روايات

رواية نجوت بك الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم مي مصطفي

 

البارت الحادي والعشرون

 

 

الفصل الحادي والعشرون”عيد ميلاد”

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-
رباب بصوت مبحوح:
أنا مش مصدّقة اللي حصل…
هي كانت كويسة…إزاي تنهار بالشكل ده؟
هي مبتحبش حتى تفتكر أي حاجة من الماضي، إزاي فجأة خرج منها كده؟
الدكتورة تتحدث برفق:
لأنها مكنتش “كويسة”، يا رباب…
كانت “ساكتة”.وفي فرق كبير جدًا.
رنا بإستفسار:
بس ليه دلوقتي؟ عمرها ما أنهارت بالشكل ده!
الدكتورة:
لأن عقلها كان بيحميها، حاطط بين الوجع وبينها مئات الجدران…لكن النهارده، الجدار وقع.
هي لأول مرة حست إنكِ، يا رباب، ممكن تمشي.
ومع الشعور بالفقد… العقل فكّرها بكل فقد قديم.
سليمان بصوت عميق مجروح:
يعني اللي حصل ده… مش بسبب الكلام اللي حصل بس؟ هي ما انفجرتش عشان فكرة البُعد بس؟
الدكتورة تهز رأسها:
الفكرة مش السبب بس…كانت الزناد.
نقطة الانفجار.
رفيدة عاشت في حالة تُسمّى كبت صادم ممتد.
جسمها وعقلها حبسو الذكرى علشان تعيش، تذاكر، تنجح، تتحرك وسط الناس من غير ما تنهار.
بس الكبت ما بيروحش… بيعيش جوّه الجسم، في العضلات، في التنفس، في الأحلام، في رد الفعل.
رباب بصوت منكسر:
وأنا اللي كسّرت الجدار…
أنا السبب إنها صرخت كده…
الدكتورة تقترب منها، وبنبرة حانية:
أنتِ السبب إنها بدأت تشفى.
أيوه، اللي حصل مؤلم، وعنيف، ومرعب…
لكن للمرة الأولى، الطفلة اللي جواها اتكلمت، صرخت، طالبت بالأمان.
وده، يا رباب، بداية الطريق الحقيقي للتعافي.
رنا بحذر:
بس… بعد ما نامت، قالت جملة غريبة.
قالت: “كنت شايفة كل حاجة… بس مش قادرة أصرّخ”.
ده معناه إيه؟
الدكتورة تتنهّد:
معناه إنها كانت بتتعرّض لصدمات وهي صغيرة، ودماغها فصل بين الجسد والوعي.
بتسمّى الحالة دي: الانفصال عن الواقع.
كأنكِ جوّا جسمك، بس مش قادرة تتحكّمي فيه.
كأنكِ بتتفرجي على اللي بيحصل، من برّا نفسك.
دي وسيلة دفاع، مخيفة… لكنها بتحمي الإنسان من الانهيار لحظتها.
سليمان بصوت منخفض موجوع:
يعني… هل ممكن ترجع زي الأول؟
الدكتورة بثقة هادئة:
مش هترجع “زي الأول”…
لكنها هتبقى نسخة حقيقية من نفسها، مش مزيّفة ولا خايفة.
لو قدرتوا تصبروا، تسمعوها، وتكونوا موجودين من غير ما تجرّحوها أو تزوّقوا الحقيقة…
رفيدة ممكن تخرج من ده كله أقوى من أي وقت فات.
رباب تهمس والدموع في عينيها:
هفضل جنبها…
مش هسيبها، أبدًا.
الدكتورة تبتسم:
وده كل اللي بتحتاجه دلوقتي.
وجود حقيقي… وحب غير مشروط.
سليمان ينظر نحو الدكتورة بتردّد، كأن سؤالًا يؤرّقه منذ البداية:
هي كانت مرّة عندها حالة شبه دي…
كان حصلها نوبة خوف، ووقعت من طولها… ولما فاقت، ما كانتش فاكرة حاجة.
ده طبيعي؟
يعني… إزاي تفتكر حاجات مرعبة بالشكل ده النهارده، وكانت قبل كده بتنسى كل حاجة؟

+

 

 

الدكتورة تتأمّله قليلًا، ثم تجيب بصوت عميق وموزون:
أوقات العقل بيقرر يقطع الوصلة تمامًا…
زي في حالتها وقتها.
الإغماء دا كان طريقة جسمها يقول “مش قادر أكمّل”.
ولما فاقت، كانت لسه الجدران واقفة.
كل حاجة اتقفلت، كأن اللي حصل مجرد حلم مش مفهوم، أو ضباب عدّى عليها بسرعة.
لكن اللي حصل النهارده مختلف…
الانفجار اللي حصل معاها دلوقتي كان أعمق، لأن الضغط النفسي اللي سبقُه كان مرتبط بـ”خوف جديد”…
خوفها من إنها تفقد الشخص اللي بتحبه وحست معاه بحب أمومي حقيقي.
المخ كان شايل، ومستني لحظة الكسر…
ولما حسّ إن رباب ممكن تبعد عنها، حسّ إن الحياة كلها بتكرر نفسها:
“كل اللي بحبهم بيروحوا… وكل مرة أنا الوِحيدة اللي بفضل”.
فالذكرى اللي كانت مدفونة طلعت، بس المرة دي مطلعتش في صورة إغماء،
طلعت في صورتها الأصلية صرخة مكتومة من سنين.
رنا بتنهيدة طويلة:
يعني اللي حصل لها زمان مكنش راح… كان مستخبي؟
الدكتورة:
بالضبط.
الصدمة مش بتموت، بتلبس وش تاني…
ساعة في شكل نسيان، وساعة في شكل ضحك زيادة، وساعات في صورة انهيار مفاجئ.
بس دايمًا بتفضل جوا الجسد…
بتستنّى لحظة واحدة بس علشان تخرج.
سليمان ينظر ناحية الغرفة حيث تنام رفيدة، والقلق في عينيه:
يعني… هي لسه جواها حاجات أكتر؟
ممكن يحصل أكتر من كده؟
الدكتورة بهدوء وصدق:
ممكن…
بس كل مرة بيكون الطريق أوضح، وجدار الخوف أضعف.
الشفا بييجي بالتدريج، وكل لحظة انهيار هي في الحقيقة لحظة صدق…
والصدق بداية العلاج.

+

ساد في المكان صمت ثقيل، كأن الليل ذاته قد عقد أنفاسه على أعتاب الغرفة. كانت رفيدة قد استسلمت لتأثير المهدئ، غارقة في سبات يحمل في طياته آثار الهلع والوجع. جلس سليمان في الركن المقابل، متكئًا إلى ذراعيه، شاردًا في وجه الغياب الذي اختبأ خلف جفنيها. التفت نحو الطبيبة فجأة، وعيناه تسألان قبل أن ينطق:
سليمان بصوتٍ خافت، يتردد بين الحذر والخوف:
طب… لو فاقت ومفتكرتش حاجة من اللي حصل…
المفروض نعمل إيه وقتها؟
نحكيلها؟
ولا نسكت ونستناها تسأل؟
رفعت الدكتورة نظرها إليه، بعينٍ تعرف هذا النوع من القلق عن ظهر قلب، ثم قالت بهدوء يشبه نسيمًا باردًا على صفحة ماءٍ راكد:
الدكتورة:
مينفعش نجبرّها تفتكر،.لو جواها لسه مش مستعد، أي محاولة هتكسّرها أكتر.
بس في نفس الوقت، منبعدش.
نفضل حواليها، ساندين، مطمّنين، من غير مانلحّ عليها.
سليمان يزفر ببطء، وبصوت مبحوح:
يعني… نسيبها كده؟
لو قالت إنها ناسية كل حاجة، نصدّقها؟
ابتسمت الطبيبة ابتسامة
الدكتورة:
النسيان مش دايم، بس الاستعجال بيوجّع.
لو هي اختارت تنسى، يبقى النسيان بالنسبة لها أمان.
اللي تقدر تعمله ساعتها…
إنك تبقى موجود، بس من غير أسئلة.
تبقى الحضن اللي يسند، مش الصوت اللي يفتّش.
سليمان يخفض رأسه قليلًا، كأن الكلمات نخرت في عمق قلبه، ثم يهمس:
يعني… الحضن؟
الحضن هو اللي ممكن ينقذها؟ مش الكلام؟
الدكتورة بصوت خافت، لكنه حازم:
أوقات الحضن بيقفل جرح الكلام يفتحه…
ساد لحظة صمت أخرى، كأن الجميع يستمعون لدقات قلبها النائم، أو يحاولون استباق ما قد تحمله اللحظة التالية. ثم عادت الطبيبة لتكمل، وقد انخفض صوتها أكثر، كأنها تهمس بسرٍ لا يحتمل الجهر:
الدكتورة:
ولما تهدى… وتفوق كويس…
لازم تبدأ تتكلم مع حد مختص.
مش بس علشان تفتكر، لأ…
علشان تعرف تتعايش من غير ما الخوف يختفِي فجأة ويظهر فجأة.
اللي حصل ده… محتاج يتفكك حتة حتة، بهدوء
سليمان بهمس قلق:
يعني… لازم تشوف دكتور؟ تقعد معاه؟
الدكتورة:
آه… جلسات منتظمة.
مش علشان فيها حاجة غلط، بالعكس…
علشان عقلها يستوعب، وقلبها يعرف يحط كل حاجة في مكانها من غير ما تتوجع تاني.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية حان وقت الأنفصال الفصل العاشر 10 بقلم نورا عادل

+

 

 

 

ساد الصمتُ بعد خروج الطبيبة، ولم يبقَ في الغرفة إلا أنفاس متقطّعة وحزنٌ يثقل القلوب.
أدار “سليمان” بصره في وجوههم، ثم قال بصوتٍ حازم يحمل دفء الحنان:
— “روحوا ارتاحوا، اليوم كان مُرهق عليكم… أنا هفضل جنبها، متخافوش عليها، هي واخده منوّم ومش هتفوق دلوقتي.”
لكن “رباب” التي كانت الدموع تلمع في عينيها، هزّت رأسها بعنادٍ مكسور:
— “لأ… أنا هفضل جنبها، مش قادرة أسيبها.”
اقترب منها سليمان وجلس إلى جوارها، واضعًا يده على كتفها برفق:
— “يا أمي، إنتِ تعبتي النهارده… بلاش تتعبي قلبي زيادة. بصي، نامي جنبها، بس بلاش بُكاء… السّكر يعلى عليكي، وأنا مش هقدر أتحمل تعب حد فيكم تاني.”
همست وهي تختنق بعبرتها:
— “غصب عني… أنا مش قادرة أتخيل العذاب اللي شافته وكتماه في قلبها السنين دي من غير ما تبوح لحد عليه… حسبي الله ونعم الوكيل فيهم، حسبي الله ونعم الوكيل في كل حد أذى بنت زيها… دي ملاك… يا رب، أنت العالم، خفف عنها يا رب.”

+

اقترب منها سليمان أكثر، ودمعة ثقيلة أفلتت منه، ليطوّقها بذراعيه ويقبّل رأسها:
— “صدقيني يا أمي، هتبقى كويسة… كلنا معاها، هنعوضها، وهنمحي كل حزن وذكرى وحشة عاشتها… بس لازم نكون أقوياء قدامها، علشان متحسش إن ده شفقة مننا.”
شهقت “رباب” كمن طُعن قلبها:
— “شَفقة!!… يشهد ربنا إن ده حب… ربنا العالم… أنا بحبها زي رنا وزيك، إزاي مكانتها في قلبي كبيرة أوي… وده زعل وقهر، مش شفقة أبدًا.”
— “طيب، أهدي يا أمي، علشان خاطري… أنا مبقتش قادر أتحمل، والله.”

+

عندها أدركت “رباب” أن ابنها على حافة الانهيار، فحاولت أن تتماسك لأجله؛ فما رأت في عينيه من كسرة وقهر لم تره فيه يومًا.
— “ارتاح يا حبيبي إنت كمان.”
— “أنا مش هرتاح غير لما تفوق وتبقى كويسة.”
— “إن شاء الله يا حبيبي… أنا هروح آخد العلاج وأنام شوية، ولو فاقت بالله عليك صحيني.”

+

أومأ برأسه، ثم التفت إلى “رنا”:
— “حبيبتي، معلش، اكلي ماما الأول قبل العلاج.”

+

خرج الجميع، وبقي “سليمان” وحيدًا معها. اقترب من سريرها، ومدّ يده يملّس على شعرها برفق، يهمس وكأنه يناجي روحها:
— “كده توجّعي قلبي عليكي بالمنظر ده؟ ليه ساكته ومش بتحكي ليا؟ ليه مش بتشاركي همّك معايا؟ صدقيني، هعوضك عن كل ده، وامحي كل ذكرى وحشة وجعتك… بس فوقي ليا، وارجعي تاني بروحك الحلوة.”

+

ظلّ يمسّد شعرها بيدٍ، وبالأخرى يقبض على كفّها الدافئ، حتى غلبه النعاس، فمال بجسده إلى جوارها وهو ما زال ممسكًا بيدها.

+

بعد ساعات، بدأ مفعول المهدئ يتلاشى، وفتحت “رفيدة” عينيها، لتجد رأس “سليمان” مستقرًا في حجرها. نظرت إليه بدهشة، وحاولت أن تتذكر كيف وصل إلى هنا، فهي آخر ما تذكره أنّها كانت في حضن “رباب”.
لكن فجأة تذكّرت… أمّها كانت على وشك أن تُفارقهم!

+

 

قفزت من مكانها بفزع، وصوتها يتشقّق:
— “ماما! ماما!”

+

انتفض “سليمان” على صوتها، ورآها تجري في الغرفة بعينين دامعتين، تكرر الكلمة نفسها: “ماما!”. أسرع خلفها، وأمسك يدها محاولًا تهدئتها:
— “اهدي، ماما كويسة…”

+

وفي تلك اللحظة، كانت “رباب” قد سمعت صراخها، فأسرعت إلى الغرفة بخوف أن تكون النوبة قد عادت. لمحَتْها “رفيدة”، فأسرعت إليها وارتمت في حضنها:
— “ماما، إنتِ كويسة، صح؟”

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية الملاك و القاسي الفصل السادس والعشرون 26 بقلم جنات

+

— “أنا كويسة يا قلب ماما، اهدي…” همست “رباب” وهي تمسّد شعرها وظهرها بحنان.
— “إنتِ كويسة يا حبيبتي، حاسة بإيه؟”
— “كويسة الحمد لله، بس مصدعة أوي…”

+

حينها، فهم الجميع أنّها نسيت مرة أخرى النوبة التي أصابتها. ابتعدت “رفيدة” قليلًا وهي تقول:
— “هعملك فطار علشان تاخدي العلاج.”
لكن “سليمان” بادر بصوتٍ مفعم بالقلق:
— “لأ، خليكي ارتاحي إنتي كمان.”
— “ليه؟” نظرت إليه باستغراب.
— “علشان تقعدي مع ماما وتطمني عليها… إنتِ كنتِ خايفة عليها امبارح.”

+

وبقيت “رفيدة” مع “رباب”، يتحدثون بهدوء حتى جاء وقت الفطور، فجلسوا جميعًا على مائدة جمعتها الألفة، وإن ظلّت قلوبهم مُثقلة بالحزن على ما مرت به.

+

مرّت الأيّام التالية ببطء، تتخللها لحظات حنانٍ لا ينقطع من “سليمان”، واهتمامه الذي كان يزداد يومًا بعد يوم. كان يحرص على أن يملأ فراغها بأمانه، وأن يحوّل خوفها إلى طمأنينة، حتى صار حضوره في حياتها كالمأوى من كل عاصفة. ومع ذلك، ظل هاجسٌ يلازمه: أن تبدأ “رفيدة” جلسات علاج تُعيد إليها ثقتها بنفسها، وتقوّي قلبها الذي أرهقته السنين.
أما هي، فقد كانت تغرق في حبه شيئًا فشيئًا؛ يملأ قلبها دفئًا، وعقلها طمأنينة، وروحها حياة.

+

وفي إحدى الأمسيات، كانت جالسة مع “رنا” كعادتهما، تتقاسمان الأحاديث الطويلة التي لا يقطعها إلا ضحكة أو تنهيدة. قالت “رنا” وهي ترفع حاجبها بابتسامة:
— “عيد ميلاد أبيه بكرا، عايزة أجيب له هدية.”
اتسعت عينا “رفيدة” بدهشة:
— “بجد؟ مقولتيش ليه يا رخمة من بدري!”
— “ليه يعني؟” سألتها “رنا” وهي تضحك.
— “علشان نعمله حفلة ومفاجأة.”
— “بس إحنا عمرنا ما عملنا حفلة… بتكون معايدة وهدية وخلاص.”
هزّت “رفيدة” رأسها بعزم:
— “لأ، ده أول عيد ميلاد ليه وإحنا سوا، لازم يبقى مميز.”
قهقهت “رنا”:
— “يسيدي على الحب! أوعدنا يا رب.”
احمرّ وجه “رفيدة” وهي تردّ بخجل:
— “بطلي رخامه… خلينا نفكر هنعمل إيه في الزنقة دي، دي أصعب من زنقة الامتحانات.”
— “ممكن تطلبي له هدية تجيلك دليفري، زي ما هعمل أنا، علشان أبيه ما يشكش.”
— “لا لا، عايزة حاجة مميزة… والوقت ضيق أوي.”
توقفت لحظة، ثم قالت وكأنها تخطط لعملية سرية:
— “لازم كده مروحش الشغل بكرا… بس الفكرة هقوله إيه؟ مش عايزة يشك في حاجة.”
— “ممكن تمثلي إنك تعبانة شوية ومش هتقدري تنزلي.”
ابتسمت “رفيدة” بمكر طفولي:
— “صح، فكرة يا رنوش… بس كده بردو معرفتش هعمل إيه.”
في تلك اللحظة، دخلت “رباب” وهي تقول بحزم الأم الحانية:
— “مش هتناموا بقى؟ بلاش سهر. وانتي يا رورو عندك بكرا شغل الصبح، ولا شكلك حابة زي كل يوم جوزك يجي يصحيكي؟ مفيش حد بيعرف يصحيكي غيره، نومك تقيل من كتر السهر.”
ارتبكت “رفيدة” قليلًا، ثم قالت بخفوت:
— “خلاص بقى يا ماما، أنا أصلاً بكرا مش هروح الشغل.”
— “ليه يا بنتي؟”
سألت “رباب” بقلق وهي تقترب منها.
ضمّتها “رفيدة” وهي تهمس:
— “إزاي متقوليش إن بكرا عيد ميلاد سليمان!
رباب بصدق وبدهشة:
-مجاش في بالي خالص إنك مش عارفة…ناويه تعملي ايه؟

+

 

– هتحجج إني تعبانة، وأعمله حفلة صغيرة ومفاجأة. عايزة عيد ميلاده المرة دي يكون مميز.”

+

ذلك الليل، لم يزر النوم جفونها. جلست على طرف الفراش تفكّر، تقلب الأفكار في رأسها كما لو كانت ترتّب أحجار لوحة فسيفساء. منذ زمن بعيد لم تصنع شيئًا كهذا، ولا حتى أدواتها متوفرة. تنهدت بامتعاض، ثم أمسكت هاتفها وبدأت تطلب ما تحتاجه عبر الإنترنت، تكتب في دفتر صغير قائمة الأفكار، تضع الخطة بعناية كما لو كانت على موعد مع معركة من نوع خاص.

+

وحين بزغ الصباح، دخل “سليمان” البيت ليجد أمه في المطبخ تُحضّر الفطور.
— “صباح الخير يا ست الكل.”
— “صباح الخير يا عيوني.”
سألها وهو يلتفت:
— “رفيدة لسه نايمة بردو؟”
ضحكت “رباب”:
— “مستنياك زي كل مرة تصحيها.”
ابتسم، وقال مازحًا:
— “أنا هدخل أشوف اللي تعباكي في الصحيان دي.”

+

فتح باب الغرفة، فوجدها متمددة، لكنها في الحقيقة كانت قد استيقظت منذ سمعت صوته بالخارج، فبدأت تمثّل التعب. اقترب وجلس على طرف السرير:
— “صباح الخير يا حبيبي… لسه صاحيه ولا إيه؟”
— “صباح النور… صاحيه من شوية.”

+

— “مجهزتيش ليه؟” عقد حاجبيه بإستفهام.
— “أصل تعبانة شوية، مش هقدر أنزل الشغل.”
انكمش قلبه في لحظة، وصوته صار ممتلئًا بالذعر:
— “تعبانة! مالك؟ حاسة بإيه؟”

+

ابتسمت وهي تحاول تهدئته:
— “مفيش حاجة، كويسة، بس مرهقة شوية… متقلقش.”
— “لو تعبانة، تعالي نروح نكشف.”
— “صدقني مفيش حاجة، بس كنت سهرانة مع رنا، وملحقتش أنام… ومرهقة أوي من السهر.”
قالتها بدلع وهي تنظر إليه بعيني طفلة بريئة.
تاه “سليمان” في نظراتها، وصمت وكأنه فقد القدرة على الرد. اقتربت منه أكثر، وأمسكت ياقة قميصه بجرأة لم تملكها إلا معه، وهمست:
— “سُلِيمان…”
ابتسم بذهول:
— “يالهوي على سُلِيمان منك… ده إنتِ مش كاسره اللام بس، ده إنتِ كاسرة قلبي بدلعك ده يا شقى قلب سُلَيمان والله.”
ضحكت واقتربت أكثر، عيناها تلمعان بدهاء رقيق:
— “يعني خلاص، النهاردة إجازة؟”
— “لو عايزة إجازة مدى الحياة… ومعاهم المدير نفسه، هكون راضي ٢٤ قيراط.”
طبعت قبلة على خده وهمست:
— “شكرًا لأحلى وأجدع جوز في الدنيا.”
— “تكّة دلع تاني ومش هتحمل… وهتهوّر أحلى تهوّر.”
احمرّ وجهها، ودفعته بخفة:
— “لا، وعلى إيه؟ يلا نفطر.”
خرجوا ليتناولوا الإفطار، وحين انتهوا، نظر إليها مازحًا:
— “يعني آخر كلام، مش جاية النهاردة؟”
— “مش أنا أخدت إجازة خلاص؟ وأتمضى عليها كمان.”
اقترب منها وهمس وهو يطبع قبلة على خدها:
— “هتوحشيني… كنت بتوحشيني وإنتِ معايا في الشغل، دلوقتي هتوحشيني أضعاف.”
تركها وخرج، فيما أخذت نفسًا عميقًا، تحاول استعادة اتزانها بعد تأثيره الساحر عليها، ثم شرعت في تجهيز المفاجأة.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية كبرياء بنت عمي الفصل الأول 1 بقلم زهرة الربيع

+

 

بدأت “رفيدة” و”رباب” و”رنا” منذ الصباح ينسجن خيوط الفرح بخفة ومرح، يعلّقن الزينة في كل زاوية، حتى صار المكان يتلألأ بألوان دافئة تهمس بالاحتفال. كانت “رفيدة” تدور حول نفسها، تلتقط شيئًا من هنا، وتضع لمسة من هناك، وهي تصرّ بعناد طفولي أن تصنع الكعكة بنفسها، مؤكدة أن كل شيء في هذا اليوم يجب أن يحمل بصمة يدها.

+

دخلت المطبخ، وشرعت تُعد المكوّنات بعناية، وكأنها تضع في كل خطوة من خطواتها شيئًا من قلبها. ومع كل خفق، كانت مشاعرها تنسج طبقات الكعكة، ومع كل لمسة كريمة كانت تضيف حبًّا لا يُرى. وحين انتهت من تزيينها، التفتت نحو الفتاتين وقالت بابتسامة خجولة:
— “أنا هدخل أجهّز هدية سليمان.”

+

تبادلتا نظرات الاستغراب، فقالت “رنا” ممازحة:
— “مش الهديّة وصلت؟ مش ده البوكس اللي جالك؟”
احمرّ وجه “رفيدة” وهمست بإحراج:
— “لا… دي هدية تانية… خاصة… ومميّزة… هعملها بنفسي.”

+

لم تسألا أكثر، فقد أدركتا أن للأمر طابعًا شخصيًّا. دخلت غرفتها، وانغمست في العمل عليها ساعات طويلة، حتى تجاوز الوقت أربع ساعات كاملة. وفيما كانت منهمكة، جاءت “رنا” تطرق الباب بلطف:
— “رورو… ميعاد أبيه قرب… لو هتجهزي.”

+

فتحت “رفيدة” الباب بفزع خفيف، وقالت وهي تتنفس بسرعة:
— “يا خبر! معلش يا رنوش… جهزيلي الطقم اللي هلبسه على ما أخد شاور بسرعة.”

+

وبعد لحظات، خرجت وقد اكتملت هيئتها كلوحة متقنة. كان الفستان الأخضر الهادئ ينساب على جسدها كنسيم ربيعي، تتناثر عليه نقاط بيضاء صغيرة تمنحه حيوية رقيقة. أزرار خشبية تزين منتصفه من أعلى لأسفل، وصدر مربع تحيطه كشكشة أنثوية، وأكمام قصيرة مجعدة تزيد من براءة الطلة. حزام خفيف من نفس القماش يلف خصرها فيبرز انحناءاته برشاقة، فيما تتمايل التنورة حول ساقيها بانسيابية حالمة. مع صندلها الأبيض البسيط، بدت كزهرة برية هادئة في صباح أخضر.

+

حين خرجت، لم تستطع “رباب” إخفاء إعجابها:
— “ما شاء الله يا حبيبتي… زي القمر.”
ابتسمت “رفيدة” بخجل:
— “تسلمي يا أحلى ماما… دي عيونك الحلوة.”

+

أخذن الكعكة ووضعنها في منتصف الطاولة، أضفن حولها الورود والشموع، وأكمَلن التجهيزات. فجأة، همست “رنا” بعجلة:
— “أبيه وصل… أبيه وصل!”

+

أطفأن الأضواء، ووقفن في أماكنهن. وما إن فُتح الباب، حتى دخل “سليمان” وسط العتمة، ثم أضاء النور فجأة ليجدهن أمامه يغنين بصوت واحد “هابي بيرث داي”، والمكان متزين بلمسات دافئة تفيض حبًّا.

+

ارتسمت على وجهه ابتسامة طفل يتذوق أول فرحة في عمره. اقترب منهن، يتلقى التهاني من كل واحدة على حدة. وحين وصلت “رفيدة” أمامه، همست:
— “كل سنة وأنت طيب.”

+

لكنه لم يكتفِ بالكلمات، بل جذبها إلى حضنه بقوة، ودفن رأسه في عنقها، كأنما يختبئ من الدنيا في هذا المرفأ. مررت أناملها على شعره برفق، وهمست في أذنه بصوت مرتجف:
— “كل سنة وأنت الحاجة الحلوة اللي في حياتي… كل سنة وأنت أجمل رزق ربنا رزقني بيه.”

+

شدّ عليها أكثر، كأنما يخشى أن تتلاشى اللحظة، وقال بنبرة مفعمة بالامتنان:
— “ده أحلى عيد ميلاد في حياتي… وأحلى مفاجأة.”
ابتسمت:
— “لسه المفاجآت مخلصتش.”

+

ظلت يداها في يديه، حتى وصلا إلى الطاولة التي تزيّنت بالكعكة التي صنعتها بيديها. التفت “رباب” إلى ابنها وقالت بفخر:
— “رفيدة أول ما عرفت بعيد ميلادك وهي ما قعدتش… كل حاجة عملتها بإيدها حتى الكيكه .”

+

رفع يد “رفيدة” وقبّلها بحنان، ثم قبّل جبين أمه وأخته:
— “ربنا ما يحرمني منكم… أنتم سعادتي في الدنيا.”

+

ضمّهم جميعًا في حضن واحد دافئ، كأنما يختصر كل مشاعره في تلك اللحظة.

+

امتدت السهرة في ضحكات وأحاديث، حتى اقترحت “رنا” بحماس:
— “مينفعش العيد ميلاد يعدي من غير رقصة ليكم.”

+

شغّلت أغنية رومانسية، فتقدم “سليمان” نحو “رفيدة” التي احمرّ وجهها خجلًا، وأمسك يدها برفق. قاومت في البداية، لكنها شيئًا فشيئًا ذابت بين ذراعيه. كانت عيناه لا تفارق عينيها، ويده تحيط خصرها، يقربها منه ببطء، فيما اليد الأخرى تحتضن يدها بحنان. نسيت كل شيء وهي تنظر إليه، وكأن العالم قد انكمش حتى صار بين حدقتيه.

+

——————————————————
– لسه فصل كمان ونقول باي باي مؤقتًا لِـ الرواية.

+

– يا ترى إيه الهدية التانيه اللي رفيده كانت بتعملها في الاوضه ومحدش عارف ؟

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *