رواية نجوت بك الفصل العشرون 20 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل العشرون 20 بقلم مي مصطفي
البارت العشرون
الفصل العشرون” بين الذكرى والكابوس”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
+
تتوالى الأيّام، تُمطر قلب رفيدة بمودّة وطمأنينة، كأنّها تعيش فصلًا خامسًا من فصول العام، لا يُشبه الربيع ولا الصيف، بل مزيجًا بينهما، يحمل من الدفء ما يكفي لبعث الحياة في عروقها، ومن الحنان ما يُنسيها طعم الوحدة القديمة.
سليمان بات متغلغلًا في أعماقها، يتسلل إلى خلاياها دون استئذان، صار اسمه يُقرَأ بين نبضاتها، ووجهه يلمع كخاطرة عند كل غفوة، وكل يقظة.
وفي أحد الأيام، كانت رنا تتحدث مع سليمان قائلة:
– “أنا محتاجة أشتري شوية حاجات للكورسات، حاجات تخص الدراسة.”
ابتسم لها وقال:
– “خلاص، أنا هوصلك.”
ثم مال برأسه نحو رفيدة وهمس لها بنبرة خفيفة:
– “تعالي معانا، نغير جو كلنا.”
نظرت إليه بعينين تفيض بالحب، وقالت بنبرة حنونة:
– “لأ، مش هقدر… مش هسيب ماما لوحدها، هقعد معاها… هتعلّمني أكلة جديدة.”
ضحك برقة وهمس:
– “ماشي… كله في صالحي بردو. بس هتوحشيني.”
ثم طبع قُبلة سريعة على خدّها، ومضى مع رنا، فيما بقيت هي تنظر خلفه، يملأها الشوق حتى في لحظة وداع قصيرة.
ذهبت لتجلس بجوار رباب، وجهها يلمع من أثر السعادة، وابتسامتها تسرق من الشمس دفئها. نظرت إليها رباب بحنان وقالت:
– “تعالي في حضني يا بنتي.”
أسرعت رفيدة، وكأنّها تجري إلى ملاذٍ أبدي، وارتمت في حضنها، ووجهها يتوسّد كتفها.
سألتها رباب بابتسامة مطمئنة:
– “فرحانة يا بنتي؟”
أومأت رفيدة بعينين دامعتين وهمست:
– “أنا مشوفتش الفرح غير لما عرفتكوا… أنا بحبكم أوي…”
ضحكت رباب وقالت:
– “وسليمان؟”
احمرّ وجهها، وأخفت وجهها في حضن رباب بخجل طفولي، فضحكت الأخرى بصوت عالٍ وقالت:
– “لأ فوقي كده وبلاش كسوف… أنا أمك بردو! قوليلي بقى… بتحبي سليمان بجد؟ ولا بس علشان حسيتي معاه بأمان لما أنقذك؟”
رفيدة سكتت لحظة، ثم تنهدت وهمست بصوت ناعم:
– “أنا مش عارفة يعني إيه حب، عمري ما حسّيته قبل كده… بس بالنسبالي…
لو الحب يعني إني أحس بأمان… يبقى أنا بحب.
لو الحب إني آمنله من أول نظرة، وأعدي خوفي بكلمة منه… يبقى أنا بحب.
لو الحب إني أحس نفسي خفيفة كإنّي فراشة في خفتها… يبقى بحب.
لو الحب إني في وجوده مبخفش من الدنيا ولا من الناس، حتى لو بس حسيت طيفه قريب… يبقى بحب.
لو الحب إني أول ما أشوفه قلبي يدق كأنه هيخرج من مكانه… يبقى بحب.”
سكتت، وتنهدت تنهيدة طويلة، فشدّتها رباب في حضنها، وقالت بضحكة فيها دمعة:
– “ده انتي مش بتحبيه… ده انتي ولهانة بيه! الحمد لله… كده أطمنت عليكم. لو حصلي حاجة… أكون مطمنة.”
صرخت رفيدة وبكت بحرقة:
– “لا يا ماما! بعيد الشر عليكِ! بالله عليكي متقوليش كده… متسبنيش يا ماما…!”
في الخارج، كان سليمان قد عاد لنسيانه مفتاح السيارة، وما إن مدّ يده نحو الباب حتى سمع صوت أمه تقول:
“بتحبي سليمان بجد؟ ولا بس علشان حسيتي معاه بأمان؟”
توقّف، وارتجف قلبه، وانحبست أنفاسه، إذ انتظر الرد برعبٍ لا يوصف.
ثم جاءه صوت رفيدة، صوتها الذي يحمله قلبه في كل تفاصيله، يُثلج صدره بكلماتٍ صادقة، فابتسم ابتسامة دامعة، وضع يده على قلبه، وهمس:
– “هصبر… لحد ما تقوليها ليا بنفسك… من غير ضغط…”
ثم دخل بهدوء، وكأنّه لم يسمع شيئًا.
انتفضت رفيدة من حضن رباب خجلًا، وسألته رباب:
– “رجعت ليه يا حبيبي؟”
قال بابتسامة هادئة:
– “نسيت المفتاح.”
– “مش عايزين حاجه؟”
ردوا معًا:
– “سلامتك.”
لوّح لهم بيده وقال:
– “يلا سلام.”
رحل، وبقيت رفيدة تنظر إلى باب خروجه بابتسامة حالمة، حتى صفعتها رباب على ركبتها وقالت ممازحة:
– “يا بت اتقلي! نظراتك فضحاكِ… قومي قومي… تعالي إتعلمي الطبخة الجديدة.”
قامت رفيدة، وجلسَت رباب على الكرسي تشرح خطوات الطهي، وكانت رفيدة تُقلّدها بحماسة طفل، حتى لحظةٍ تجمّدت فيها الضحكات، وتحوّل دفء المطبخ إلى برودة مفاجئة…
نظرت رفيدة إلى رباب، فرأتها تترنّح… وعيناها تغمضان ببطء، كأنّها تفقد الوعي قطعة قطعة.
صرخت:
– “ماما؟! ماما مالك؟!”
ركضت نحوها، أمسكت وجهها المرتخى، وهزّتها بذعر:
– “ماما بالله عليكي… ردي عليا… متسيبينيش يا ماما… بالله عليكي…”
رباب لا تجيب… وجهها شاحب، وأنفاسها ضعيفة.
بعينين مرتعشتين وأصابع مضطربة، التقطت رفيدة هاتفها، واتصلت بسليمان.
صوتها كان ممزوجًا بالدموع والهلع:
– “ماما… ماما… ماما الحقها…!”
– “فيه إيه؟! مالها؟!”
– “مش بترد عليا… فجأة أغمى عليها… مش بترد!”
– “أنا جاي حالًا! لبّسيها وإلبسي، خمس دقايق وهكون عندكم!”
أغلقت رفيدة الهاتف، ويدها ترتعش وهي تُلبس رباب إسدالها، والدموع تنهمر على وجهها.
– “يا رب… يا رب لا… مش كده… خدني أنا بس… مش أي حاجة أحبه يتاخد مني… مش هقدر أتحمل…”
دخل سليمان مهرولًا، وخلفه رنا تصرخ:
– “ماماااا!”
حمل سليمان والدته، وركض بها إلى السيارة، فيما ركض الجميع خلفه، وانطلقت السيارة كالسهم.
وفي الطريق، قال سليمان محاولًا طمأنتهم رغم الرعب الذي ينهش صدره:
– “متخافوش… إن شاء الله غيبوبة سكر بس… متقلقوش…”
وصلوا المستشفى، ودخلت رباب إلى غرفة الطوارئ، وانهارت رفيدة على الكرسي، تبكي كطفلة فُجعت بأمّها.
تهمس بكلمة واحدة لا غير:
– “ماما…”
اقترب سليمان، وجثا على ركبتيه، وضمّها إليه، فتعلّقت به كمن يتمسّك بحياته، وصرخت وسط دموعها:
– “مش هقدر… ماما… لأ… مامااااا…”
– “اهدي يا روحي… صدقيني هتبقى كويسة… ماما قوية وهتقوم…”
شدّت بطرفي كفيها المرتجفتين؛ إحدى يديها تقبض على قميصه كالغريق، والأخرى تلتفّ على مؤخرة رأسه كأنها تتشبّث بطوق النجاة، وهمست من بين شهقاتها المرتعشة دعاءً باكيًا:
– ” يا رب…”
ضمّ سليمان رنا بذراعه الآخر، فصارت الصغيرة والكبيرة بين أحضانه، يحاول احتواء خوفهما بكامل قلبه.
خرج الطبيب من غرفة الفحص، يخلع القفازات من يديه بخطًى هادئة
اقترب منهم بخطوات موزونة، فتعلّقت به أنظار رفيدة وسليمان ورنا في لهفة، بينما الدموع لم تجف من عيني رفيدة ورنا
نظر إليهم الطبيب وقال بصوت هادئ ولكن حازم:
– “الحمد لله، الوضع الآن مستقر، ووالدتكم بدأت تستجيب تدريجيًا…”
صرخة باكية خرجت من فم رفيدة دون وعي:
– “يعني هتفوق؟”
تحدث الطبيب بعملية وقال:
– “أيوه بس لازم تكونوا فاهمين هي دخلت في غيبوبة سكر… الحالة دي بتحصل لما مستوى السكر في الدم بينخفض بشكل حاد، وده غالبًا بيكون بسبب تأخر الأكل أو زيادة جرعة الإنسولين، أو حتى مجهود زايد من غير تعويض مناسب بالأكل.”
سليمان بصوت منخفض ولكن ملهوف:
– “وليه فقدت الوعي فجأة؟ مكنتش تعبانة من شوية!”
رد الطبيب وهو يشرح:
– “لما السكر بيوصل لمستوى أقل من الطبيعي، المخ مبيقدرش يشتغل بكفاءة، وده بيؤدي لتشوش ذهني، ثم فقدان وعي. لحسن الحظ، وصلتوا في الوقت المناسب، وحقنّاها بجلوكوز وريدي علشان نرفع نسبة السكر بسرعة.”
رفيدة بصوت مختنق وهي ماسكة طرف قميص سليمان:
– “يعني خلاص؟ مش هتجرالها حاجه؟”
– “إن شاء الله مش هتحصل مضاعفات دلوقتي، بس لازم تاخدوا بالكم كويس جدًا بعد كده… لازم تاكل بانتظام، وتتابع السكر، ومتنسوش تشيلوا معاكم دايمًا مصدر سريع للسكر زي عصير، أو مكعبات جلوكوز، تحسّبًا لأي هبوط مفاجئ.”
ثم أردف بنبرة جادة:
– “ممنوع التوتر الزائد أو الإرهاق البدني، ولازم تتنظم الوجبات كويس، خاصة لو بتاخد علاج للسكر.”
سليمان هزّ رأسه:
– “حاضر، هتابع معاها كل حاجة…إن شاء الله”
التفت الطبيب ليغادر، فبقيت رفيدة واقفة كمن أنهكه التعب والبكاء، ترتعش ملامحها، وتفيض من عينيها دموع هادئة كأنها بقايا زلزال.
سليمان قرب منها، رفع وجهها بأنامله، وهمس:
-ماما كويسه الحمد لله أهدي وبطلي عياط شوية
أومأت برأسها والدموع لا تزال تتساقط:
– “أنا كنت حاسّة إني خلاص… هفقدها… ومش هقدر… مش هقدر أعيش من غيرها…”
شدّها إليه بقوة، وهمس في أذنها:
– “مش هتفقديها… ولا هتفقدي حد،كلنا جنبك ومش هنسيبك”
وهي تحتضنه بألم، تهمس:
– “كنت بدعي ربنا ياخدني بدلها… أنا مش مستعدة أخسر أي حد بحبه تاني…”
شدّها أكثر، ويده تمسح على نقابها بحنان:
– “مش هتخسري حد…كلنا معاكِ”
جلسا معًا قرب باب الغرفة، وكلٌ منهما يحمل خوفه في قلبه… لكن في عينيهما، وميض أمل بدأ يسطع.
+
دخلوا الغرفة بخُطى متسارعة، وما إن أبصرت رفيدة والدتها حتى اندفعت نحوها كطفلة أضناها الحنين، تُقبّل كفّيها بشوقٍ ولهفة، ثم تُسند رأسها في حجرها كأنها تعود لمأمنها الوحيد، بينما كانت رنا تندفع من الجهة الأخرى لتعانق والدتها وتدفن وجهها في صدرها، والدموع تُبلل كتفيّها.
كان سليمان واقفًا على مقربة، وعيناه تَشهدان ما تعجِز الكلمات عن وصفه. مشهد والدته الغائبة، والبنات المنهارتين فوقها، جعله يشعر بانكسارٍ عميق، لكنّه تماسَك، يتكئ على رجولته ليبقى عمودهم المتين.
قال بصوتٍ ثابت، يخفي ما يعتمل في داخله:
— “ممكن تهدوا شوية؟… ماما لما تفوق وتلاقيكم بالمنظر ده هتتعب أكتر.
اتماسكوا شوية، هي بخير الحمد لله، الدكتور طمّنّا، وشوية وهتفوق إن شاء الله.
يلا قوموا اغسلوا وشكم، وتعالوا… ما أشوفش دموع تاني.”
استجابتا بصمتٍ خاشع، وكأن صوته حمل إليهما جرعة من الأمان، فقامتا تُنفذان ما قاله.
اقترب هو من والدته، جلس بجوارها، انحنى يُقبّل جبهتها وكفّيها، ثم قال بصوتٍ مختنق، تملأه العِتاب:
— “كده يا أمي؟… تعملي فينا كده؟
كلنا انهارنا من غيرك… قومي، يلا لينا بألف سلامة.”
لمح من طرف عينه الفتاتين وقد عادتا من الحمّام، فمسح دموعه سريعًا، واستقام واقفًا. جلست رنا بجوار والدتها تُمسك يدها، ورفيدة دنت عند قدميها، استلقت عليهما كما تفعل الصغار، وهي تدلّك ساقي أمّها بخفّة.
تأمل سليمان المشهد، ثم اقترب منها، أمسك كتف رفيدة برفق، وأقامها بلُطف، وأجلسها في مكانه إلى جوار أمّها، ثم مضى ليغلق الباب بهدوء وقال بصوتٍ حانٍ:
— “رنا، إقلعي الطرحة… وانتي يا رفيدة، شيلي النقاب… خدوا راحتكم شوية، أنا قفلت الباب.
حاولوا تناموا.”
ذهب إلى الكنبة المقابلة، تمدّد قليلًا، وأغمض عينيه دون أن ينام. خارت قوى رنا سريعًا، وراحت تغفو في حضن والدتها من إرهاق اليوم الطويل. أما رفيدة، فظلّت عيناها ساهرتين، تترقّب أي حركة، تُحاول جاهدة أن تبقى يقظة… عيناها مُعلقة بوجه والدتها، ويدها تُمسك بيدها كما لو أنها تستمد منها الحياة.
لاحظ سليمان ارتجافها الصامت، فعرف ما يدور داخلها. اقترب منها، جلس على كرسي إلى جوارها، همس وهو يُرشد رأسها برفق إلى حضن والدته:
— “ريّحي دماغك في حضنها… غمضي عينيكي، متخافيش.
هي كويسة… وهتفوق، وهتفتحي عينيكي تلاقيها بتضحكلك، إن شاء الله.”
مرر يده برقة على شعرها حتى غلبها النعاس. بقي هو ساهرًا، عيناه لا تبرحان والدته، وصدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ متقطعة.
ثم حدث ما انتظره… بدأت تتحرّك، فتحت عينيها ببطء، كأنها تعود من غيبوبةٍ طويلة. اقترب منها مسرعًا، وهمس بفرحٍ مكبوت:
— “ماما؟… انتي كويسة؟”
رمشت بعينيها، وإذا بها تجد رنا في حضنها، ورفيدة مُتمددة عند قدميها، تمسك يدها حتى في نومها. نظرت إليه بدهشة، وقالت:
— “إحنا فين؟… إيه اللي حصل؟”
قبّل جبهتها بحنانٍ جارف، وقال:
— “خضّيتينا يا روبي… الحمد لله إنك بخير.
نسيتي تاخدي العلاج وما أكلتيش حاجة، وفقدتي الوعي.
عيّشنا رُعب، خصوصًا البنات.”
أطرقت برأسها، وقالت بأسف:
— “آه فعلاً… نسيت العلاج… وما كنتش فايقة آكل.”
قال وهو يعاتبها بعينين دامعتين:
— “ينفع كده يعني يا ماما؟!
آخر مرة تتكرر، انتي ما شُوفتيش الرعب اللي إحنا عِشنا فيه.
خصوصًا رفيدة… بصي عينيها، باين عليها الانهيار حتى وهي نايمة.”
نظرت الأم نحو رفيدة، وقلبها يرتجف. قالت بصوتٍ حنون:
— “يا حبيبتي… أخدت الخضة لوحدها.
زمانها اتكسرت من جوّا.
بُصّ على عينها المنفوخة حتى وهي نايمة.”
ثم مالت تُقبّل جبين رفيدة، ثم قبّلت رنا، وقالت بصوتٍ مفعم بالأمومة:
— “ربنا ما يحرمني منكم يا نور عيني.”
همّ سليمان أن يوقظهما، فقال:
— “أنا هصحيهم دلوقتي يطمنوا عليكي، وأشوف دكتور ييجي يطمنّا…”
لكنّها هزّت رأسها نافية:
— “لأ يا حبيبي، أنا كويسة.
سيبهم نايمين… يرتاحوا شوية.”
وما إن مرّت لحظات من الصمت، حتى بدأت رفيدة تتقلب في فراشها بقلق. وجهها مشدود، أنفاسها متلاحقة، همهمات تتصاعد من بين شفتيها المرتعشتين.
كانت تُحارب كوابيسها التي عادت فجأة بعد غياب. مشاهد موجعة تتكرر. وجوه من الماضي، وألمٌ دفين يُعيد نفسه.
وفجأة، صرخت في نومها:
— “لأ… لأ… سيبوني… متقربوش… ابعد عني… انتوا اللي أذتوني… أنا ما أذتش حد…”
نهض الجميع في فزع.
رباب شهقت:
— “غريبة! الكوابيس ما جتلهاش من فترة!”
اقترب منها سليمان بقلق:
— “رفيدة… اهدي، اهدي يا بابا… مفيش حاجة، فوقي.”
رنا استيقظت هي الأخرى على صراخها، ثم لمحت والدتها فهتفت بلهفة:
— “ماما؟! انتي فوقتي؟
الحمد لله… إيه اللي بيحصل؟ رفيدة مالها؟”
قالت الأم:
— “باين عليها الكوابيس رجعت تاني…”
ورغم أن سليمان ظل يُناديها، إلّا أن رفيدة لم تسمعه. كانت لا تزال عالقة في كابوسها، تُصارع ألمها، وفجأة…
صرخة مزّقت سكون الليل:
— “آآآآآه!!… ماماااا!!! ماماااااااااااا!!!
لا! متسبنيش!!”
وانتفضت من نومها، ودموعها تنهمر.
— “ماما؟! ماما!”
شدّتها رباب بسرعة إلى صدرها، تُربّت على ظهرها وهي تهمس من بين دموعها:
— “ماما هنا… يا قلب ماما، أنا هنا.
اهدي يا حبيبتي… فوقي، افتحي عنيكي.
أنا جنبك، في حضنك، ومش هسيبك.”
فتحت رفيدة عينيها أخيرًا، نظرت إلى أمها، وانفجرت تبكي كطفلةٍ أُرهِقت من الأحلام:
— “كنت خايفة أوي يا ماما… خايفة أوي…”
ربتت الأم على شعرها، وضمّتها بقوة، ثم قالت:
— “أنا معاكي… ومش هسيبك أبدًا.
اهدي يا حبيبة ماما، أنا كويسة.”
ثم جذبت رنا بدورها، واحتضنتهما معًا:
— “أنا كويسة… يا نور عيوني.”
سكنَت الغرفة قليلًا، حتى استعاد الجميع أنفاسه، ثم قال سليمان بلُطفٍ حانٍ، وصوتٍ منخفض:
— “يلا، البسوا واستعدوا… هشوف دكتور ييجي يطمنّا على ماما، ولو كويسة، يكتب لها خروج.”
+
أتى الطبيب بعد دقائق، فحص رباب، وطمأنهم بابتسامة هادئة:
— “الوضع مطمئن، الحمد لله… اللي حصل كان نتيجة انخفاض مفاجئ في السكر مع مجهود زائد. لازم تنتظم في العلاج، وتاكل كويس قبل ما تاخد أي دواء.
وهبدأ أكتب لها على مكملات وجرعة داعمة لأسبوع كده… لكن مفيش حاجة تقلق إن شاء الله.”
تنفس الجميع الصعداء، وحين غادر الطبيب، خرجوا معًا في هدوءٍ مكسور.
رفيدة لم تتحرك، نظرت إلى سليمان بخفوت وقالت بصوت هامس، كأنها تخشى أن يُرفض طلبها:
— “أنا… عايزة أبات مع ماما…”
أومأ سليمان بالموافقة، دون أن ينطق. كان يراها منذ أن استفاقت لا تنطق إلا بالدموع، لا تفعل إلا التعلق برباب. صمتها يئن، ودموعها لا تتوقف، وكأنها تنزف من الداخل.
+
لم يُعقّب أحد، فكلهم رأوا ما لا يُقال. وحين عادوا، دخلت رفيدة الغرفة، تبدل ملابسها ببطءٍ ثقيل، دون أن تنطق بكلمة، ثم عادت تلتحف حضن رباب وكأنها تلوذ به من العالم، وراحت تبكي في صمت. لم تتحدث، لم تجادل، لم تشرح. فقط دموعٌ ساكنة، ويدٌ لا تفارق ذراع أمها، وخوفٌ يُخيّم عليها كظلٍّ ثقيل.
ورباب… تفهمت كل شيء. لم تسأل، لم تُعلق، فقط احتضنتها، ومرّرت يدها فوق شعرها برفق وهي تهمس في أذنها:
— “أنا هنا… ومش هروح في حتة.”
وغفت رفيدة أخيرًا، بين أحضان تلك التي رأت فيها أمّها الحقيقية، وساد السكون… ولكنّه لم يكن سلامًا.
كان سليمان يراقبها من بعيد، لم يذهب إلى شقته الأخرى، كما يفعل دائمًا، بل بقي هناك، حبيس القلق، مُثقل القلب.
كان يراها، لكنه لا يراها؛ رفيدة التي يعرفها كانت قد انسحبت إلى مكانٍ بعيد، تاركة خلفها جسدًا نحيلًا يتشبث بأمانٍ مهدد، وصمتٍ مرعب.
+
رقدت في حضن رباب، تتنفس بثقل، ودموعها ما زالت على وجنتيها.
لكن ما لبثت أن ارتخت ملامحها ونامت… وما إن مضت ساعات، حتى انفجرت النار مجددًا.
كوابيس… أكثر عنفًا، أكثر وجعًا.
وفجأة، صرخت:
— “ابعدوا عني كلكم!! متلمسنيش!!
حرام عليكم!!!”
استفاقت رباب، مفزوعة:
— “بسم الله! لا حول ولا قوة إلا بالله… اهدي يا بنتي، اصحي وفوقي.”
ركض سليمان من غرفته، ورنا خلفه. وما إن دخل حتى رأى رفيدة تتلوّى من الرعب في نومها، تصرخ، وتنتفض، وذراعها ترفس في الهواء كأنها تُقاتل شبحًا.
أسرع إليها، انتزعها من حضن أمه، وضغطها إلى صدره، كأن جسده جدار يحميها من كوابيسها:
— “اهدي يا عمري، خلاص… مفيش حد هيقرب منك.
انتي دلوقتي في حضني، ومش هسمح لحد يأذيكي… خلاص، انتي في أمان.”
لكنها لم تسمعه، كانت تصرخ، تهزّ رأسها بعنف، تتخبط بين الذكرى والكابوس:
— “لأ!! هما أذوني!!
هما هما… رموني قدام الملجأ!!
الكل بيبصلي بقرف، بيقولولي بنت حرام!!
ليه؟!! ليه عملوا فيا كده؟!”
ارتجّ المكان من كلماتها، وكلّ قلبٍ في الغرفة تكسّر.
تشد جسدها بعيدًا عنه، تحاول الانفلات، لكنّه يُمسك بها بقوة، يضمها إليه كأن قلبه يتشبث بروحها:
— “خلاص يا رفيدة، خلاص يا حبيبتي…
انتي عديتي ده كله، وعدّيتي بكتير، والنهارده… انتي في أمان.
مش أنا أمانك؟ متخافيش.”
لكنها كانت غائبة، تغوص في هوةٍ مظلمة، لا تُبصر النور. صرخت فجأة، وانهارت:
— “هو… هو لمسني بطريقة وحشة!!”
+
تجمد جسد سليمان، اتّسعت عيناه من الصدمة، نبضات قلبه خبطت كطبلٍ أجوف.
أدركت أذناه ما لم يكن يتخيّله… لأول مرة.
فهم دون أن تقول أن دانيل هو من عنَته. تذكّر كل شيء، واختنق الغضب في صدره. لكنّه تمالك نفسه
كانت عيناه مغرورقتين، لكنّه تمسّك ببصيص العقل، وقال لها هامسًا، وهو يُحاول احتواءها:
– “اهدي… اهدي، هو ملمسكيش، ملحقش، والله ما لحق… اهدي.”
لكنها هزّت رأسها، وصوتها صار كالسكاكين:
— “لأ… لأ… مش هو ده…
واحد تاني… وأنا طفلة… مكنتش بعرف أتكلم… كان بيخوفني!
أنا بكرهه! أبعدوه عني!”
شهقت رباب، وضربت صدرها بيدها، وجلست على حافة السرير، مغمورة بالصمت والذهول.
رنا وضعت يدها على فمها، صوت بكائها يرتجف كقلبها.
أما سليمان… فقد ذُبِح من الداخل.
سليمان تجمّد في مكانه، عيناه مفتوحتان كمن صُعق:
— “رفيدة؟… رفيدة اتعرضت لحاجة زي دي؟
طفلة؟! ومحدش حماها؟!” لم تترك لهم رفيدة مجالًا لالتقاط الأنفاس، بل أكملت، تسحق قلوبهم بكلماتها:
— “أنا خايفة… خايفة أوي…
سيبوني… أنا مسرقتش حاجة… بلاش ضرب، بلاش ضرب، والله ما سرقت… بلاش عقاب!”
ظلت الكلمات تلسعهم، فيما هي تواصل جلدهم بالحقيقة:
— “سيبوني! سيبوني!
أنا ما سرقتش حاجة!!
بلاش ضرب!!
والله ما سرقت!
بلاش عقاب!!”
انكمشت على نفسها كقطةٍ مذعورة، ضامّة جسدها، تئن من ماضٍ لم يُمحَ، تبكي بصوتٍ يحرق صدورهم.
+
سليمان جلس على ركبتيه أمامها، واحتضنها من جديد، الدموع تنهمر من عينيه، والحنان يتدفّق من قلبه ويهمس بصوت مرتجف:
— “اهدي علشان خاطري… اهدي!
انتي عديتي كل ده… خلاص، خلاص، أنا معاكي…
أنا مش هسيبك، انتي في حضني، في أماني.”
لكنها لا تسمع، لا ترى، لا تحس، لا تُصدّق…
كانت تهمس وهي تبكي:
— “سيبوني… متقربوش…
متلمسنيش… بكرهكم… كلكم…”
رباب لم تعد تقوى على الاحتمال، مدت يدها نحو سليمان وهي تبكي:
— “اتصل بأي دكتور يا سليمان…
البنت منهارة…
مش قادرة أشوفها كده…
رفيدة هتضيع مننا!”
حاول سليمان النهوض، فصرخت وهي تتشبث به بقوة:
— “لاااا! متسبنيش… انت كمان؟!!
خليك جنبي…
الكل هيأذيني لو انت مش موجود!!”
اختبأت في حضنه، كأنها تدفن نفسها بين ضلوعه، تبكي احتضنها بقوة، دفنت وجهها في صدره بزيادة، كأنها تحاول أن تذوب فيه، تهرب من كل من حولها:
— “خليهم يبعدوا…
ميقربوش…
كان بيلمسني… لمسني وحش!”
قال بصوتٍ منكسر:
— “محدش هيقرب…
محدش هيأذيكي…
متخافيش، اهدي، بالله عليكي فوقي…
أنا مش مستحمل أشوفك كده.”
لكنها لم تهدأ، بل فجّرت ما تبقّى من ألم:
وضعت يده على مواضع مختلفة من جسدها المرتجف، وهمست بصوتٍ مبحوح:
— “كان بيلمسني هنا… وهنا… وهنا…
كنت بعيّط، وهو يكتم صوتي بإيده، ويقولّي:
هموّتك… هعذّبك…
هخليكي تتمني الموت…
ومش هرحمك!!”
صرخت… والسكون انكسر، والقلب تمزق، والعيون انهمرت.
صرخة ملأت الغرفة، وسليمان لم يعد يحتمل… كان على وشك الانهيار، لولا أن رنا صرخت:
— “هتصل على مامت نوران…
هي دكتورة…!”
أشارت رباب بسرعة:
— “آه يا رنا… كلميها!
الحقينا!!”
اتصلت رنا، وشرحت الموقف باختصارٍ موجع.
في تلك اللحظة، كانت رفيدة لا تزال منهارة في حضن سليمان، تمسكه بقوة، تتمتم بكلمات مخنوقة:
— “ابعدوا عني… بلاش تأذوني…”
رن جرس الباب، فحاول سليمان النهوض ليفتح، لكنها تشبثت به:
— “قولتلك… متسبنيش!
بلاش… أنت كمان!”
رباب قالت بسرعة:
— “خليك معاها، أنا ورنا هنفتح.”
رباب هرعت إلى الباب مع رنا، واستقبلتا الطبيبة التي دخلت مسرعة، وعيناها تملؤهما الجديّة.
دخلت الطبيبة، وما إن اقتربت منها حتى صرخت رفيدة، تخبئ وجهها في صدر سليمان:
— “خليها تبعد عني!
هتأذيني!
سليمان… أبعدها عني!
خليك انت بس!”
قالت الطبيبة بحسم:
— “لازم تاخد مهدئ فورًا.
امسكها كويس يا بشمهندس.”
رنا تقدّمت لتساعد، لكنها ما إن لمست ذراع رفيدة، حتى صرخت رفيدة، تدفعها بعنف:
— “ابعدي!!”
قالت رنا بانكسار:
— “رفيدة… أنا رنا! متخافيش!”
قالت الطبيبة وهي تُراقب الموقف:
— “هي لا شايفة، ولا سامعة، ولا حاسة بحد.
في حالة إنفصال تام.”
ثم أردفت رنا بتساؤل:
– اشمعنى أبيه مش خايفه منه؟
ردت الدكتوره بعملية:
— “عارفين ليه سليمان؟
علشان ده مركز الأمان عندها…
هو الشخص الوحيد اللي قادره تهدأ بين ايديه.”
نظر إليها مذهولًا، ثم أومأ، وشدّ رفيدة إلى صدره بقوة، واحتضنها بجسده كله، بينما حاولت الطبيبة أن تجد ثغرة في جنونها.
رنا أمسكت ذراعها أخيرًا بقوة، وسليمان ثبّتها بكل حنان، وقال برجاء:
— “اهدي يا عمري… بالله عليكي… استحملي ثانية.”
قاومَت، بكت، صرخت…
لكنّ الطبيبة كانت سريعة.
غرزت الإبرة في ذراعها، رغم صراخها المؤلم:
— “لاااا!! متلمسنيش!!! لاااااااا!!!”
وسليمان يحتضنها بقوة، يبكي في صمتٍ مرير.
وبعد دقائق…
خارت قواها.
وأخيرًا…
الدواء بدأ يعمل ببطء.
وهدأ الصوت، خفّ الارتجاف، واستكانت أخيرًا.
سقط رأسها على كتف سليمان، ونامت… أخيرًا.
بينما بقي هو يحتضنها، والدموع تفيض من عينيه، بصمت، لا أحد يسمعه.
غفَت بين يديه، تهدأ أنفاسها رويدًا رويدًا، وهدأت العاصفة.
وساد السكون… لكن القلوب لا تزال تنزف.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)