رواية نجوت بك الفصل التاسع عشر 19 بقلم مي مصطفي
رواية نجوت بك الفصل التاسع عشر 19 بقلم مي مصطفي
البارت التاسع عشر
الفصل التاسع عشر” دفء المشاعر”
قبل أن تغوص في هذا الفصل…
توقّف لحظة، خذ نفسًا عميقًا،
و—بكل خشوع—ردّد معي:
اللهم صلِّ على محمد، عددَ ما خطّت الأقلام، وما رفرف السلام، وما تنفّس الأنام.
صلِّ عليه حتى يُطمئن القلب، وتُفتح الأبواب، وتُروى الأرواح.
+
بسم الله نبدأ…
وبنور الصلاة عليه، نُزيّن الحروف ونُغلف المعاني…
فما طابت الكلمات إلا حين اقترنت باسمه، وما سكنت القلوب إلا حين صلّت عليه.
صلِّ على الحبيب… ثم اقرأ.✨
+
————-
+
غادر سليمان إلى مقرّ عمله، وظلّت رفيدة في المنزل تُحلّق على أجنحة الفرح، شاردة النظرات، تشرق الابتسامة على وجهها ولا تفارقه. كلّ شيءٍ حولها بدا أجمل، وكأنّ ضوءًا خفيًّا أضاءَ تفاصيل اليوم.
تلتقط هاتفها لتتفقد إشعارات فيسبوك، التي لم تهدأ منذ أمس، وكلّما أضاءت الشاشة زاد قلبها خفقًا. فتحت المنشور لتُفاجأ بعشرات التعليقات المبارِكة، وعشرات من طلبات الصداقة تنهال عليها.
التفتت إلى رنا بدهشة:
– “رنا، مين دي؟ أقبلها ولا لأ؟”
– “دي خالته، دي عمّته، ودي صاحبة ماما…”، تردّ رنا مبتسمة، تفسّر لها واحدة تلو الأخرى.
+
وفي خضمّ تعارفها على تلك الوجوه الجديدة، أتاها إشعار برسالة جديدة من “المهندس سليمان”. شهقت رنا فجأة بمرح وقالت بتمثيل اندهاش مصطنع:
– “هو حد يسمّي جوزه المهندس سليمان؟”
ضحكت رفيدة بخجل،:
– “بس بقى يا رخمة، خلاص!”
تقوم من مكانها متحمّسة، وتذهب إلى المطبخ حيث كانت رباب تقف تعدّ الغداء، وتقول لها:
– “ماما، تحبي أساعدك؟ ينفع أطبخ النهاردة؟”
رباب تهزّ رأسها بحنان:
– “لا يا بنتي ارتاحي النهاردة، إحنا نطبخ بكرا سوا.”
لكن رفيدة تُصرّ:
– “لا، نفسي أعمل الغدا النهاردة بإيدي… بس طبعًا تحت إشرافك.”
وافقت رباب مبتسمة، وبدأت رفيدة بإعداد الغداء، وضعت صينية البطاطس بالفراخ في الفرن، وأعدّت الأرز بالشعيرية، وزيّنت المائدة بأطباق من السلطة المنعشة.
وخلال كل ذلك، لم يتوقف هاتفها عن الاهتزاز برسائل سليمان:
“وحشتيني.”
“بتعملي إيه؟”
“طمنيني عليكِ.”
كانت تردّ عليه بحب، لكن دون أن تخبره أنها تطبخ، أرادت أن تكون المفاجأة كاملة.
وحين فرغت من إعداد الطعام، قالت لرباب بابتسامة:
– “هروح أخد شاور بقى وأغيّر هدومي.”
رباب تردّ وهي تمسح يديها بمنشفة المطبخ:
– “يلا، ادخلي خدي دوش والبسي بيچامة كده أو دريس بيتي.”
تجمّدت رفيدة في مكانها من الصدمة، واتسعت عيناها بخجل.
رباب تشدّها من يدها وتقول بمزاحٍ أموميّ:
– “تعالي، هتتّعبي قلبي معاكي. أنا عارفة.”
وأخرجت لها ميني دريس بيتي بنصف كم.
ترددت رفيدة، ثم أخذت نفسًا عميقًا، ودخلت لتستحمّ وتغيّر ملابسها، وخرجت بعدها بخجلٍ ظاهر على ملامحها.
فجأة سمعت صوت الباب يُفتح… استغربت، إذ لم يرنّ الجرس كعادته.
تسلّلت ببطء، حافية الخطوات، تراقب بخوفٍ وتردّد من القادم. وقبل أن تصل، سمعته يناديها:
– “بتتسحّبي ليه؟”
ارتجفت من المفاجأة، كان هو… يقف وقد ارتسمت على وجهه علامات استغراب مشاكس.
– “أصل… سمعت صوت الباب، واستغربت… عارفاك ما بتدخلش من غير ما ترنّ الجرس. خوفت يكون حد غريب.”
كتم ضحكته، وتصنّع الجديّة، وسألها:
– “أنا كنت برنّ الجرس ليه قبل كده؟”
– “علشان أنا كنت لابسة نقاب، ومش من محارمك.”
ابتسم، واقترب منها وقال بصوتٍ رخيم:
– “مظبوط… والوقتي أنا أبقى إيه؟”
سكتت، فهمت مقصده، وعجز لسانها عن النطق.
رفع وجهها بلطف، وجعل عينيها تلتقي بعينيه، وقال:
– “ردّي… أنا أبقى ليكي إيه؟”
تاهت نظراتها في عينيه، ولم تجد إلا إجابةً واحدة خرجت من قلبها دون استئذان:
– “أماني الوحيد…”
ابتسم ابتسامةً واسعة، وقال:
– “وإيه كمان؟”
فهمست، وهي ما تزال تائهة فيه، وكأنها أُسرت في مغناطيس حنانه:
– “وجوزي…”
كان قلبه يخفق يسمعها لأول مرة.
كان المشهد كأن الزمن توقّف عند تلك اللحظة، لا شيء في العالم يُسمع سوى نبض القلبين، إلى أن قطع السكون صوت رنين الهاتف.
أسرعت رفيدة بالابتعاد، وقد بدا عليها الارتباك الشديد، لكنّه أمسك بيدها بلطف، وأعادها إلى جانبه.
نظر إلى الهاتف:
– “دي خالتو نيڤين.”
فتح مكالمة الفيديو عبر تطبيق “ماسنچر”، وما إن ظهرت حتى صاحت بفرح:
– “أهلاً أهلاً بالعريس! ألف مبروك يا حبيبي!”
– “الله يبارك فيكي يا خالتو، عقبال ملك إن شاء الله!”
ضحكت نيڤين بسخرية:
– “ما لو كنت اتقدّمتلها كان زمانها مراتك! ده إنت كنت صغير ومكنش على لسانك غير أنا بحب ملك،محدش هيتجوز ملك غيري.”
تجمّدت يد رفيدة في يده، واغرورقت عيناها بالدموع. قامت لتبتعد، لكنه شدّ يدها برفق، وأجاب بثبات:
– “قولتيها بنفسك يا خالتو… كنت صغير، ٤ سنين! ومش فاكر حاجة من الكلام ده غير منكم. كبرت،ومش شايف ملك غير كأخت ليا، ومفيش بينّا حاجة…ولا كلمتها ولا عشمتها بشيء،فَـ ملهوش لازمه الكلام ده”
– “ماشي يا أخويا… مبروك. مش هتبعتلنا صورة مراتك؟ عايزة أشوف اللي وقعتك كده!”
قال بابتسامة:
– “مراتي صورها متتبعتش، بس علشان انتي خالتي…”
ثم شدّ رفيدة إلى صدره، ووجه الكاميرا نحوهما وقال:
– “لايڤ، مش صورة… دي اللي وقعتني ومسمِّتش.”
شهقت نيفين من جمال رفيدة، وقالت باندهاش:
– “يا مشاء الله! تقول للقمر قوم وأنا أقعد مكانك!”
رفيدة قالت برقة غير مقصوده:
– “إزي حضرتك يا طنط؟”
ردّت نيفين:
– “بخير الحمد لله. ألف مبروك ربنا يسعدكم.”
– “الله يبارك في حضرتك، تسلمي.”
ثم سألت نفين سليمان:
– “وقعت عليها فين؟ رباب كانت مشغولة معرفتنيش التفاصيل.”
دخلت رباب فجأة من المطبخ:
– “بتتكلموا مع مين؟”
وجه لها سليمان الكاميرا:
_ نيڤين
تناولت رباب الكاميرا بهدوء بين يديها، ورفيدة غير منتبهة لنظرات سليمان التي كانت تلاحق ملامحها الحزينة. اقترب منها بخفة، وانحنى قليلًا حتى صار همسه على مقربة من أذنها، كأنما أراد أن يوقظ بها سِرًّا لا يليق به أن يُقال جهرًا.
– “مالك مكشرة ليه كده؟”
التفتت نحوه بابتسامة خفيفة، كأنها تخشى أن تُخبره بما لا يليق، أو أن تبوح بشيء لم ينضج بعد في قلبها. فقالت:
– “مفيش حاجة… هقوم أجهز السفرة على ما ماما تخلص.”
ثم استدارت سريعًا، كأنها تتعمد الفرار من نظرته، أو تتهرب من ردٍ لم تمنحه فرصة أن يقوله، فتبعها هو دون أن ينبس بكلمة، كأن في خطواته رغبة صامتة في البقاء قربها.
+
في الجانب الآخر من الشقة، كانت نيفين قد وجهت كلامها إلى رباب وهمست بنبرة امتعاض خفيفة:
– “هي معزومة عندكم النهارده ولا إيه؟”
ضحكت رباب بخفة، وقالت بنبرة هادئة:
– “لا مش معزومة، هي قاعدة معانا…”
لكن نيفين شهقت فجأة، وقطعت عليها الكلام:
– “يا خرابي! مش قولتي كتب كتاب بس؟ والفرح لسه لما تنزلوا مصر؟!”
تنهدت رباب في ضيقٍ خافت:
– “أيوه فعلًا، ما انتي مش سايبة فرصة أكمل كلامي.”
ثم تابعت توضيحًا، وهي تشير برأسها تجاه الشقة المقابلة:
– “سليمان بيكون في الشقة اللي قصدنا… هي كانت في بعثة عشان ما شاء الله كانت متفوقة، وجات هنا بعثة، واتقابلوا في الشركة… وربنا وفق بينهم وحصل نصيب. وسليمان لما قرر يكتب الكتاب، قال مش هأمن عليها تقعد في سكن لوحدها. وكلنا معاه في الرأي… دي بنت بردو وفي غُربة.”
لكن نيفين تساءلت بنبرة لا تخلو من الدهشة:
– “وهي أهلها موافقين كده؟ تقعد عادي؟”
رباب تهربت من الإجابة، كما لو كانت لا تريد الغوص في تفاصيل لا تخص نيفين، فقالت بنبرة قاطعة:
– “وفيها إيه يعني؟ ما هي قاعدة معايا ومع رنا، وسليمان في الشقة التانية، وهو جوزها… مفيش حاجة.”
ثم أنهت المكالمة سريعًا، متظاهرة بالانشغال:
– “سلام بقى، هكلمك وقت تاني… السفرة بتتجهز، وسليمان جاي من الشغل ميت من الجوع.”
أغلقت الهاتف، وأخذت نفسًا عميقًا، كأنها تنفض عن صدرها توترًا أفسد سكينتها.
في المطبخ، كان سليمان قد لحق برفيدة، يساعدها في إعداد السفرة، تتوسطهما رنا التي لم تسلم من مزاحه المعتاد. كان يمرّر التعليقات بخفة ظل، يمزج بين الجدّ والمشاكسة، فيحرك الأجواء من حولهم كأنها حياة جديدة تُكتب في كل لحظة.
+
جلسوا جميعًا لتناول الغداء.
وفي أول لقمة تذوقها سليمان من صينية البطاطس، أطلق صوت إعجاب تلقائي:
– “همممم… واو، تحفففففة!”
رفيدة نظرت إليه بلهفة:
– “عجبتك؟”
– “جداً!”
رباب قالت بفخر:
– “دي من عمايل إيدين مراتك.”
نظر إليها بدهشة ممزوجة بالإعجاب:
– “بجد؟ مكنتش متوقع إنك شاطرة كده! أنا هحسد نفسي… تسلم إيدك يا حبيبتي.”
ثم أمسك يدها وقبّلها.
أما رفيدة… فقد كانت غائبة عن الوعي من شدّة الصدمة، لا تزال تحاول أن تستوعب كلمة “حبيبتي” وقبلة اليد، لكنها لم تستطع كتمان الابتسامة.
تناولوا طعامهم بسعادة، وقضوا سهرة مليئة بالضحك والمزاح، ولم تخلُ من غزلٍ رقيقٍ ينسجه سليمان بين كل لحظة وأخرى، يُغلف به قلب رفيدة كوشاحٍ من طمأنينة وحنان.
+
أشرقت شمس اليوم الثاني، ليس فقط على المدينة، بل على قلب رفيدة أيضًا، وهي تستيقظ لأول يومٍ لها في عملها كزوجةٍ لسليمان.
لأول مرة، تقف أمام دولابها بعينٍ تبحث عن الجمال، لا التستر فقط. لأول مرة تهتم بأن تطل في أبهى صورة.
ارتدت قميصًا فضفاضًا بلونٍ زيتيٍّ فاتح، تنسدل أكمامه كنسمةٍ صيفيةٍ خجولة، وأسفلَه تنورةٌ كريمية اللون، طويلة، تنساب على جسدها في أناقةٍ محتشمة، تتوسطها أزرار زيتية تصطفُّ في سكون كأنها تنسج خيطًا من الرقة.
لفَّت نقابًا حريريًا أبيض ناصعًا حول وجهها، بلا مبالغة، بلا زينة صاخبة، فقط قرط صغير يتدلى بأسفل النقاب، وخاتمان ذهبيان يزينان يديها في هدوء.
حقيبةٌ بلون الطقم، بتفاصيل ذهبية دقيقة، وحذاءٌ أنيقٌ مزدان بخرزٍ ناعمٍ ولآلئ، يشبه تمامًا تلك الطفولة المختبئة في ملامحها الهادئة.
حين خرجت من الغرفة، وجدت سليمان جالسًا على الأريكة، يقلب هاتفه.
وكأن قلبه ناداه… رفع عينيه، فرآها.
سكنت عينيه فوق ملامحها، وقف مذهولًا، مأخوذًا، وكأنها نزلت لتوّها من لوحةٍ معلقةٍ في السماء.
اقترب منها، وعيناه لا تفارق عيناها، وابتلع صمتهما الهواء بينهما، حتى مد يده برقة، ورفع النقاب عن وجهها ببطء، وهمس:
ــ “أنا مش حِمل الجمال ده كله… ما شاء الله.”
ثم انحنى ليطبع قُبلةً خفيفة على جبينها:
ــ “يا شقى قلبي معاكي، والله.”
ابتسمت له، بخجلٍ لا يخلو من دفء، وقالت:
ــ “صباح الخير.”
أجابها وهو لا يزال مأخوذًا بجمالها:
ــ “صباح النور والجمال.”
قاطعتهم رنا بصوتٍ مازح:
ــ “يلا يا أبيه، مش كل يوم تتسمّر كده قدامها!”
ضحك سليمان، ولم يُنزل عينيه عنها:
ــ “اللي ميُقفش قدام الجمال ده، يبقى أعمى البصيرة قبل البصر.”
ضحكت رنا بخفة:
ــ “عندك حق، والله، أنا نفسي بقف مِتسمّره كده،
ما شاء الله.”
رفيدة احمرّ وجهها حياءً، فتوجهت نحو رباب، وقبّلت رأسها:
ــ “صباح الخير على أحلى ماما.”
نظرت لها رباب بعينين تنبضان حبًا:
ــ “صباح النور والسرور لأغلى بنوتة، حبيبة أمها.
ما شاء الله، النهاردة وشّك منور أكتر من أي يوم… في لمعة ف عيونك محلياكِ أضعاف.
أنا خايفة عليكي من العين.”
ردّت رفيدة وهي تمسك يدها:
ــ “مفيش خوف عليّا طول ما عندي أم زيك تدعيلي.”
احتضنتها رباب بفرح، ورفيدة بادلتها حضنًا عميقًا.
من خلفهم، وقف سليمان ورنا يراقبون المشهد وعيونهما تدمع بحب خالص.
وبعد الإفطار، ناداها سليمان برقة غير معهودة:
ــ “يلا يا روڤي، نمشي على الشغل.”
توقفت رفيدة فجأة… روڤي؟!
لم يُنادِها أحد بدلعٍ من قبل سوى رنا، لكن نطقه بصوته بدا مختلفًا… دافئًا، حنونًا، وكأن إسمها خُلق خصيصًا ليُقال بصوته وبدلعٍ مختلف ومميز مثله.
+
ركبت رفيدة السيارة بعد أن ساعدها سليمان على تعديل طرف التنورة بلطفٍ لا يخلو من حرص، ثم أغلق الباب بهدوءٍ وكأن قلبه خلفه.
ركب إلى جوارها، بدأ يقرأ دعاء السفر بصوتٍ رخيم، وهي تردّد خلفه، ونبضها يتسارع.
مدّ يده وأمسك يدها بين كفّيه، وأطلق تنهيدة خافتة وبنبرة مرحة قال:
ــ “أول مرة تركبي جنبي… من غير ما تعتبريني تاكسي.”
ضحكت بخجلٍ، وراحت تسرق النظرات من خلف النقاب، فأكمل بهدوء:
ــ “اسمعي بقى… هسمّعك حاجة بحبها أوي، قصيدة السيدة الأولى… لِـ عمرو حسن كتبها، بس بجد بحس إنه كتبها عنك.”
قالت وهي تبتسم:
ــ “واضح إنك بتحب عمرو حسن.”
همس وهو يتأمل عينيها:
ــ “بحب الشعر عامةً… بس بحبك إنتِ أكتر.
وبحب دلوقتي الشعر أكتر ، علشان بيوصف رُبع إحساسي ليكي.”
توقّف نفسها في صدرها.
وضعت كفّيها على وجهها في ارتباكٍ طافح، خجلٌ لا يشبه ما قبله، وسكوتٌ يقول ألف اعتراف.
ضحك سليمان بحنان، وقال:
ــ “اهدي واتنفسي… مش عايز أضغط عليكي.
لسه فيه كلام كتير جوايا، مستني اللحظة اللي نقدر نقوله فيها سوا.
خليني أساعدك نفتح الباب اللي بينا… أنا عارف إنه موارب، بس محتاج أمّد إيدي وأفتحه شوية.”
هزّت رأسها بصمت، ثم همست بصوتٍ بالكاد خرج من بين أنفاسها:
ــ “مش هتسمّعني القصيدة؟”
فتح القصيدة، وامتلأت السيارة بصوت الشاعر، يتسلل من السماعات كأنه يُرتِّل نبضه بصوتٍ مسموع.
كان سليمان يمسك يدها طوال الوقت، يربّت على كفها بإبهامه، يطبطب على الخوف، وعلى الحياء، وعلى كل شيءٍ لم يُقال.
وحين وصل الكوبليه الذي يحسه عن ظهر قلب، قاله بصوته هو، لا صوت الشاعر:
“مكانك عندي غير الناس،
يا ست الناس وتاج راسهم،
تعيشي وتفضلي غالية
وحابسه أنفاسهم…”
التفت إليها، فوجد عينيها مغرورقتين.
ابتسم، وأكمل بصوتٍ أهدأ:
“بشوف الخلق تاه مني
على قلبي اللي تاه مني
وقلبك لو اتاه مني
وجع وملامه هاحبسهم…”
+
رفيدة لم تستطع أن تتكلم، كانت تطير، أخف من النسمة، أرقّ من الحلم،
مالت برأسها على كتفه، وشدّت على يده، كأنها تتمسك به من الانجراف في تيار المشاعر.
سليمان شعر أن حاجز الخجل الأول قد سقط، وأن قلبها أخيرًا بدأ يتكلم، بصمته، وبميله، وبحُضن الرأس.
استمر يردد:
“مفيش بَعدك مكان ولا ناس
ولا ليلة ف بُعدك أعيش
ولسه زي ما قابلتك
على وضعك وما كبرتيش…”
“سعيد يومك يا مولاتي
يا صبح وطل ف حياتي
شجر زهران، أمل ممدود
هوا عابر، ندى، ف ورود…”
كانت تهمس:
ــ “جميلة…”
فيرد:
“فصوص الماس تراب تحتك
وقلب الناس رصيد مسروق
يا أصفاهم وأبدعهم
يا أحلاهم وأجدعهم…”
“يا مفردهم ويا أجمعهم
يا ميت واحدة في روح واحدة
ما أقولش معاها، أقول معهم…”
+
هنا شدّت رفيدة على يده، كأن الجملة الأخيرة ضربت على أوتار قلبها.
نظرت إليه من تحت النقاب بنظرات مُحبة
وهو لا يزال يردد:
“وجيت لك بعد ما الأيام
خدت مني وما ادتنيش
وكنت بعيش علشان
كان لازم إني أعيش…
وجاي لك مستوي من الناس
ومن الأيام وعمايلها
لكن جوايا نقطة نور
حايشها القلب وشايلها…”
“وقطعة من البازل ناقصة
عشان إيدك تكملها…”
سكت للحظة، ثم نظر لها وقال بصدق:
ــ “وإنتي فعلاً… القطعة اللي كانت ناقصة.”
+
حاولت رفيدة أن تخفي ارتجافة قلبها، لكنها لم تُفلح.
ميلت رأسها عليه، وأغمضت عينيها، وراحت تنفُسها يسير بانسجامٍ مع خطواته.
“وأديني قصاد جمال قلبك
لا مال ولا قوة ولا حاشية
بداوي جرحي بحنانك
يا رحمة ربنا الماشية…”
“وأملي وكل طلباتي
إيديكي تمر ف جراحي…”
+
وصلوا الشركة.
لكن قلب رفيدة… لم يصل بعد. كان لا يزال محلّقًا في السماء.
وحين وصلا إلى الشركة، نزل معها، يده لا تزال في يدها، حتى أوصلها مكتبها وقال:
ــ “هتوحشيني، عندي اجتماع النهاردة ومشغول، وأكيد أنتي كمان عندك شغل كتير… خدي راحة في النص، متتعبيش نفسك.”
قبّل يدها، وهمس:
ــ “يلا، سلام.”
قالت بابتسامة واسعة:
ــ “سلام، ربنا معاك ويعينك.”
ثم صعد إلى مكتبه، لكنها لم تغب عن باله لحظة.
كل ساعة، يرسل لها رسالة، أو يمر ليطمئن.
وفي منتصف اليوم، نزل وجلس معها قليلًا، يتحدثان ويضحكان، ثم عاد ليستكمل عمله، لكن قلبه بقي هناك… محيطًا بها، محتضنًا إياها في كل لحظة، وفي كل مكان.
———————————————————-
+
بليل الساعة ٧ إن شاء الله هينزل فصل جديد.
– وفيه فصل نزل من النوڤيلا الجديدة
“مأوى القلوب”
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية نجوت بك)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)