روايات

رواية نجوت بك الفصل الرابع عشر 14 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل الرابع عشر 14 بقلم مي مصطفي

 

البارت الرابع عشر

 

الفصل الرابع عشر “حين نطقتْ الغيرة بما أخفاه القلب”

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و-بكل خشوع-ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-

+

سليمان زفر، وحدّق فيها بثباتٍ وهو يتكلّم بهدوء:
– “خلّينا متفقين إننا الاتنين غلطنا. أنا غلطت، أيوه… بس يشهد ربنا إني عمري ما كنت ناوي أبعِدِك عن أهلي فعلًا. كان تهديد، مجرد تهديد… علشان ما تتنازليش. لكن انتِ… غلطك أكبر. مهما كانت نيتك، التنازل ده مكنش حل.”
رباب قاطعته بنبرة حازمة، محاولة إنهاء النقاش:
– “خلاص بقى… اللي فات مات. بلاش نفتح جراحه تاني. اتعلمنا، وكلنا أخدنا درس. خلينا في اللي جاي.”
ثم التفتت إلى رفيدة، وحنان الأم يسكن صوتها:
– “يا بنتي، بلاش الشغل ده. ولو المسألة مسألة فلوس، ده حقك. خدي جزء من مرتبك، هيكون أكتر من شهر شغل في المطعم. وإحنا مش بندِّيكي صدقة، لا… مهندسين كتير بياخدوا سُلفة على شغلهم مش جزء من مرتبهم حتى، دي حاجة عادية.”
رفيدة بهدوء، لكن بإصرار:
– “بس يا طنط، أنا متفقة مع صاحب المطعم على شهر. مينفعش أسيبه كده فجأة، خصوصًا إنه وافق يخليني أشتغل بظروفي دي.”
سليمان تدخّل بحدة مكتومة:
– “ظروف إيه؟ هو بيدفعلك من غير شغل؟ ما أنتِ شغالة ومهدودة، وشغل يومي بيستنزفك. ولو سبتِيه فجأة مش هيحصل له حاجة…. ودي آخر مرة تعرّضي نفسك لحاجة زي دي.”
رفيدة بعناد:
– “أنا عارفة مصلحتي كويس، ومحدش هيخاف عليّا أكتر مني.”
سليمان بتهكّم:
– “واضح جدًا.”
رباب أدركت التوتّر الذي يخيّم على رفيدة، ووعَت أنّ رفضها للكلام لم يكن عنادًا، بل كان حياءً وكرامةً تأبى الانكسار. فتعمّدت أن تغيّر مدخل الحديث، تبحث عن ثغرة تلامس القلب دون أن تجرح الكبرياء.
وبصوتٍ ناعم مملوء بالمكر الحنون:
– “يعني يا بنتي، عايزاني أصدق إن ولا حد في الشغل حاول يلمّحلك بحاجة؟ لا معاكسات، ولا كلام، ولا لمز ولا مضايقات؟”
سليمان شدّ انتباهه فورًا، ركّز عينيه في عيني رفيدة، منتظرًا ردّها.
رفيدة صمتت، وبدأت تفرك في يديها.
سليمان بصوت مشحون بالغضب:
– “ردي، سكتي ليه؟”
رفيدة نظرت له بعيون دامعة، ولم تنطق.
رباب ضمّتها لصدرها وقالت برجاء:
– “علشان خاطري… بلاش الشغل ده.”
رفيدة هزّت رأسها موافقة، صوتها بالكاد يُسمع:
– “حاضر… بكرا إن شاء الله، بعد الشغل، هعدّي على صاحب المطعم وأبلّغه. مش حابة أسيبه من غير ما أقدم عُذر .”
رباب ابتسمت:
– “ماشي يا حبيبتي. قومي ارتاحي شوية.”
سليمان تدخّل:
– “هي هتيجي معانا.”
رفيدة انتفضت، بعناد متألم:
– “لأ… أنا هقعد هنا، مش هتحرّك.”
سليمان، بنفاد صبر مشوب بالعقلانية:
– “يا الله! أي اعتراض عندك وخلاص… اعرفي السبب الأول. الباب مكسور، ومفيش نجّار دلوقتي يصلّحه. الفجر قرّب يأذن، ومش أمان تباتي لوحدك في شقة بابها مفتوح.”
رفيدة، بصوت محمّل بالعِتاب:
– “محدّش قالك تكسّره.”
سليمان عضّ على شفته السفلى، وهي حركة لا تفارقه حين يحاول كبح غضبه، ثم قال بنبرة مشحونة:
– ” صدقيني مش الباب بس اللي كان يستاهل الكسر.”
رفيدة نظرت إليه بدهشة، بينما انطلقت ضحكة مفاجئة من رباب ورنا حين فهمتا قصده.
رباب قالت:
– “يلا، هنمشي.”
رنا اقتربت من رفيدة وسحبت يدها بحنين:
– “يلا بقى، وحشتيني قوي.”
نزلوا سويًّا. سليمان شدّ الباب قدر المستطاع ليتركه مواربًا، ونزل خلفهم. في السيارة، كانت رفيدة تقاوم النوم، لكن الإجهاد انتصر، وغفت في مكانها.
سليمان راقبها من المرآة، حزن عميق يسكن عينيه. همس لرنا:
– “رنا… إعدّلي رأسها، رقبتها مش مرتاحة.”
رباب تأمّلت وجه رفيدة وقالت بأسى:
– “نامت… حبيبتي اتبهدلت أوي. عندها كرامة وعزّة نفس فوق ماحد يتصور.”
رنا عدّلت وضع رأسها بلطف، لكنها كانت غارقة في النوم، لا تشعر بشيء.
حين وصلوا، حاولت رباب ورنا إيقاظها:
– “رفيدة، قومي يا حبيبتي… نُدخل وتنامي جوه.”
رفيدة، بصوت واهن وألم ظاهر:
– “سيبوني… جسمي بيوجعني أوي.”
كلماتها جرحت قلب سليمان، ونبرة الألم في صوتها تخلّلت عظامه كالسكاكين. بعد محاولات، فتحت عينيها نصف فتحة، تتحرك بين الوعي واللاوعي.
رباب:
– “يلا قومي يا روحي، ندخل وتنامي على السرير.”
رفيدة هزّت رأسها، ونزلت. سليمان سبقهم بخطوات قليلة، لكنها كانت تسير وكأنها تحلم، تتمايل من التعب.
وفي لحظة، تعثّرت في حجر على الأرض، وكادت تسقط لولا أن جسد سليمان وقف كجدار أمامها، فاصطدمت به، ويدها أمسكت قميصه تلقائيًا، باحثة عن النجاة.
سليمان تجمّد في مكانه، قلبه خفق بارتباك، بينما كانت رفيدة تعتدل وتهمس بصوت ناعسٍ مكسور:
– “أنا آسفة…”
هو، دون أن يلتفت، قال:
– “ولا يهمّك… خدي بالك وأنتِ ماشية.”
دخلوا، ورفيدة ارتمت على السرير، يغلبها الإرهاق، وتغفو دون مقاومة.
سليمان دخل شقته، أغمض عينيه، وزفر زفرة طويلة، وكأن صدره كان محتقنًا منذ دهر.
– “مش فاهم… ليه فرحان؟ ليه مرتاح؟ يمكن علشان هي تحت سقف بيتي وفي أمان؟ أو يمكن علشان الأمور بدأت تهدى؟”
لكنه تذكّر وجهها المنهك، قلة الأكل، عزة نفسها، إحساسها بالقهر… شعور بالعجز انغرس في قلبه، وغصّة ثقيلة سكنت صدره لا يجد لها مخرجًا.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية زياد وميار - احببتك ولم تحبني يوم الفصل الرابع 4 بقلم رنا سعيد

3

 

في صباح اليوم التالي، استيقظ سليمان، توضأ وصلى، وارتدى ملابسه استعدادًا للعمل. وقبل أن يغادر، توجّه إلى شقة والدته، يطرق الباب بلطف احترامًا وحياءً من وجود رفيدة في الداخل.
فتحت رباب الباب بابتسامة واسعة:
– “ادخل يا حبيبي.”
ابتسم سليمان وقبّل يدها:
– “صباح الخير يا أمي.”
ربتت على يده بحنان:
– “صباح النور يا قلب أمك. تعالَى أدخل.
– “رفيدة صحت؟”
– “لسّه، نايمة كأنها قتيلة.”
هزّ رأسه بتفهّم وقال:
– “سيبيها، ما تصحيهاش. خليها تفوق براحتها، تاخد كفايتها من النوم. ولما تصحى، لازم تفطر وتأكل كويس. مش هوصّيكِ.”
– “حاضر يا ابني، مش محتاجة توصيه ربنا يعلم معزتها في قلبي كأنها بنتي فعلًا،الفطار جاهز تعالى أقعد أفطر.”
– “أنا صايم النهاردة إن شاء الله.”
ضحكت رباب ممازحة:
– “أحسن، أدبًا ليك!”
قبّل رأسها ثم غادر متجهًا إلى الشركة.
استفاقت رفيدة بعد نومٍ ثقيل، فتحت عينيها، ورفعت رأسها عن الوسادة، لتُصدم حين رأت الساعة: تأخرت عن العمل بثلاث ساعات كاملة!
قفزت من سريرها فزعًا، وبدأت ترتّب نفسها بسرعة. وفي طريقها إلى الخارج، لمحَتها رباب.
رباب قالت بابتسامة دافئة:
– “صباح الخير يا حبيبتي. نوم الهنا.”
ردّت رفيدة بسرعة:
– “صباح الفل يا طنط… ليه ما صحّيتينيش؟ اتأخرت جدًا!”
– “سليمان قال لي أسيبك تنامي براحتك تعالي أفطري يلا.”
– “فطار إيه لأ، لازم أنزل فورًا… أنا لسه هطلب تاكسي.”
– “اطلبي التاكسي، بس لازم تفطري الأول. مفيش نزول من غير أكل، ده عيب في حقّنا. وسليمان المدير، وانتي بتجري كده؟”
ضحكت رباب، بينما ابتسمت رفيدة بخجل، وجلست تفطر على عجل..وما إن وصلت السيارة حتى نزلت على الفور.

+

وصلت إلى الشركة، وما إن دخلت حتى أُبلغت من قِبل موظف الاستقبال أنها مطلوبة في مكتب الحسابات.
دخلت، لتجد أن نصف راتبها قد صُرف لها، ومعه إخطار يفيد بإمكانية صرف المرتب كاملًا إن أرادت. حين نظرت إلى المبلغ، اتسعت عيناها… لم تكن تتخيّل أن يكون بهذه الضخامة.
حملت الظرف، وذهبت إلى مكتب سليمان، استأذنت، فأذن لها بالدخول. وقبل أن تدخل، كانت السكرتيرة تهمّ بإغلاق الباب، فقالا سويًا بصوت واحد:
– “لا، سيبيه مفتوح.”
نظرت إليه بابتسامة خفيفة وقالت:
– “كنت جاية أشكرك.”
ورفعت الظرف أمامه.
– “مفيش داعي للشكر، ده حقّك.”
– “بس أنا مكنتش متخيلة المبلغ ده خالص.”
ابتسم بابتسامة هادئة وهو يرد:
– “ما تقلقيش، دي فلوسك ومرتبك، أنا ما زوّدتش حاجة. وانتي ماضية عقد بالمبلغ، عندي نسخة منه لو حبيتي تتأكدي.”
ابتسمت من خلف النقاب، وقد أدركت أنه يعرف طريقة تفكيرها، ويقدر قلقها.
– ” أحم…لا… مفيش داعي، أنا مصدّقاك.”
أخرجت مبلغًا من الظرف ومدّته إليه:
– “اتفضل.”
نظر إلى المال باستفهام:
– “إيه ده؟”
– “ده تمن الفستان اللي عجبني. وانت وعدتني…”
قاطعها بلطف:
– “أنا عند وعدي، بس قلت لما تقبضي المرتب… آخر الشهر هاخده”
– “أنا المبلغ اللي معايا دلوقتي كبير جدًا، يكفيني لشهور الحمدلله ..فـَـ … أرجوك، خده علشان أرتاح.”
قالتها بصوت يجمع بين الكرامة والانكسار. لم يحتمل رؤيتها بذلك الضعف، فأخذ المال دون تردد، كي تشعر بالقوة والاستقلال.
– “تمام.”
أومأت برأسها، واستأذنت للخروج. قضت يومها في العمل، وبعد انتهاء الدوام، كانت تهمّ بالمغادرة حين تفاجأت بسليمان واقفًا أمام الشركة، مستندًا إلى سيارته.
أول ما رآها، أعتدل وقال:
– “يلا.”
– “يلا فين؟”
– “مش رايحة للمطعم تبلغيهم؟”
– “آه، رايحة.”
– “تمام، أنا جاي معاكي.”
– “ليه؟”
– “انتي قولتِ إن كان في مضايقات، ووجودي معاكي أمان. وبعدين، النجار هييجي يصلّح الباب، ومينفعش تكوني لوحدك، ولا تقعدي في شقة بابها مكسور.”
هزّت رأسها موافقة، وركبت السيارة، وأعطته العنوان. وفي الطريق، توقف أمام مطعم وجبات سريعة، وقال:
– “خليكي في العربية، دقايق وجاي.”
عاد بعد دقائق، وفي يده كيس تفوح منه رائحة شهية. جلس ومدّ الكيس لها:
– “اتفضلي.”
– “إيه ده؟”
– “ريحته تغني عن أي سؤال.”
– “عارفة إنه أكل… بس ليه؟”
– “عارف إنك أول ما توصلي هتقعي من التعب ومش هتفكّري تطبخي أو تاكلي. المطعم بعيد، ومش فاهم إيه اللي رماكي هناك. كُلِّي وانتي في الطريق، ولما توصلي نامي براحتك، بس المهم تكوني أكلتي.”
نظرت إليه بشكر وإمتنان كانت قد افتقدته طويلًا منه الفترة السابقة، وهمست:
– “شكرًا.”
فتحت الكيس، ووجدت سندويتشًا واحدًا. نظرت إليه باستغراب:
– “إنت مجبتش لنفسك؟”
– “صايم.”
ابتسمت بخفة:
– “أحسن!”
ضحك على طفولتها، بينما بدأت تأكل. كان سندويتش شاورما، ولأول مرة تتذوّقها في حياتها، فاستلذت بطعمها. وأثناء تناولها، سقطت نقطة من الثومية على فستانها، فوضعت الطعام جانبًا.
سليمان لاحظ، فسحب منديلًا مبللًا من المسند، ومدّه لها:
– “خدي، امسحي بيه.”
– “شكرًا.”
وصلوا إلى وجهتهم. كان المكان شعبيًا مزدحمًا، مليئًا بالقهاوي والضجيج. نظر إليها بعتاب مكتوم:
– “ده مكان تشتغلي فيه؟ وفي وقت متأخر؟”
– “ده الوحيد اللي وافق يشغّلني.”
كظم غضبه، وقال بحدة:
– “اتفضلي انزلي.”
نزلت، وهو خلفها كظلّها. دخلت المطعم، وتحدّثت مع صاحبه، تعتذر عن عدم قدرتها على الاستمرار.
ابتسم الرجل وقال بعفوية:
– “على أد ما أنا زعلان، بس الحمد لله إن أمورك اتحسّنت، وهتبطلي الشغل اللي مش من قيمتك ده وبهدلته. بالرغم إنك يا وش السعد، هتقطعي بينا. من يوم ما أشتغلتي والمطعم بقا شغال أضعاف قبل كده. ده كله علشان عيونك… مكنتش لاحق على العرسان، المصريين والأجانب!”
سليمان كان يغلي كبركان على وشك الانفجار، وقال بصوت منخفض حاد و بفحيح الغضب همس:
– “يلا.”
خرجت وهي تشكره، وركبت السيارة. لكنه ما إن أغلق الباب حتى انفجر:
– “عجبك المنظر ده؟! فرحانة إن الرجالة ملمومه حواليكِ والعيون كلها عليكِ؟! ليه تعرضي نفسك كده؟ ليه تسمحي تكوني فُرجة لكل من هبّ ودبّ؟!”
ضرب مقود السيارة بعصبية، صوته يرتجف:
– “وما خفي كان أعظم!”
رفيدة، بعينين دامعتين، وبكاء مقهور:
– “كنت أعمل إيه يعني؟ كنت لوحدي، ومفيش فلوس، ومش همد إيدي لحد! اتحمّلت كلام ونظرات علشان أعيش بكرامتي!
لو سمحت بلاش كلامك واتهاماتك دي وأنت معشتّش رُبع اللي عيشته”
صمت سليمان، وألمه يقطر من عينيه. همس نادمًا:
– “خلاص… أنا آسف. بس… مش قادر أستوعب الموقف كله.”
مرّت لحظات من الصمت، ثم بدأ يتحرك بالسيارة، يتصل بالنجار.ويصلون إلى السكن .
قال لها وهما يصعدان السلم:
– “ادخلي ارتاحي، ما تخرجيش من الأوضة لحد ما نخلّص تصليح.”
أومأت بتفهّم. وبعد ساعة، سمعت صوت سليمان يشكر النجار، ثم نادى عليها:
– “رفيدة!”
خرجت، فوجدته واقفًا عند الباب، ناولها المفاتيح الجديدة.
– “كده الباب تمام. خدي المفاتيح.”
– “شكراً… بس حسابه كام؟”
نظر إليها بحدة وقال:
– “من أتلف شيئًا، فَـ عليه إصلاحه.”
ثم استدار وقال:
– “تصبحي على خير. اقفلي على نفسك كويس… يلا، سلام.”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية أحلام ودت لو ترى الفصل الثاني 2 بقلم ولاء عمر

2

 

 

 

تتوالى الأيام على “رفيدة” و”سليمان”، وتتسع هوة المشاعر بين ما يشعران به وما يُفصحان عنه. في البدء كان الأمر محض تقدير، محض نخوةٍ يليق برجل لم يعتد ترك امرأة وحدها في غربة، ثم… صار شيئًا آخر.
بات قلب “رفيدة” ينبض بعنفٍ كلّما التقت عيناها بعينيه، وكلّما تذكّرت موقفًا جمعهما، أو لمحة حنان خفيّة في صوته، أو نظرة لم تُوجَّه لغيرها. صارت تفاصيله الصغيرة تُرافقها كظلّ لا يغيب، وحديثه يرنّ في أذنيها حتى وهي بين الزميلات.
تسأل نفسها ألف مرة: ما سرّ هذا الرجل؟ لماذا بات حضوره أمانًا، وغيابه فراغًا لا يُملأ؟
أما هو، فحاله لم يكن بأقل اضطرابًا.
“سليمان” الذي عاش دومًا بعقلٍ راجح، وهدوءٍ لا يُهدَّد، صار يجد قلبه في اضطراب كلّما لمحها تمرّ، أو رأى عينا موظفٍ تُطيل النظر نحوها.
هي لم تَطلب شيئًا، لم تَسعَ للفت الأنظار، بل كان حياؤها أشدّ ما يجذب الأبصار.
عيونها… تلك التي لمحها أول مرة على ضوء الفلاش وهي ترتجف في المخزن، باتت تسكنه، وتُلاحقه في يقظته قبل منامه.
صار يتحجج باجتماعات واهية فقط ليراها.
صار يجعل والدته تتصل بها كل يوم لتطمئن، وهو يختبئ خلف غطاء “الواجب”، بينما قلبه يلهج بالدعاء أن تكون بخير، أن تكون بخير فقط.
ومع ذلك، ظل يُقنع نفسه:
“أنا بس مهتم علشان هي من بلدي… بنت غريبة ومالهاش حد… واجب عليا.”

+

لكن “رباب”، بقلب أم لا تخفى عليه نبضات ولدها، رأت ما لم يره هو.
رأت اللمعة الخافتة في عينيه حين يذكر اسمها، وشرارة الغضب التي تتوهج في وجهه كلّما سمع من يشير إلى جمالها.
وفي ليلة هادئة، أرادت “رباب” أن تضع مرآة أمام قلب ابنها… أن تدفعه ليُبصر ما يحاول أن يُنكره.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية حتى وإن لم تكن لي - وتين وكريم الفصل الأول 1 بقلم تقى الغندور

+

في مساءٍ هادئ، كانت نسائم الشتاء تتسلّل عبر النوافذ، حاملةً شيئًا من الطمأنينة على غير العادة. تجمّع أفراد العائلة في ركنٍ دافئ من البيت، كوبٌ من الشاي في يد “رباب”، وضحكات خفيفة تتسلل من “رنا”، أما “سليمان”، فقد بدا شاردًا، يجاهد ألا يُظهر ما يعتمل داخله من نارٍ متقدة لا يعلم مصدرها على وجه اليقين.
لم تكن رباب، بقلبها الأموميّ ونظرتها الفاحصة، غافلةً عن تلك الشرارات المختبئة في عينيه كلما ذُكرت “رفيدة”، ولا عن تغيّر نبرة صوته حين يهمس باسمها. كانت تقرأه كما تقرأ سطور كتابٍ ألفته.
ابتسمت ابتسامة خبيثة ذات أنوثةٍ خبيرة، وقلبت رشفة الشاي على مهلٍ قبل أن تقول بنبرة فيها شيء من العبث:
– “صحيح النهارده… أمال أمّ عُدي كانت بتكلمني وبتقول إنها عايزة تجوّزه من مصر. مفيش هنا بنات على مزاجها، وبتفكّر تنزل تشوف له عروسة، وبلغت أهلها يدوروا له على بنت محترمة وهادية كده…”
ثم نظرت إليه نظرة خاطفة، كأنها تلقي بطُعمها الأخير:
– “الحقيقة أنا جيه في بالي رفيدة… بنت جميلة، مؤدبة، وفي الغربة لوحدها… مناسبة جدًا لعُدي.”
ما إن أنهت جملتها حتى انقلب وجه “سليمان”، واحمرّت ملامحه كمن لُسع بنار، وهبّ واقفًا كأن الأرض قد ضاقت تحت قدميه:
– “لأ يا أمي!”
تظاهرت بالدهشة، وقد اتّقد مكرها في ملامحها:
– “ليه يا حبيبي؟ عُدي شاب كويس، ورفيدة بنت زي القمر وأدب، وهي محتاجة حد يساندها بدل القعدة لوحدها هنا… يعني شايفة إنهم لايقين على بعض…”
ردّ بنبرة محتقنة، وقد بدأ صوته يعلو عن المعتاد:
– “رفيدة لسه بتبدأ حياتها، ومش بتفكر في الجواز دلوقتي! عندها شغل وأحلام وبتدور على الاستقرار النفسي والمعنوي الأول…”
رباب، وقد أحسّت أن سهمها أصاب الهدف، تابعت الضغط:
– “ما يمكن توافق! نسألها ونشوف، ولو فيه حتى بصيص، نخليه يتقدملها… ويقعد معاها رؤية شرعية…”
كأن نارًا سُكبت عليه، انتفض كمن صُفع، وتغيرت نبرته من الغضب إلى الحنق:
– “مفيش حاجة اسمها رؤية شرعية! مفيش! رفيدة مش للعرض! ولازم الموضوع ده يتقفل خالص!”
رنا، التي كانت تستمتع بإشعال مزيد من الزيت على اللهب، قالت بحماسة:
– “ده عُدي هيكون محظوظ جدًا… ده واخد ملكة جمال الأدب والذوق! أنا شخصيًا لو كنت ولد كنت اتقدمتلها!”
ضحكت ثم أردفت:
– “ده أمال أمّ عُدي بتدعيله في ليلة القدر!”
سليمان انفجر بعصبية، وقد صار صوته أشبه بصفير الريح قبل العاصفة:
– “هو إيه؟ انتوا جوزتوها خلاص؟! أنا قولت الموضوع ده يتقفل ورفيدة متعرفش عنه حاجة. خليها تستقر وتشوف شغلها وبس!”
ثم استدار فجأة، ودخل غرفته مغلقًا الباب بعنف. ثم يسند ظهره إليه وكأنّه يحمل فوق صدره جبالًا.
لماذا؟ لماذا اشتعل صدره حين سمع اسم رفيدة مقرونًا بأي رجلٍ سواه؟
لماذا شعر وكأنّ أحدهم سرق منه شيئًا لم يكن يومًا له؟
لماذا تشتعل الدماء في رأسه كلّما تخيّلها تبتسم لغيره، أو تُسأل إن كانت تقبل برجلٍ آخر؟
إنها حرّة، لم تعده بشيء، ولم تعترف له بشيء…
فلمَ الغيرة إذًا؟ ولماذا يشعر أنّ صدره ضاق عن الأرض ومن عليها؟
مرّر يده على وجهه، وسار نحو النافذة، فتحها، لعلّ الهواء البارد يُطفئ شيئًا من هذا اللهيب داخله،
لكن النار أعمق من أن تطفئها نسمة.
«أنا مجنون؟ ولا دي فعلًا… مشاعر؟»
همس بها لنفسه كمن يتهرّب من الاعتراف.
لكن صوت “رباب” ما يزال يرنّ في أذنيه… “عدي ورفيدة”…
الاسمان لا يجتمعان في قلبه أبدًا.
هو يعرف تمامًا، أنّ ما يشعر به لا يمتّ بصلة للـ”نخوة”.
يعرف أن رفيدة سكنت شيئًا أعمق من عقله…
سكنت وجدانه.
سكنت خياله.
وسكنت ليله وسكونه وهمس قلبه.
فكّر:
«هي بتحس كده زَيّي؟؟
بتفتكرني قبل ما تنام؟
في تفكيرها طول اليوم؟
بتتمنالي الأمان زي ما أنا بتمنالها؟»
ثم تمتم بصدقٍ موجِع:
– “أنا مش عايزها تكون لحد غيري…”
وتلك الجملة فقط… كانت كفيلة أن تزلزل يقينه.
إذن، لقد وقع.
دون أن يدري، دون أن يختار، دون أن يخطّط…
هو الآن واقعٌ بها.
————————————————————-

1

ـ فصل إضافي أهو زيّ ما طلبتوا.

+

ـ يلا أهو تفاريح قبل قنبلة نكد بكرا إن شاء الله 🤪

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *