رواية مملكة الصعيد الفصل السابع عشر 17 بقلم سالي دياب
رواية مملكة الصعيد الفصل السابع عشر 17 بقلم سالي دياب
البارت السابع عشر
انطلقت صرخة “أروى” يتبعها صوت “ورد”، فهرع الجميع نحو “ريناد” الملقاة على الأرض.
وفي فناء قصر عثمان الجبالي، اندلعت ملحمة جديدة؛ إذ اقتحم كبير مملكة الصعيد الساحة بقوة، رافعًا يديه مطلقًا أعيرة نارية متتالية أفزعت الجميع، فالتفتت الأبصار نحوه.
وكان على رأسهم ذاك الرجل الذي وقف أمام “مروان”، والذي اتسعت عيناه في صدمة حين رأى صالح الصاوي على قيد الحياة. كان صالح يقترب بخطواته الثقيلة، أنفاسه حادة وعيناه تقدحان غضبًا. لم يكن يرتدي الزي الصعيدي، بل بنطالا وقميصا أبيض، ورغم ذلك بدا أكثر هيبة وإجرامًا مما كان عليه بوقاره القديم.
1
توقف أمام عبد الجواد وقال بصوت أجش كأنه آت من أعماق الجحيم:
– أمانة إيه يا واكل ناسك ؟ كلها نفشت ريشها لما غبت يومين! لاااه… صالح الصاوي موته مش بالساهل
ثم التفت إلى الرجال الذين تراجعوا إلى الخلف مرتجفين، فصرخ بصوت زلزل المكان
1
– صااالح الصاوي رجع يا بلد جحيمكم بدأ يا أهل المملكة! شعبااان!
4
– أؤمر يا جنابك ….
1
ابعت هات الرجالة … المملكة لازم تتنضف
1
كان أمرًا كفيلا بأن يدرك الجميع، صغيرًا كان أم كبيرًا، أن صالح الصاوي قد عاد بقوة لا تقهر، وأن بطشه سيكون أشد من ذي قبل. كان عبد الجواد يبتعد عن مرمى بصره بسرعة، إذ أيقن أن قسوة صالح هذه المرة ستطول الجميع، ولن ينجو منها سوى زوجته وابنه.
استدار صالح نحو زوجته التي فتحت عينيها لتوها، فتأملها بعينين يغمرهما الحزن وكاد أن يقترب منها، لكن “مروان” وضع
يده على صدره، فرفع صالح بصره نحوه. عندها قال مروان ببرود
– هقولك زي ما قلت له … لو هي عايزة ترجع معاك، إحنا ما عندناش مانع.
2
قبض صالح على معصمه بقوة، فابتسم مروان بزاوية فمه ثم أبعد يده، وحدق في عينيه قائلا بهدوء:
– اسمع يا ابن عثمان… باين إنك ما تعرفش مين هو صالح الصاوي.
3
– لا، عارف…
1
– زين… وصالح الصاوي بيقولك: ما عاش ولا كان اللي يمشي كلمته عليا!
2
اقترب مروان منه خطوة حتى لم يعد يفصل بينهما شيء، ثم قال بابتسامة مرعبة:
– لا عاش ولا كان قدامك مروان كوبرا … أو يونس الجبالي… الاسم اللي يعجبك خده على مقاسك أنا قلت كلمتي: الست دي اللي طلعت بالمنظر اللي وجع قلبي، أنا كراجل ما هخليهاش تمشي غير بإرادتها.
2
تحولت عينا صالح نحوها، لكنها أشاحت ببصرها خوفًا، ثم أغمضت جفونها قهرًا، قبل أن تقول بصوت متهدج
– أنا جاية معاك…
3
تسمرت الأعين نحوها، بينما ابتسم صالح بخفوت وهو يتقدّم إليها. دموعها كانت تملأ عينيها المرتجفتين، وفي اللحظة نفسها وقف مروان بجانبها، مواجها صالح بحدة:- لو مش عايزة تروحي معاه… قولي “لأ”… وأنا هحميكي!
3
نظر له صالح بغضب ثم قال بعصبية:
– بقولك إيه يا عاد… مالكش دعوة باللي بيني وبين مراتي
کاد مروان أن يرد بغضب، لكن ريناد قاطعته قائلة بنبرة مكسورة
– خلاص… كفاية… يلا بينا.
قالت ريناد ذلك وهي تنهض ببطء من على الأرض بمساعدة أروى وورد ألقت نظرة منكسرة نحوه، فبادلها هو بنظرة غامضة لم تستطع أن تفهمها، وكالمعتاد غلبها الخوف. اقترب منها وعيناه تتعمقان في عينيها، ثم انحنى وحملها بين ذراعيه.
1
تطوق عنقه تلقائيًا وارتعش جسدها بين يديه.
تنهد بقوة حين أبعدت بصرها بخوف، فرفعها أكثر ليضمها إلى صدره بحماية، ثم مضى نحو السيارة. أسرع شعبان وفتح له الباب، فأجلسها برفق على المقعد.
نظرت إليه بطرف عينيها مرتجفة، ثم أغمضتهما سريعًا حين أمسك برأسها وقبل جبينها، قبل أن يبتعد الأمر الذي زاد خوفها أكثر؛ إذ اعتقدت أنه يفعل ذلك فقط أمام هذه العائلة. صعد هو بجانبها، وانطلقت السيارة عائدة إلى مملكة الصعيد.
في الفناء، كان مروان يراقب السيارة وهي تبتعد، وقد ارتسم الضيق على ملامحه. اقتربت منه أروى وأمسكت ذراعه قائلة بحزن
– هو هيعمل فيها إيه يا مروان؟
لكن عثمان أجاب بدلا منه:
– ولا حاجة … ده صالح الصاوي أول مرة أشوفه بالمنظر ده. واضح إنه عاشقها، وإلا كان سابها تمشي.
1
قالت وردة بدهشة:
– بس إزاي؟ دي حبلى وأنا اللي أعرفه إن صالح الصاوي ما بيخلفش!
فأجاب عثمان بهدوء
ما حدش عارف بيوت الناس فيها إيه يا وردة… ربنا يصلح الحال.
ثم التفت إلى مروان وسأله:
– إنتوا عرفتوا الجنين ولد ولا بنت؟
ابتسمت أروى وتعلقت بذراعه، بينما قال مروان بضيق:
ولد.
ثم نظر إليها وهي تبتسم، فرفع حاجبه وقال بجدية خفيفة:
مش هحلك غير لما تجيبيلي البت.
2
كان ينظر إلى عينيها المذعورتين وهي تبعد بصرها عنه، وإلى يديها المرتعشتين اللتين تقبضان بقوة على الفستان الذي ألبستها إياه أروى. ارتجفت حين أمسك بيدها المرتعشة، فالتفتت إليه برعب. كاد أن يتحدث، لكنها سبقته بانهيار:
– والله هي اللي خرجتني . اااا.. ما اعرفش حاجة! أقسم بالله… اللي في بطني ابنك… أنا….
انقطع صوتها بصرخة حين جذبها من رأسها ليعانقها بقوة. انكمشت داخل أحضانه بخوف، بينما كان هو يضغط على كتفيها ويحتضنها بشدة. أوقف السيارة في منتصف الطريق، ورفع
عينيه إلى سقفها يحاول ان يكبت القهر داخل قلبه وهو يسترجع ما مر به في الأيام الماضية…
2
فلاش
بعد آخر لقاء جمعه بريناد وكلماتها التي هزته من الداخل، لم يستطع النوم أو ممارسة حياته بشكل طبيعي. ظلت كلماتها تعصف بعقله، حتى قرر أن يُجري فحوصات سرية لم يخبر بها أحدًا سوى شعبان.
سافر إلى القاهرة، والتقى بأحد أكبر أطباء أمراض الذكورة، وأجرى الفحوصات اللازمة. وبعد أسبوع كامل من الانتظار، خرجت النتيجة…
قال الطبيب بثبات:
– مين قالك إنك ما بتخلفش؟ نتائج التحاليل بتأكد إن الخصوبة عندك طبيعية، ومفيش أي مشكلة تمنعك من الإنجاب. الحيوانات المنوية عندك طبيعية من حيث العدد والحركة والشكل. يعني ببساطة… تقدر تخلف بشكل طبيعي….
اغمض عينيه وفتحها مرة اخرى حتى يستوعب ما قاله الطبيب فتح فمه اكثر من مرة يحاول ان يتحدث ولكن لأول مرة يشعر صالح الصاوي انه لم يستطع الكلام، لذلك خرج صوته مبحوحا عندما قال بتوهان
يي… يعني اي… اني ما فيش حاجه
2
أومأ الطبيب برأسه بابتسامة مطمئنة وقال بعملية
نتائجك سليمة تماما يا صالح بيه، كل شيء طبيعي، ما عندكش لا مرض عضوي ولا مرض جنسي، يعني تقدر تخلف بشكل طبيعي
صمت رهيب اجتاح الغرفة، كأن الزمن توقف، كأن جدران العيادة صمتت احتراما لهذه اللحظة
شعر بثقل يسقط عن صدره، وكأن حبلا غير مرئي كان يلتف حول قلبه طوال سنوات، وفك الآن دفعة واحدة، غمرته موجة…من الدهشة، لم يكن سعيدا بعد، لم يستوعب، لم يفرح فورا، بل طغت عليه الذكريات كلها دفعة واحدة
2
لقد ذهب لمتخصصين وحطموا رجولته بالنتائج السلبية، وبعد كل هذه السنوات يكتشف انه رجل كامل يستطيع ان ينجب
لم يشعر بالدموع وهي تنهمر من عينيه، لم يخجل منها، كانت دموع رجل بكى داخله عشرات المرات وها هو الآن يبكي علنا، لا لانه مكسور، بل لان لديه طفلا قادما الى الحياة قريبا
ضحك فجأة، ضحكة قصيرة مرتجفة، ثم نهض واقفا، شفق عليه الطبيب عندما خرج من الغرفة وهو يضحك ويبكي في نفس الوقت
ريناد.. حبيبتي حامل في ولدي
2
قالها بهمس وهو يبتسم بسعادة ، سعادة لم تدم، تلاشت الابتسامة وتبخرت فرحته فور ان تذكر ما فعله بها، لقد اهانها واغتصبها وعذبها وحبسها، وفوق كل ذلك دنس براءتها باتهامه الباطل
وضع يده على حلقه عندما شعر باختناق وهو يتذكر
(( لو كان في 1 اني اسامحك … دلوقتي اوعدك اني لو جات لي فرصه اني اقتلك مش هضيعها يا صالح
لها الحق الكامل ان تفعلها، فالفتاة كانت كالوردة قبل ان تراه، وزبلت اوراقها وتشققت عروقها فور ان دخلت هذه المملكة
3
جلس على الدرجة الرخامية خارج المستشفى، اغمض عينيه ووضع يديه الاثنين على رأسه، كيف سيواجهها بعد ما فعله معها، بالطبع لن يتركها، ولكن كيف ستسامحه
بعد هذا الخبر وبعد ان تأكد ان من في بطنها هو ابنه ومن صلبه، لم يعد ولم يستطع العودة ،بعد ، بل ظل في القاهرة يستجمع شتات تفكيره، يجب ان يستجمع شجاعته لكي يواجهها
في اغلب الاوقات كان لا يجيب على شعبان، ولكن بعد ان وصل له خبر الدمار الذي حل بالمملكة قرر ان يعود، وستكون العودة بقوة، فيوجد كثير من الامور لا زالت مخفية
استقلت الطائرة الخاصة به نظر الى هاتفه عندما صلح باسم شعبان، امسك الهاتف ففتح الخط ووضعه على اذنه، وقبل ان يتحدث كان شعبان يقول سريعا
الست عنايات وصلت لمكان مرات چنابك..ااا… و چابتها بخلقتها … وو… …
هتجول اي يا واكل ناااااسك… كيف وصلت لمكانها يا ابن الفرررررطوس… هطرررربجها على راااااسكم لو جررررى لمرتي وولدي حااااچه
القى الهاتف بعصبية في ارضية الطائرة، ثم وقف ليصيح بقوة
عناااااايات….. ميتى راح نوصل بالمخرررروبه دددي
شعر من بالطائرة بالخوف، وهو ضغط على شعره بجنون اغمض عينيه بقهر وهمس بألم
يااااارب …. تحمل يا ريناد
باك
كانت ريناد ترتعش خوفًا، تضغط على شفتها السفلى حتى لا تنفجر ببكاء مذعور. أبعدها قليلا، وضع كفيه على وجنتيها، وهمس بألم:
– حجك عليا … عارف إنك مش هتسامحيني… بس بالله عليكي جربي… سامحيني يا حبيبتي..
هزت رأسها سريعًا، عيناها تصرخان بالرعب. أغمض هو عينيه قهرا ، ثم نظر إلى بطنها المنتفخة، فمد يده ليلمسها برفق. ارتجف جسدها حين فعل، بينما انحنى ليقبل بطنها والدموع تغسل وجهه.
– سامحني يا ولدي… اتمنيت كتير أبقى أب. ولما بجيت أب… أول حد ظلمته كان إنت وأمك. سامحوني…
رفع رأسه نحوها برجاء:
سامحيني يا ريناد… أنا ما كنتش عارف… أنا بحبك بحبك جوي… ما اقدرش أعيش من غيرك… سامحيني يا روحي.
قالت بانهيار وهي تبكي ويبدو انها غير واعيه لما يحدث حولها…
– أنا مسامحاك … بس والله ده ابنك… أنا ما عملتش حاجة… ما كلمتش حد في حياتي. اااااا. صدقني يا صالح قبل ما ابنك يتظلم روح اكشف.اااا.. لو مش مصدقني اقتلني… بس هو حرام..ااا. ده طفل…
-هششش…
سحبها إلى صدره بقوة، يبكي معها بمرارة. كانت تهذي من الخوف، تردد بعيون شاردة
– والله ابنك… حرام هيموت ويتظلم .اااا.. صالح مات من قبل ما يعرف ابنه… أنا هقول له … يا صالح … اللي في بطني ابنك…
قبض على رأسها بكلتا يديه وقال بلهفة:
– أنا قدامك أهو … ومصدق إن ده ابني!
ارتجفت شفتيها
بجد… مصدق إنه ابنك؟
– والله العظيم مصدق… اهدي يا حبيبتي.
– أنا عاوزة أنام… بس بخاف… مش بحب أنام لوحدي في الضلمة …ااااا… بيبقى في أصوات تخوف… كلاب وذئاب…. حاجات بتخبط على الباب … أنا… عاوزة أنام…اااا…. صالح مش مصدق ان هو ابنه بس هو ابنه ….. طب … هو كان…اااا… عاوزه انام والنبي…
رفعها ليجلسها على ساقيه، يضمها إلى صدره بقوه يمسح على ظهرها والدموع لا تتوقف:
نامي يا حبيبتي …… أنا جنبك … مش هسيبك تاني….
غفت بين ذراعيه كطفلة منهكة. أما هو فبكي بقوة، بكى الندم بكى صالح الصاوي الذي اشتهر بالقسوة والتجبر، وهو الآن
ينكسر بين دموعه … يبكي على الصغيره التي لم يكن ذنبها سوى أنها دخلت إلى مملكة لا تعرف الرحمة … بكى على حال فتاه لم تتخطى العقد الثاني من عمرها واصبحت الان…. لا
حول ولا قوه…
…..
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية مملكة الصعيد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)