رواية نجوت بك الفصل الثاني 2 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل الثاني 2 بقلم مي مصطفي
البارت الثاني
الفصل الثاني ” الرُهاب…. والبداية”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
كانت رفيدة قد أتمّت عامها التاسع حين تغيّر مدير الدار، وجاء مكانه رجل غريب الملامح، يبدو وقورًا للوهلة الأولى، لكنّ نظراته كانت تنبش في الأرواح لا الوجوه.
في أحد الأيام، كانت رفيدة محبوسة في الغرفة المظلمة عقابًا لها على جريمة لم ترتكبها، كالعادة. وحين خرجت بعد ساعات طويلة من العزلة، كانت الشمس قد انحنت للمغيب، والتعب قد نال منها ما يكفي لتجرّ أقدامها جرجرةً.
عند الممر الطويل قرب الحديقة الخلفية، لمحها المدير الجديد. ثبت بصره عليها، كأنما اكتشف كنزًا لا يُقدّر. نظر إليها، فأدهشته عيناها اللتان تحكيان وجعًا لا يُشبه عمرها. ومنذ ذلك اليوم، بدأ يلاحقها.
كلما سنحت له الفرصة، اقترب منها متذرعًا بأي عذر. لمس الكتف مرّة، والوجه أخرى، حتى بدأ يهمس بما يخيف الطفلة البريئة. كانت ترتعد حين يقترب، تخاف من ظله، تهرب من صوته، لكنه لم يكن يرحم، وكان يهددها:
«لو قولتي لحد، هخليكي تتمنّي الموت ومتعرفيش توصليه.»
كانت تُذعن، ترتجف، وتزداد صمتًا ووحدةً. صارت تتحاشى الجميع، حتى الأطفال. الرهاب تملّكها، صار جسدها يرتعش من أي اقتراب، أي صوت، أي خطوة خلفها.
+
وذات يوم من تلك الأيام الثقيلة، كانت هناك زيارة مرتقبة لرجل أعمال كبير جاوز الستين من عمره. جاؤوا يُجهزون المكان كما لو كان استقبالًا ملكيًا. نظفوا، رتّبوا، ألبسوا الفتيات ثيابًا جديدة، صففوا الشعر، وزيّفوا الابتسامات. الكل بدا سعيدًا، إلّا رفيدة، فقد بقيت صامتة، بعينيها المنطفئتين، وحركتها الثقيلة.
كان رجل الأعمال يتحدث في هاتفه خارج القاعة حين لمحها تقف وحدها، ناظرة للأرض، لا تتكلم، لا تبتسم.
اقترب بخطوات مترددة، وألقى عليها السلام:
– «إزيك يا بنتي؟ اسمك إيه؟»
ارتجفت، تراجعت خطوة، وصمتت.
جاءت المشرفة سريعًا وقالت:
– «دي رُفَيدة، أصلها كده من يوم ما جات، متحبش الناس، والأولاد بيقولوا إنها متوحشة، بتبعد عن أي حد.»
لكن شيئًا ما في عيني البنت شدّه. كان يرى شيئًا مختلفًا.
سأل:
– «هي بترسم؟»
قالت المشرفة بتكلف:
– «آه، دي خطها حلو جدًا كمان، وبترسم أحسن من الكبار.»
قال الرجل:
– «أنا هشرف على تعليمها بنفسي. كل مصاريف دراستها عليا، بس كل فترة أبقى أشوف مستواها… تمام؟»
ومن يومها، صارت رفيدة تذاكر. كانت تمسك المصحف وتبكي، تصلي، تحفظ، تذاكر في صمت. لا تخرج إلا للامتحانات، لا تحب الاختلاط، لا تثق بأحد. وكلما تفوّقت، اشتدّت غيرة من حولها.
لكن التحرش لم يتوقف. واستمر حتى أتمّت الثالثة عشرة. وذات مساء بارد، أعلنوا وفاة المدير.
ذهلت… ثم بكت. لكنها كانت دموع فرح لا حزن. قامت وصلت ركعتين، ثم همست:
– «أنا مش شمتانه، بس إنت عارف يا رب أنا اتأذيت قد إيه. اقتص منه… يا رب، اقتص منه.»
ومن يومها، قررت أن ترتدي النقاب. درعًا، لا تقوى، خوفًا، لا تقوى.
+
مرّت الأعوام، واقترب موعد خروجها من الدار مع مَن بلغوا السن القانونية. وفي إحدى الليالي، بينما كانت تتوضأ لقيام الليل، سمعت خطوات خلفها. فأسرعت لتختبئ.
وما سمعته في تلك الليلة، نزع النوم من عينيها.
كانوا يتحدثون عن ترتيب خروج البنات، ولكن ليس كما يظنون. لا عمل ولا حياة، بل شبكة لاستغلالهن، وبيعهن.
تُفهم البنات أن هناك وظيفة تنتظرهن، لكن الحقيقة أن هناك ظلمة أبشع من ظلام الدار تنتظرهن.
كانت رفيدة تختنق من الرعب، لكنها كتمت، وصمتت… لتنجو.
+
وفي يوم الترحيل، حين اصطفّت الفتيات استعدادًا للخروج، همست لنفسها:
– «لازم أهرب… أروّح للأستاذ عبدالرحمن… هو الأمان.»
غيّرت طريقها، ركضت بعباءتها الثقيلة، ووصلت بعد ساعات طويلة إلى العنوان الذي تحتفظ به في قلبها.
لكنّ الباب فُتح، وخرج منه شاب في العشرينات، نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها، ثم قال ببرود:
– «عايزة إيه؟»
– «أنا… الأستاذ عبدالرحمن هنا؟»
قال الآخر وقد ضاق ذرعًا:
– «بابا مات من شهرين…خير أنتِ مين »
– أنا رفيدة من دار الأيتام وكنت…..
قال الشاب بنفور واشمئزاز:
– « بنت حرام يعني اتفضلي اطلعي بره ميشرفكيش تدخلي هنا مش عارفه بابا الله يرحمه يعرف الأشكال دي ازاي،حرام نطلع صدقة لأشكالك»
سقط قلبها على الدرج، وتراجعت خطوة…والدموع تنهمر بغزاره أسفل نقابها
لكن من خلفها، خرجت امرأة في الستين من عمرها، دافئة العين، قوية الحضور:
– «استني… استني يا بنتي.»
التفتت رفيدة، والدمع على خديها، فقالت المرأة:
– «أنا الدادة أمال… الأستاذ عبدالرحمن دايمًا كان بيحكيلي عليكي. أنا مش هسيبك. هتيجي معايا الحارة، وفي أوضة فوق السطوح هأجرهالك، ونشوفلك شغلانة تصرفي منها على نفسك وتعليمك.»
– «بس… بس أنا مش عايزة أكون عبء…»
– «عبء إيه يا بنتي؟ والله لو معايا فلوس ما كنت أعزها عليكي. إنتي زي بنتي.»
ضمّتها رفيدة، لأول مرة تشعر أن أحدًا يرغب بوجودها دون مقابل.
انتقلت للحارة، عملت في سوبر ماركت صغير، تتفادى العيون، تختصر الكلمات، وتختبئ خلف نقابها.
وكانوا لا يرحمون.
– «دي عيونها تجنن… لو العيون كده، أمال الباقي؟»
وكانت ترتجف كلما اقترب أحد. الرهاب ينهشها. لكنها كانت تقاوم.
دخلت كلية الهندسة، تفوقت، واحتلت الصدارة عامًا بعد عام. حتى أعلنت الكلية عن بعثة مجانية إلى لندن لأوائل الدفعة.
ترددت، خافت، رفضت. لكن دادة أمال أمسكت يدها:
– «دي فرصتك يا رفيدة… مش كل يوم بتتكرر، يا بنتي. سافري، كل حاجه ببلاش سكن وحياة نضيفه عن هنا روحي وأثبتي نفسك زي كل مرة »
+
وافقت، وهي لا تدري أن تلك الرحلة لن تغيّر فقط طريقها… بل حياتها بأكملها.
+
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)