روايات

رواية نجوت بك الفصل التاسع 9 بقلم مي مصطفي

رواية نجوت بك الفصل التاسع 9 بقلم مي مصطفي

 

البارت التاسع

 

الفصل التاسع”في حضنهم،تذكّرت كيف يبدو الوطن”

 

قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.

+

بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨

+

————-

+

سادت القاعة لحظات من الصمت الثقيل بعد خروج “ندى”، وكأن الهواء ذاته قد تحوّل إلى جمرة من الحرج والغليان. بدأ الحضور في التسلل خارجًا واحدًا تلو الآخر، يهمسون، يتبادلون النظرات، يتجنّبون الحديث المباشر، وكأنهم يفرّون من وقع الحدث الذي لم يسبق له مثيل.

+

وبينما ما زال “سليمان” واقفًا أمام المنصة، تدخلت السكرتيرة إلى القاعة بخطوات حذرة، واقتربت منه وهمست بهدوء:
“Mr Soliman, there’s a meeting now with MK company representatives.”
السيد سليمان، هناك اجتماع الآن مع ممثلي شركة MK.
هزّ “سليمان” رأسه بإيجاز، وردّ، بصوت هادئ لكن حازم:
“I’ll be there in a few minutes.”
سأكون هناك خلال دقائق.
ثم التفت إلى “رُفيدة” التي كانت ما تزال جالسة في مقعدها، متجمّدة ملامحها بين صدمة وانتصار، وقال لها بنبرة دافئة:
– “هتروحي قسم الإدارة، هناك هيعرفوكي على مكان شغلك ومواعيد الدوام.
والسكن هيكون متوفّر قريب من الشركة، كله على نفقة الشركة طبعًا.”
هزّت “رُفيدة” رأسها امتنانًا، وقالت بخجل صادق:
– “بجد شكراً ليك… حضرتك الداعم الحقيقي ليا، والفضل يرجعلك بعد ربنا.”
ابتسم، وردّ بنبرة صادقة، وفي عينيه بريق فخر لم يخفِه:
– “لا… ده كله بسببك.
انتي اللي شاطرة ومتميزة وتستاهليها بكل جدارة.”

+

ثم أومأ لها مودّعًا، واستدار يغادر القاعة بخطوات ثابتة نحو قاعة الاجتماعات، تاركًا خلفه أثرًا عميقًا في قلب فتاة، لم تتوقّع يومًا أن يسطع اسمها في محفل، أو أن يكون من ينتصر لها… رجلٌ بحجم “سليمان”.
بعد أن أنهت “رُفيدة” تفاصيلها في قسم الإدارة، وعرفت موعد بداية دوامها، ومكان سكنها الجديد الذي خصصته الشركة للموظفين، قررت أن تعود مؤقتًا إلى السكن المؤقت الذي أقامت فيه خلال فترة التدريب، فقط لتأخذ أغراضها وملابسها وتنتقل.
ركبت سيارة صغيرة، وجلست في المقعد الخلفي، تحدّق من خلف زجاج النافذة بصمت. قلبها مزيج من الامتنان، الحذر، والخوف المجهول. لم تتوقع ما ينتظرها هناك.
دخلت الشقة، والهدوء يعم المكان. يبدو أن الفتيات الأخريات استغللن انتهاء التدريب في الخروج والتنزه قبل السفر. خيّم الصمت على الممرات، لكنّها ما إن خطت إلى داخل الصالة… حتى وجدت “ندى”.
كانت تقف هناك، في منتصف الصالة، تنتظرها، كأنها شبح أسود في لحظة هدوء قبل العاصفة.
نظرت إليها ندى بنظرة حاقدة، مشتعلة، وابتسمت بسخرية مريبة وقالت بصوت حادّ:
– “أنا هاخد حقي منك… مش هسيبك!
مش هخليكي تتهني بالحياة دي!
أنا اللي استاهلها… أنا وبس!!
انتي أخدتيها مني؟ طيب… يبقى خليني مهنكيش بيها!!”
لم تترك لرفيدة لحظة للرد. اندفعت ندى فجأة نحوها، تشدّها من شعرها أسفل النقاب بعنف، تصرخ، وتزمجر كمن فقدت عقلها تمامًا.
– “سيبيني! سيبيني يا مجنونة!! أنا معملتش فيكي حاجة!”
صرخت “رُفيدة”، تحاول دفعها، تتراجع، تدافع عن نفسها، لكن ندى كانت قد دخلت في نوبة هيستيرية.
رفعتها من كتفها ودفعتها بقوة، فسقطت “رُفيدة” على الأرض، مباشرة على ساقها المصابة… صرخت من الألم، ألم اخترق جسدها كالسهم، بينما أنفاسها تتقطع من الصدمة.
رفعت عينيها ببطء… وهناك، لمحت ما زاد رعشتها ضعفًا:
سكينة في يد “ندى”. كانت تقبض عليها بقوة، وكأنها على وشك الإقدام على شيء جنوني.
زحفت “رُفيدة” بكل ما أوتيت من قوة، دفعتها مرة بجسدها المرتجف، وركضت نحو الغرفة الصغيرة التي كانت تنام بها، تسحب رجلها المصابة، تقاوم الدموع والألم.
أغلقت الباب خلفها بقوة، وأسندت جسدها عليه، تتنفس بصعوبة، والدموع تنهمر على وجهها.
من الخارج، كانت “ندى” تصرخ وتضرب الباب بجنون:
– “افتحي يا كلبة!!
هقتلك!!
مش ههنيكي!!!
أنتي سرقتي حياتي!!”
رفيدة تبكي، تتلفت حولها، لا تعرف كيف تتصرف. في لحظة وسط هذا الرعب، خطر في ذهنها وجه واحد…
سليمان.
لكن لا وقت للبحث عن رقمه الآن، الموبايل في يدها، فتحت جهات الاتصال، تذكّرت أنها كانت قد حفظت رقم “رنا” شقيقته.
اتصلت… والدموع تخنق صوتها.
رنّ الهاتف مرة… مرتين…
– “رورو!
كنت لسه ع بالي، و…”
– “رنا!!!”
صرخت “رُفيدة”، تقاطعها بعياط وانهيار.
خلفها صوت صراخ ندى وضرب الباب يتصاعد:
“هقتلك يا رفيدة!!! مش ههنيكي! مش هسيبك!!!”
صوت تكسير الباب يُسمع واضحًا في الهاتف.
رنا صاحت من الفزع:
– “في إيه؟!!
رفيدة؟!
إيه الصوت ده؟!
مين دي اللي بتصرخ؟!”
رفيدة تبكي وتصرخ:
– “سليمان!!
كلمي سليمان!!!!!
أنا في خطر!!!
رنا بالله عليكي!!!”
وسُمعت ندى وهي تزعق بجنون من خلف الباب:
“هقتلك!!!

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية خادمة الرعد - ملاك ورعد الفصل الرابع عشر 14 بقلم اسماعيل موسى

+

رنا كانت لا تزال تمسك الهاتف بيد مرتجفة، صوت رفيدة في أذنها، وصدى الصراخ وتكسير الباب في الخلفية يزلزل أعصابها.
أسرعت تتصل بأخيها… سليمان.
ردّ بصوته المعتاد، هادئ، واثق:
– “رنوش”
لكن صوتها المرتعش صفعه بالواقع:
– “سليماااان!
الحق رفيدة! في واحدة بتصوت وبتقولها هقتلك! رفيدة كلمتني منهارة! إلحقها!!”
ما إن سمع تلك الكلمات حتى نهض فجأة، نفض جسده كأن صاعقة صدمته..لكنها لم تكن بحاجة لتفاصيل، فالخبر كان كافيًا.
أغلق الهاتف دون ردّ، خطف مفاتيح سيارته، وخرج يركض بأقصى سرعته. قلبه يخبط في صدره، ونبضه يسبق عقله، يقود السيارة بجنون، يدعي في سره:
“يا ربّ، احفظها… يا ربّ ما يكونش فات الأوان…”
أثناء الطريق، أمسك هاتفه واتصل بالشرطة، أعطاهم الموقع، وطلب التدخل فورًا.

+

في تلك اللحظات، كان الكابوس يتصاعد داخل الشقة.
ندى… جن جنونها.
وأخيرًا، نجحت في كسر الباب.
اندفعت إلى الداخل، و”رفيدة” تصرخ:
– “سيبيني!! أرجوكِ!!”
ندى تضحك كأنها فقدت عقلها:
– “وقعتي… مفيش مفر!
خلاص… هقتلك!”
رفعت كرسيًّا وانهالت به على “رفيدة”، التي حاولت تفادي الضربات، وتعثرت مجددًا فوق ساقها المصابة.
صرخت بألم، تأن، الزاوية تضيق، لا مجال للهروب.
ندى تقترب، وتلك السكينة تلمع في يدها.
رفعت يدها فوق رأسها، تتأهب…
رفيدة تصرخ بكل ما تبقى في صوتها، “سليماااان!!”

+

لحظة…
انفجار عنيف يهز باب الشقة.
صوت اقتحام.
وصرخة ندى تتوقف فجأة.
رفيدة، المغطاة بالدموع والعرق، تفتح عينيها ببطء…
وتراه.

+

سليمان.
بعينين تشعّان خوفًا، واهتمامًا، وجنونه الصامت اقترب منها، ركع بجوارها:
– “انتي كويسة؟”
رفيدة تهز رأسها نفيًا، تنهار بالبكاء، وصوتها بالكاد يخرج:
– “أنا… أنا مش قادرة…!”
سليمان ينهض، يلتفت لـ ندى، يمسكها من ذراعها بقوة، ينتزع السكينة من يدها، ويرميها بعيدًا.
– “كنت متوقع إنك مش هتسيبيها ف حالها…
من امبارح وأنا حاسس إنك مش طبيعية، وقولت مينفعش تباتي معاها، بس ما توقعتش إنك تعملي ده ف وعيك!
انتي شيطانة، ولازم تتحاسبي!”
في اللحظة دي، الشرطة وصلت.
ضباط يقتحمون المكان، يمسكون بـ ندى، وهي تصرخ بهستيريا، تقاوم، تبكي وتضحك في نفس الوقت:
– “هي السبب!! هي خدت مني كل حاجة !!”
سحبوها، وهي تنزلق معهم للخارج.
سليمان عاد إلى “رفيدة”، وجدها ترتجف، تبكي، وتقول من بين شهقاتها:
– “أنا… أنا ماعملتش فيها حاجة… ليه الكل بيكرهني؟!
حتى أقرب الناس بيئذوني؟! ليه؟!”
اقترب منها، جلس على الأرض بجانبها، حاول تهدئتها:
– “اهدي… اهدي خلاص.
بيعملوا كده علشان انتي أحسن منهم مليون مرة…
دي نفوس مريضة، وناس مش سوية.
صفحة واتقفلت خلاص.”
لكنها صرخت فجأة:
– “آاااه!!!
رجلي!!!
مش قادرة أتحمّل الألم!!”
اتسعت عيناه بقلق، اقترب منها أكثر:
– “رجلك…؟
هي نفس الرجل المصابة؟!”
هزّت رأسها: “أيوة… هي…”
أنينها كان صادقًا، مؤلمًا.
بهدوء، ومن دون أن يلمسها مباشرة، ساعدها على الوقوف، بإسنادها دون احتكاك، وقال:
– “يلا نروح المستشفى فورًا.”
وبالفعل، خرج بها، وضعها في المقعد الخلفي للسيارة بحذر شديد، وقاد إلى أقرب مستشفى.
استلقت “رفيدة” على السرير الطبي، تكتم أنفاس الألم، بينما الطبيبة الشابة، ذات الملامح الأوروبية الحازمة، تفحص ساقها برفق ولكن بدقة شديدة. كانت تضع سماعتها على كتفيها، وحاجباها معقودان وهي تتحسّس موضع التورّم.
رفعت رأسها ونظرت إلى “رفيدة”، وقالت بنبرة جادة:
“From the swelling and your pain reaction, I’m almost certain there’s a fracture in the distal tibia and fibula.”
من موضع التورّم وطريقتك في التعبير عن الألم، فأنا شبه متأكدة من وجود كسر في أسفل عظمتي الساق والشظية.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية بين الخيانة والحب الفصل الأول 1 بقلم سارة علام

+

 

“We’ll need to do an X-ray immediately to confirm the extent and the type of fracture.”
سنجري أشعة سينية فورًا لنؤكد مدى الكسر ونوعه بالتحديد.

+

ثم كتبت شيئًا سريعًا على ملفها، وضغطت على الزر لنداء أحد الممرضين. التفتت إلى “رفيدة” قائلة بلطف:

+

“Don’t worry, you’re in good hands. Let’s just get the images first.”
لا تقلقي، أنتِ في أيدٍ أمينة. دعينا نأخذ الأشعة أولًا.

+

ثم خرجت من الغرفة، ووجدت “سليمان” واقفًا بالخارج، يتأرجح بين القلق والدعاء، وما إن رآها حتى تقدّم بخطوات قلقة. بادرت بالحديث مباشرة:

+

“She seems to have a distal tibia-fibula fracture. We need an X-ray to confirm, but I’d suggest preparing for immobilization and possibly casting.”
يبدو أنها مصابة بكسر في الجزء السفلي من الساق والشظية، نحتاج لتأكيد بالأشعة، لكن على الأرجح سنحتاج إلى تثبيت وربما جبيرة كاملة.

+

ثم خففت نبرة صوتها قليلاً، وهي تلاحظ القلق في ملامحه:
“She’s in pain, but she’s strong. We’ll take good care of her.”
هي تتألم، لكنها قوية. سنعتني بها جيدًا.
أومأ “سليمان” برأسه بتقدير، وقال بهدوء:
– Thank you, doctor. I’ll take care of it.
طرق سليمان الغرفة وبعد أن سمحت له رفيده بالدخول ،، وما لبث بعد دقائق وتم
طرق الباب طرقًا خفيفًا، ثم فتحه قليلًا، وقال الممرض:

+

— “Excuse me, I need to help the patient to radiology.”
(عذرًا، أحتاج أن أساعد المريضة للذهاب إلى الأشعة).

+

لكن “سليمان” استدار فورًا من مقعده، وتقدّم خطوة واحدة أمام الممرّض، جسده سدّ الطريق، ونظراته كانت صارمة.
— “No need, just show me the way. I’ll take her myself.”
(لا حاجة، فقط أرِني الطريق. سآخذها بنفسي).

+

قالها بنبرةٍ هادئة، لكن حازمة، وعيناه تُطلقان نظرة غيرة واضحة، شزَر بها وجه الشاب الذي تراجع بخجل وفتح له الطريق.

+

اقترب سليمان من السرير، ومال نحو “رُفيدة” بلطف، صوته متهدّج بالحنان:

+

— “هقومك بالراحة… ماتخافيش، أنا هقف بره طول الأشعة، وهطلّب ممرضات يكونوا جوه… مفيش ولا ممرض هيقرب، ماشي؟”
هزّت رأسها بألمٍ صامت، وعينيها تتهربان من عينيه كأنها لا تملك طاقةً للكلام.
أسندها برفق، ساعدها على الوقوف، وما إن خطت أولى خطواتها المتعبة، حتى علا أنينها المكتوم، وتشبثت بذراعه فجأة، كأن الألم قد انقضّ عليها كوحشٍ غادر. صاحت بصوتٍ باكٍ:
— “آااه… رجلي… مش قادرة…”
شدّت على ذراعه بقوة، وجسدها يهتز من شدة الوجع. تسارعت أنفاسها، ودموعها سالت بلا مقاومة.
انكمش قلب “سليمان” بداخل صدره، ولعن في سرّه “ندى” وكل لحظة جعلتها تتألم. أسندها جيدًا، وواصل بها طريقه حتى وصلا إلى غرفة الأشعة.
مشيا معًا نحو قسم الأشعة، ورغم ثقل الخطى، كان في قربه ما يمنحها طمأنينةً لم تألفها من قبل… وكأن الألم حين يُشارك، يفقد بعضًا من قسوته.
دخلت “رُفيدة”، وتمّ التأكيد سريعًا بعد التصوير:
— “There is a confirmed fracture. We will apply a cast now.”
(هناك كسر مؤكد. سنقوم بالتجبير الآن).
خرجت بعد دقائق، وقدمها اليمنى مُجبّسة تمامًا، تمشي بصعوبة، تتكئ على “سليمان” الذي لم يفلت يدها لحظة.
أوصلها حتى السيارة بنفسه، فتح لها الباب، وأسند جسدها بلطف حتى استقرّت على المقعد.
دار حول السيارة، وركب إلى جوارها، ثم استدار ناحيتها وقال بنبرةٍ حازمة، لكن صوتها يشوبُه حنوّ خفي:
— “أنا هاخدك البيت عندنا.”
نظرت إليه باستغراب مُرهق، وفتحت شفتيها لتهمس برفضٍ ضعيف:
— “لأ… مش هينفع…”
قاطعها دون أن ينتظر:
— “أنا بقولك خبر… مش باخد رأيك. انتي دلوقتي في اجازة مفتوحة بسبب رجلك، ومفيش حد في السكن الجديد يقدر يعتني بيكي. فـ خليكي عندنا. مش بدخل في حياتك… بس شايف إن ده الصح.”
صمتت “رُفيدة”، لا قوّة فيها لتجادل، ولا قلبها يعرف كيف يرد على هذا الصدق المطمئن… فاكتفت بالنظر من النافذة.
كان الطريق صامتًا إلا من صوت محرّك السيارة، وخفّة ارتجاف “رفيدة” بين حينٍ وآخر، وهي تتكئ على المقعد في إرهاقٍ ظاهر. ثم همست بصوتٍ واهن، بالكاد خرج من بين شفتيها:
— “ممكن… نعدّي على السكن… أجيب حاجتي؟”
لم يلتفت “سليمان” فورًا، لكنه هزّ رأسه وهو ممسك بالمقود:
— “حاضر… بس مش هينفع تطلعي سِلِم برجلك دي. أنا هوصلك البيت، وأخلّي رنا تروح معايا تجيب حاجتك.”
أومأت بصمت، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم أغمضت عينيها بإرهاق، وأرجعت رأسها إلى مسند الكرسي خلفها.
كان الألم ينهشها من الداخل، لا في الجسد وحده… بل في القلب والروح.
أغمضت عينيها، وما لبثت الذكريات أن اندفعت كالسكاكين، تبدأ من أول صرخة لها في الملجأ، لأحداث متتالية من الخذلان والظلم، لنظرات الاحتقار، لصوت “ندى” وهي تصرخ وتدفعها نحو الموت. لم تحتمل.
انهارت.
انفجرت الدموع من عينيها، شهقة خرجت رغماً عنها، ثم تتابعت شهقاتها حتى صارت أنفاسها متقطعة، عاجزة عن التنفس بشكل منتظم، كأن الهواء صار سُمًا.
توقف “سليمان” فجأة، وأدار جسده نحوها في ذعر:
— “رفيدة! فيه إيه؟! رجلك بتوجعك؟ حاسّة بإيه؟ ردي عليا!”
لكن لم يكن هنالك صوت إلا البكاء… بكاء أشبه بالانهيار. شهقات متتابعة، وأنفاس تخونها، وصوتها يرتجف بنشيجٍ مؤلم لا تملك إيقافه.
صوت قلبه ارتفع داخله، اختنق القلق في صدره وهو يهمس:
— “اهدي… رفيدة اهدي… خدي نفسك… أنا هطلع بره العربية، وانتي حاولي ترفعي النقاب وتتنفسي… اهدي، انتي معايا، مفيش حاجة هتأذيكي، ده وعد. ولو مش قادرة خالص، عرفيني نرجع المستشفى فورًا.”
لم تنطق، لكنها هزّت رأسها بالنفي، ودموعها تنساب في صمت. فتح “سليمان” الباب وخرج، أعطى ظهره لها ووقف متسندًا على زجاج السيارة.
رفعت “رفيدة” النقاب ببطء، تحاول أن تلتقط أنفاسها كما أرشدها، تنظم دخول الهواء لرئتيها، تحاول أن تُقنع قلبها أنها بأمان… أنها ليست وحدها.
وبعد دقائق ثقيلة، هدأت أنفاسها تدريجيًا. أنزلت النقاب، واستدارت برأسها ببطء لترى “سليمان” ما زال بالخارج، واقفًا بنفس وضعه، لم يلتفت.
طرقت على الزجاج بخفة.
التفت “سليمان” في لحظة، وفتح الباب على الفور، جلس بجانبها يتأمل وجهها القلق:
— “أنتي كويسة؟! طمنيني…”
تمتمت بصوت خافت:
— “أنا كويسة… متقلقش… الحمد لله.”
أومأ برأسه، وانطلقت السيارة من جديد.
وصلوا البيت.
نزل بسرعة وفتح الباب وساعدها على النزول، ووقف بجوارها حتى دخل بها الشقة. ما إن انفتح الباب حتى هرعت “رباب” و”رنا” من الداخل.
— “أبيه! مش بترد ليه علينا؟! إحنا كنا هنموت من الرعب!”
قالتها “رنا” بانفعال، بينما هرعت “رباب” لاحتضان “رفيدة”:
— “تعالي يا بنتي… تعالي ارتاحي يا حبيبتي…”
جلست “رفيدة” على أقرب كرسي، لكن جسدها كان يتهاوى، وكأن الروح تئن من الداخل، فجثت “رباب” إلى جوارها وأخذتها في حضنها، وضمتها بحنانٍ أموميّ دافئ، وهي تطبطب عليها دون كلام.
أما “رنا”، فجلست بجوارهما مذهولة:
— “إيه اللي حصل؟! مين اللي كانت بتهددها وبتصرخ؟!”
تنهد “سليمان” وهو يجلس، وصوته يمتلئ بالغضب والخذلان قص عليهم بإيجاز ما حدث.
ارتجفت “رباب” وهمست، ودموعها تترقرق:
— “يا ربّي… الحمد لله، الحمد لله إنها جات على قد كده… حسبي الله ونعم الوكيل فيها وفي أمثالها.”
ثم تمسّكت بـ”رفيدة” أكثر، تحاول أن تمسح عنها بقايا الخوف:
— “هتبقي بخير يا حبيبتي… مش هنسيبك أبدًا لوحدك.”
استدارت إلى “رنا”:
— “قومي يا حبيبتي، حضّري أكل لرفيدة، تاكل وتاخد دواها وتنام.”
قامت “رنا” مسرعة نحو المطبخ، بينما ظل “سليمان” جالسًا ينظر إلى “رفيدة”، قلبه يعتصره الحزن.
كانت ما تزال في حضن “رباب”، صامتة… لكن عيناها أغلقتا، ووجهها أراح رأسه على كتف السيدة التي لم تعرفها إلا منذ يومين، لكنها احتوَتها كأم.
دخلت “رنا” تحمل صينية الأكل:
— “يلا يا حبيبتي، قومي كلي واتغذي علشان الدوا.”
اقتربت منها، لكنها توقفت فجأة، وهمست:
— “يا ماما… دي نامت!”
قال “سليمان” بصوت منخفض:
— “من تعب اليوم وأحداثه… كانت منهارة.”
أضافت “رباب” وهي تراقب وجه “رفيدة”:
— “مش سهل اللي مرّت بيه… بس كده نومتها مش مريحة، ورجلها محتاجة تتمدّد صح.”
قال “سليمان” بهدوء حزين:
— “نجرب نصحيها، تاكل وتاخد دواها، وبعدين تنام براحتها.”
اقتربوا منها بلطف، حاولت “رباب” تحريكها بخفّة، لكن “رفيدة” تمتمت برفضٍ خافت، وتشبثت بملابس “رباب”، وكأنها تستغيث من فكرة الابتعاد عن هذا الحضن.
فنظر الثلاثة لبعضهم، ثم عادوا للسكوت.
وكأن قلب “رفيدة” قد وجد وطنه أخيرًا.

دي رواية مميزة جدًا جرب تقرأها  رواية دقة قلب الفصل الثامن عشر 18 بقلم مريم حسين

+

 

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *