رواية نجوت بك الفصل الحادي عشر 11 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل الحادي عشر 11 بقلم مي مصطفي
البارت الحادي عشر
الفصل الحادي عشر “حين اتّسعَ القلبُ دفئًا”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
+
كان اليوم الأول في فسحتهم بالعاصمة البريطانية، وكان لا بدّ من أن تكون محطته الافتتاحية في إحدى أجمل حدائقها…
هايد بارك.
في قلب لندن، بين الأشجار العتيقة والزهور المتناثرة على امتداد النظر، جلسوا في حلقة عائلية دافئة، فوق بساط صغير فرشوه تحت ظل شجرة وارفة، والنسيم العليل يراقص أوراق الشجر حولهم بلطفٍ شاعريّ.
كانت الضحكات تتردد بخفّة، والحديث يدور بلا تكلف… بين ذكريات مصر، ودهشة الاكتشاف لبلدٍ جديد.
تملأهم الألفة، كأن لا شيء ينقص هذا المشهد إلا أن يتوقف الزمن قليلًا ليحتفظوا به.
تلفتت “رنا” بعينين تتلألأ فيهما البهجة وقالت بنبرة مشاكسة:
— “يلا يا رفيدة، شايفة المرجيحة اللي هناك دي؟ كنت جربتها قبل كده، خطيرة القعده عليها بجد! قعدتها مريحة أوي والهوا هنا ينعشك.”
نظرت “رفيدة” حيث أشارت، لتراها…
مرجيحة خشبية جميلة، تتدلّى من غصن عالٍ، ومزينة بإكليل من الورود الوردية والبنفسجية، يتخللها ضوء الشمس الهادئ.
خلفها… ينساب نهر صغير، مياهه كالكريستال، تعكس زرقة السماء وتداعب ضفّتيه خيوط الضوء.
ابتسمت رفيدة من أعماقها، وتحمّست لأول مرة منذ زمن.
قامت مع “رنا”، واقتربتا من المرجيحة، وجلستا…
وغمضّت “رفيدة” عينيها، وسرحت في لحظةٍ نادرةٍ من السكون.
نسيمٌ لطيف مرّ على خدّها…
ورفرف نقابها وخمارها في رقصٍ وديع…
تطايرت أوراق الشجر حولهنّ، كأنها تُشاركهن الفرح…
في الخلف، كانت “رباب” تراقبهما، وابتسامة حانية تلوّن ملامحها:
— “أنا رفيدة دي واخدة مكان في قلبي غريب… أول مرة أحب وأتعلق بحد كده بسرعة.
ربنا رزقها قبول مش طبيعي… سبحان اللي بيزرع المحبة في القلوب.”
تنهدت ثم أردفت بهدوء:
— “فعلاً، ربنا مش بيدي كل حاجة، بس عادل…
رزقها بجمال وقبول، لكن دايمًا بحسها مكسورة…
جواها حزن… كأن قلبها مش مطمئن.
ربنا يعوضها خير، يا رب.”
كان “سليمان” يسمع حديث أمه في صمت…
وسرح بذهنه، يتساءل:
ما هو الجزء المكسور من حياة تلك الفتاة الهادئة؟
ما سرّ كوابيسها؟
وما الذي أرهق قلبها قبل أوانه؟
رفع “سليمان” عينيه ينظر نحو المرجيحة…
لم يقصد التحديق، لكنها كانت نظرة عابرة،
فلمح شيئًا بعثر سكونه…
نسمةٌ جامحة ارتفعت فجأة، فحرّكت طرف ثوب “رفيدة”،
وبما أنّها كانت قد خرجت على عجل، بعد فترة من التجبير الذي قيّد حركتها، لم تكن قد أضافت ما يستر ما قد يُكشف مع الريح،
فانزاح الثوب قليلاً كاشفًا عن جزء من ساقها التي لم يسبق أن لامسها ضوء.
بشرتها… بلون القمر حين يكتمل، ناعمة، ساكنة، تحفظ سرّ أنوثة نقية لم تُمسّ.
تجمّد في مكانه، ثم استيقظت النخوة في أعماقه كمن سُقي فجأة بماء الوعي.
رمق المكان بنظرة خاطفة يملؤها الترقّب…
يحمد الله أن المرجيحة كانت في بقعةٍ شبه محجوبة عن أعين المارة، لكن قلبه لم يهدأ.
تقدّم بخطوات ثابتة، وقف أمام المرجيحة، كأنّه حاجز من نور،
ثم قال بصوت هادئٍ لكنه نافذ:
— “يلا بقى، كفاية كده… نروح ناكل، وبعدها نعدي على المول.”
فتحت “رفيدة” عينيها، وكأنّه قطع عنها وصالها مع لحظة من الجنة.
أدركت أنها غاصت في حالة من الهدوء العميق، واعتدلت على استحياء.
وقفت بخشوع، دون أن تنطق، بينما “رنا” قفزت واقفة بضحكة مرحة:
— “أنا جعانة أوي… يلا بسرعة!”
وتحرّكوا معًا، خطواتهم على العشب كانت خفيفة، لكن القلوب مشغولة.
ساروا نحو أحد المطاعم الشهيرة في لندن…
لكن لا أحد منهم نسي تلك اللحظة…
التي لامس فيها النسيم شيئًا لم يكن يُفترض أن يُلمس.
+
في مطعمٍ شهير تتعانق فيه الأضواء الدافئة مع روائح الطعام القادمة من كل بقاع الأرض، جلسوا جميعًا حول طاولة أنيقة تطل على الواجهة الزجاجية للمكان.
رباب إلى جوار ابنتها، وسليمان جلس قبالتها، بينما كانت “رنا” بجانبه، و”رفيدة” تجلس في مواجهته مباشرة.
تناول كلٌّ منهم قائمة الطعام يتصفحها،
أمّا “رفيدة”، فقد كانت تقلب صفحات المنيو بعينين شاردتين، كأنّها لا تقرأ، بل تبحر في لغة لا تفهمها.
الحيرة كانت جليّة على ملامحها…
فهي — في واقع الأمر — لم تدخل مطعمًا في حياتها، ولا ذاقت طعامًا يُحضَّر خارج البيت.
الوجبات السريعة، الأسماء الأجنبية، الصوصات، والصلصات…
كلها كانت بالنسبة لها عالَمًا غير مألوف.
أنهى الجميع اختياراتهم، وبقيت هي، معلّقة بين صفحات غريبة.
رفع “سليمان” عينيه إليها بنظرة مهتمة:
— “اختارتي إيه؟”
رفعت بصرها نحوه، وبدا التوهان ساكنًا في ملامحها:
— “مش عارفة آكل إيه.”
تدخّلت “رنا” برفق وهي تقرّب وجهها منها:
— “يعني نفسك في مكرونة؟ نبص في الجزء بتاع الباستا؟
ولا حاسّة إن نفسك في معجنات؟ ممكن تشوفي البيتزا… أو الكريب؟”
وأخذت تعدد الأسماء، وكأنها تُعطيها جولة في قاموسٍ مجهول…
لكن “رفيدة” كانت تستمع بذهول، لا تعرف أيًّا من تلك الأكلات، لا طعمًا ولا اسمًا.
نظرت إلى رنا باستسلام خجول:
— “مش عارفة… اختاري إنتي على ذوقك.”
ضحكت رنا:
— “يبقى برجر… زييّ!”
لكن “سليمان” تدخّل فجأة، بنبرة هادئة وحازمة:
— “بلاش برجر… مش هتعرف تاكله وهي بالنقاب،
الصوصات هتبهدل الدنيا، وممكن تتضايق.”
ثم نظر إلى رفيدة:
— “لو نفسك فيه، نطلبه تاكليه في البيت على راحتك… بس هنا نختار حاجة أسهل.”
هزّت رأسها بسرعة:
— “لا لا، أنا هاكل وجبة واحدة كفاية.”
وعادت تقلب في المنيو بعشوائية، ثم أشارت لأقرب اسم وقع تحت يدها،
وهكذا مضت طلباتهم للمطبخ.
مرّ بعض الوقت في حديثاتٍ خفيفة،
حتى جاءت النادلة بالأطباق.
أمام “رفيدة” وُضع طبقٌ أنيق لسندويتش بحشوةٍ بحرية، تفوح منه رائحة غريبة عنها…
شَمّته، فترددت.
مدّت يدها بحذر تمسك السندويتش بطريقة لا تُظهر شيئًا من وجهها، تُراعي فيها نقابها وتحفظ سترها، ثم أخذت قضمة صغيرة.
في اللحظة ذاتها، تغيّرت ملامحها…
اجتاح وجهها نفور خفيف، وعبوس غير مقصود.
لاحظ “سليمان” ذلك، فحدّق بها مستفهِمًا.
قالت وهي تمسح فمها بسرعة، بنبرة خافتة مجزوعة:
— “السندويتش ده… طعمه غريب… وريحتُه أغرب.”
“رنا” تناولته منها، شمّت الرائحة:
— “دي ريحة الجمبري… عادي.”
رفيدة خفضت عينيها بخجل:
— “أحم… أصل… دي أول مرة في حياتي آكل جمبري.”
ساد الصمت للحظة، ثم نظرت إليهم جميعًا، وكأنها اقترفت جرمًا لا يُغتفر.
لكن “سليمان” كان أسرع في احتواء الموقف، وقال بنبرة لطيفة:
— “ولا يهمك، هطلبلك حاجة تانية على ذوقي.”
هزّت رأسها بتوتر:
— “لأ لأ، هاكله عادي.”
قال بهدوء:
— “واضح إنك مش حبّاه… بلاش تغصبي نفسك على حاجة في الأكل، ممكن تتعبي بعدين.”
“رباب” تدخلت بابتسامة:
— “كلي معايا أنا وسليمان من البيتزا… طعمها جميل، هتعجبك.
وسيبي الجمبري لسليمان، هو بيموت فيه…
يبقى يتعشّى بيه.”
ضحك الجميع، وتبدد التوتر.
أخذ “سليمان” قطعة بيتزا، قطعها إلى شرائح صغيرة بسكّينه،
ثم وضعها في طبق نظيف أمامها دون أن يطلب منها شيئًا…
فهم فقط، وبدأت هي تأكل.
تابعها بعينيه…
تأكل في صمت، ولكن ملامحها الآن أكثر ارتياحًا.
ابتسم في نفسه، وأدرك شيئًا لم يُقال…
هي لم تعتد يومًا على الرفاهية في تجربة أصناف الأكلات المختلفة… ولا المطاعم.
بعد الطعام، قامت “رنا” تمسك يد “رفيدة”:
— “تعالي نغسل إيدينا.”
قالت “رباب” بسرعة:
— “استني أخوكي ييجي من الحمام.
إنتي عارفة، مش بيحب تروحي مكان غريب وانتي مش تحت عينيه، لحد يضايقك.”
“رنا” بتنهيدة:
— “متقلقيش يا ماما، إحنا في مطعم والحمام قريب… مش مستاهلة.”
رباب، بإصرار الأم:
— “بردو يا بنتي، هيزعل… استني بس دقيقة.”
“رنا” تردّ، وهي تجرّ “رفيدة” معها:
— “يا ماما، مش عايزين نتأخر علشان نلحق نروح المول.
وبعدين إنتي عارفة أبيه، بياخد وقت كتير يغسل إيده…
ولا كأن كل جراثيم الدنيا متجمعة فيهم!”
ضحكت “رفيدة” بخفوت، وتحركتا سويًا نحو الحمام.
في طريق العودة، وهما تهمّان بالعودة للطاولة،
اعترض طريقهما شابٌ غريب الهيئة،
ابتسم بنظرةٍ مزعجة وحدّق فيهما…
+
“Wow, a new kind of thing here in London… hijab.”
“واو، نوع جديد هنا في لندن… حجاب.”
ثم أدار عينيه ناحية “رفيدة” وقال بإعجابٍ مستفز:
“I don’t know what that weird outfit is, but I do know your eyes… I’ve never seen anything like them.”
“”لا أعلم ما هو هذا اللباس الغريب، لكنني أعلم جيدًا أن عينيكِ… لم أرَ في حياتي شيئًا يشبههما.””
+
تجمّدت “رفيدة” في مكانها…
الخوف عاد في ثوانٍ، نفس الرجفة القديمة، نفس الرهبة التي كانت قد بدأت تتلاشى، لتعود بكل عنفوانها.
“رنا” شدّت يدها بقوة:
— “تعالي بسرعة!”
وركضتا عائدتين ناحية الطاولة…
+
في ذات اللحظة، عاد “سليمان” للطاولة واستغرب غيابهما:
— “فين البنات يا ماما؟”
ردت “رباب” بتحفظ وحذر:
— “راحوا الحمام يغسلوا إيديهم…”
انتفض واقفًا، والغضب يعلو نبرته:
— “أنا منبّه على رنا كتير في النقطة دي!”
وتوجه بخطوات مسرعة نحو ممر الحمامات.
لمحهما وهما تعودان…
وجهيهما شاحبان، ونظراتهما مذعورة.
نظر خلفهما، فرأى شابًا يقف عند طرف الممر، عيناه تدوران بنظرات مريبة.
اقترب منهما بسرعة:
— “فيه إيه؟!”
“رنا” بصوت مرتبك:
— “مفيش حاجة يا أبيه…”
— “أمال جاين تجروا كده ليه؟”
التفت خلفهما نحو الشاب، ونظرة سليمان كانت كافية لتجعله ينسحب متراجعًا…
قالت “رنا” محاولة التبرير:
— “كنا جاين بسرعة علشان نلحق قبل ما تيجي!”
حدّق بها بصمتٍ غاضب، ثم قال:
— “أول وآخر مرة تتكرر.”
أومأت برأسها خاضعة، وعادوا جميعًا للطاولة.
كانت المحطة الأخيرة في يومهم الطويل هي المول الكبير في قلب لندن. جلسوا في مقهى هادئ، وطلبوا آيس كريم بنكهات متعددة، بينما اختار سليمان قهوته المعتادة، يحتسيها في هدوء.
ضحكات بسيطة تخللت اللحظة، ثم قاموا جميعًا يتجولون بين المحلات لشراء بعض اللوازم الناقصة. وبينما هم على هذا الحال، قالت “رنا” بابتسامة مدللة:
— “مفيش خروجة مول من غير طقم جديد، مش كده؟”
رد عليها سليمان بحنوِّ الأخ الحاني، ونظرة يملؤها التقدير:
— “عيوني ليكي يا حبيبة أخوكي… طلباتك أوامر.”
رفيدة كانت تراقبهم في صمت، يتراقص في قلبها دعاء صادق: اللهم احفظهم لبعض، وادم بين قلوبهم الود والسند.
قالت رنا بحماس
— “يلا يا رورو، القسم ده للمحجبات، فيه كوليكشن يجنن بجد!”
هزّت رفيدة رأسها بلطف:
— “لا، شكرًا… مش محتاجه هدوم جديدة.”
تفاجأت رنا وقالت:
— “إزاي بس؟ ده إنتي هتبدأي شغل، لازم تجيبي لك طقمين على الأقل!”
ردّت رفيدة بخفّة وتعفف:
— “أنا كنت جبت هدوم قبل ما أسافر ولسّه ما لبستهاش.”
تدخّلت “رباب” بحنان أم:
— “يا حبيبتي دي هديّة مني… والنبي قبل الهديّة.”
رفيدة نظرت إليها بتقدير لكنها تكلّمت بكرامة وعفّة:
— “معلش يا طنط، كفاية تعبكم معايا الأيام اللي فاتت… أرجوكي متحرجنيش أكتر من كده.”
سليمان قال بنبرة حاسمة:
— “خلاص يا ماما، سيبيها على راحتها… يلا يا رنوش شوفي هتجيبي إيه.”
دخلوا جميعًا إلى المحل، ورنا بدأت تختار وتقيس، بينما كانت عينا رفيدة تتنقّلان على الملابس… هناك قطعة نادتها من بين الجميع.
+
فستان طويل بسيط، مزين بورود صغيرة، يدمج بين البني والبيج بتناغم ساحر. من عند الخصر، حزام من الجلد بحبال رفيعة تُعقَد في المنتصف. راقٍ، ناعم، ومليء بالأنوثة الهادئة.
وقفت أمامه تحدّق
سليمان لاحظها، اقترب بلطف وقال:
— “لو عجبك… هاتيه.”
انتفضت، نظر إليها وقال بسرعة:
— “آسف… خضيتك؟”
قالت بتوتر خفيف:
— “لا لا… مفيش حاجة.”
ثم نظرت مجددًا للفستان وقالت بابتسامة خجولة:
— “هو شكله جميل فعلاً… عجبني. بس مش كل حاجة تعجبني أقدر أجيبها… فيه أولويات تانية أهم.”
قالها سليمان بابتسامة خفيفة:
— “هاتيه، وعلى حسابي. ووقت ما تقبضي، ادفعيلي تمنه… مش هجيبلك حاجة كده من غير مقابل.”
ضحكت وقالت:
— “شكرًا… والله معايا فلوس، بس زي ما قولت… الأولويات.”
ردّ عليها بحزم رقيق:
— “معاكي، بس اللبس مش من الكماليات، ولو حاجة عاجباكي، هاتيها. أنا قولتلك… هخصمهم من المرتب.”
نظرت له بحيرة، ثم للفستان، ثم أومأت برأسها:
— “بس وعد؟”
قالها مبتسمًا:
— “وعد.”
واختارت معه نقابًا بنيًا ملائمًا، ثم أكملوا جولتهم في أرجاء المول، حتى عادوا للبيت.
وبعد ساعات، خرجت “رفيدة” تحمل حقيبتها، نظراتهم متسائلة، فقالت بابتسامة خافتة:
— “خلاص… هرجع السكن إن شاء الله. أنا ممتنة جدًا لاستضافتكم طول الفترة اللي فاتت… ده جميل مش ممكن أنساه.”
رباب قالت برجاء:
— “ليه بس يا حبيبتي؟ خليكي معانا شوية كمان.”
ردّت رفيدة بحزم مهذّب:
— “معلش يا طنط… أكيد حضرتك عايزه راحتي، وأنا حاسة إني تقلت عليكم.”
سليمان تدخّل:
— “طب على الأقل خليكي الليلة دي… وبكرة تروحي السكن بعد الشغل.”
قالت بإصرار:
— “لا… كده أريح ليا.”
ودّعتهم بالأحضان، ورنا وعدتها:
— “هستناكي في فسحة كل أسبوع إن شاء الله.”
أومأت رفيدة برأسها، وسليمان حمل عنها الشنطة، فاعترضت:
— “خليك يا باشمهندس، أنا هطلب تاكسي.”
قال بثقة ونزل دون أنا ينتظر ردها:
— “أكيد مش هسيبك لوحدك كده بالليل… يلا.”
وصل معها إلى السكن، وهو شقّة صغيرة قريبة من مقرّ العمل، حيّها هادئ تغلب عليه الأبنية المتراصة، فيها قدر من الأمان والهدوء، لكن لا دفء فيه.
وقف أمام الباب، وأعطاها الحقيبة ثم قال:
— “هاتِ موبايلك.”
نظرت له باستغراب:
— “ليه؟”
قال ببساطة:
— “هسجّل رقمي… لو حصل أي ظرف، ما تتردديش، اتصلي بيا فورًا.”
هزّت رأسها بتقدير، أخذ الهاتف، كتب رقمه واتصل على نفسه، ثم حفظ رقمها.
ودّعها ونزل، بينما هي دخلت الشقّة، شعور بالرّهبة والخوف والوحدة بدأ يتسرّب إلى قلبها مجددًا، بعد أيّام قليلة من الدفء والأمان.
الشقة كانت بسيطة… غرفة نوم، وصالة صغيرة، مطبخ، وحمام.
جلست ترتب أغراضها، تحاول التكيّف مع شعور الوحدة الذي خنقها برفق كأنّه يعرفها جيّدًا.
+
عاد سليمان للبيت، فوجد والدته و”رنا” جالستين بوجهين يحملان الحزن، وعين والدته يظهر فيهما أثر بكاء خفيف.
سأل بقلق:
— “فيه إيه؟”
قالت والدته بصوت مكسور:
— “صعبان عليّا حال رفيدة… يا ترى بليل، لما تصحى من الكوابيس، مين هيكون جنبها؟ الوحدة وحشة أوي، خصوصًا لبنت في غربة… وهي شكلها حساسة جدًا.”
+
نظر إليهما، ثم قال بهدوء:
— “هي مصممة، ومش مرتاحة، وعندها اعتقاد إنها عبء علينا… أنا مقدّرتش أضغط عليها. سيبتها لراحتها، بس… مش هنسيبها إن شاء الله”
ثم استأذن، دخل ليأخذ حمامًا، ويبدّل ملابسه، ثم صلّى.
وحين ألقى برأسه على الوسادة…
كانت رفيدة تسكن تفكيره.
+
كان صباح اليوم يحمل من الحماسة ما يُشبه النشوة. لأول مرة، تفتح “رفيدة” باب السكن كموظفة رسميّة في شركة كبرى.
ارتدت فستانًا أنيقًا طويلًا بلون الكحلي الداكن، بأكمامٍ واسعة من قماش “الشيفون” الرقيق، ومُنسدلٍ بنعومة حول خصرها بحزام بسيط يحدد القوام دون ابتذال.
من فوقه، ارتدت معطفًا خريفيًّا بلون البيچ الفاتح يصل إلى منتصف ساقيها، وحذاءً بلون الجمليّ الهادئ.
النقاب كان أسودَ ناعمًا، منسدلًا برقة دون أن يُخفي تمامًا ما تنطق به عيناها من نورٍ وثقة.
وحقيبتها الجلدية البنّيّة على كتفها الأيمن، تُكمل مظهرًا من الأناقة المحتشمة والجمال الهادئ.
المشي عشر دقائق نحو مقر الشركة لم يكن مُتعبًا بقدر ما كان محمّلًا بالرضا.
كل خطوة كانت دعاءً، وكل نفسٍ كان شكرًا.
حتى إذا ما وصلت إلى باب مجلس الإدارة، شدّت من أزر نفسها ودخلت بثبات.
المكتب الخاص بها كان بجانب قسم المشاريع، مكتب بسيط لكن أنيق، أُعدّ لها خصيصًا. جلست، رتبت أوراقها، فتحت الحاسوب، وبدأت العمل بحماسة الطموحين.
في منتصف اليوم، خُبط الباب.
— “اتفضّل”،
قالتها بنبرة ناعمة حازمة.
فُتح الباب، ودخل سليمان.
نهضت من مقعدها فورًا، واعتدلت بابتسامة خفيفة تُرى تحت النقاب من انحناءة العين ورقّة الصوت:
— “أهلًا يا بشمهندس.”
ابتسم هو أيضًا، كمن يحاول أن يُخفي أثر ذلك الصوت في قلبه.
— “أخبار الشغل إيه؟ ويومك ماشي إزاي؟”
— “كله تمام الحمد لله، الأمور ماشيّة كويس.”
— “والسكن؟”
— “كويس بردو الحمد لله.”
ظل ينظر لها لثوانٍ، يتأمل اتزانها وجمال خلقها، ثم استغفر في سرّه وغض بصره وقال:
— “لو احتاجتي حاجة متتردديش، تعالي قوليلي على طول.”
— “تمام، شكرًا جدًا.”
وغادر، يترك وراءه أثرًا لا يُرى، لكنه يُحسّ.
+
مضت الأيام.
“رفيدة” صارت حديث الأقسام: “ذكية، ملتزمة، أنيقة بحشمة، أفكارها عبقرية”، هكذا كانوا يقولون.
ولم تكن ترى “سليمان” إلا لمامًا، تواصلهم شبه منعدم، لكنها تتحدث يوميًا مع “رنا” و”رباب” بلا انقطاع، فكنّ لها السند القريب.
وفي صباح أول اجتماع رسمي لها في الشركة،
أردتدت “رفيدة” فستانًا أنثويًّا رقيقًا بلون الورديّ الغامق، ذا تطريزات ناعمة على الصدر، وأكمام طويلة من قماش الدانتيل الرقيق، مع جاكيت رماديّ خفيف، ونقاب أسود بسيط، أبرز نور عينيها أكثر من أي وقت مضى.
حذاؤها اللامع بلون الوردي المائل للرمادي كان متناسقًا مع حقيبة يد صغيرة من نفس اللون.
دخلت قاعة الاجتماعات، ألقت السلام بصوتٍ خفيض، وجلست بهدوء.
بعد دقائق…
دخل سليمان، وعلى يساره رجلٌ واثق الخطى، طويل القامة، أربعينيّ بملامح مصرية…
لفتت “رفيدة” انتباه “عثمان” فورًا…
كان “سليمان” قد خطف نظره لها للحظات، وابتسم لها بخفة، وردّت هي بابتسامة ناعمة من تحت النقاب.
مال “عثمان”على “سليمان وتكلم بدهشة:
— “من البنت دي؟ المنتقبة… أم عيونٍ تقتل، دي؟”
التفت “سليمان” نحوه بحدة:
— “ابعد عنها. مش نوعك… ولا من اللي بتفكر فيهم. خليك بعيد عنها.”
ثم اتجه إلى كرسي المدير، وجلس بوجهٍ متجهم.
بدأ الاجتماع.
الكل يتحدّث…
ثم بدأت “رفيدة” في الطرح، تناقش، تُبهر، تُقنع.
الجميع ينصت، وانبهر “عثمان” بأفكارها، أما “سليمان”، فقد كان ينظر إليها بفخرٍ صامت.
انتهى الاجتماع، وبدأ الحضور بالمغادرة.
وقفت “رفيدة” تهمّ بالخروج، مرّت بجوار “عثمان”،
قال بصوتٍ ظنّ أنها لا تفهمه:
— “أنا مشوفتش رقّة ولا جمال عيون زي دي أبدًا… أوف.”
لم تكن تعلم أن وقع تلك الكلمات على “سليمان” كان كوقع الجمر في الصدر.
صرخ فجأة، غاضبًا:
— “عثماااان!!”
انتفضت “رفيدة” من مكانها، التفتت إليه بفزع.
نظر إليها بعينين حمراء من الغضب، وصوته حاد:
— “روحي على مكتبك يا باشمهندسة.”
مشيت بخطوات مرتبكة، والحياء يلفّها.
“عثمان” بتعجب:
— “إيه ده؟ بتتكلم مصري؟ دي مصرية؟ قولت كده الجمال ده مش أجنبي أبدًا،يا حبيبتي يا مصر”
سليمان يقترب منه، صوته منخفض لكن نبرته حادة:
— “أنا حذرتك. قولتلك تبعد عنها. مش نوعك…ألزم حدودك وأدبك”
“عثمان” بسخرية ناعمة:
— “غصب عني. دي ملفتة يا أخي. الحياء ده في وسط المجتمع اللي إحنا فيه يلفت الأعمى. والعيون دي … فتنة لوحدها عيونها مميزة بطريقه غريبة وتشد.”
سليمان اقترب أكثر، صوته منخفض لكن كلماته كالسياط:
— “بقولك لآخر مرة، متقربش منها. ولا تفكّر فيها حتى. دي مش زيهم. متلوثهاش بكلامك.”
— “إيه يعني؟ تخصك؟ لو كده قول من الأول دي هتبقى مرات أخويا…”
سليمان بهدوء مضغوط:
— “مش بالطريقة دي. أعقل شويه. مش معنى إني بحذّرك إن يكون فيه بينّا حاجة. بس أنا عارفك… وعارفها.
هي طاهرة، مش هتنفعك… ولا هتتحمّل وساختك.”
عثمان رفع حاجبه بخبث:
— “يعني مش عينك عليها؟ طيب خلاص. يمكن هي اللي هتوبني من صنف كله على أيدها وأعتزل عندي استعداد جدًا !”
لم يستطع “سليمان” كبح غضبه هذه المرة.
صاح بصوتٍ جهوريّ:
— “عثماااااااااان!!!”
ضحك عثمان:
— “إيه؟! إيه؟! حد قالك مش عارف اسمي؟ بتحفظهولي؟! كله بالحلال، يا باشا.”
صرخ فيه “سليمان”:
— “اطلع برّه! برّه!!!”
واندفع “عثمان” للخارج وهو يبتسم، لكن “سليمان” كان قلبه يغلي…
غليانٌ لم يعهده من قبل…
ولم يفهم تمامًا:
هل هو الغضب من عثمان؟
أم الخوف على “رفيدة”؟
أم شيءٌ آخر… أكثر عمقًا، لم يواجهه بعد؟
+
ظلّ “سليمان” طوال اليوم يسير بثقلٍ في صدره، وكأنّ شيئًا يعتصر أنفاسه منذ صباحه…
وجه “عثمان”، وكلماته الوقحة، ونظراته التي لا تليق، كانت تطارده في كل زاوية، وتخنقه كلما تذكّر أنها وُجّهت نحو “رفيدة”.
وفي الطابق الذي يعلو مكتب “رفيدة”،
كان “عثمان” قد استعلم عن موقع مكتبها،
ووقف أمام الباب، يُعدل من هندامه، ويُراجع ابتسامته المصطنعة، ثم طرق الباب.
—Come in
“اتفضل”،
قالتها “رفيدة” وهي تُكمل مراجعة ملفاتها.
دخل بخطوة واثقة، وابتسامة عريضة:
— “لما عرفت إنك مصرية… قولت لازم أرحّب ببنت بلدي شخصيًّا.”
رفعت عينيها إليه بوجومٍ فوري، شيء فيه لم يُشعرها بالأمان…
رغم أنه لم يقترب، ولم يتلفظ بما يُحرّض،
لكنها شعرت أن المسافة بينهما غير كافية،
وأن عينيه تتفحّصانها لا تُجاملانها.
تلك النظرة التي لم تعرفها مع “سليمان” أبدًا،
فهو دائمًا يغض بصره، وإن نظر… كانت نظرته وقارًا، دفئًا، أمانًا.
قالت بهدوء:
— “آسفة، لكن ميصحش يكون الباب مقفول، خاصة لو حضرتك أو أي حد موجود.”
أومأ برأسه متصنعًا التفهُّم:
— “تمام، عندك حق. أنا آسف.”
ثم أضاف:
— “أنا عثمان، مدير العلاقات العامة هنا… وبالمناسبة صاحب سليمان.”
— “أهلاً وسهلاً”،
قالتها بجفاء مهذب.
حاول فتح مواضيع، التطرّق لأسئلة عن دراستها، رأيها في الشركة
لكن “رفيدة” كانت حازمة في الرد، مقتضبة، لا تمنحه إلا كلمات تقطع عليه أي طريقٍ للتوغّل.
قال أخيرًا وهو يستعد للمغادرة:
— “ماشي… أنا هقوم، كنت بس جاي أرحّب واتعرّف، بما إننا ولاد بلد. لو احتاجتي حاجة، مكتبي في الدور السابع.”
هزّت رأسها دون رد.
وما إن أغلق الباب خلفه، حتى انهارت على الكرسي، وضعت يدها على قلبها، وقالت همسًا:
— “أوف… ده مش مريح خالص… إزاي صاحب سليمان؟
شتّان… شتّان بينهم.”
+
مع نهاية الدوام، نزلت “رفيدة” تغادر، وبينما كانت تسير نحو بوابة الشركة، لمحها “سليمان” و”عثمان” وهما يخرجان سويًا.
قال “عثمان” بخفة:
— “دي رفيدة؟ رايحة فين كده؟”
استدار “سليمان” بسرعة، كأن النار اشتعلت في عينيه:
— “عرفت اسمها منين؟”
— “يعني… سألت، وقولت لازم أتعرف ببنت بلدي، وسلّمت عليها.”
قالها وكأنها أمر عادي، لكن “سليمان” اشتعل:
— “أنا نبهت عليك يا عثمان أكتر من مرة. وقولتك بلاش دي.
متخلينيش أعمل تصرف تندم عليه… وتنتهي صحوبيتنا على حاجة زي دي!”
— “إيه يا عم! للدرجة دي؟
هي تهمك للدرجة دي تنهي صحوبية سنين؟!”
سليمان بصوتٍ كالصخر:
— “أنا وضّحت كلامي… مش هعيده.
وآخر تحذير ليك يا عثمان… رفيدة خط أحمر.
لو قربت منها تاني… هتزعل جامد.”
دلف إلى سيارته وغادر، لكن عينيه وقعت على “رفيدة” تسير على الرصيف.
أبطأ السير، ثم أطلق زمورًا خفيفًا.
التفتت بفزع، وضعت يدها على قلبها، لكنه لوّح لها من السيارة.
— “آسف خضّيتك… ماشيه ليه؟”
— “مفيش، السكن قريب أوي… عشر دقايق مشي وبكون وصلت.”
— “تمام… بس في المرواح، مفيش أمان. الشارع هادي، ومش مناسب.”
هزّت رأسها بهدوء:
— “حاضر.”
— “تعالي… اركبي أوصلك.”
— “مش مستاهلة، السكن هناك أهو”
وأشارت لآخر الشارع.
— “تمام. مش عايزة حاجة؟”
— “لأ، شكرًا.”
سألها فجأة، بعينين متفحصتان:
— “ومفيش حد مضايقك؟”
سكتت لثوانٍ، ثم قالت:
— “كله كويس الحمد لله.”
لم ترد أن تخبره عن “عثمان”، فهو صديقه…
قال بهدوء:
— “ماشي، بس لو حد ضايقك… أو مش مرتاحة لحد، يا ريت تعرفيني.”
ثم أضاف:
— “يلا، اتفضّلي، وأنا هكون وراكي بالعربية.”
سارت وهو يتبعها حتى دخلت باب السكن، أشارت له بيدها، فرفع يده يودّعها، ثم غادر حين اطمأن أنها صعدت.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)