رواية نجوت بك الفصل الثالث عشر 13 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل الثالث عشر 13 بقلم مي مصطفي
البارت الثالث عشر
الفصل الثالث عشر”انتزاع الطمأنينة”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
كان المكان يعجّ بالحركة، استعدادًا للجلسة. لكن رفيدة لم تكن هناك من أجل التحقيق فحسب. تقدّمت بخطواتها المترددة إلى حيث يقف “دانيل”، وفي عينيها لهبٌ من العزم ودمعٌ من القهر.
استأذنته بصوت خفيض:
— “ممكن أكلمك دقيقه قبل ما نبدأ؟”
رمقها بنظرة باردة، ثم أومأ باختصار.
اقتربت منه وهمست، بالكلمات تُكابر رجفتها:
— “أنا مستعدة أتنازل عن المحضر… بس بشرط. تتنازل عن المحضر اللي قدمته ضد المهندس سليمان.”
رفع حاجبيه، وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ عريضة، لا تشبه الانتصار بل تشبه التلذّذ بالقسوة.
نظر إليها بنظرة… نظرة لم تكن بريئة، بل زلزالٌ من الدناسة اخترق أمانها.
نظرة شهوانية… جارحة… اخترقت جسدها كأنها سهام من نار.
ارتجفت داخليًا، وكادت قدماها تخونانها، لكنها تماسكت، ظاهريًا على الأقل.
قال بنبرة متعجرفة:
— “موافـق.”
وفي لحظات، تم التنازل عن المحضرين.
سليمان خرج من غرفة الحجز، وبين يديه قرارٌ لم يكن يتوقّعه.
كان ينتظر رفيدة أن تصمد، أن تختار الحقّ ولو تعثّرت، لكنها خذلته…
ظهره استقام فجأة، ونظراته اشتعلت بالذهول والغضب، وهو ينظر إلى عثمان:
— “هي راحت فين؟”
أجابه عثمان وهو يغلق هاتفه:
— “لسه ماشية من خمس دقايق.”
ثارت نيران سليمان داخله، صرخ وهو يقترب منه:
— “وإزاي تسيبها تمشي في الليل كده لوحدها؟ مش أنا قولتلك خلي بالك منها من بعيد؟!”
عثمان رفع حاجبيه، مستفَزًّا:
— “أعملها إيه يعني؟ هي مش طفلة! وبعدين كانت جاية تركب معايا العربيه، والهانم فاكراني السواق بتاعها، عايزة تقعد ورا، ولما رفضت… سابتني ومشت لوحدها!”
زمجر سليمان، وصوته علا بحدة تقطع صمت الممر:
— “إنت إيه يا أخي؟ فين النخوة؟! لندن نسيتك الأصول باين؟ أنا مش هضيع وقتي معاك!”
انتزع مفاتيح السيارة من يده، وانطلق يركض نحو الخارج، يتبعه عثمان محاولًا اللحاق به.
كانت رفيدة قد ركبت التاكسي.
لحظة انطلاق السيارة، كانت كأنها تودّع شيئًا منها، شيئًا ثمينًا سُلب منها بلا إذن.
سليمان رآها من بعيد…
ركب السيارة، لحق بها، وعثمان بجواره يسأله:
— “إنت ماشي وراها ليه؟ ما خلاص ركبت!”
أجابه سليمان، وهو يقبض على المقود بقوة:
— “اسكت… كفاية اللي جوايا.”
ظلّ يراقبها حتى دخلت بناية السكن، ولم يرحل إلا حين تأكّد أنها صعدت إلى غرفتها بأمان.
دخلت رفيدة، ولم تكن هي ذاتها.
كان القهر يشقّ صدرها كما يشقّ السيفُ الماء، لكنها لا تندمل.
أغلقت الباب، ثم…
انهارت.
بكت كما لم تبكِ يومًا.
عياطٌ هستيري، متقطّع، وكأن الدموع تُخرج ما عجز اللسان عن قوله، ثم قامت كأنها تهرب إلى الله.
توضأت، صلّت…
وفي كل سجدة كانت شهقتها تسبق همس دعائها.
وفي كل ركعة… كانت تنهار أكثر.
وفي النهاية… غفت على سجادتها، ودموعها ما زالت تسقي الأرض.
+
في نفس التوقيت…
كان سليمان يقف في البلكونة، صامتًا، وجسده مسند على السور الحديدي، وقطرات الماء تتساقط من شعره بعد حمامٍ بارد.
رنا ورباب حاولوا سؤاله، لكنه اكتفى بهمهمات مقتضبة:
— “أنا بخير… محتاج أرتاح شوية.”
دخل غرفته، صلّى، وجلس في العتمة، يتذكّر كل شيء.
وما أن ارتسمت في ذاكرته صورة ذلك الوغد وهو يمد يده على رفيدة… حتى اشتعلت النار في قلبه.
ضرب السور الحديدي بقبضةٍ مجنونة، فاهتز الألم في كفّه كما يهتز الغضب في صدره.
ثم ترددت في أذنه كلماتها الأخيرة، كأنها سوطٌ ينزل على قلبه:
“أنا كنت متأكدة… إنها هتكون فترة، والدنيا هتاخد فرحتي بالدفا… والأمان اللي لأول مرة حسيته، وترميني تاني… للوحدة، وللقسوة. أنا متعودة عليهم، فـ مش خسارة كبيرة… قد خسارتك وأنت في السجن… وأنا السبب، وفي حل… قدامي.”
همس بصوتٍ مبحوح، ودمعة دافئة تنزلق من عينه:
— “ليه؟… ليه اتنازلتي؟”
+
في صبيحة اليوم التالي، استفاقت “رفيدة” على آهات جسدٍ مكدود، قد أنهكه برد الأرضية الصلبة، وأثقلته قشعريرةٌ تنبئ ببوادر زكام. فتحت عينيها ببطء، ورأسها يدور كمن تاهت به السُّبُل. لكنها قاومت، سحبت جسدها المنهك من فوق البطانية الرقيقة، ووقفت رغم خدر قدميها، وكأنما أرادت أن تهزم الوجع بالصمود وحده.
ذهبت إلى الشركة كعادتها، إلا أن النظرات التي طاردتها في كل زاوية كانت كالسكاكين، تطعن كرامتها في صمت. الجميع كان قد سمع بما جرى، الكل يهمس، يلمّح، يتفحّص، كأنها مخلوق دخيل على هذه الأرض.
دخلت مكتبها، جلست، وبدأت في إنجاز المهام بوجه جامد لا يشي بما يعصف داخلها من ألم.
مرت الأيام ثقيلة لا تلتقي فيها “رفيدة” و”سليمان”. لم ترد على اتصالات “رنا” و”رباب”، ظلت صامتة، منزوعة الكلمات، كأنما قررت أن تصنع حولها جدارًا من الصمت لا يخترقه أحد.
وعندما سألت “رباب” نجلها عن “رفيدة”، حكى لهم ما حدث بصوت متهدّج.
رباب انفجرت غاضبة:
— كنت عايزها تعمل إيه يا سليمان؟! ليه تبعدها عنّا؟! عقاب ليها؟! دي عملت كل ده علشانك إنت!
+
سليمان حاول أن يتمسك بهدوءه:
— وأنا قولتلها ما تعملش كده… كنت هعرف أتصرف.
قاطعتْه بانفعال:
— هتتصرف إزاي؟! البنت لوحدها في بلد غريبة! وانت شايف كانت بتعاني إزاي!
ثم هدأت قليلًا، لتتابع بنبرة حزن:
— دي يا حبيبي أول مرة تحس براحة، أول مرة تضحك من قلبها، كان باين عليها فرحتها بمعرفتنا، كانت دايمًا تقول كده.. عينيها عمرها ما لمعت زي ما بتلمع وهي معانا… ليه تبعدها؟
سليمان، بعينين تغرورقان، قال هامسًا:
— ماما… أرجوكي… أنا عارف كل ده كفايه عليا.. أنا كنت بهددها بس… علشان ما تروحش تتنازل… علشان كنت عارف قد إيه إحنا غاليين عندها.
خفض رأسه وهو يتمتم:
— لكن مكنتش متخيل إنها فعلاً هتتنازل وتمشي كلامها.
رباب غطّت وجهها بكفّيها وهمست:
— يا رب كن في عونها وأنيس وحدتها يا رب.
أما “سليمان”، فقد انسحب كعادته إلى غرفته، مغلقًا على نفسه بابًا خلفه، ليعيد في كل ليلة شريط الذكريات، من لحظة إنقاذه لها من المخزن حتى لحظة خذلانه لها، وقرارها الجريء بالتنازل.
أما “رفيدة”، فكانت تعاني بصمت في غربتها. المال الذي كانت قد جلبته معها شارف على النفاد. طعامها اليومي لم يعد يتعدّى بعض الخبز وجبنٍ أبيض، ثلاث وجبات رتيبة لا تسدّ جوعًا ولا تُعين على عمل.
أدركت أن عليها أن تجد عملًا آخر. شيئًا بسيطًا، يسندها حتى آخر الشهر. بدأت تبحث في المحال والمطاعم، لكن زيّها الشرعي، ونقابها، كان حاجزًا يمنعهم من قبولها، وكأنها غريبة في عالمٍ لا يعترف بستر.
كانت تسير بين الطرقات بقلب يعتصره القهر، تدعو ربها بين الدمع والدعاء:
— اللهم إنك تعلم ضعفي… اللهم يسّر لي بابًا لا أراه…
وفي مساء بارد، دخلت مطعمًا صغيرًا، يشبه مطاعم الحارات الشعبية وكان مطعم أكل مصري،دخلت على أمل أن تجد فرصة.
اقتربت من مكتب صغير خلفه رجلٌ مسنّ، تبدو عليه ملامح مصرية مألوفة. سلّمت عليه وسألته بلطف:
— من فضلك، حضرتك محتاجين شغل؟
رفع نظره إليها وقال:
— إنتِ مصرية؟
أومأت برأسها:
— أيوه.
ابتسم وقد بدت عليه الطيبة:
— آه، ماشي… أقعدي يا بنتي.
ترددت قليلًا ثم قالت بخجل:
— بالنسبة للنقاب… مفيش اعتراض؟
هزّ رأسه وقال:
— بُصي، هو مظهر مش مستحب هنا، خصوصًا في شغل تقديم، بس أنا مقدرش أقول على زي شرعي إنه عيب أو أقطع رزقك بسببه… يا ريت كل البنات تلتزم بيه.
اتسعت عيناها بالامتنان، وقالت:
— شكرًا بجد… مش عارفة أشكر حضرتك إزاي.
سألها عن المواعيد، فأجابت:
— أنا محتاجة شيفت مسائي، عشان شغلي الأساسي صباحي.
نظر إليها بإستفسار:
— شغلك إيه؟
قالت بتردد:
— مهندسة.
فوجئ، ثم سأل:
— وإنتِ مهندسة ما شاء الله، إيه اللي خلاكِ تدوري على شغل تاني؟
خفضت عينيها وقالت بإحراج:
— أول شهر ليا هنا، وفلوسي اللي جيت بيها خلاص… مش هتكفي آخر الشهر.
أطرق لحظة ثم قال:
— يبقى مفيش شغل ليكِ.
تجمدت في مكانها، واتسعت عيناها بصدمة:
— ليه؟! والله هلتزم بالمواعيد ومش هقصر!
ابتسم بلين وقال:
— يا بنتي، انتي فهمتي غلط. أنا زي والدك، ووالدك مش هيطلب منك تشتغلي، خدي الفلوس دي وأنا اللي هساعدك على ما تقبضي.
صُعقت من الكلمة، “والدي؟”، همست في نفسها:
— والدي؟! اللي رماني؟! والدي اللي هو السبب في كل ده؟!
ثم قالت بصوت مختنق وبعفه وكرامة:
— أنا آسفة… مش هقدر أقبل كده أبدًا. الفلوس اللي هاخدها، هاخدها كشغل يومي، كل يوم بيومه… ده الجميل اللي ممكن تعمله معايا، غير كده… أنا آسفة.
أومأ الرجل بلطف:
— ماشي يا بنتي… تقدري تبدأي من بكرا.
أومأت برأسها، شكرت الرجل بصدق، وخرجت تمشي عائدة إلى سكنها.
+
لم تكن رفيدة تعرف للراحة طريقًا. تعمل صباحًا في الشركة، وتكدح ليلًا في مطعمٍ شعبيٍّ متواضع. يكتفي جسدها بنومٍ هزيل، بالكاد يبلغ الساعتين، حتى بدأ الوهن يفتك بها رويدًا رويدًا، يسحب أنفاسها ويطوي عزمها، حتى غفَت ذات يومٍ على أحد مكاتب الشركة، بعد أن خذلتها قواها.
وفي اليوم التالي، عُقد اجتماعٌ موسَّع لطرح المشاريع الجديدة. لم تحضر رفيدة الاجتماعات السابقة بعد حادثة الموظف، وكان هذا أول ظهورٍ لها منذ مدة. حين دخلت قاعة الاجتماعات، استوقفها مشهد غريب: كل كرسيٍّ وُضع أمامه يافطةٌ تحمل اسم صاحبه. دهشت، فهذه المرة الأولى التي يُنظَّم فيها الاجتماع بهذا الشكل.
تقدَّمت بخطًى واهنة، عيناها شبه مطفأتين، والدوار يعبث بثباتها. وإذ بها تجد اسمها وقد وُضع على الكرسي المجاور مباشرةً لكرسي المدير”سليمان”. جلست في ذهول وإرهاق. وبعد لحظات، دخل سليمان. ألقى نظرة خاطفة على الحضور، ثم وقعت عيناه عليها، وهما لم تغادراها منذ البداية. كان هذا الاجتماع من تدبيره، ليس لشيءٍ سوى أن يراها، ويتأكد أنها بخير، بعد أن لاحظ انطفاءها المتدرّج.
+
أصرَّ على توزيع اليافطات، فقط ليضمن جلوسها إلى جواره، لتكون تحت عينه وفي مأمن من نظرات الآخرين.
+
بدأ الاجتماع، ورفيدة تقاوم بكل ما تبقّى فيها من بقايا وعي. تحاول أن تُبقي عينيها مفتوحتين، أن تصمد. لكنها… خذلتها روحها. واستسلمت لنومٍ عميقٍ وسط الجميع.
+
المهندسة الجالسة إلى جوارها حاولت أن توقظها، لكن سليمان رفع يده مانعًا بلطف، ثم أنهى الاجتماع على عَجل، دون أن يشرح السبب. جلس أمامها يتأمل ملامحها المنهكة، يسأل نفسه في صمتٍ موجع:
«ما الذي أوصلها إلى هذا الحد؟ ما الذي حطّم هذا الكائن الدؤوب إلى هذا الرماد؟»
تنهّد بندمٍ مكتوم، يتمنى لو استطاع التراجع عن كل ما قاله لها يومها، كل ما أجبرها على احتماله وحدها. ثم نهض، ودخل مكتبه المجاور، وأوصى السكرتيرة ألا يسمح لأحدٍ بالدخول إلى القاعة، ولا بإيقاظها.
+
مرَّت ساعتان. استفاقت رفيدة فجأة، فزعة كمن خرج من حلمٍ ثقيل. نظرت حولها، فوجدت القاعة خاوية، والهدوء يملأ أركانها. هرعت خارجة، تسأل السكرتيرة، فتخبرها بما حدث، فتدمع عيناها من الحياء والامتنان في آنٍ.
أنهت عملها، وعادت إلى غرفتها، توضأت، أدّت صلواتها، واستعدت للعمل الليلي في المطعم.
في المقابل، كان سليمان في منزله، يجلس إلى جوار والدته. تفكيره كله مشغول بها، بعينيها الذابلتين، وتعبها الذي قرأه في مسامات وجهها.
قال لوالدته، والقلق يعلو نبرته:
— “أمي، محتاج منك خدمة.”
— “آمر يا حبيبي.”
— “أنا كنت طلعت كفارة على اليمين اللي حلفته على رفيدة… وهصوم إن شاء الله. وكنت محتاج أودّيكي ليها… هي كانت تعبانة جدًا النهارده، ونامت في الاجتماع ساعتين من كتر الإجهاد، فمحتاج اطمن إنها بخير.”
رباب هزّت رأسها برِفقٍ:
— “أنا هقوم ألبس حالًا.”
انطلقت رباب مع ابنتها رنا وسليمان إلى سكن رفيدة. وحين وصلوا، قال لهم سليمان:
— “اطلعوا، واطمنوا عليها براحتكم… أنا هستناكم في العربية.”
طرقوا الباب مرة… لا إجابة.
انتظروا دقائق. طرقوا ثانية وثالثة، ثم نادوا باسمها. لا ردّ.
رنّوا على هاتفها… كعادتها الأخيرة، لم تُجِب.
رنا هبطت إلى سليمان تخبره:
— “بنخبط ومفيش رد، ومش بترد على التليفون.”
عيناه اتسعتا بقلقٍ مفاجئ.
— “عمرها ما تسيبكم كده بره على الباب.”
صعد بخطًى متسارعة، دق الباب بنفسه مرارًا. لا صوت. لا همس.
قال بحدة:
— “أنا هكسر الباب وانتوا ادخلوا شوفوها.”
بركلة قوية… ثم ثانية، انفتح الباب.
دخلت رباب ورنا بخوفٍ يتصاعد.
— “رفيدة؟ رفيدة؟”
لا أثر.
رباب نظرت حولها وقالت:
— “مش هنا، يا ابني.”
قال سليمان:
— “هتكون فين؟ كانت تعبانة الصبح… معرفش حصل لها إيه.”
بعد ساعتين من الترقب، والقلق يخنق الأنفاس…
وتخيّلات سوداء تراوده..وتذكّر تلك الليلة التي حاول أحدهم التعدي عليها… وقلبه يرتجف.
راح يجول في الشقة، يدعو في سره بكل ألم:
«يا رب… لو محتاجة مساعدة، ابعتلها حد، يوقّف جنبها… رجّعها بالسلامة.»
مش هفضل قاعد، هنزل أدور عليها!
ــ هتدور عليها فين؟ الدنيا فجر!
ــ مش مهم، مش هقدر أستنى.
وفي اللحظة التي همّوا فيها بالخروج، إذا بشهقة أنثوية فجأة… وتدخل رفيدة، مرهقة، ممزقة التعب.
ثم تصرخ:
— “فيه إيه ، مين كسر الباب ؟!”
التفّوا نحوها بلهفة…
ركضت إليها رباب تعانقها:
ــ كنتي فين يا بنتي؟ قلقتينا عليكِ!
نظرت رفيدة إلى سليمان، كأنها تستأذن منه، كأنه صاحب الأمر والنهي، كأنه انتزع منها حق الرد.
انكسر سليمان من الداخل، شعر أن نظرتها لم تعد تنتمي له… نظرة كانت في يومٍ ما اتكأت عليه، والآن… تخشاه.
رباب بهدوء قالت:
— “اتأدب يا حبيبي، ودفع كفارة… وهيصوم… أدبًا ليه؟ لأنه منعك مننا.”
رفيدة انهمرت دموعها، وارتمت في حضن رباب، كأنها تعود إلى وطنٍ طال اشتياقها إليه.
بعد أن جلست وارتاحت، وقف سليمان متوترًا، وسألها بنبرة حاول أن يخفي فيها ارتجاف قلبه:
— “كنا هنا بقالنا أكتر من ساعتين… وميعاد شغلك خلص من أكتر من ست ساعات… كنتِ فين؟”
نظرت إليه، بثقةٍ وعتاب:
— “ملكش حق تسألني… بأي صفة؟”
صمت، ثم همّ بالكلام، فقاطعته رباب:
— “هو كان قلقان عليكِ… ولاحظ تعبك، وقالّي نيجي نطمن.”
قالت رفيدة:
— “أنا بخير، الحمد لله.”
رنا أمسكت يدها:
— “مش باين خالص يا رورو… انتي مش قادرة تمشي.”
رباب قالت:
— “طمنينا، يا بنتي.”
قالت رفيدة بصوتٍ خافت:
— “كنت في الشغل.”
سليمان رد، مذهولًا:
— “بس شغلك في الشركة بيخلص بدري.”
قالت مقاطعة إياه بنبرةٍ جافة:
— “شغل إضافي.”
تقدم سليمان خطوة بترقب:
— “ليه؟”
ردّت بخجل:
— “الفلوس اللي كانت معايا خلصت… ولسه أول الشهر.”
صُدم سليمان، شعر بالقهر يجتاح صدره.. أحنى رأسه، شعر بطعنة في كرامته. كيف لم ينتبه؟ كيف اكتفى بمراقبتها من بعيد، وتركها تسقط من الداخل؟!
— “وانتي مطلبتيش ليه؟”
قالت، وعيناها تلمعان بتعفف:
— “أنا مش هشحت.”
صرخ بوجع:
— “فين الشحاتة؟ ده حقك…تطلبي مرتبك ينزل بدري… ليه تبهدلي نفسك؟ ليه؟ ليه؟”
صمتت.
رباب سألتها:
— “وانتي بتشتغلي فين؟”
قالت:
— “في مطعم شعبي… باليوم.”
سليمان كأن صاعقة ضربته:
— “مطعم؟ بليل؟ في مكان شعبي؟!”
صرخ:
— “ليه يا رفيدة؟ ليه؟!”
رفيدة وقفت فجأة، وصرخت بقهر:
— “علشان مش لاقية آكل! ومش معايا مليم! أظن مفيش سبب أقوى من ده.”
سليمان صاح:
— “وأنا فين ،إحنا فين من كل ده؟!”
قالت بقهر ونبرة مليئة بالخذلان:
— “مش انت اللي حلفت عليا ومنعتني بحلفانك!!
وحتى لو عمري ما كنت همد ايدي واطلب من حد فلوس،،مش اول مرة اشتغل شغل إضافي ولا أول مره اتبهدل أنا واخده على تعب القلب من زمان يا بشمهندس.”
قال بحزم:
— “الشغل ده تسيبيه. هيتصرف ليكي المرتب من بكرا.”
+
قالت برفض وثبات وقوة مواجهه اكتسبتها على يديه:
— “أنا مش هقبل بشفقة. وهكمل شغلي.”
قال بعصبية:
— “شغل إيه؟ وشفقة إيه !؟
ده حقك… والشغل ده لأ وألف لأ،انتِ متخيلة بتعرضي نفسك لـ إيه؟ بنت في حي شعبي فيه الشمامين والمتسولين وكل من وهبّ ودبّ بيعدي وانتِ بتشتغلي لا وايه شغل في نُص الليل ليه ليه!!
ده الحيوان الوسخ أتعرض ليكِ وأنتِ في شركه وفي وسطنا.مفيش شغل في المكان ده ولا شغل إضافي من الأساس وخلص الكلام.”
قالت بحزم:
— “مش من حقك تتحكم فيا.”
قال بثبات وقوة:
— “من حقي. من أول مرة كنتِ بتتحامي فيّا، وانتي اديتيني الحق ده… وأنا أخدته عهد على نفسي ما أفرطش فيه.”
قالت بمرارة:
— “وانت اللي كسرت العهد… وسلبت الحق ده بإيدك.”
+
وساد الصمت… إلا من أنين قلبٍ مكسور.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)