روايات

رواية نجوت بك الفصل السابع 7 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل السابع 7 بقلم مي مصطفي

 

البارت السابع

 

 

الفصل السابع” إنقلاب السحر على الساحر”

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-
طوال الحفلة، ظلّت عين “سليمان” تراقب “رفيدة” من بعيد. كانت تجلس في ركنٍ هادئ، منعزلة عن الصخب، لكنّها لم تكن خائفة… فقط متحفّظة، مطمئنّة لوجوده قريبًا منها، دون أن تطلب ذلك أو تُصرّح به. كان الأمان في الحضور الصامت أبلغ من أي كلمة.
على الجانب الآخر من القاعة، كانت “ندى” تتحرّك بخطًى واثقة، تخفي خلف ابتسامتها نوايا خبيثة. أمسكت كوب العصير الذي وضعت فيه حبّة الهلوسة، ثم اقتربت من أحد النُدُل.
ندى بابتسامة مصطنعة:
“Excuse me… can you please give this juice to my friend, the veiled girl over there? I’m in a hurry and someone is calling me. I don’t want her to wait too long.”

+

“عذرًا، هل يمكنك من فضلك أن تُعطي هذا العصير لصديقتي المنتقبة هناك؟ أنا على عجلة من أمري وهناك من يُشير إليّ، ولا أريد أن تتأخر عليه.”
النادل، بِـ لُطف، انحنى قليلًا وقال:
“Of course, ma’am.”
“بالطبع، سيدتي.”
أخذ الكوب من يدها، وسار به نحو “رفيدة”. اقترب منها بأدب وقدّم لها العصير.
“Juice for you, miss.”
“العصير من أجلكِ، آنسة.”
“رفيدة” برهبة وشكر، وقالت:
” thank you very much.”
“شكرًا جزيلًا لك.”
لكن قبل أن ترفع الكوب إلى شفتيها، أحسّت بحاجة مفاجئة للذهاب إلى دورة المياه. وضعت الكوب على الطاولة، ثم نهضت واتجهت إلى إحدى المُنظمات.
“Excuse me… can you tell me where the restroom is?”
“عذرًا… هل يمكنك إخباري أين دورة المياه؟”
“Sure, just go straight then turn left.”
“بكل تأكيد، اذهبي مباشرة ثمّ انعطفي يسارًا.”
“Thank you so much.”
“شكرًا جزيلًا لك.”
وفي جهة أخرى من القاعة، كان “سليمان” يتبادل الحديث مع مجموعة من رجال الأعمال. ضحكاته كانت مهذّبة، ونظراته مركّزة… حتى التفتت عيناه نحو المكان الذي كانت تجلس فيه “رفيدة”، فلم يجدها.
قطّب حاجبيه باستغراب، وبدأ يُحرّك رأسه، يبحث عنها في القاعة بنظرات قلقة. لم يلمحها في أيّ زاوية، فانتابه قلقٌ خفيفٌ دفعه للاستئذان من الحضور.
“Excuse me, I’ll be back in a moment.”
“عذرًا، سأعود بعد قليل.”
استدار وبدأ يبحث بعينيه في القاعة، يحدّث نفسه بقلق صادق:
«هي راحت فين؟ رجليها كانت وجعاها من شوية… معقول تعبت وقررت تمشي؟ ولا حصل لها حاجة؟ دي اختفت فجأة!»

+

وفي تلك اللحظة، كان أحد النُدُل يجمع الأكواب الفارغة من الطاولات. وسط الزحام والارتباك، اختلطت الكؤوس، فاستقر كوب العصير الملوّث على الكرسي المجاور لمقعد “رفيدة” الخالي، بينما وضع النادل كوبًا آخر مكانه دون أن يدري ما جرى.

+

“سليمان” تابع سيره، وقلقه يزداد كلّما طال غيابها عن ناظريه.
وفجأة، ظهرت “رفيدة” من بعيد، عائدة من الممر المؤدّي إلى دورة المياه. التقط “سليمان” أنفاسه العالقة، وزفر بارتياحٍ ثقيل، ثم تقدّم نحوها بخطى سريعة، تخون اتّزانه القلق الذي نما بداخله كغصنٍ شائك.
وحين اقترب منها، تكلّم بصوتٍ خفيض:
– إنتي اختفيتي فجأة كده… كنتي فين؟!
نظرت إليه “رفيدة” باستغرابٍ خفيف، وقد بدت على وجهها علامات الحرج، فقالت بصوتٍ هادئ:
– كنت محتاجة أدخل التويلت بس.
هزّ رأسه بتفهّم، لكن عينيه ظلّتا معقودتين على وجهها القلق:
– آه تمام… أنا بس قلقت، قولت يمكن رجلك وجعتك تاني ومشيتي،أو حصل حاجة ”
أطرقت برأسها قليلًا، وهمست:
– رجلي فعلاً وجعاني شوية… بس الحمد لله.
ظهر الحزن في ملامحه، وانعكست الحنيّة في نبرته حين قال:
– بُصي… الحفلة قربت تخلص، لكن لو مش قادرة، تستني الباص مع زمايلك، ممكن أروحك مفيش أي مشكلة ولا حرج.
ابتسمت “رفيدة” ابتسامة خفيفة، وهزّت رأسها نافية:
– لأ عادي، مش مستاهلة والله. شكراً على تعب حضرتك، أنا هستنى هنا مع زمايلي.
أومأ لها برأسه في إشارة صامتة بالموافقة، ثم أشار لها بيده أن تتقدّم نحو مقعدها. مضت “رفيدة” إلى مكانها، تشعر بأنفاسه لا تزال تحيطها، كأن حضوره ظلّ لا يزول، وحماية لا يُصرّح بها.
جلست بهدوء، وسندت ظهرها إلى المقعد، وفور أن هدأت أنفاسها، شعرت بعطشٍ مفاجئ. امتدّت يدها نحو كوب العصير القريب منها، دون أن تدري ما فيه.
وفي اللحظة ذاتها، كانت “ندى” تقترب بخطًى محسوبة، تتفحّص المشهد بعينين تلمعان بالشّماتة. جلست بجوار “رفيدة”، وابتسامةٌ خبيثة تتسلّل إلى وجهها، ثم تمتمت بسخرية خافتة:
“خلينا نستمتع،الحفلة الحقيقية هتبدأ الوقتي ونشوف فضيحة ست الشيخة ”
رفعت “ندى” الكوب الآخر من على الطاولة، تتأمّله بنظرة باردة، وكأنها تنتظر لحظة السقوط بصبرٍ شيطاني.

+

مرّت دقائق…
وبينما كانت الأنوار تتحرّك ببطءٍ فوق الرؤوس، والموسيقى تنخفض تدريجيًا قبل أن ترتفع مجددًا، بدأت “ندى” تتحرّك من مقعدها ببطء. قامت وكأن الأرض تميد من تحت قدميها، نظرتها زائغة، ووجهها لا يحمل سوى عبوسٍ مشوّه، مزيج من الذهول والبغض.
اقتربت من “رفيدة”، تتمايل، وتضحك فجأة… ضحكة مجنونة، مشوّهة، كأنّها صادرة من فمٍ ليس لها.
– أنتي فاكرة نفسك إيه؟!! صرخت بها دون مقدّمات، والضحكة لم تفارق وجهها.
“رفيدة” انكمشت في جلستها، وعينيها اتسعتا بخوفٍ حقيقي. لم تتخيّل أن تقف في مواجهة هذا الوجه المُظلم، الذي لطالما تخفّى خلفه ابتسامات زائفة. نهضت من على الكرسي، خطوة إلى الوراء، علّها تبتعد عن الخطر الذي بدا يقترب أكثر فأكثر.
“ندى” تقدّمت، تنظر لها بعينين لا ترى فيهما إلا الغيرة والحقد:
أنتي… من أول ما البعثة بدأت وانتي واخدة جنب، متكبرة، عاملاني أنا والباقي مش موجودين! دايمًا خايفة… دايمًا بتستخبي…
شخصيتك ضعيفة، وساذجة، ومبتعرفيش تتصرفي!
الشغل هنا مش ليكي… العالم ده مش بتاعك! ده ليا أنا…أنا الأقوى، الأجمل، الأكتر أناقة… حتى لبسي أحلى منك، يا بيئة! أكيد انتي مشوّهة علشان كده مستخبية ورا النقاب!خايفة الناس تشوفك على حقيقتك!
امتدت يدها باندفاع نحو وجه “رفيدة”، محاولة أن تزيح النقاب عن وجهها.
– تعالي كده نشوفك ونكشف حقيقتك!
وفي لحظة خاطفة، كانت يد “سليمان” قد سبقتها، أمسك معصمها بقوة، ودفعها بجسده بعيدًا عنها، بنظرة صاعقة تحمل الغضب والرفض والإشمئزاز.
– كفاية لغاية كده.
“رفيدة”، وقد ضاعت الكلمات من فمها، اختبأت خلفه، كأنّه المأوى الأخير وسط العاصفة. نادت بصوتٍ مرتجف:
– أرجوك… خلّيها تبعد عني.
التفت “سليمان” برأسه قليلًا نحوها، صوته خفيض لكنّه مشبع بالطمأنينة:
– متخافيش… أنا هنا.
تراجعت “ندى” خطوة، لكنها لم تصمت، بل انفجرت دفعة واحدة، بصوتٍ مخنوق بالحقد، وعينين تطفحان بالغيرة:
– لا مش كفاية صحيح عارفه مين حبسك في المخزن؟ أنا…أنا اللي حبستك في المخزن!
عارفة ليه؟ علشان كنتي لازم تغيبي يومين، تضيعي، المشروع يتأخر، والفرصة تتسحب منك!
لكن اتفاجئت بيكِ تاني يوم نازله معانا…و أنا اللي سرقت الشريحة، وخبّيتها… كنت ناوية أخلي مشروعك يبقى فاشل!وانتي؟ وانتي تمشي كده وسطهم، ساكتة… لكن للمرة التانيه تفاجئيني ومشروعك يشتغل وتنقذي نفسك عامله زي القطط بسبع أرواح…هههههه … أنا… أنا اللي حطيتلك حبوب الهلوسة في العصير، آه! كنت عايزاكي تتهزّي قدّامهم، تتفضحي، …و يلغوا تعيينك، يقولوا دي مش مؤهلة نفسيًا، تمشي من هنا ومترجعيش!
صوتها أرتفع، ودموعها سالت رغمًا عنها، لكنها كانت دموع حقد وغل وكره، ليست دموع ندم.
أنا بكرهك! بكرهك أوي يا رفيدة!
عمري ما كرهت حد في حياتي زي ما بكرهك…
انتي كل حاجة أنا مش قادرة أكونها، وكل مرة ببصلك، بحس إني ولا حاجة…
كلهم شايفينك، مع إنك ضعيفة، وساكتة، وبتستخبي! وأنا؟ أنا مش باينة، رغم كل حاجة!

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية بنت الوادي الفصل التاسع 9 بقلم سلمى سمير

+

 

“رفيدة” ظلّت واقفة خلف “سليمان”، لا تجرؤ حتى على الرد، والذهول يغمرها، كأن ما سمعته الآن فسّر لها كلّ لحظة ألم مرّت بها، دون أن تدري مَن كان وراءها.

+

أما “سليمان”، فقد اتّسعت عينه من الصدمة، ليس دهشة مما قيل، بل من جرأة الكراهية التي خرجت علنًا، وكمّ السواد الذي نضح من بين الكلمات.
قال بصوت ثابت، حاد:
– ربنا دايمًا بيكون مع الحق… وعمره ما بينصر الباطل. حقيقتك ظهرت، وسكوتي الوقتي مش ضعف… لكن الكلام دلوقتي ملوش قيمة، وبكرا ف الشركة فيه رد ، بس وانتي في وعيك.
“ندى” وقفت في مكانها، تتأرجح، تارة تضحك، وتارة تهتز شفتاها ببكاء مكتوم، ثم بدأت تتراجع، مترنحة، حتى سقطت على أحد الكراسي، تتنفس بصعوبة، تحاول التكلّم دون أن تقدر.
أما “رفيدة”، فقد وقفت خلف “سليمان”، كأنها تحتمي بآخر رمقٍ من الأمان وسط عالمٍ بات غريبًا ومخيفًا.
وسليمان، رغم صلابته الظاهرة، كان داخله يغلي؛ كل لحظة من اللحظات اللي مرّت، وكل كلمة سمعها، جعلت الغضب داخله يزيد أكثر.
انحنى نحوها قليلًا، وهمس:
– أنتِ مينفعش تروحي معاها في السكن مش أمان ليكِ،دي واحده مش مضمونه ومش سوية نفسيًا،الله أعلم تخطط لـ إيه تاني ؟!

+

“رفيدة وعيناها لا تزالا شاخصتين نحو الفراغ. كأن عقلها لم يلحق بعد بما سمعته، كأنها تاهت بين صدمة الكلمات وبين رعشة الحقيقة، وبين إحساسها بالخذلان جديد.
نظرت إليه بتوهان، عيناها تلمعان بالدموع، وصوتها يخرج كأنّه مخنوق:
– أعمل إيه؟… مش عارفة…
أنا… أنا مش هعرف أسيب السكن.
كأن الجملة الأخيرة خرجت من بين الضلوع المكسورة، لا من الفم، محمّلة بالضعف، بالخوف، وبكسرٍ لم تتعلّم أبدًا كيف تخفيه.
سكت “سليمان” لحظة، وعضّ على شفتيه قهرًا. رمقها بنظرة حارقة، ثم زمّ شفتيه وقال من بين أسنانه:
– الله يلعنها… ويلعن حقدها وسواد قلبها!
كانت نبرته مخنوقة من الغضب، لكن الألم فيها أعمق.
اقترب منها قليلًا، وقال بصوت حاول أن يجعله ثابتًا، رغم الحريق في صدره:
– بُصي يا رفيدة… أنا مستحيل أسيبك في مكان معاها بعد اللي حصل. بعد ما قالت بعينيها قبل لسانها إنها ناوية تأذيكي ومفيش أي حدود عندها!
أخذ نفسٌ عميق، وقال وهو يختار كلماته بعناية بالغة:
– ممكن… تيجي معايا البيت.
فيه ماما، ورنا، انتي قابلتيها قبل كده…
صدقيني، هيكونوا مُرحّبين بيكي جدًا، ومش هتحسي بغربة.
ومتقلقيش… أنا ليا شقة قصادهم، هدخل أقعد فيها… مش هبات هناك.
ليلة بس… تعدي، لحد ما نشوف بكرا فيه إيه.
لكن ترجعي السكن؟ مع البني آدمة دي؟
أنا آسف، بس ده مش هيحصل، ومش هسمح بكده…وعلشان تطمني أكتر وده حقك هتصل حالًا بِـ رنا وماما تكلميهم”
“رفيدة” خفضت عينيها، والإحراج غلّف ملامحها، ردّت بصوت خفيض، متقطع:
– كفاية كده… أنت ساعدتني كتير… كتر خيرك…
مش هقدر أزوّد عليك أكتر من كده…
كفاية من ساعة ما شوفتني، وأنت متحمّل….
قاطعها “سليمان” فورًا:
– رفيدة! مين فهمك إنك حِمل عليا؟
أنا؟!
أنا عمري ما فكرت كده، ولا حتى في خيالي.
بلاش الطريقة دي…
رجولتي مش بتسمحلي أشوف حد بيتعرض للأذى، وألف وشي الناحية التانية!
أنا مش هأمن عليكِ تقعدي في فندق، مفيش أسهل من إن أحجزلك في فندق.
بس أنا عارف إنك لو فضلتِ لوحدك، دماغك مش هتسيبك، وهتتعبك أكتر.
صدقيني…
بيتي أمان ليكي.
وأهلي
هتحسي وسطهم إنك مش غريبة… خالص.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية صرخات أنثى الفصل السابع والتسعون 97 بقلم آية محمد رفعت

+

 

سادت لحظة صمت… كانت “رفيدة” فيها كأنها تبحث عن قوّة لا تملكها، وكل شيء بداخلها كان ينهار، عدا تلك الكلمة الأخيرة منه: “أمان”.
رفعت عينيها إليه، وهزّت رأسها بخضوعٍ هادئ… لا قناعة تامة، ولا رفض… بل استسلام من لا يملك حيلة.
وافقَت.
أجرى سليمان اتصالاً بِـ رنا وفي حديث مختصر أخبرها بأن ظرف طارق حدث ورفيدة ستبيت اليوم معهم،وطلب من رنا الحديث مع رفيدة للاطمئنان.
—————-
انطلق “سليمان” بها خارج القاعة، خطواته ثابتة لكنها تحمل في باطنها توترًا مكتومًا، كأنه يخشى أن تتهاوى هي الأخرى بين ذراعيه من شدة ما جرى.
هبط بها إلى الجراج التابع للفندق، حيث كان الضوء خافتًا والمكان يغمره صمت ثقيل، لا يُسمع فيه سوى وقع خطواتهما وارتعاشة أنفاسها.
وقف أمام باب السيارة، ومد يده ليفتحه، ثم التفت إليها بهدوء وأشار لها أن تركب.
ركبت “رفيدة” بلا كلمة، ولا حتى نظرة، ثم جلس هو خلف المقود، وقبل أن يدير المحرك، أخرج هاتفه بسرعة وكتب رسالة على “الواتساب” لرنا:
“رفيدة معايا، وهتبات عندنا الليلة عرفي ماما، حصل ظرف مش لطيف.”
ثم ضغط إرسال، وأغلق الهاتف دون أن ينتظر ردها.
تحركت السيارة في صمت، والطريق الممتد أمامهما بدا وكأنه لا ينتهي، لكنّ داخل السيارة، الزمن نفسه كان ساكنًا… لا صوت سوى خفقان القلوب المثقلة، وزفرات مكتومة من صدرٍ لم يتعلّم البوح.
بعد نصف ساعة من القيادة، هدّأ “سليمان” السرعة، ثم ركن السيارة على جانب ممر حجري مبلّط بدقة، تحفّه الأشجار من الجانبين، وقال وهو يلتفت إليها بابتسامة خافتة:
– وصلنا خلاص… حمدلله على السلامة سلامة.
ردّت بصوت خافت، مكسور النبرة:
– الله يسلمك.
فتحت عيناها ببطء، وراحت تنظر عبر الزجاج إلى المكان الذي وصلا إليه، فتلقّاها مشهدٌ بدا وكأنه قطعة من الحلم.
كان الكومباوند فسيحًا، صامتًا، تحفه الأشجار المورقة من كل ناحية، والمصابيح الموزّعة بعناية تُلقي بضيائها الذهبي فوق الأرصفة النظيفة.
أمامها، كان منزل “سليمان” أشبه بجنّة مصغّرة.
جلسةٌ أنيقة في حديقةٍ مُزهرة، ورود من كل لونٍ تتمايل مع النسيم، شجيرات اللافندر تنثر عطرًا خفيفًا في الجو، والأرض مفروشة بعشبٍ أخضر ناعم، تتوسّطه طاولة خشبية وكنب مريح.
الطابق الأرضي مصمَّم كاستراحة مفتوحة، جدرانه من الزجاج تعكس الأضواء الداخلية، مما يمنح المكان شعورًا بالحيوية والرُقي.
فوقه، يمتدّ المنزل على طابقين، بألوان هادئة مريحة للعين: الأبيض الكريمي، والبيج، وأخشاب داكنة تُضفي دفئًا ناعماً… المكان بأسره يوحي بالحياة، والرقي، والأمان.
ترجّل “سليمان” من السيارة، وسابقها إلى الباب، فتحه بهدوء، ثم التفت ينادي:
– ماما؟ رنا؟
“رفيدة” وقفت عند العتبة، مترددة، تائهة بين أن تخطو أو تتراجع، بين أن تدخل أو تبقى خلف الخط الذي يفصلها عن دفءٍ لم تعهده.
التفت “سليمان” ونظر إليها بنظرة ثابتة، ثم قال بهدوء حاسم:
– ادخلي يلا… متخافيش.
في تلك اللحظة، خرجت سيدة خمسينية الملامح من الطابق العلوي، ترتدي ملابس منزلية أنيقة، وعلى وجهها ملامح أمومة خالصة، وتبعتها “رنا” بضحكة دافئة.
قالت الأم:
– أهلاً أهلاً يا بنتي… نورتِ البيت والله!
واقفة ليه بره كده؟ اتفضلي!
“رنا” أسرعت بخطواتها نحو الباب، وقالت بحماس:
– ادخلي يلا يا رفيدة! ده أنا متحمسة جدًا للسهرة سوا! وقعده البنات.
ابتسمت “رفيدة” رغم كل ما يعتمل في صدرها، خطت أول خطوة إلى الداخل… وكأنها تدخل حياة جديدة، غريبة، لكنها وللمرة الأولى… بدت مطمئنة.

+

 

حين خطَت “رفيدة” داخل المنزل بخجلٍ ظاهر وتردّدٍ مُنهك، كانت نظراتها مُشتّتة، كأنّها لا تدري أين تضع نفسها.
وفيما هي لا تزال واقفة على العتبة، تقدّمت منها السيدة “رباب” بخطًى حانية، وذراعاها قد انفتحا كحضن وطنٍ لمن أنهكته الغربة، ثمّ احتضنتها بقوةٍ أمومية صادقة، وقالت بصوتٍ ينساب دفئه إلى العظم:
– أنا خالتك رباب… أم سليمان.
كانت الجملة عادية في ظاهرها، لكنها ارتطمت بقلب “رفيدة” كقُبلةٍ من السماء.
تجمّدت لبرهة، كأن الزمن توقّف فيها، ثمّ… أحاطت خصر “رباب” بذراعيها، لا بعفوية، بل بيقين من ضياعٍ طويل.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية رابح وحور - حورية رابح الفصل الرابع 4 بقلم عليا خليل

+

لأول مرةٍ في حياتها…
تختبر معنى أن يُحتضن جسدها دون خوف،
أن تنتمي للحظةٍ دافئة،
لم يُضمّها أحد من قبل،
لا أمّ،
ولا أب،
ولا أخت.
لم تتذوّق يومًا طعم الطمأنينة التي تولد حين تلتقي الضلوع بضلعٍ آخر، يربّت عليها دون سؤال.

+

كان الحضن صامتًا،لكنه صاخب في داخلها…
كأنّه يشهق بجميع أحزانها دفعةً واحدة.
وما هي إلا لحظات، حتى بدأت الدموع تتدفّق كأنها لم تعرف طريقها من قبل،
بكت بصوتٍ عالٍ، لا لضعفٍ عارض، ولا لهول ما مرّت به،
بل لأنّ كل خليةٍ فيها تذكّرت أنها يتيمة،
أنها عاشت عمرًا بلا دفء،
بلا ضمّة،
بلا مأوى شعوريّ.

+

أمّا “سليمان”، فوقف مذهولًا، يظن أنّ بكاءها هذا وليد الموقف، أو ارتداد متأخّر للصدمات التي عاشتها منذ ساعات.
ورنا كذلك، تبادلت النظرات مع أمها، تظن أن “رفيدة” تنهار أخيرًا…
لكن الحقيقة كانت أعمق من كل ما ظنّوه.
“رفيدة” كانت تبكي…
لأنها تذوّقت لأول مرةٍ في حياتها حضنًا يُشبه الحنان.
حضنًا لا يحمل واجبًا،
ولا شفقة،
ولا استعطافًا،
بل دفءً خالصًا، نقيًّا، كأنّه مخلوق لها.

+

وظلّت “رفيدة” في حضن “رباب” دقائق طويلة،
لم تُرد أن تنتهي.
كانت تضمّها بشدّة، كأنّها تخشى أن تفرّ منها اللحظة، أن تستيقظ فتجد كل ما جرى مجرد وهم.
كأنّها تحتضن الحياة ذاتها… الحياة التي لم تعرفها قط.

+

أما السيدة “رباب”، فضمّتها أكثر، بحنوّ الأمّ التي لم تُنجِب هذه الفتاة، لكنها شعرت نحوها بشيءٍ أكبر من الأمومة.
شعرت أنّ هذه البنت الغريبة بحاجةٍ إلى دفء،
إلى بيت،
إلى صدرٍ يُربّت عليها دون شرط.

+

خرجت “رُفيدة” من حضن “رباب” أخيرًا، وكأن قلبها قد أثقلته الذكرى، لكنه أراد أن ينجو، ولو لوهلة.
طبطبت “رباب” على ظهرها بحنوّ أمٍّ طالما اشتاقت إليه، ثم أدخلتها إلى الداخل، وتبعتهما “رنا”، بابتسامة دافئة.
– “نورتينا النهارده يا رُفيدة يا بنتي… متتحرجيش من حاجة ولا من حد، إحنا زي أهلك يا بنتي.”
كانت الكلمة كصخرة هوت على قلبها، صدمة عنيفة لا تُحتمل.
أهلها؟
يا ليتهم كانوا كما تقول…
لكنها لا تعرف أهلها، أولئك الذين تركوها عند باب الميتم، كأنها لا شيء…
لا يد حنونة، لا حضن، لا وداع… فقط رمقوها بنظرة، ومضوا.
سكتت.
ابتلعت غصّتها دون أن ترد، تشبّثت بصمتها وكأنه هو الأمان.
قالت “رنا”:
– “يلا يا رُفيدة، عاملة مكرونة وايت صوص خطيرة، ومعاها بقى أحلى وأطعم ستيك فراخ مشوي… بإيد ربروبة!”
ضحكوا جميعًا، حتى وإن كان في قلب “رفيدة” شيء لا يُضحك.
استأذن “سليمان” بهدوء:
– “خدوا راحتكم، أنا هاخد طقم من جوه وأروح الشقة اللي قصادكم، لو احتاجتوا حاجة كلّموني.”
وقفت “رُفيدة”، ونظرت إليه بنبرة رقيقة، لا تقصدها، لكن خرجت منها كما يخرج النسيم من بين أوراق الشجر:
– “خليك يا بشمهندس مع أهلك… أنا ممكن أبات في الشقة هناك لِبُكرة. وأنا كده كده… مليش نفس. الحمد لله شبعانة، مش هاكل.”
رفع “سليمان” حاجبيه وقال بصرامة فيها لطف:
– “رُفيدة… أنا قولت إيه؟ لو على البيات لوحدك، كنت حجزتلك في فندق.
وهتاكلي، مفيش حاجة اسمها مليش نفس. إنتي في الحفلة من بدري، وعدّى وقت طويل عن الغدا… أكيد جعانة.”

+

قالت “رباب” سريعًا:
– “خلاص بقى يا بنتي، بلاش إحراج زيادة كده، والأكل جاهز وهتباتي معانا هنا.”
ترددت قليلًا، لكنها رضخت لإصرارهم، ووافقت أخيرًا.
همّ “سليمان” بالانصراف، فهم أنّها قد تحتاج أن تأكل وحدها بالنقاب، لكنه فوجئ بها تقول بخجلٍ ونعومة، لازمت صوتها من اللحظة الأولى:
– “أكيد إنت جعان… لسه قايل أهو إن فات وقت على الغدا.”
توقف، نَظر إليها بدهشة خفيفة، لم يتوقع منها هذه الدعوة.
هي نفسها لا تعرف كيف قالت ذلك، أو لماذا بدت متمسكة به ألا يذهب، لكنها لم تر فيه أبدًا “أي رجل يبث بداخلها الرهبة والرعب”… بل شيء آخر، أمان نادر، لا يُشبه أحدًا.
وافق “سليمان”، وجلسوا سويًّا على المائدة.
في جوٍّ من الدفء، والمشاعر المربكة، وأشياء كثيرة أول مرة تعرفها “رُفيدة”.
اكتشفت أنها بالفعل جائعة… وأكلت، وربما لأوّل مرّة شعرت بطعم الطعام كما يجب.
وبعد انتهاء الطعام، نهض “سليمان”، شكرهم بلطف، ثم غادر إلى شقّته المقابلة.
اقتربت “رباب” من “رُفيدة” وقالت:
– “يلا يا حبيبتي، خدي بيچامة من رنا واقعدي براحتك، سليمان راح الشقة، متقلقيش، عمره ما هيدخل ولا ييجي من غير استئذان و…”
أوقفتها “رفيدة” بنظرة مطمئنة:
– “أنا واثقة في سليمان يا طنط… ومتاكدة من كده.”
فرحت “رباب” بكلماتها، وظهر ذلك في عينيها.
قالت “رنا” بمرح:
– “يلا يا رورو، أنا مجهزة بروجرام للسهرة يجنن!”
قامت “رُفيدة” بخجل، ودخلت معها، ناولتها “رنا” بيچامة شتوية دافئة، وقالت:
– “متقلقيش، دي جديدة… لسه كنت جايبة كذا واحدة يوم ما شوفتك في المول.”
أخذتها “رُفيدة” منها بلطف:
– “ممكن بس توديني الحمام وتعرفيني مكان القبلة؟”
أشارت لها “رنا” بالاتجاهات، ورافقتها، ثم تركتها تتوضأ.

+

توضأت “رُفيدة”، وصَلَّت العشاء…
بكامل الطمأنينة التي لم تعهدها يومًا.

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *