رواية نجوت بك الفصل السادس عشر 16 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل السادس عشر 16 بقلم مي مصطفي
البارت السادس عشر
الفصل السادس عشر “أنتهى الانتظار”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و-بكل خشوع-ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
انفرجت الأجواء بعد ما جفّت دموع “رفيدة”، وبعد لحظات من الصمت الثقيل، تنفّس الجميع أخيرًا دفء اللحظة.
نهض “سليمان” وهو يعدّل من وضع ساعته، ثم نظر إلى “رنا” وقال مازحًا:
– “يلا على بروجرام ست رنا، إيه الخطة بعد كده؟”
ضحكت “رنا” وهي تمسح دموعها:
– “نتغدّى طبعًا… مش لسه قدامنا يوم طويل؟”
ضحك “سليمان” وقال بنظرة جانبية لها:
– “نفسي أفهم… بتاكلي و مش بيبان عليكي؟!”
أجابت بفخر وضحكة خفيفة:
– “الله أكبر… ما تِحسِدش يا أبيه.”
اتجهوا جميعًا نحو المطعم القريب، جلسوا حول الطاولة، وهذه المرة، لم يكن أحدٌ فيهم بحاجة لأن يتساءل لماذا تأخرت “رفيدة” يومها في الإجابة، ولا لماذا هربت بنظراتها… بل كان كلٌّ منهم يحمل في قلبه حسرة على ما عاشته، ودعاءً خالصًا أن يُبدّل الله وجعها أمنًا ورضا.
أما “سليمان”، فكان ينظر إليها بصمتٍ، وقلبه يلهج:
“يارب… قوّيني أكون عوض ليها، قوّيني أسدّ كل نقص،وأكون لها العوض والسند للعُمر كله ”
وصلت قائمة الطعام، وبدأت “رباب” و”رنا” في تصفحها والاختلاف كالعادة حول الطبق الأفضل، بينما مال “سليمان” ناحية “رفيدة” وهمس لها:
– “تحبي أختارلك على ذوقي؟”
خفضت نظرها حياءً، وهمست بصوت خافت:
– “بصراحة… نفسي في سندويتش زي اللي جبته ليا في العربية. كان طعمه خرافة… بس مش عارفة اسمه، أعتقد كان بالفراخ؟”
ابتسم لها، واقترب قليلًا وهو يهمس بنبرة دافئة:
– “نفسك في شاورما وساكتة؟! ده أنا أجيبلك السيخ نفسه لو عايزة.”
ضحكت بخجل، بينما اتجه هو للنادل الطلبات وأضاف في الآخر:
– ” كده ده الأوردر اللي هينزل في الصالة، ووجبتين شاورما، واتنين برجر… تيك أواي، من فضلك.”
تفاجأ الجميع.
“تبادلت “رباب” و”رنا” النظرات، ثم سألتاه بدهشة:
– “ليه طالب كل ده تيك أواي كمان؟”
“رباب” سألت:
– “هو فيه عزومة تانية وإحنا مش واخدين بالنا؟”
ضحك “سليمان” بخفة، ثم قال بصوته الحاني المعتاد:
– “علشان رفيدة… النقاب بيخلي أكلها في المطاعم صعب ومقيّد. مش حابب كل مرة تحس إنها لازم تتقيد، وطلبت اتنين علشان رنا متقطعش على رفيدة، وبصراحة… عارف إن رنا مش هتشبع أبدًا من البرجر، حتى لو قالت العكس.”
ضحك الجميع، و”رنا” صاحت مازحة:
– “كده يا أبيه؟! ماشي… بس ليه شاورما؟ أنا مش بحبها!”
ابتسم وهو يغمز بعينه ناحية “رفيدة”:
– “أصل فيه حد هنا بيحبها…”
احمرّ وجه “رفيدة” فجأة، وتلعثمت وهي تشرب الماء، حتى كادت أن تشرق، وسط ضحكاتهم الدافئة.
وفي قلب ذلك الجوّ المشبع بالحب، الدافئ بالمودة،
مد “سليمان” يده بهدوء إلى هاتفه، فتح تطبيق “واتساب”، وفتح المحادثة مع رقم “رفيدة” لأول مرة، ثم كتب:
عمرو حسن قال:
لما توافقي، هيبيع جواهرجي في يوم خاتم
هيزيد مشروب وهيبقوا اتنين
ونضيف للدُنيا اتنين عشّاق
وإذا ما وافقتيش، فيه رزق هيبقى انتهى مقطوع
وإنتي مترضيش تقطعي أرزاق
بزيادة العِند اللي في طبعك
بزيادة الخوف اللي متابعك
أنا مش عاوزك في رهان بايخ
ولا جاي أبيع سهم في بورصة
أنا جاي أقولك: أستاهل آخد فرصة
صعبه عليكي؟
3
– “وافقي يا رفيدة…واسمحيلي أدخل حياتك
صدّقيني مش هتندمي أبدًا… هستنى ردك آخر الفسحة.”
ضغط زر الإرسال، ثم أعاد الهاتف إلى جيبه وكأنه لم يحدث شيء.
رنّ إشعار خافت على هاتف “رفيدة”، نظرت له بدهشة… لا أحد يرسل لها عادة، فتحت الهاتف، وكانت الصدمة…
اسم المرسل: المهندس سليمان.
نظرت له بخجل، باضطراب، نظرة من لم يُفكر قط أن يأتي اليوم الذي يُراسلها فيه وهو جالس على بعد نصف متر فقط.
همست وهي تبادله النظرة:
– “بعتلي؟!”
ابتسم لها بوداعة، وأشار للموبايل كأنه يقول “افتحي وشوفي”.
فتحت الرسالة بيدين مرتجفتين، وقرأت…
وبين كل بيت من أبيات الرسالة، كانت تنهيدة، ودمعة، وارتباك… وخجل شديد.
أحاطت كفّيها بالهاتف كأنه كنز، ولم ترفع رأسها، خجلًا، وامتنانًا، ودهشة من هذا الرجل الذي يتفنن في إسعادها، حتى في أهدأ اللحظات.
3
انتهى الطعام، وبدت علامات الرضا تعلو وجوه الجميع، إلى أن اقترحت “رنا” في حماسةٍ طفولية:
– “بصوا بقا، أنا عندي اقتراح مجنووون! إيه رأيكوا نروح London Eye؟ صدقيني يا رورو، هتنبهري أوي، هتشوفي لندن بعين تانية خالص، هتشوفي جمالها، وتفاصيلها، وكل حاجة فيها في الكبسولة اللي هنركبها، وكمان فيها شاشة بتشرح المنظر..بس معانا أبيه أحسن واجدع Tour guide
المنظر خرافة خرافة خرافة! خصوصًا بقى إحنا رايحين وقت الغروب، التصوير هيطلع حاجة تانية، يلا يا أبيه بسرررعة!”
تعالت الضحكات على حماسها، ثم قاموا جميعًا بخفةٍ وكأنّ نسمات المساء تدفعهم دفعًا نحو المغامرة.
وصلوا إلى المكان، فاندفعت أنظار “رفيدة” تلقائيًا نحو السماء، نحو تلك العجلة العملاقة التي تعانق الأفق، وابتلعها صمتٌ مذهول. لم تكن قد توقعت هذا الحجم، ولا هذا المشهد الساحر.
لكن حين اقتربت أكثر، وتبيّن لها أنّها ستعلو… وتدور!
– “لا لا لا، أنا… أنا بخاف! مش بحب المرتفعات خالص.”
نظرت لسليمان بتوجّس، فابتسم مطمئنًا، وصوته يحمل من السكينة أكثر مما يحمل من الكلمات:
– “اهدي… دي مش زي ألعاب الملاهي ولا فيها أي مخاطرة. الكبسولة بتمشي ببطء جدًا علشان تستمتعي بكل حاجة حوالينا، ومن جوه واسعة ومقفولة كويس. صدقيني لو فيها خطر ولو بنسبة واحد في المليون، عمري ما هعرّضك له. تعالي، أنا هحجز كبسولة لينا كلنا لوحدنا، بعيد عن الزحمة والقلق.”
لم تُجبه، فقط سمّت في قلبها ودعت ربها، ثم مشت بجواره بخطى مترددة، حتى دخلت معهم الكبسولة.
حين أُغلِق الباب الزجاجي، شعرت بقبضةٍ خفية على صدرها، فلاحظ سليمان ارتباكها، وقرب منها:
– “قولتلك متقلقيش، بلاش التوتر… أول ما العجلة تتحرك، هتلاقي نفسك نسيتي الخوف واستمتعتي. أهم حاجة متسيبيش التوتر يتمكن منك، اتفقنا؟”
أومأت في خفوت، بينما الكبسولة بدأت في الارتفاع التدريجي، كأنّها تودع الأرض رويدًا رويدًا، وتصافح السماء بسلامٍ حذر.
وقف سليمان إلى جانبها، يشير بيده نحو المشاهد التي تنكشف واحدة تلو الأخرى، وقال بهدوء:
– “أول حاجة على شمالنا… شوفي المبنى الكبير اللي على النهر ده؟ ده البرلمان البريطاني – Houses of Parliament. مبنى عريق وتاريخه بيحكي حكايات من قرون. التصميم القوطي بتاعه يخليه كأنه طالع من فيلم خيال تاريخي.”
أكمل وقد أشار نحو برجٍ شامخٍ على أحد أطراف المبنى:
– “شايفة البرج ده؟ ده بيغ بن، أو زي ما اسمه الرسمي بقا ‘برج إليزابيث’. الساعة دي بتدق من سنة 1859، وكل رنة فيها كأنها بتحكي قصة بلد.”
تلف الكبسولة ببطء، وتظهر مشاهد أخرى من خلف الزجاج، وأشار سليمان:
– “ده بقى جسر ويستمنستر – Westminster Bridge. الكوبري الأخضر الجميل اللي بيربط بين الضفتين… إحنا فوقيه دلوقتي، شوفي الناس تحت عاملين إزاي، صغيرين جدًا، كأنهم لعب!”
اقتربت رفيدة من الزجاج بفضول، وما إن نظرت إلى الأسفل حتى انقبض قلبها فجأة:
– “لا… لا، مش عايزة أبُص.”
ضحك سليمان برفق، وأجابها:
– “طب اهدي، إحنا أصلاً لسه ما ارتفعناش خالص، خلاص خلاص متبصيش.”
أشاحت بوجهها عن الزجاج بلطافة، ثم أشار سليمان إلى الجهة الأخرى:
– “بُصي كده على الجهة التانية من النهر… شايفة المساحة الخضرا الضخمة دي؟ دي سانت جيمس بارك، ووراها هناك شوية، المبنى الرمادي ده بقبة سودة؟ ده قصر باكنغهام – مقر الملك الحالي. هو نفس القصر اللي كانت فيه الملكة إليزابيث زمان.”
دوّرت الكبسولة بهدوئها المعتاد، وظهر في الأفق مبنى بقبةٍ بيضاء ضخمة، فقال سليمان:
– “شايفة القبة الكبيرة دي؟ دي كاتدرائية سانت بول – St. Paul’s Cathedral. اتبانت في القرن الـ17، وتصميمها واخد من كاتدرائيات روما، والقبة دي لما الشمس تضربها، بتحسي كأنها دهب.”
2
أحاط المكان بسكينةٍ غريبة، كأنّ العالم قد توقف للحظة كي يتأمل نفسه، ثم أشار سليمان ناحية الأعلى:
– “دلوقتي بقا إحنا قربنا نوصَل لأعلى نقطة… شايفة ناطحة السحاب اللي شكلها كأنها زجاج مكسور؟ دي The Shard – أطول مبنى في بريطانيا. فيها مطاعم، وفندق، وشقق… واللي فوق بيبان له منظر خرافي، بس إحنا شايفين نفس المشهد هنا من غير ما نتحرك شبر!”
ثم انحنى قليلًا، وأشار نحو الشرق:
– “الجسر اللي شكله كأنه من العصور الوسطى؟ ده Tower Bridge. والقلعة اللي جنبه، دي قلعة لندن، كانت زمان سجن ومقر حكم، ودلوقتي فيها جواهر التاج الملكي.”
+
في تلك اللحظة… انسحب الضوء الأخير من السماء.
+
وسقطت الشمس في حضن نهر التايمز، وأشعتها الأخيرة تُقبل وجه الماء ببطءٍ وحنين، بينما أضواء المدينة تبدأ في التوهج، واحدة تلو الأخرى.
أضاء مبنى البرلمان، وبرقَ بيغ بن، وتوهّجت الكباري والجسور… واكتست لندن بحُلّةٍ ساحرة من الذهب والزمرد.
وساد الصمت في الكبسولة، إلا من شهقة رفيدة الصغيرة التي لم تُسمَع، وكأنّ المنظر قد أسكتها.
نظر لها سليمان نظرةً خفيفة، فوجد عينيها متّسعتين بالدهشة، ووجنتيها قد تلألأتا بلونٍ خجول، وهمس لها:
– “شُوفتِ؟ قولتلك… كنتِ بس محتاجة تنسي التوتر وتعيشي التجربة.”
ولم تُجبه، فقط… ابتسمت.
+
ما إن بدأت الشمس في الغروب، وانعكست خيوطها الذهبية على النهر والمباني العتيقة، حتى صاحت “رنا” وهي تمسك بهاتفها وتدور بعينيها كمن يبحث عن كنز:
– “يلا يا رورو نلحق نتصور، المنظر ده خراااافة! أبيه، هاتي الآيفون بتاعك نتصور بيه!”
أخرج سليمان هاتفه من جيبه ببطء، ثم ألقى نظرة سريعة نحو “رفيدة”، وكأنّ عينيه يسألانها بلطفٍ صامت
ثم قال، صوته هادئ حذر، يحمل احترامًا أكثر من أي شيء آخر:
– “اتصوّري انتي يا رنا عادي طبعًا… بس رفيدة، لو حابة تتصوري، مفيش مانع خالص. متقلقيش، الصور هبعتهم ليكي فورًا، ولو تحبي تمسحيهم بنفسك، تمام. ولو مش حابة تتصوري عليه، عادي والله، مفيش أي إحراج.”
رفعت “رفيدة” رأسها نحوه، وعينيها تحملان من الثقة ما يُذيب التردد، وهزّت رأسها بخجلٍ رقيق، وقالت بصوتٍ منخفض:
– “أنا واثقة فيك أكيد.”
ثم همست تكمل، كمن يكتشف نفسه لأول مرة:
– “بس… أنا مش بعرف أتصور، ولا جرّبت أتصور قبل كده أصلاً.”
ضحكت “رنا” على الفور، واقتربت منها تمسك بيدها:
– “عيب عليكي! وأنا موجودة؟! قومي بس كده أوقفي… وأنا هقولك تعملي إيه، صدقيني الصور هتطلع تحفة!”
وقفت “رفيدة” بتردد، تُعدّل نقابها قليلًا، وتتأكد أن كل شيء في مكانه. لم تكن بحاجة لشيء يُظهر جمالها أكثر من عينيها.
كانت كافية…
كل شيء كان حاضرًا فيهما.
بدأت “رنا” التصوير، وهي تضحك وتوجهها:
– “بُصيلي كده وابتسمي، الله! البسمة طالعة من عينيكي والله، مفيش أحلى من كده! طيب دلوقتي بصي ناحية الشباك، كأنك بتفكري… أيوه كده! الله!”
التقطت لها صورة وهي جالسة، وعيناها تلمعان ببريقٍ يشبه الغروب، وصورة أخرى وهي واقفة، تنظر نحو المباني في صمت، كأنها تلتقط اللحظة بعين القلب.
ثم توالت الصور… وضعيات مختلفة، وضوء الغروب يزيدها جمالًا فوق جمال.
ثم التقطوا صورًا جماعية، سيلفي تلو الآخر، وصدى الضحك يعلو، يتردد داخل الكبسولة كأغنيةٍ من زمنٍ سعيد.
وانتهت الجولة، ولكن لم ينتهِ أثرها.
في طريق العودة إلى السيارة، كانت “رفيدة” تسير بينهم، صامتة، لكن ملامحها تحكي عن سعادةٍ خالصة، لم تعتدها من قبل. أما “سليمان”، فكان يمشي إلى جوارهم، صامتًا بدوره، لكن قلبه يعجّ بأسئلةٍ لا إجابة لها بعد.
كان قد قال لها سابقًا: “هستنى ردك آخر الفسحة”
والآن… ينتظر.
وصلوا إلى السيارة، وقبل أن تنطلق، التفتت إليهم “رباب” وقالت:
– “يا بنتي، ما تيجي تقعدي معانا؟ لازمتها إيه تقعدي لوحدك يعني؟”
وسرعان ما أضافت “رنا” بحماسةٍ عاطفية:
– “بالله عليكي يا رورو، تعالي! إحنا كنا عاملين فايبس جميلة سوا، وأنا بجد بحس بوِحدة من غيرك. تعالي اقعدي معانا ونبات سوا زي الأول، ونفضل نحكي لحد ما ننام!”
ترددت “رفيدة”، شعرت بإحراجٍ ناعم، ثم قالت بصوت خفيض:
– “مينفعش صدقوني… علشان الباشمهندس أنا وضحت رأي قبل كده.”
قهقه “سليمان” بخفةٍ مرحة، وقال بنبرة دافئة:
– “ما قولنا نقول أها، وكله هيتيسر!”
ارتبكت، وضحكت بخجلٍ أكبر، ثم أخرجت من قلبها جملةً لم تتوقعها هي قبل غيرها… لكنها خرجت كأنّها دُفعت من دعاءٍ صادق، أو رجفة يقين:
– “احم… لا، خليني في السكن… لغاية ما… احم… لغاية ما أصلّي استخارة.”
ساد الصمت لحظة… ثم انفجر قلب “رباب” و”رنا” بالفرح، وعلت الوجوه ابتساماتٍ تُضيء أكثر مما تفعل أنوار المدينة.
قالت رنا:
– “يا سلام! يا سلام! أخيرًا، إن شاء الله ربنا يكتبلك الخير يا حبيبتي!”
ثم اقتربت “رنا” وهمست في أذنها بمزاحٍ لا يخلو من الخبث اللطيف:
– “اللي هو أخويا سليمان يعني…”
احمرّ وجه “رفيدة” في لحظة، وأخفضت رأسها، وفضلت الصمت.
وصلوا إلى السكن، ونزلت “رفيدة”، وقلبها يخفق بخليطٍ من الحياء والرجاء.
وكعادته… انتظر “سليمان” حتى صعدت إلى الطابق الأعلى، ولم يتحرك حتى لمحها تفتح باب الشقة وتُغلقه خلفها.
ابتسم بهدوءٍ وهو يقود السيارة مبتعدًا، وقلبه ينبض بنغمةٍ جديدة:
نغمة من يحمل أملاً… وشيئًا يُشبه الحياة الحقيقية.
3
عادَت “رفيدة” إلى سكنها بخطى ساكنة، وكأنَّ في قلبها سكينةً هبطت من السماء.
لم يكن ذلك اليوم ككلّ الأيام. كان مختلفًا، استثنائيًا… كأنّه أول يوم في عمرها لا تحمل فيه قلبًا مرتجفًا من الخوف.
جلست على طرف سريرها، وقد لاح في ملامحها شيءٌ لم يسبق أن عرفته.
شيءٌ يشبه الرضا.
يشبه السلام.
في قلبها رجفة، لا من الخوف، بل من الامتنان.
لأوّل مرة…
لأوّل مرة، تحكي لأحدٍ طرفًا من حكايتها فلا ترى في عينيه نفورًا، ولا شفقة، ولا أسى مستتر.
لأول مرة، ترى في النظرات فخرًا، وفي السمع إصغاءً حقيقيًا، وفي الرد… حضنًا غير مشروط، وحبًا لا يهاب تاريخًا لم يكن لها يدٌ فيه.
نظرت إلى السماء من خلف النافذة، ورفعت يديها، تهمس:
“يا رب، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك… الحمد لله إني شوفت بعيوني إن زي ما في قسوة في الدنيا، في رحمة… وإن زي ما في ناس بتهدم، في ناس بتبني القلوب وتطبطب عليها بحنيتهم.”
قامت وتوضأت، ثم فرشت سجادتها على الأرض، وصلت ركعتين كانت فيهما أقرب ما تكون من الله.
وبعدها… وقفت تصلّي الاستخارة.
طلبت من الله أن يختار لها، أن يضع في قلبها اليقين، أن يُمسك بيدها إن كانت تلك اليد التي ظهرت في حياتها هي أمانها الحقيقي.
وحين انتهت…
ابتسمت.
ابتسامة خفيفة، بريئة، لا تحمل زينة الملامح… بل تحمل زينة الطمأنينة.
نامت تلك الليلة قريرة العين، وابتسامة خفيفة تعلو وجنتيها، كأنّها أول ليلة تعرف فيها ما معنى أن تنام دون خوف، دون ثقل، دون ألم.
وعلى الجانب الآخر…
كان “سليمان” قد أغلق باب غرفته، وأغلق معه كل ضجيج الدنيا، ولم يبقَ إلا السجادة، والدموع، واليقين.
وقف يصلّي، وكل آيةٍ تخرج من لسانه كانت تغسل قلبه، وكل سجدةٍ كانت تنهشه بالبكاء.
لم يكن يبكي لنفسه، بل لها.
+
لـ”رفيدة”.
لأنها، وبكل ما لم تقله، وبكل ما لم تُفصح عنه، قد فضحت له الحزن الساكن في عينيها.
عرف أن ما حكت عنه ليس سوى هامش، وليس هناك من جُرحٍ على الهامش.
كان يبكي…
يبكي على سنين مرت، لم يكن فيها أحد يسندها.
يبكي على طفلةٍ في صدرها ألف جرح، وعلى شابةٍ تصارع العالم بصمتٍ مرير.
وحين انتهت صلاته، جلس يُردد:
“يا رب… يا رب، لو فيها الخير ليا، اجعلها من نصيبي.
اديني القوة اللي تخليني أكون عوض حقيقي ليها، مش مجرد راحة مؤقتة.
فرّحها يا رب… طمن قلبها بيا، واكتبلي إني أكون سبب سعادتها.
أنا مش طالب حاجة لنفسي… أنا بطلبها هي، عشانها هي.”
+
وفي نومها، جاءت الرؤيا كأنها قبلة من السماء.
رأت “سليمان” مبتسمًا، يقف في مكانٍ فسيح، تحيطه الخضرة والضياء، يمد يده إليها ويهمس:
– “امسكي إيدي… متخافيش.
أنا أمانك… أمانك للأبد.”
نظرت إليه، ولم تتردد، مدت يدها بخفة، فشدّ عليها بقوة، ثم سار بها في طريقٍ يفيض بالجمال والسكينة.
كان المكان هادئًا، دافئًا،
وهي تمشي إلى جواره، لم تكن تخشى شيئًا…
لأنّ الأمان، هنا سليمان
كان يمشي بجانبها، يُمسك يدها، ويبتسم لها.
استيقظت على صوت أذان الفجر…
وقلبها لا يزال حيًا بالحلم، وروحها تتنفس نورًا.
قامت ، و توضأت، فصلّت الفجر، وجلست بعدها طويلًا تشكر الله، تهمس دون صوت، ودموعها تجري:
“يا رب… شكرًا.
شكرًا على الحلم، وشكرًا على الأمل.
شكرًا على إنك منسيتنيش،وكنت معايا كل مرة وترشدني، وخلّيتني أشوف في الدنيا أمان حقيقي… لأول مرة….ألف حمد وشكر ليك يا رب.”
+
جلست “رفيدة” وحدها، تتأمل شاشة هاتفها المحمول. لم يكن بين يديها مجرّد جهاز، بل كان بوابةً إلى قدرٍ جديد، إلى بدايةٍ لم تكن يومًا تحلم أن تُكتب لها.
+
كلماتٌ قليلة وردت إليها من سليمان، لكنها كانت كفيلة بأن تقيم عاصفة في صدرها
ارتجف قلبها، واضطرب أنفاسها، كأن الحياة تتأهب لتُفتح على صفحةٍ جديدة.
هو…
الرجل الوحيد الذي لم تشعر معه بالخوف، لم ترتجف أمام صوته، ولم تتوجّس من نظراته…
بل على العكس، كان نظرة عينيه حضنًا، وكانت كلماته سلمًا صاعدًا نحو الطمأنينة.
حملت الهاتف بين يديها، وكأنها تزن الدنيا بأكملها…
ثم كتبت، بيدٍ مرتجفة وقلبٍ يتسارع:
“موافقة.”
كلمة واحدة… لكنها أعذب من نبع، وأصدق من دمعة.
أغمضت عينيها بعد أن أرسلتها، وضغطت الهاتف على صدرها، وهمست لنفسها، بخجلٍ وارتباك:
– “أنا بعتها بجد… يا ترى شكلي هيبقى إيه؟ أوووف!”
ثم ضحكت، للمرة الأولى من قلبها، ضحكة تحمل ارتياحًا، كأنها تخلّصت من قيدٍ قديم كان يربطها بالخوف.
في تلك اللحظة، كان “سليمان” جالسًا على سجادته، لتوّه أنهى صلاة الفجر، ورفع كفّيه للسماء، يناجي ربه:
– يا رب… يا رب تكون من نصيبي، وافتح لها أبواب الطمأنينة بيا، واجعلني سترها وفرحتها وسندها.”
وإذ بصوت الإشعار يقطع عليه خشوعه.
نظر إلى الهاتف، وما إن لمح الاسم… حتى دقّ قلبه بعنف.
فتح الرسالة بسرعة، فوجدها…
كلمة واحدة.
“موافقة.”
تهللت أساريره، وارتسمت ابتسامة صادقة، كأن النور قد سكن وجهه.
وضع يده على صدره، وأغمض عينيه، وتمتم بشوقٍ يعلوه الامتنان:
– “ألف حمد وشكر ليك يا رب… الحمد لله، الحمد لله، ياااا رب قوّيني وأقدر أسعدها…وأعوضها”
لم يستطع البقاء في مكانه، فهرع إلى غرفة أمه.
طرق الباب بلطف، وما إن سمع صوتها يأذن بالدخول، دخل وعيناه تلمعان بدموع لا هي حزن ولا فرح… بل مزيج من راحة وانتظار طويل نال جزاءه.
نظرت إليه أمه، وفهمت، دون أن ينطق.
قالت وهي تبتسم بسكينة:
– “رفيدة وافقت… مش كده؟”
هزّ رأسه بالإيجاب، وارتمى في حضنها، كطفلٍ وجد دفء العالم بين ذراعيها:
– “أيوة وافقت يا أمي… وافقت! أنا مش مصدق…الحمد لله”
ضمّته بقوة، وربتت على كتفه، وبدأت تدعو لهما، وصوتها يخترق السماء:
– “ربنا يتمم بخير يا ابني… يا رب يسعدها بيك، ويجعلها زوجة صالحة وسكن ليك، ويجعل منك عوض حقيقي ليها في الدنيا والآخرة.”
+
في تلك الليلة، كان هناك قلبان يطرقان باب الأمل.
قلبٌ وجد في “كلمة” حياةً جديدة…
وقلبٌ ردّد الدعاء حتى أتاه الجواب.
+
موافقة.
ليست مجرّد إجابة، بل وعد بحياةٍ جديدة…
وحكاية، بدأت من قلبٍ مكسور، لتُختم بأمانٍ مكتوب.
————————————————————
+
– نزلت الفصل ده ؛ لأن الفصل إللي فات كان قصير ومفيش فيه أحداث كتير .
+
– ملحوظه كده مهمة؛ علشان الناس الدقيقة اللي بتركز في كل حاجة بتقرأها ـ وأنا واحده منهم-
فيه ناس هتستغرب إزاي حد ميعرفش أبسط الأكلات المشهورة زي الشاورما!
هقولك يا عزيزي دي بنت اتربت في ملجأ وعانت فيه ومكنش ليها اختلاط بالناس.
طب ما هي طلعت من الملجأ واختلطت بالحياة بره وهي في جامعة!
هقولك دي خرجت أيوة بس كانت لسه محبوسه جوه تأثير المعاناة،ومكنتش بتروح الكلية غير على حاجات ضرورية زي السكاشن والامتحانات
وهيوضح بعد كده التفاصيل دي
طب ما النت عليه كل حاجه!
هقولك بردو إن هي كانت مقتصره على الشغل اللي كان في الحارة الشعبية ومكنش فيه اختلاط كذلك وبترجع على البيت تذاكر مكنش فيه وقت ولا مقدره إن يكون فيه نت واتصال بالعالم الخارجي.
+
– آخر شيء هتكلم فيه،محتاجه أشوف أراء ونتناقش في أي جزئية،نشوف وجهات النظر
مش عايزة التعليقات تكون مقتصره على كلمات صغيرة تحفيزيه بس.
محتاجه تعليق على أكتر جزء علق معاك في الرواية//اكتر جزء أثر فيك// تصرف بدر من شخصية كويس ولا وحش….وهكذا محتاجه تفاعل حيوي كده.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)