارحي” ومتجهًا لمنزل “جمال” ليبدأ بتنفيذ أول خطوات مهمته للقضاء على شبكة الخنازير المتفرعة داخل رجال الأعمال.
********
رسم حياة متكاملة تعوضه عن فراق تلك الليالي التي قضاها بعيدًا عنها، ولكنه اكتشف إنه مجرد عالم افتراضي، سقط من فوقه فجأة، الحياة أصبحت سوادوية من حوله، لا تزهر فيها أزهار الحب النابتة في الصبى ولا تزورها قطرة مياه واحدة تمنح الأمل للحديقة الجرداء!
كان يتمنى أن ينال وصالها، يود أن يسحق ذكرياتها مع هذا اللعين، يوصمها بعشقٍ يجعلها لا ترى في دفتر ذكرياتها سواه هو! ولكنها خذلته بما تفعله وتختبره به حتى تلك اللحظة!
أغلق “يونس” الدفتر من امامه، ونهض يتجه كالصاروخ المتحرر، فلحق به “إيثان” يناديه باستغراب:
_على فين يا يونس؟!!
تجاهله ومضى لعمارة الشيخ مهران، كان يود الصعود للأعلى، ولكنه توقف فجأة حينما انفتح باب شقة عمه، وخرجت له “سدن”تناديه بارتباكٍ:
_استني يونس أنا عاوزك في هاجه (حاجة).
تمرن بالالتحاق بالصبر، قبل أن يستدير إليها، فاذا بها تعقد حجابها جيدًا وتتجه إليه قائلة:
_أنتِ راجعة من شغل بدري ليه؟
تعجب من تدخلها بما يخص مواعيده، ومع ذلك قال:
_عادي يعني هو معاد حكومي ولا أيه يا سدن؟!
ابتلعت ريقها بتوترٍ شديد، جعل يونس يتابعها باهتمام:
_هو في حاجة ولا أيه؟ مالك وشك مخضوض كده ليه؟
راقبت الدرج بخوفٍ، ثم بدأت تستدعي دمعات زائفة وهي تشكو له:
_آه في وكتير كمان، أنا عاوز يروح المسجد ويخلي الشيخ يفسخ عقد جواز بتاعي من آيوب، أنا مش عاوز يكمل معاه.
صعق مما استمع إليه، فهبط الدرجتين الفاصلتين بينهما، ووقف على بعد مسافة منها:
_بعيدًا إن المسجد مالوش دخل في حوارات الطلاق دي، بس أيه اللي وصلك للقرار المصيري ده؟!!!
استدارت توليه ظهرها وهي تعض اصبعها بينما تتمتم بالانجليزية:
_ماذا سأفعل الآن حتى لا ينكشف أمر تلك الحمقاء؟؟ يا الله ماذا سأفعل؟؟
وصرحت لذاتها بابتسامة واسعة:
_كذبة بيضاء من أجل إنقاذ زواج هذا المتهور، عزيزتي سدن لا بأس، فقط استرخي وإنطلقي!!
ارتاب يونس من أمرها، فخطى إليها بشكٍ:
_هو الموضوع محتاج للتفكير ده كله، عمل أيه يا سدن قوليلي وأنا أخلي الشيخ مهران يقيم عليه الحد!!
التفتت إليه تدعي بكائها بصوتٍ مرتفع وبدون أن تسقط منها قطرة مياه واحدة:
_آيوب بتخوني، مش بترجع البيت خالص، أنا حاسس إنه مش عادت بيحبني، ولا مهتمه بحفظي ولا بيا يا يونس، دي بقالها يومين مش بتديني الـــ الايه؟!!!
ولطمت جبينها بينما تجاهد لتذكر صيغة الجملة، فمنع ضحكته بصعوبة وهو يساعدها:
_المصروف؟
هزت رأسها واستمرت بالشكوى بينما من يقف خلفها يكاد أن يصاب بذبحة صدرية من كثرة كذب زوجته، لدرجة جعلته يلعن الساعة التي أصر فيها على أخيه أن يننظره بالاسفل لحين أن يبدل ملابسه التي بقى بها ليومين متتاليين برفقته بالمشفى قبل الذهاب برفقته إلى جمال.
تابعت سدن وهي تشهد يونس على أخيه الاصغر:
_يرضيكي يونس أقولها خديني معاكِ اتعرف على باباك وعلى أختها قصدي أخوه ده الظابط المصري اللي أنقذنا من عمي الحقير بس مرضتش تأخد سدن تعرفها عليهم ولا على شمس!! يرضيكي يونس.
حك يونس لحيته المنمقة وتمتم بسخط:
_لا ميرضنيش ولا يرضي حد لغة المؤنث المهينة دي!
واستعد ليخمد نيرانها، في عزيمة الحديث عن قصة حب آيوب العتيقة، في سبيل إنقاذ زيجته، وقبل ان يقدم على العمل البطولي هذا تفاجئ بمن يجذب سدن من تلباب فستانها، ويحركها كزجاجة مياه سقطت تتدحرج أرضًا:
_بقى أنا حارمك ماديًا وعاطفيًا؟؟ أنا كل الاشياء البشعة دي؟؟ ده أنا صفارة قلبي كانت هتقف من كتر كدبك، بتشتغليه بالزور عني!! بتكدبي يا سدن؟؟!! عايزة تدخلي النار!
تعلقت بحجابها وهي تكاد أن تموت من صدمتها، حاول يونس إبعاده عنها وهو يصيح بغضب:
_إنت هتمد إيدك عليها ولا أيه؟؟ شكلك محتاج إعادة تربية يابن الشيخ مهران، ولعلمك بقى انا مصدقها بعد مسكة المجرمين دي!
كادت ان تلطم على وجهها من صدمة ما أوقعت ذاتها به، بينما يدفع آيوب ذراع يونس وهو يحذره:
_متتدخلش إنت يا يونس لما أشوف الهانم حكايتها أيه؟
مالت تتعلق برقبته وهي تهمس له برجاء مستغلة قربها الشديد إليه:
_اهدي آيوب أنا إشتغل يونس، والله انا اشتغل يونس، كدبة بيضة مش سودة، مش هروح النار متقلقيش عليا!!
تبلدت يده عليها ومازال يتطلع ليونس بصدمة، زادت من فضوله لمعرفة ماذا تهمس له سدن، بينما الاخيرة تستغل فرصتها للرمق الاخير وتعود لاخباره:
_يونس راجعه بدري من الشغل وخديجا مشى من وراه مشوار سر، لو يونس عرف هتقبض روح خديجا وهيروح يتحاسب عن جريمتها، حرام إديه فرصة يتوب انا بحب خديجا، بليز آيوب help me!
تحررت يديه عنها وتراجع يتابعها بنظرات مصدومة، مندهش من طريقة حوارها أو ربما تفكيرها، هو لا يعلم ماذا اصابه بالتحديد؟!
اندفع إليه يُونس يسانده من الخلف، ويتفحصه بريبة:
_قالتلك أيه جابت بيه أجلك كده، صارحني أنا أخوك!
خطف نظرة إليه ثم عاد يتطلع لزوجته التي تشير بيدها وهي تنطق دون صوت:
_ساعديني آيوب بليز، يونس هتقتل خديجــــــا.
وكانت تشير بكفها على رقبتها، دلالة على قطعه لرقبتها، وكأن أخيه بات سفاح المعادي!!!
ارتاب يونس لامر آيوب المقلق، فناداه بريبة:
_مالك يا آيوب؟ لو حاسس بحالة إغماء اخدك وأجري بيك قبل ما تقضي عليك!
خطف نظرة لاخيه وعاد يتطلع للفراغ، فلمح طيف خديجة مختبئة بالطابق السفلي بملابس الخروج، وعلى ما يبدو أنها عادت للتو، وصعقت بعودة زوجها باكرًا من عمله.
تشبث آيوب بكف يونس، وردد له:
_اسندني لأوضتي يا يونس، حاسس إني مخنوق ومش قادر اخد نفسي من كتر الكدب والخداع اللي بيتم ده.
إنصاع له وهو يدعمه كليًا ويتجه به لغرفته، بينما تهرول خديجة راكضة للاعلى، فتوعدت لها سدن قائلة:
_آخر مرة خديجا، آيوب هتقبض روحي انا مش إنتِ.
أشارت لها وهي تتخطى الطابق العلوي:
_بعدين نتكلم يا سدن، سبيني اغير هدومي قبل ما أقفش!.
زوت حاجبيها بعدم فهم:
_أيه تتقفشي دي مش فاهم حاجه؟
اشارت لها بعدم مبالاة وهرولت للاعلى، بينما تعود سدن للداخل حيث تجد يونس يقدم المياه وكوبا من العصير لآيوب الذي يسدد لها نظرة قاتلة، بينما تشير له بعلامة لايك أن الامر قد تم، وقد نجحت خديجة بالفرار.
ترك آيوب الكوب وابتسم لاخيه قائلًا:
_خلاص بقيت أحسن يا حبيبي، يلا اطلع ريح شوية وفكك من سدن، دي بتهزر معاك.
رسمت ابتسامة بلهاء وقالت تؤكد له:
_آه يونس أنا كنت أضحك معاك، مش انتوا قولوا على الكدب الأبيض هزار!
عبث بمقلتيه بصدمة:
_ايه؟!
سحب آيوب وجهه إليه:
_فكك منها واطلع شقتك يا يونس، أنا كده كده قايم أغير هدومي ونازل على طول، آدهم مستنيني تحت في عربيته، رايحين مشوار على السريع كده.
حرك رأسه له وقال وهو يميل اليه:
_خدها تتعرف على مراته وعلى باباك الجديد بدل ما المرة الجاية تتبلى عليك وتفضحك في الحارة كلها يابن الشيخ مهران!
ضحك رغمًا عنه حينما تذكر حديثها:
_عنيا هاخدها حاضر.
ضحك يونس هو الآخر وتركهما وغادر، وما أن استمع آيوب لغلق باب الشقة الخارجي حتى هرع إليها، فركضت للردهة وهي تصرخ:
_حاچا رقيا الحقينـــــــــي!
أصبح الآن قبالة الطاولة، بينما هي تحاول الجري من الجانبين، وهو يصيح بعصبية:
_هو أنا مش منبه عليكي متقفيش مع يونس ولا مع ايثان قبل كده؟؟؟؟!
هزت رأسها بتأكيد وقالت:
_مضطر أنا مضطر آيوب!
كاد بأن يصعد لها من فوق طاولة السفرة:
_مضطرة لأيه ولا أيه؟؟؟ ده أنتِ نزلتي بمجلد كدب ميمحهوش حسنات الدنيا كلها، وكل ده لايه عشان تداري على جريمة أبشع!!!!!
وصعد بالفعل فوق الطاولة، في محاولة للامساك بها، فجذبها من حجابها وهو يصيح:
_تعالـــــــــــي!
انتزعت عنها الحجاب وتركته عالقًا بين يده، وهرولت بخصلاتها الصفراء المسترسلة خلف ظهرها بحريةٍ، تعلقت عينيه بها كالمسحور، ولم يرى سوى سحرها الذي بات مهلكًا إليه، بينما تدور حول الطاولة وهي تخبره بخوف:
_خديجا محتاج للدكتور النفسية بتاعه، وخايف يقول ليونس لانها مش هتفهمها آيوب، انا عاوز ساعد خديجا لحد ما تبقى كويس.
آين أيوب؟!! يقف مشدوهًا وحجابها بين يده، يطالعها بمكرٍ ودهاء، فزفر وهي يتمتم:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، كده تخليني أظلمك؟ طيب كان ليه من الأول يا بنت الحلال، كنتِ قولتيلي كده وانا أكيد كنت هكون متفاهم بإذن الله.
اتسعت ابتسامتها وقالت:
_بجد آيوب، يعني انتي مش زعلانة من سدن؟
ابتسم ابتسامة سحرتها، ولعب على وترها:
_ومين يقدر يزعل من أم كدب أبيض وقلب أبيض منه، أنا بحبك يا سو!
سد حديثه كل فجواتها، بل وتركته يقترب حتى بات قبالتها، كان يعقد عزيمته أن يأدبها على مساعدتها لخطيئة خديجة فيما تفعله، ولكنه انصهر أمام ابتسامتها ونظرتها الناطقة بعشقها الصريح إليه.
ضم وجهها بين كفه، بينما يتعمق بعينيها، فرددت بحب:
_أنا كمان بحبك آيوب، وعاوز فرح كبير أوي، عشان أطبخ ليكِ فوق زي خديجا ما بيعمل.
مال يضحك على حديثها وقال بتلاعبٍ:
_ده أقصى طموحاتك في الجواز يعني؟؟؟!
هزت رأسها بكل تأكيد، وقالت:
_إنتي محترمة آيوب، ومش زي الشباب الوحشين دول، صح؟
تعالت ضحكاته دون توقف، بينما يجاهد للحديث:
_لا مهو أنا مش هغض بصري ٢٤ سنة عشان تبقى دي نهايتي كمان، مهو أنا بشر طبيعي، وإنتِ ذنبي الوحيد اللي هشيله في دنيتي بس الأجمل إنه ذنب حلال لإنك حلالي يا سدن!
تاهت في سحر حديثه وشاركته عاطفته، حتى أتاهما صوت ذكوري صارم:
_بتهبب أيه يابن الشيخ مهران!!!! يا بشمهندس يا محترم!
جحظت فيروزته في صدمة حينما وجد أبيه يقف قبالته ولجواره آدهم الذي صعد برفقته بعد اصراره على الصعود، اختبأت سدن خلف آيوب وهي تتعلق بملابسه، بينما هو يوزع نظراته بين أبيه والحجاب الذي يحمله، وبين طاولة السفرة التي يسقط عنها مقاعدها في منظر لا يوحي الا بما يبتعد عنه كليًا.
ابتلع ريقه بارتباكٍ ونطق:
_لا الموضوع فيه لبس يا حاج، ده ده آآ… ده آه كنا بندور على فردة الحلق بتاعت سدن، وللاسف ملقنهاش.
طلت من فوق كتفه تخبره:
_إنتي بتكدبي ليه آيوب، إنتي عاوز تخشي النار!!!
هز الشيخ رأسه في ضيق، وقال برزانة:
_ادخلي جوه انتي يا حبيبتي، وسبيلي البشمهندس المحترم عاوزه في كلمتين.
واستدار يشير لادهم الذي يسيطر على ضحكاته بصعوبة بالغة:
_اتفضل يابني، بيتك ومطرحك، معلش ابني معندوش ذوق، سايبك في الشارع وطالع يتصرمح هنا!
أشار آيوب بحرج:
_محصلش الكلام ده يا آدهم، أنا غرضي شريف والله، منك لله يا يونس!!
صاح الشيخ منفعلًا:
_اخرس بقولك.
عادت له سدن تجذب ما بيده قائلة بحدة:
_سيب حجابي أوعي!
والتقطته وولجت للداخل في صمتٍ كان مهيبًا، قاتلًا لادهم الذي احمر وجهه من فرط ضحكه المكبوت، راقبه آيوب بحرج، واتجه لغرفته يستبدل ثيابه ثم خرج يشير له:
_يلا يا آدهم عشان منتاخرش.
شيعه الشيخ بنظرة ساخرة:
_لا وأنت تبارك الله دقيق أوي في مواعيدك!
تنحنح بحرج مما حدث، وأجلى حنجرته بخشونة:
_آدهم يلا!!
نهض وهو يستأذن باحترام:
_عن إذن حضرتك يا عم الشيخ.
ربت على يده بحب وقال:
_اذنك معاك يا حبيبي.
أمسك آيوب يده وارشده للخروج، ولكنه توقف حينما ناداه والده بصرامه:
_آيـــــــــــوب.
استدار له بارتباكٍ، فاذا به يشير على السفرة بعنفوان:
_رتب اللي بهدلته ده قبل ما تتحرك، مش ناقص مشاكل مع الحاجة بسبب لعب العيال ده!
أومأ برأسه وانحنى يعيد ترتيب المقاعد بينما يزجره أبيه بنظرات قاتلة، جعلته يود الهروب في الحال، وحينما انتهى قال:
_روقت البيت كله يا حاج، أتكل على الله أنا؟
أشار بسخط وقال:
_اتكل والافضل تبات مع أخوك النهاردة، لسه خارج من العمليات وعايزك في حضنه.
حك رقبته بحيرة:
_بتطردني يا شيخ مهران؟
رد بسخرية:
_لا بحمي بنتي من تصرفاتك الغير لائقة!
انفجر آدهم ضاحكًا وهو لا يستوعب ما يحدث هنا، فاتجه له آيوب وسحب كفه:
_المسرحية خلصت خلاص، اتفضل خلينا نخلع قبل ما يخليني أخد الصالة فومين بالفتالة.
مال آدهم يهمس له:
_مش لايق عليك الانحراف يا شيخ آيوب!
لكزه بغضب:
_بتتماكر عليا يا آدهم، انزل بدل ما أسيبك على سلم العمارة وأخلع.
نزل برفقته وقال:
_وعلى أيه الطيب أحسن.
وصل معه للسيارة، عاونه على الصعود وما كاد بالتوجه لمقعد السائق، حتى تفاجئ بفارس يركض تجاهه:
_آيـــــــوب.
حمله بين ذراعيه بحب وهو ينثر وجهه بالقبلات:
_أبو الفوارس، جاي منين؟
رد عليه الصغير:
_كنت بلعب..
وتعلق برقبته وهو يترجاه:
_إنت رايح فين خدني معاك.
رد عليه بهدوء:
_مش هينفع يا حبيبي، أنا خارج مع عمو آدهم وراجع تاني متقلقش.
فتح آدهم النافذ ومال يخبره بابتسامته الجذبة:
_هاته معانا يا آيوب، طلبات فارس باشا أوامر علينا.
هز رأسه وجذب هاتفه يتمتم:
_طيب هقول ليونس الاول!
*****
هرعت راكضة تجاه مكتب “يوسف”، اقتحمته لأول مرة دون أن تطرق حتى على بابه، ترك” علي” كوب قهوته، ونهض يسرع لزوجته التي يتصبب وجهها بالعرق، وملامح الرعب والفزع تشكلان على معالمها بوضوحٍ، ونطقها لحروف شاحبة كحال وجهها:
_ علـــــــــــــي.
أسرع يساندها إليه وهو يسألها بقلقٍ:
_في أيه؟؟
رددت بتلعثم بحروف كلماتها:
_والد مايا دخل علينا أوضتها ومصمم ياخدها بالغصب.
احتقنت أوردة علي غضبًا، فترك يوسف يهرول من خلفه في محاولةٍ لفهم ما يحدث، وانطلق كالشرارة المشتعلة تجاه غرفة زوجة أخيه، بينما جمعت فاطمة مفتاح سيارة علي وهاتفه ومتعلقاته الشخصية من على مكتب يوسف ثم لحقت بهما.
******
جذب معصمها بكل قوته غير عابئ بنزيف يدها من إبرة الكانيولا المندسة بعروقها:
_هتمشي معايا وحالًا، أنا كنت غلطان لما وافقتك على الجوازة دي من الأول، وأهو غار في ستين داهية، هتتجوزي اللي انا عايزه مهما كان التمن سامعة يا مايــــا.
حاولت ميسان أن تدفعه عنها بكل قوة، بينما تصرخ فيه بانهيار:
_على جثتي سامع، بكره عُمران هيرجع وهيعرف إزاي يعاقبك على اللي بتعمله ده، خوفك منه وهو موجود هيبقى مضاعف لما يرجع ويقف في وشك.
ضحك مستهزءًا:
_هي دي لعبة فريدة هانم الجديدة عشان تثبتك جنبها؟ وهمتك ان ابنها لسه حي وراجع يكمل قصة عشقه وغرامه معاكي!!
وأضاف بحقد جعلها تكرهه أضعافًا:
_أمال لو مكنش مرافق عليكي البنت الخواجاية الزبالة دي كنتِ عملتي أيه عشانه؟
تطلعت لوجهه بكره ومازالت تتشبث بالعمود المعدني المعلق عليه المحلول:
_أنت إزاي بالحقارة دي! معقول طمعك في السلطة والنفوذ يوصلك للمرحلة دي!! عايز تقتل بنتك الوحيدة بالحيا عشان تقوي من نفوذك!
وأضافت وهي تستند على العمود لتنهض عن الفراش أمامه:
_يا ريتك انت اللي كنت ميت ومامي كانت هي اللي عايشة معايا دلوقتي، كانت هتعوضني عن طمعك وجشعك.
رفع كفه الغليظ بغضبٍ ليصفعها بقوةٍ، وجدت قوة معاكسة تكور كفه بين لائحته فبات صوت طقطقة عظامه مسموعة لرجاله الذين أُحيطوا برجال أمن المركز، ويقفون يتأملون يد سيدهم وهي تتهشم عظامها بين يد “علي” الذي يرمقه بحدة وبدون أن يرمش له جفن.
أحاط مايا شعور الأمان فور أن حال علي بينها وبين أبيها، فاستندت على العمود المعدني حتى جلست على الفراش تضم بطنها في خوف وتراقب ما سيفعله علي بتوترٍ.
صعق “عثمان” وهو يرى أن من يقف أمامه هو الدكتور “علي”، أخر ما توقعه، حرر علي كف يده وقال بعنفوان خشن:
_هو إنت كنت فاكر أني في وقت يسمحلي أهزر معاك! فاستهزأت بتهديداتي ليك ولا أنت فاضي وحابب تشوف اللي أقدر أعمله عملي؟
فرك عثمان يده ومال يخطف نظرة لرجاله الذين باتوا تحت عهدة رجال الأمن، ثم تطلع لعلي وقال:
_اسمع يا دكتور علي، أنا طول عمري بحبك وبحترمك، فمن فضلك حافظ على علاقتنا المتحضرة وسيبني اخد بنتي وأمشي بهدوء.
ضم علي شفتيه وبدى كأنه يفكر فيما يقول:
_أممم… بنتك!!!… آه إنت تقصد مايا الغرباوي؟؟؟ حرم عُمران سالم الغرباوي!! طيب ما تراجع نفسك في نطق اسمها كده، وتحاول تفوق من وهمك، مايا الغرباوي، يعني بحسبتها البسيطة تبع عيلتنا متنطبقش ليك يا عثمان باشا..
وتابع وهو ينحني بقامته الطويلة إليه:
_أنا بنصحك تزور دكتور نفسي، اعصابك مشدودة بعد اختفاء عُمران، حزنك عليه باين جدًا ومحتاج لعلاج نفسي.
وأضاف وهو يتطلع ليوسف المصعوق من مراقبة نسخة علي المخيفة:
_والله لولا انشغالي في ادارة المركز مع دكتور يوسف شريكي كنت عالجتك بنفسي، بس للأسف معنديش لا القدرة ولا نفسية تأهلني أعالج جنانك ده يا باشا.
تشربت بشرته نيران مستعارة من حديث علي، وصاح فيه:
_علي متنساش نفسك، فوق لكلامك لتندم!
ضحك بصوتٍ مسموع وقال:
_الندم ده تأجله ليك، هيكون عندك وقت طويل في التخشيبة تراجع فيه نفسك وتندم براحة راحتك.
ابتلع عثمان ريقه بصدمة مما استمع إليه، بينما قطعت فاطمة الصفوف وقدمت لعلي الهاتف ببسمة ثقة غامزة له:
_في رسالة مهمة ليك يا علي.
جذب الهاتف ببسمة جذابة، وقد علم من اشارتها أنه قد وصل المطلوب، عبث بالهاتف واتجه لعثمان يضع يده حول كتفه والجميع يراقبون ما يحدث بينما يقرب علي الشاشة لعين عثمان المصعوقة:
_أيه رأيك بالفيلم القصير ده يا عثمان باشا، عايزك تتفرج كده بهدوء وتسترخي لاستقبال الصدمات، لإن للاسف جهاز تنظيم ضربات القلب عطلان، مش كده ولا أيه يا دكتور يوسف؟
كبت يوسف ضحكاته وأمأ برأسه، بينما ينصعق عثمان من رؤية وثائق لعملياته المشبوهة، وأخرى المتعلقة بغسيل الاموال، كاد أن يصاب بذبحة صدرية، فنزع جرفاته وهو يشير لعلي بانكسار:
_إنت عايز أيه يا دكتور علي؟
أعاد الهاتف لجيب سرواله ببطءٍ شديد، وخطى بالغرفة ببطءٍ أشد، حتى وصل لرجال الامن فسحب السلاح من يده وأخذ يتطلع له كأنه يتأمل سلاحًا ناريًا للمرة الاولى، بينما بالخلف يبتلع عثمان ريقه الهادر في هلعٍ:
_والله ده يتوقف على اللي إنت عايزه يا باشا، يعني لو رحلت بمنتهى الهدوء من مصر كلها وقتها أنا هحتفظ بملفك الاسود ده بمنتهى الهدوء بردو، لكن لو ناوي على الشر فأوعى عقلك يصورلك إن الدكتور علي الغرباوي هيهتم بكل تاريخه ويتنازل عن مرات أخوه وابنه بمنتهى السهولة.
واستدار يسلط السلاح بين منتصف جبهته بقوة:
_ أنا ممكن أفرغ رصاص المسدس ده كله في رأسك ومش هأخد فيك ساعة واحدة حبس، داخلي بشوية بلطجية لحد مكاني وبتحاول تتعدى عليا وعلى أهل بيتي، وعندي ألف مين هيشاهد على الكلام ده، أو ممكن السيناريو التاني يعجبك اكتر، حاولت تتخلص مني عشان الادلة اللي تثبت نشاطك الوسـ* فسبقتك انا ودفعت عن نفسي بمنتهى الشجاعة، ها أيه رأيك أنفع!!
سحبت الدماء عن اوردته حتى كاد بالسقوط الإن في الحال، بينما يستكمل علي ببسمة شامتة:
_هو أنت نسيت باب الخروج منين ولا أيه يا عثمان باشا تحب أساعدك؟!!
قالها ومد السلاح لفرد الأمن، فالتقطه منه واعاده للحزام الجلدي، بينما يتجه علي إليه، يسانده ويخطو جواره للخارج حتى وصل به للسيارات الخارجية، فهمس له وهو يرسم ابتسامة باردة:
_وإنت بتشتكيلي من تصرفات عُمران معاك بالفترة الاخيرة وأنا كنت بحاول أهديك نسيت أقولك إنه تربية ايدي!! مع السلامة يا باشا.
قالها ودفعه لمقعد السيارة التي يفتح بابها احد رجاله، فسقط كالبرميل المثقوب داخلها، وأخر ما يراه هو نظرات عيني علي التي كادت بقتله في محله بالتو والحال.
*******
انتهى “عُمران” من الدراسة لقمر، التي استوعبت ما قاله بسبب حبها الشديد إليه، غفت على ذراعيه فمسد على شعرها بحنان..
بينما وقف موسى قبالة صابر بداخل المطبخ، يتابعه وهو يصنع الشاي بعينين تضخان بالشك، ارتاب صابر لامره وقال:
_مالك يا عم بتبصلي كدليه؟
دنى منه وقال:
_هو إنت مسمعتش باللي حصل؟ بيقولك الحكومة خدت الدكتور ممدوح النهاردة ومحدش عارف مين اللي بلغ عنه!
ارتبك وهو يتصنع انشغاله بما يصنعه:
_طيب وفيها أيه يعني، مهو كده كده كان هيقع!
مال يستند على الطاولة الخشبية التي يقلب عليها صابر الشاي:
_قال قولي يا صابر هو إنت ليه قافش في الخواجة كده، يعني ساعدت ناس كتير وطرقتهم من بره بره اشمعنا الخواجه يعني؟!
ابتلع ريقه بارتباك وهمهم:
_هو في أيه يا موسى، انت شغالي في وصلة التحقيقات دي ليه؟
رد عليه ونظراته تتصوب تجاهه:
_ولا صارحني باللي في جوفك، إنت شغال مع الجماعة إياهم؟ جندوك يعني في المخابرات عشان تنقلهم اخبار المنطقة زي الواد ابراهيم؟
برق في صدمة وخوف من أن ينكشف أمره:
_ يجندوا مين! هو انت افلام نادية الجندي اثرت على نفوخك ولا أيه؟!
سحب كوبه يتجرعه جرعة واحدة وعينيه لا تنجرف عنه:
_ماشي يا صابر، اديني وراك لحد ما أشوف نهايتك أيه!
وتركه وخرج يتجه لعمران، حمل عنه الفتاة وقال:
_هات عنك هدخلها سريرها.
حرك رأسه بارهاقٍ وشرد بالاجواء من حوله، جلس صابر جواره يضع صينية الشاي على الطاولة الارضية، يشير له ببسمة هادئة:
_الشاي يا خواجة.
التقط عمران منه الكوب وهو يمنحه ابتسامة صغيرة، بينما يجلس صابر مقابله، طال الصمت بينهما حتى قاطعه عمران:
_هو إنت هتبات هنا النهاردة كمان ولا أيه؟
ضحك وهو يقول:
_مدام طولت للوقت ده يبقى أكيد هبات وش.
استدار له يسأله باهتمام:
_صحيح انك متجوز اتنين؟
هز رأسه يجيبه:
_أيوه جوازة مش على كيفي وجوازة بكيفي!
عبث بعدم فهم:
_مش فاهم!
أجابه صابر بايجاز والالم يتبختر بنبرته:
_أمي أجبرتني أتجوز مرات أخويا الله يرحمه، فاتجوزتها بشرط اني اتجوز مرة تانية البنت اللي تعجبني.
=ومين فيهم اللي موسى مش حاببها؟
ضحك وهو يجيبه:
_الجوازة الاخيرة اللي هي اختياري، بس مش فاهم مش عجباه في ايه؟ هو اللي هيعاشرها ولا أنا؟
تمعن بحديثه وسأله مجددًا:
_طيب وانت قادر تعدل بينهم يا صابر؟
ترك كوبه وهو يجيبه بضحكة:
_لا أنت فاهم غلط، أنا اللي بيني وبين مرات اخويا ورقة جواز بس، وبيها عايشة مع امي وراضية، لكن عيشتي كلها مع مراتي التانية في الشقة اللي كان متجوز فيها موسى.
=هو ده منظور الجواز من وجهة نظرك!
أجابه بجدية تامة وغموض:
_هي راضية على كده أنا مأجبرتهاش توافق على الجواز مني.
جابهه عُمران بضيق:
_بس انت بتخالف شرع الله وهتتسأل عنها! لو مش قادر تكون ليها زوج خلاص طلقها وسبها لحال سبيلها.
رد بجمود:
_وهتروح فين؟ خالي عنده اربع بنات غيرها بيجري عليهم ومش هيقدر يشيل همها كمان.
احتدت رماديتاه وصاح فيه:
_آه يعني انت بتعطف عليها بقى! طيب وليه المنطق ده مهي لو اتجوزت غيرك هيكرمها بردو بس وهي زوجة ليه مش متسولة منه.
احتقنت عينيه بلهيب الغضب، وقال يحذره:
_خد بالك من كلامك يا خواجة.
هدر بعصبية بالغة:
_لا خد بالك انت من تصرفاتك، أنت مش متخيل حجم الذنوب اللي شايلها على أكتافك، كسرة قلب الست مش سهلة، ومهما كان قوة تحملها أكيد بيجيلها لحظات ضعف وانكسار، ويا ويلك يا صابر لو كانت شكوتها منك لرب العباد، صدقني مفيش قوة في الكون كله هتحميك من غضبه عليك!
ترك الكوب ونهض يتطلع له بغضب:
_انت مش فاهم حاجة، ولا عمرك هتفهم.
نهض قبالته عُمران وقد لمس في عينيه سرًا دفينا يحيطه وجعًا نازفا، فقال ليستدرجه:
_ولا عايز أعرف حاجة، بسبب اللي زيك بقى سائد للناس ان الزوجة الاولى دايمًا فيها نقص، بقى أي حكاية البطولة المطلقة للزوجة التانية حتى لو مكنتش تستحق ده، أنا اللي فهمته من كلامك في اللحظة دي انك مدتهاش حتى فرصة تعيش معاك عشان تحكم عليها!! يبقى ليه تتجوزها وانت عارف طبيعة علاقتك بيها هتكون ازاي؟ ظلمتها الظلم ده كله وقادر تقاوح قدامي!!
تابعهما موسى وفضوله المخزون لسنوات قد تمرد لمعرفة نفس الاجابات على أسئلته، ففضل الاستماع لهما من بعيدًا وهو يتمنى أن يتمكن عُمران من الوصول لما بداخل رفيقه، فاذا به يتخلى عن صمته الدافين ويصرخ بجنون:
_هي السبب في كل ده، هي اللي من الأول رفضتني واختارت صبري أخويا، وقفت قدامي بكل بجاحة وقالتلي آنها بترفض عرض جوازي منها، لانها بتحب أخويا!!! اخويا مدمن المخدرات اللي كان كل يوم يمسيها بعلقة ويصبحها بعلقة، ومحدش كان بيعرف يحوشها من تحت ايده غيري أنا، وكنت ببصلها بشماتة وأنا بقولها شوفتي اختيارك عامل ازاي!!
أنا بالرغم من سواد قلبي الا أني كنت بحبها، عايز بعد كل اللي عملته فيا ده أخليها زوجة ليا؟؟؟
لا انا اتشرطت وأتأمرت ورفضت حتى أشاركها أوضتها، من أول يوم وأنا معرفها إنه أول نصيبي هتكون بنت من اختياري و مدخلش في حياتها راجل غيري، دوقتها المر اللي هي دوقتهوني، ولو قعدت ميت سنة عمري ما هبصلها، سامع عمري ما هبصلها!!!
رمقه عُمران بنظرة محتقرة، بينما يسود الهدوء الاجواء بينهما، الا من صوت انفاس صابر الصاخبة، لينهي معاناته حينما قال:
_راجل إنت كده مثلًا!! فاكر إنك لما تستقوي عليها باللي تعمله ده رجولة منك! أنا استحقرتك يا صابر بعد ما كنت مستجدعك.
قالها وتركه وغادر لغرفته يغلق بابها، بينما يقف صابر يتخبط بوقفته في حيرة من أمره، فاذا به يستمع لصوت صفقات تأتي من خلفه، وحينما استدار وجد موسى يقابله:
_هو ده بقى سر كرهك لنعمة؟ ده أنا شقيت سنين عشان اعرف نيتك ايه وجيه الخواجة قررك في دقايق.
واتجه اليه فاذا به يقول بتعب:
_مش ناقصاك يا موسى بالله عليك.
ابتسم ساخرًا:
_تعرف يا صابر إنك حمار حتى في اختياراتك، البت اللي اتجوزتها على مراتك دي كانت دايرة على حل شعرها مع الصبي اللي عندي مرة ومرة مع صاحبه، واللي هيصدمك بقى إنها حتى حاولت تجاريني معاها في الحرام وأنا هزقت بكرامة أمها الارض.
جحظت عيني صابر بصدمة، بينما يتابع موسى:
_متقولش محذرتنيش ليه، لانك عمرك ما كنت هتصدقني، ولولا الكلمتين اللي بعيت بيهم للخواجة دول مكنتش اتشجعت وقولتلك يا هفق.
وتركه هو الاخر واتجه لغرفة ابنته، بينما يهبط الاخر للاسفل كالمجنون، فاذا بصوته يختل أذن موسى وعمران وهو يعتدي على زوجته الثانية بالضرب، ولحسن الحظ لم تنكر حديث موسى أبدًا فإذا به يلقيها خارج الشقة وهو ينهي زواجه منها بجملة مختصرة:
_إنتي طالق يا رخيصة!
******
وضعت “صبا” صينية العصائر على الطاولة وخرجت على الفور تنضم لصغيرها وفارس الذي يشاركه الغرفة ويلهو فيها.
رفع جمال يده لهما قائلًا ببسمة يرسمها بالكاد على وجهه الشاحب:
_اتفضلوا.
حزن آيوب على حال جمال، بينما قال آدهم:
_بشمهندس جمال انا آسف على زيارتي المفاجئة ليك دي، بس أنا محتاج اعرف منك حاجة مهمة جدا.
رد عليه باحترام وقال:
_أولًا البيت ده مفتوح لكل حبايب عُمران، وإنت مش بس نسيبه يا آدهم، انت كنت صديق ليه وكان بيعزك أوي، ثانيًا أنا تحت أمرك في أي شيء تطلبه.
حزن آدهم لما استمع له، ود لو يفصح عما بجوفه ولكن تعليمات القائد المشددة تحتمه على حماية جميع المتورطين، فاذا به يقول:
_بعد نزولك النهاردة لاسيوط جالك رسايل تهديد من أي نوع؟
وزع نظراته بينهما في حيرة، وقال:
_أيوه وصلني رسالة النهاردة، بيهددوني بيها إني لو كملت المشروع هموت نفس موتة عمران، بس انا ولا هممني تهديداتهم، وهكمل اللي عُمران بدأه حتى لو كانت ساعتي الاخيرة في الدنيا.
ابتسم آيوب باعجاب على جمال الذي فاجئ الجميع بوفائه واخلاصه الشديد لصديق طفولته، بينما هتف آدهم بمكر:
_وده اللي انا عايزه، بس في شوية تعديلات هتساعدني أوصل للشبكة دي، وهتخليك مساهم كبير في أخد تار عمران من الكلاب دول، هتساعدني يا بشمهندس؟
انتصب بجلسته وقال باهتمام:
_قولي مطلوب مني أيه؟؟
******
سحبت فاطمة الغطاء على مايا التي استسلمت للمهدأ الذي يحقنه علي الآن بوريدها، بينما تتطلع له ولا تستسلم بقولها:
_صدقني يا علي، أنا شوفته قدامي… عُمران عايش… أنا ناديته وهو مردش عليا، علي خليه يرجع أنا اتبهدلت من بعده، محدش رحمني، لا أمي ولا حتى أبويا!
قالتها ودموعها تنهمر على وسادتها، بينما تبكي فاطمة لجوارها، ومازال علي متماسكًا قدر ما تمكن…
فترك الغرفة وخرج للشرفة يسحب الهواء ويلفظه باختناقٍ، ثم سحب هاتفه وقال:
_عمي ممكن تبعت حد من رجالتك للمكان اللي هبعتلك عنوانه يجبلي منه تسجيلات الكاميرات من حوالي الساعة ٨ونص الصبح لحد الساعه ١١؟
*****
اليوم صرح لها برغبته في أن يزيل الحواجز بينهما، فولجت لغرفتها بحجة تغيير ملابسها.
صوت الأغلال الحديدية تكتظم مسمعها، تضربها بكل قوة امتلكتها، الذكريات تتكاتف من أمامها، تختلج كل آهة مُنعت من الخروج عنها، تبحث عن نقاط ضعفها، وهي ضعيفة، تئن عن وجع ماضيها دماء تزحف عوضًا عن دموع عينيها!
تراقب باب الغرفة كالسجين الذي يترقب لحظة دخول السجان إليه، ويدها تتشبث باسدال صلاتها كطوق النجاة، كل صوتًا يُصدر من حولها يُوقظ معه كل العنف الجسدي الذي سبق ونالته على يد وحش تجردت عنه رجولته، وتركته وضيعًا، لا فرق بينه وبين الحيوانات.
تحتبس شهقاتها قدر ما تمكنت، ورعشة جسدها ازدادت حد المبالغة، بينما لسانها يهتف بهمسٍ خافت:
_اهدي يا خديجة، معتز خلاص مبقاش موجود في حياتك!
وعادت تصبر ذاتها، بابتسامة تجاهد لرسمها:
_ده يُونس… حبيبك وأبو ابنك!
طل من خلف بابها بعد أن طرق لمرته الثالثة، يتساءل بحاجبي معقود:
_خديجة بقالك ساعتين حابسة نفسك! معقول كل ده بتصلي؟
نهضت عن الأرض تلملم سجادتها، ووضعتها وهي تخبره بثباتٍ مخادع:
_أنا كنت خارجة..
وتابعت بارتباكٍ ملموس لمن يراقبها:
_فين فارس؟
أحاطها بنظرة حزينة، وهو يقرأ كل ما تحاول اخفاءه منذ زواجهما:
_آيوب آخده معاه عند آدهم، واتصل من شوية وقال إن آدهم مصر يبات عنده، فهيبات معاه وهيجي الصبح.
تجهمت معالم وجهها، وبث فيها توتر جعل صوتها يتحرر برعشةٍ خافتة:
_مآآ.. مينفعش يبات معاه.. خليه يوصله ويرجع يبات هو مع أخوه.
ضم أنفه بيده يفرك ما بين عينيه بارهاقٍ، لا يود أن يسحبها لحديث مؤلم، ستُجرح به لا محالة، ولكنها تستنزف كل صبره حرفيًا، لدرجة جعلته مترددا بالحديث، تنهد يُونس وهو يقترب منها، حتى جلس على نهاية طرف الفراش، يتطلع أمامه بسكون لم يلحق نبرته الغائمة:
_فارس مكنش بيبات معاكِ فوق يا خديجة، كان هنا معايا، من وقت ما اتقفل علينا باب واحد وإنتِ بتحاولي تقنعيني إنه مش بيقدر ينام بعيد عنك وأنا بجاريكي عشان أريحك من العذاب والحيرة اللي شايفها جوه عنيكِ دي.
واستطرد وفيروزته ترفع إليها:
_أنا مبقتش فاهم في أيه؟ ولا قادر أشخص حالتك الغريبة دي!
ازدردت ريقها الجاف بصعوبة بالغة ورددت باستغرابٍ زائف، وكأنها لا تعلم مقصده:
_حالة أيه اللي بتتكلم عنها؟
ضم شفتيه السفلي بأسنانه بنفاذ صبر، وفجأة نصب عوده قبالتها يصيح بانفعالٍ:
_بعدك عني، طريقتك الغريبة معايا، اسدالك اللي مش بيفارقك ده!!
وأضاف بحيرة وهو يرنو إليها:
_فهميني فيكِ أيه بالظبط، لإني حاسس إني تايه ومش فاهم حاجة!!!
تراجعت للخلف والخوف يتراقص بمُقلتيها، وبينما يحتل الارتباك كل خلية بها، حديثها يجاهد ليبدو أكثر أتزانًا أمامه:
_انا قولتلك من البداية، وأنت اللي رفضت يا يونس.
وأضافت ودموعها تنهمر دون توقف:
_كنت أناني وعايز تشفي غليلك من الماضي اللي بيعذبك حتى لو كان بقائه فيه عذاب ليا، اترجيتك تسيبني أتخلص من الذكريات اللي هتفضل تطاردني طول عمري وإنت مهمكش غير نفسك وتارك وبس، فجاي دلوقتي بتحاسبني على أيه؟؟
واستردت قوة لا تعلم من أين حضرت لها وهي تجابه غريمها:
_بس أنا كمان هبقى أنانية زيك وهخليك تعيش معايا وجعي وضعفي وذلي يا يونس.
وقطعت مسافتها الباقية بينهما تخبره ببسمة حملت بها كل آلامها، تضم داخلها الأنثى التي أجاد هذا الحقير كسرها:
_مش ده اللي هيهديك عن السنين اللي كنت فيها على ذمة غيرك؟
وأضافت وهي تنزع اسدالها ودموعها لا تتوقف:
_هو ده الدليل اللي هينسيك!
جحظت عينيه في صدمة ووجع عظيم، ينغز صدره دون أي رحمة، لدرجة جعلته يهتز بوقفته فاحتمل على حامل الفراش الخشبي، وكأنه لم يعد يتحكم بقوة جسده، يراقب من بات جسدها مشدوهًا بشكلٍ قضى على ما تبقى بداخله، بينما تنهار هي أرضًا أسفل ساقيه، باكية، منكسرة، تضم ذاتها بأيدي مرتعشة، وصوتها المرتجف يجاهد للخروج عن حنجرتها:
_نارك اتطفت يا يونس ولا لسه عايزني أحكيلك كان بيعذبني إزاي؟؟؟
سقط أمامها يضمها إليه وهو يشاركها البكاء وبرجاء قال:
_كفايا يا خديجة، حرام عليكي كفايا!!!!
وأضاف وهو يقبل خصلاتها:
_عمر ده ما هيغير نظرتي ليكِ، أنا بحبك يا ست البنات، بحبك وعمري ما حبيت غيرك، ولو عندي نية إنك تتعالجي فعلا فمش هسيبك الا لما تكوني ليا، لازم تفهمي ان مفيش حاجة تهمني غيرك… قلبك ومشاعرك هما دنيتي كلها يا خديجة.
قالها وسحبها إليه، يعيدها لقلعة عشقهما التي هجروها منذ سنواتٍ، فعادت تنير بوجودهما مجددًا، شاركها وجعها، وعاد يزرع بمشاعره وعاطفته حياة جديدة، جعلتها تستعيد ثقتها بنفسها من جديد، وتستقبل منه كل ما يقدمه لها بلهفة.
*****
ها قد مر على الجميع اسبوعًا كاملًا حدث فيهم الكثير، وأولاهم هو النجاح الباهر لمهمة آدهم، فقد نجح بكشف أسماء الرجال المتطورين في هذا العمل الدنيء، أخذ بثأر عُمران، حينما وضع الكلبشات بإيدي كل هؤلاء اللعناء، والذي يصدف بصدمة كبيرة وهو اشتراك عثمان والد ميسان معهم، ولم يتبقى الا الجزء الاخير من مهمته، تأمين عودة عُمران!
والأهم من ذلك استعادة آدهم بصره تدريجيًا المتوقع بعد نجاح عمليته، ولكنه مازال لم يصرح لأحد بالامر الا أخيه آيوب.
فشل علي بالوصول لاي شيء، فلم تبدي التسجيلات الا مشهد غير مكتملًا.
والآن يستعد آدهم للسفر لموقع عُمران، ولكنه قبل أن يفعل، اتجه بسيارته لكمبوند أحمد، حيث توجد زوجته وأخيها.
جلس بسيارته يسحب نفسًا طويلًا يستعد به للقائها، لقد مرت عليه الايام بصعوبة، وقد افتقدها بكل دقيقة، كان يخبرها بأنه ليس بمصر، وبأن الجهاز كلفه بمهمة خارجها، والآن وحينما بات يبصر كل شيء، يحترق شوقًا لرؤيتها، لقد اشتاق لها حد الجنون.
ترك السيارة للحارس، ومضى للداخل مرتديًا نظارته السوداء، متماسكًا لرؤية فرحة شمس ورد فعلها حينما تكتشف أمر عودة بصره.
ولج للداخل برفقة الخادم، فاذا بعلي ينهض عن المقعد ويقابله وهو يضمه مبتسمًا:
_أهلًا بسيادة المقدم، عارف لو مكنتش جيت كنت زعلت منك على اهمالك لشمس ده، بس تقدر تقول إن اللي عملته شفعلك عندي،وخصوصًا إنك بردت ناري من الكلاب دول.
مسد آدهم على ظهره وقال بوجوم:
_ناري أنا كمان بردت يا علي، إنت مش متخيل أنا كنت محروق ازاي من اللي حصل؟
ابتعد عنه علي وقال بصوت غائم:
_اخدوا اللي يستحقوه.
وتابع وهو يرسم ابتسامة مرحة:
_إنت لسه متخفي بنضارتك السودة ليه؟ حنيت للضلمة تاني ولا ايه؟
ضحك وهو يخبره:
_لا حابب أفاجئ شمس مش أكتر.. المهم طمني مدام مايا عاملة أيه؟
لاح الحزن على وجهه وقال:
_لسه مصرة إن اللي شافته قدام المطعم هو عمران، وزي ما أنت عارف أنا مسبتش تسجيلات الكاميرات الا ودورت فيها!
واضاف وهو يرتكن على الطاولة من خلفه:
_لولا وجود فاطمة وشمس جنبها كان زمانها جرالها حاجة.
ربت على كتفه وقال بغموض:
_الغمة دي هتتزاح قريب يا علي.
قالها وأسرع بتغير الحديث:
_هو أنا مسموحلي أبات هنا النهاردة قبل سفري؟
زوى حاجبيه بدهشة:
_هو انت لحقت تأخد هدنة من سفرك الأولاني عشان تسافر تاني!!!
ابتسم وهو يخرج من جيب سترته تذكرتين لسوهاج قائلًا:
_ما أنا مش مسافر لوحدي المرادي، إنت هتكون معايا، ولا هتسبني يابو نسب!
راقب ما بيده باستغراب:
_مش فاهم عايزني اسافر معاك سوهاج ليه؟
رد عليه بعد تفكير:
_في فحص أخير عملته، والدكتور عمر عرض عليا أوريه لدكتور مخ وأعصاب من أمريكا ونازل في سوهاج سياحة، وبصعوبة أقنعته اني أقابله، ها يا علي هتيجي معايا.
بالرغم من عدم اقتناع علي الا أنه قال بدون تفكير:
_أكيد طبعًا.
رد عليه ادهم بابتسامة واسعة:
_يبقى تجهز نفسك التذكرة الساعة ١٢ بليل، من فضلك بقى ممكن توريني أوضة شمس، عايز أسلم عليها قبل السفر.
خطى به للطابق العلوي وهو يتمتم بشك:
_مش مرتحالك يا آدهم.
منحه ابتسامة صغيرة واتجه للغرفة التي أشار لها، ولج آدهم للداخل ومازال يرتدي نظارته السوداء، بحث عنها بالغرفة فوجدها تخرج من حمامها الخاص تجفف خصلاتها التي ازدادت طولًا.
وقف يراقبها بشوقٍ،بينما تسير للخزانة،ارتدت قميص قطني مريح،وخرجت لتمشط شعرها قبل النوم،فاذا بها تصل لها رائحة البرفيوم الخاصة به،تركت المشط عن يدها وهمست:
_آدهم!
اتاها صوته الرجولي الهامس:
_شمس هانم!
التفتت من خلفها تبحث عنه بلهفة،فوجدته يجلس على أحد المقاعد المتطرفة بالصالون المنعزل،هرولت إليه بشوقها الذي يسبق خطواتها، بينما تصرخ بحماسٍ:
_آدهـــــــــم!
استقام بوقفته يتلقفها بين ذراعيه، ويدور بها باشتياقٍ بينما تعاتبه وهي بداخله:
_إنت قولتلي انك هتبعد يومين تلاته،كنت بتكدب عليا يا كابتن!
جلس يعاونها على الجلوس جواره وهو يجيبها:
_أنا أقدر اكدب على شمس هانم!! بالله ده كلام؟
حدجته بنظرة قاتلة وهدرت:
_متحاولش تلفني يا آدهم أنا مش طايقاك أصلًا،انت بعدت وسبتني غرقانه في مشاكل العيلة هنا،مش متخيل فريدة هانم كانت عايزة تعمل أيه، كانت عايزة تجوز مايا لعلي تخيل؟
تطلع لما ترتديه مبتسمًا، يا لصدمتها حينما تعلم بأنه يراها الان،فطوال تلك الايام التي فقد فيها بصره كانت تتحرك بحريتها وكان يعلم ذلك، ولكن الامر يروق له الان!
لكزته شمس بغضب:
_آدهم، سامعني!!
مال لها يخبرها بحنين:
_ومش سامع غيرك.
مالت على ذراعه برأسها وقالت بتعب:
_كل حاجة اتدمرت وانهارت بعد موت عمران يا آدهم… أنا موجوعة أوي
ضمها إليه وقال بحزن:
_سلامة قلبك من الوجع يا روح قلبي، عارفة يا شمس أنا بتمنى إننا نبعد عن كل ده، نفسي أعوضك عن كل اللي شوفتيه وده هيحصل بإذن الله بس لما أطيب وجعك الأول، بعدها هبعدك عن كل ده.
حديثه المبهم جعلها تبتعد عنها وتتطلع إليه:
_مش فاهمه تطيب وجعي ازاي يا آدهم.
استغل قربها منه وتعمق بزرقة عينيها، مما جعلها تطالعه بذهولٍ، فنزعت نظارته وهي تقول ببسمة صغيرة:
_وبعدين انت لابس النضارة هنا ليه، عيونك وحشتني.
قابلها بنظرة أربكتها، عينيه تمر على وجهها في شوقٍ، ارتابت شمس وتراجعت للاريكة بشكٍ منه، بينما يبتسم لها بخبث:
_وأنتِ كمان وحشتيني بكل ما فيكِ، تعرفي إنك شكلك أجمل وشعرك طويل؟؟
رفرفت بأهدابها بصدمة، بينما يسترسل وهو يتطلع لما ترتديه:
_واللبس ده حلو كمان، شبه الاميرات يا شمسي!
ابتلعت ريقها بتوترٍ، ورددت وهي تسحب مفرش الطاولة إليها:
_آدهم إنت شايفني؟؟؟؟؟؟
تعالت ضحكاته بعدم تصديق:
_المفروض ده خبر يفرحك ولا أيه يا شمس هانم؟!
انتفضت من على الاريكة تركض للفراش وهي تصرخ:
_اطلع بره، علـــــــــــي!!
كاد أن يسقط من فرط الضحك، فنهض يلحق بها وهي يتمتم بسخرية:
_مش هلوم آيوب تاني على عملته، شكلي انا اللي هبقى مهزلة!!
تطلعت له شمس بعدم استيعاب، لقد عادت نظراته العاشقة تحيطها مثلما كان يفعل، عادت بشرتها تصطبغ بالحمرة وهي ترى انعكاس حبها فيه، بينما هو يصطحبها معه لرحلة تعوضهما عن فترة الفراق القصير بينهما.
*******
الثانية عشر ليلًا.
كان يجلس “علي” جوار “آدهم” على متن الطائرة المتجهة إلى سوهاج، كان يقرأ الكتاب الذي بحوزته بينما يدعي آدهم نومه المستريح على المقعد المجاور له، وجل ما يجول خاطره لحظة اللقاء بين علي وعُمران، لحظة من المؤكد بأنه يُصعب نسيانها، وخاصة وهو يعلم بعمق العلاقة بينهما، هما ليس أخ وشقيقه، بل علاقة يصعب وصفه وكتابتها بين السطور، ولنترك ملاحمة اللقاء بينهما تسجل ما سيشهده بذاته!
……. يتبع………
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية صرخات أنثى)