روايات

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ياسمين عادل

رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ياسمين عادل

البارت الثالث والعشرون

 

^^ليلة في منزل طير جارح^^
الفصل الثالث والعشرون :-
“لن تدرك أن الفخ فخًا، إلا بعدما ترى قاعهِ.”
_____________________________________
كان من البديهي ألا يتركها تقابل أحدًا وهي في حالتها تلك، فلم تستعد وعيها بعد، وتفاقمت عليها الآلام مؤخرًا بعد زيارة الطبيب وتطهير الجرح ثم تبديل الضمادة، فأصبح لزامًا عليها الراحة بعدما تناولت كمية كافية من مسكنات الألم.
كانت فرصة رائعة حقًا، أن يقابل سيدة “بيت حبش” التي أصبحت المسؤولة الأولى عن العائلة بعدما نفق أربعة رجال منها في حادثة الثأر التي وقعت بينها وبين عائلة “الطحان”. إنها العائلة الأشد كرهًا وبغضًا لسلالة “حمدي الطحان” كلها، والأسطورة تقول أن عدو عدوي يكون صديقي، لذلك لم يفوّت فرصة لقائها الآن بنفسهِ.
دخل إليها ليجدها إمرأة حسناء، رغمًا عن سنها الذي تجاوز الخمسون عامًا، إلا إنها لا تزال شابة قوية كأنها في العقد الثالث من العمر، وقد ضاعف من الإثارة تلك العيون التي تكحلت بالأسود الفاحم، فـ أضفت عليها مزيدًا من الحُسن الذي تستر أسفل الملحفة السوداء الكبيرة التي ترتديها. لم تنهض عن جلستها وهي تراه يدخل غرفة الإستقبال، حتى جلس في الجهة المقابلة لها ليقول :
– أهلًا يا ست صباح.. أؤمريني!؟.
غلبت اللكنة الصعيدية على نبرتها الجدية وهي تهنئه:
– مش عارفه أقول مُبارك عليك الجوازة ولا مُبارك عليك المقبرة الجديدة!.
ابتسم “هاشم” هازئًا من معرفتها معلومة گهذه، وسار على نفس النهج من الإستهزاء متابعًا :
– قوليلي مبروك على الأتنين.
لمحت السخرية في عيناه، فكان أمرًا يصعب عليها تقبّله بدون رد، لذلك كان تلميحها متعمدًا وهي تسأله في خبث:
– وعروستنا عارفه اللي ورا الجوازة ولا.. ؟.
لم يروق له ذلك التلميح المهدد، فـ أبقى وجهه صلبًا حازمًا وهو يرد :
– متهيألي ده موضوع ميهمكيش في حاجه، ولا خلاص بقيتي فاضية لدرجة إنك تشغلي بالك بالأمور الزوجية للناس!.
لم تحب “صباح” أسلوب المراوغة كثيرًا، فهي تعرف طبعه جيدًا، ولم تنجح في مهمتها إن وضعت همّها في الإنتصار عليه، لذا تركت الحوار في منتصفهِ ومهدّت لسبب مجيئها اليوم :
– أنا مش جاية اتسامر معاك.. أنا جيت أقابل بنت الطحان، بلغها إني عايزاها في مصلحة.
طرق “هاشم” بأصابعه على مسند المقعد وقد انعقد حاجبيهِ مذهولًا :
– مصلحة إيه اللي ليكي مع مراتي؟!.
كانت صريحة أكثر من اللازم، مع شخص هي تعلم إنه يتسم بالملاوعة والخبث :
– المحلات والدكاكين اللي في الجهة الشرقية، عايزاهم.
“هاشم” لديه خلفية مسبقة عن الصراعات والحروب الأهلية التي دارت على مر السنون بسبب ملكية تلك المتاجر، حيث كانت العائلتين بينهما نسب قديم، وتحول مسارهِ لعداء شديد وواضح بسبب أمور الأرث التي فرقت ذوى الدم الواحد. لذلك لم يتعجب من رغبتها المستميتة في استرداد ما تراه حقًا لعائلة “حبش”، وإنما كان لديه رأي آخر :
– بس دول اتباعوا خلاص ياست صباح.. ياريتك جيتي بدري شويه!.
فهمت “صباح” على الفور إنه المشتري لا محاله، فالحال بينهما لا يختلف، “هاشم” أيضًا من أعداء آل طحان المعروفين، وقد هدأت بينهم الأمور بعدما عقد “رضوان العزيزي” هدنة لوقف سيل الدم الذي غرقت فيه البلد في فترة من الزمن، وهو ما زال محافظًا على عهد أبيه، إلا أن “حمدي” قد نقض العهد وفسخ الهدنة بـ اعتدائهِ على “رحيل”، فما كان من “هاشم” إلا رد الصفعة بصفعتين لعلهم يرتدعوا عن نواياهم تجاه زوجته.
نهضت “صباح” عن مكانها بعدما أحست أن تلك الجلسة لن تؤتى ثمارها، وشبكت أصابعها وهي تسأله بإبتسامة متعجرفة :
– طبعًا انت اللي اشتريت!.. مفوتش الفرصة ولا استنيت هبابه حتى!.
وقف “هاشم” أيضًا وعلى تعبيراتهِ أسف كاذب :
– معلش بقى ياست صباح، كان لازم أصون مال مراتي وأحافظ عليه من الحوش اللي عايزين ياكلوه.
أومأت “صباح” رأسها بتفهم، بدون أن تظهر ضيقها الذي بلغ حلقومها:
– مُبارك عليك يا عزيزي، طالما خرجت من يد حمدي أنا راضية، حتى لو معاك انت.. سلام.
استوقفها قائلًا :
– مش تستني لما نتغدى سوا!.. ده الشيفات مجهزين وليمة النهاردة.
أرادت أن تبلغه إنها تعلم عن استيلائهِ على مواشي “آل طحان”، والتي تعدّت المائة رأس حيواني :
– ألف هنا عليك، أنا ماكلش من بهيمة اتربت في بيت طحان أبدًا.
وأولته ظهرها، فلوح بيده وهو يودعها :
– مع السلامة يا ست الصباح، شرفتينا.
خرج “هاشم” قاصدًا غرفتها من جديد، لعلها تسأله عن سبب الزيارة، تأهب بالرد المناسب كي يقنعها بضرورة ضمّ المتاجر لقيادته أيضًا گحال الأرض التي حصل عليها مؤخرًا منها بثمن زهيد، حتى ينتهي الأمر عن بكرة أبيه؛ لكنه رآها غافية، نائمة مستكينة غير عابئة بأمور الدنيا التي تدور من حولها، فما زالت تعيش أزمة نفسية جراء ما واجهته بالأمس، مستثقلة فكرة أن يحرض عمها الوحيد على قتلها. علقت عيناه عليها لحظات، يراقب خطوط وجهها التي تتشنج بتوترٍ خفيف لكنه ملحوظ، گالتي ترى شيئًا داخل حلمها وقد جثم عليها. تقدم من الشرفة وأغلق زجاجها، ثم سحب عليها الستار المانع للضوء فأصبحت الغرفة مظلمة تمامًا كما يحب هو، ظنًا منه إنه بذلك سيؤمن لها نومًا عميقًا، إلا إنه استمع لصوت نهنهه خافت وكأنها استيقظت فجأة، فـ اقترب منها وفتح إضاءة الأباجورة الخافتة، ليجدها گالقطة المذعورة بعيناها المفزوعتين، متمسكة بالغطاء كأنه يحميها من شئ مجهول، فسألها بقلق من تعابيرها :
– فـي إيـه ؟!.
قفزت من نومتها لأحضانهِ گصغيرتهِ “ليلى” التي تذكرها للتو، وهمست بنبرة مرتعشة :
– أنا بخاف من الضلمة.
كانت تتشبث به وذراعيها حول رقبته تكاد تخنقه من شدة الخوف، فـ جمد هو للحظة قبل يبعدها عنه قليلًا وهو يقول :
– أنا معرفش،خلاص هفتحلك الستارة تاني.
ونهض ليفتح الستارة مجددًا فتعود إضاءة النهار لتخترق الغرفة، وهي في مكانها مازالت تقاوم مخاوفها كي تستعيد اتزانها، خاصة وإنها لم تحبذ رؤيته لها هكذا.
– ها؟.. كده أحسن ؟.
– آه.. هي الست اللي جت كانت عايزة إيه؟.
جلس “هاشم” على طرف الفراش وهو يسرد بإيجاز :
– عايزة تشتري منك المحلات اللي في الجهة الشرقية.. بس اني قولتلها إني اشتريت خلاص.
قطبت جبينها متعجبة تصرفاتهِ المتعجلة:
– ليه؟؟.. مش كانت تاخدهم وتريحنا من الهم ده أحسن، بدل ما نتحط في مواجهة مع عمي تاني.
أزاحت الغطاء عنها بتشنجٍ وتركت الفراش وقد اعتراها الإنزعاج الشديد من تصرفه دون أن يسألها رأيها :
– انت مشوفتش إيه اللي حصل عشان الأرض!.. عايزنا نستفزه تاني ويرجع يعمل عملته معايا تاني!.. أنا مش عايزة منهم حاجه خلاص كفاية يسيبوني في حالي.. كنت وافقت على بيعهم عشان نخلص من أي رابط بينا وبينهم!.
تابع عصبيتها المفرطة التي يراها لأول مرة بكل هدوء، حاجبًا غضبهِ اللعين عنها لئلا يكون هو الخاسر، فـ صفقته منها لم تنتهي بعد. وما أن بصقت ما يحتويه صدرها رماها بنظرة متجاهلة، قبل أن يوليها ظهره ويخرج من الغرفة بدون أن ينطق بكلمة، تاركًا عاطفتها تتأرجح يمينًا ويسارًا بحيرة، لكي تندم على ما فعلته للتو وتتراجع عنه بسهولة، بدون أن يكون له أي جهد لتغيير رأيها الذي لم يتوافق مع رغباتهِ الطامعة.
تأففت “رحيل” بضيق شديد، فرغبتها نابعة من احتياجها للطمأنينة والراحة، والبعد عن المشاكل قدر المستطاع، كفاها ما عانته من تلك العائلة التي ظلمتها دومًا؛ لكن “هاشم” لم يفهم ذلك، حدود تفّهمه وقفت لدى رغبته بضمّ كل ما ينتمي لـ آل طحان، مهما كان ذلك مكلـفـًا.
***************************************
كانت الحماسة في ذروتها، وقدميه تتسابقان في الوصول لمكان لقائهما، بعدما طلبت منه بنفسها تحديد موعد بدون أن تتهرب منه. لا يدري “مراد” كيف وصل للمطعم بهذه السرعة، قد يكون لأنه لم يتوقف عن التفكير فيها طيلة الطريق، فمرّ عليه الزمن گلحظات خاطفة دون أن يشعر. دخل للمكان معتقدًا إنها لن تكون هنا، فما زال الوقت مبكرًا عن الموعد بعشرة دقائق؛ لكن على العكس كانت تجلس هناك في زاوية تطل على منظر نيلي بديع، تحتسي قهوتها الفاتحة التي لا يحبها “مراد” على الإطلاق، سار نحوها بذلك الثبات المفتعل، حتى بلغ طاولتها الصغيرة وشاركها فيها، وهي تبتسم بتكلفٍ لم تنساه :
– صباح الخير.
نظرت “ندى” في ساعة يدها قبل أن تمازحه قائلة :
– قول مساء الخير.. الساعة ٢ ونص يا مراد!.
ابتسم وهو يشير للنادل قائلًا :
– معلش.. أنا بحب الصبح من زمان انتي عارفه.. محتاج قهوة فرنساوي من فضلك.
– حالًا، تؤمر بحاجه تانية؟.
– ميا ساقعة وتلج.
– تمام يافندم.. عن أذنك.
لم ينتظرها “مراد” حتى تبدأ الحديث عن سبب طلب اللقاء، وافتتح هو الحوار معها قائلًا :
– في دكتور عايزك تروحيله زيارة مع آ….
تنحنح “مراد” بتحرجٍ وهو يسألها :
– نسيت أسألك هو ابنك أسمه إيه؟.
ابتسمت “ندى” وهي تجيبه :
– مـراد.
حدق “مراد” فيها لوهله، لم يصدق إنها أقدمت على أمر گهذا، لقد وضعت لطفلها أسمهِ، لم تنساه أو تمحوه من ذاكرتها كما اعتقد، بل إنها فضّلت أن يكون قطعة منها بنفس الأسم، كي تتذكره دومًا ولا يغيب عن بالها ولو يوم واحد. كان شيئًا ثمينًا للغاية بالنسبة له، جعل قلبه يرفرف بسعادة لم يقوَ على سترها، فأجفلت “ندى” جفونها وقد رأت في عيناه فيض من حبها، وأرادت أن تدفن ذلك الشعور على الفور قبل أن ينمو بداخلها الأمل من جديد :
– أنا طلبت منك نتقابل عشان حاجه كده.. تخص رمزي أخويا.
كأنها لسعة كهرباء، أصابت مراكزه الحسّية فجأة لتنتشله من جمال مشاعره، ليستيقظ منها وقد بدت عليه بعض الجدية :
– آها.. ماله رمزي؟.
نظرت إليه للحظات، نظرة جعلته يتيقن من أن ما ستقوله قد يكون خطيرًا طالما إنه استرعى ذلك الصمت المتردد منها، فأصابته الجدية الحازمة وهو يكرر سؤاله :
– ما تقولي يا ندى انتي لسه بتفكري بعد ما جبتيني هنا؟.
تنهدت “ندى” وهي تسأله :
– لسه علاقتك قوية بهاشم يامراد ؟.
قطب جبينه وقد بدأ عقله يربط الأمور ببعضها البعض :
– إيه علاقة كلامنا بهاشم!.. ياريت تكلمي بصراحة أكتر.
فلم تجد “ندى” داعي من الإطالة في المقدمة التي استنزفت صبر “مراد” المحدود :
– رمزي وكاميليا بيحبوا بعض يا مراد.. مينفعش هاشم يقف في طريقهم لمجرد حبه لتمّلك كاميليا وكمان يستخدم البنت الصغيرة في التأثير على……
قاطعها “مراد” بحزم وهو يسأل :
– هو ده الموضوع اللي طلبتي نتقابل عشانه؟.
لم يختفي توترها الذي ظهر على وجهها فجأة :
– آه.
نهض “مراد” عن مكانه وهو يقول :
– يبقى ياريتني ما جيت.
أخرج ورقات نقدية من جيبه ليدفع ثمن المشروب الذي لم يهنأ بتناوله، بينما كانت تحاول هي إيقافه :
– مراد ميصحش تقوم وتسيبني كده!.. لسه تصرفاتك العشوائية زي ما هي متغيرتش!.
رمقها بنظرة حادة، قبل أن يردف بـ :
– أنا مبدخلش بين واحد وطليقته عشان أسهل دخول طرف تالت يا مدام.. أنا آسف.. افتكرتك تعرفيني أكتر من كده!.
وبالفعل غادر، بدون أن يأبه بعتابها له، تركها بعدما خاب أمله من جديد، وهو الذي ظن إنها تراجعت عن مقاومته أخيرًا، وستفتح الباب من جديد لعلاقتهم المظلومة التي لم تأخذ حقها؛ لكنها من جديد هدمت ذلك الأمل على رأسه، فخرج بدون أن يدرك إنه يسير بدون وجهه، بدون مسار، يسير عشوائيًا – كما وصفته -، وهذا كان هينًا عليه أكثر من شعوره بإنها تستخدمه وسيلة لخدمة غايات أخيها، مستهينة بالصدفة التي جمعتهم من جديد.
****************************************
كانت تجلس في الغرفة الفندقية الركيكة، حالما يتم تجهيز منزلهم الآخر وتنظيفه من أجل المعيشة فيه مؤقتًا، حتى تتم صيانة المنزل المحترق. تنظر حولها بإشمئزاز، وعيناها مملؤتان بالحسرة على ما أصابهم، لقد كان انتقامًا حارقًا بحقّ، لن تنساه ما حيت، سعّر النار في صدرها وأشعل رغبتها في الإنقضاض على “رحيل” لتقتلها بيديها الأثنتين. نفخت “سعاد” بزمجرة وهي تغمغم بصوت خفيض :
– آه لو بس أطولك يابنت الـ ×××××.
طرقات خافتة على الباب جعلتها تنهض لفتحه، فرأت “منال” وقد تزينت ولطخت وجهها بأدوات الزينة، وارتدت أفضل ثيابها الملونة وهي تضحك ضحكة ملأت شدقيها، ونظرات الشماتة في عيناها واضحة :
– ازيك يا حماتي.. يوه يقطعني، على طول أنسى كده!.. أزيك ياطنط سعاد عاملة إيه؟.
كادت “سعاد” تصفق الباب في وجهها وقد غلت الدماء في عروقها، لولا أن “منال” وضعت قدمها لتحول بينها وبين إغلاق الباب، ودفعته برفق وهي تقول في عتاب زائف :
– أخس عليكي ياطنط وانا اللي كنت جيالك بزيارة!.
ثم أشارت للطعام الذي تحمله وهي تقول بنبرة مائعة :
– فتة لحمة ومعاها خيرات ربنا كلها.. البلد كلها كلت منها وخدت اللي يكفيهم أسبوع، ربنا يباركله هاشم بن العزيزي أكل البلد كلها ببلاش و…..
دفعتها “سعاد” بقوة حتى ارتدت “منال” للخلف وهي تصيح فيها :
– لو ممشيتيش من هنا هموتك يا بنت الـ ××××.
وصفعت الباب في وجهها بينما الأخيرة تكاد تموت من فرط الضحك :
– ملكيش حق يا طنط هي دي كلمة شكرًا!.
ثم اقتربت من الباب وهمست بصوت مسموع :
– ولسه.. مش هتلاقوا بيت يلمكم يا عيلة و×××ـة.
وهمّت بالإنصراف وهي تحس تلك البرودة الناعمة تداعب شرايينها التي كانت تغلي بالغضب، لقد بردت نارها وخمد غضبها بعدما سارت الحكاية على ألسنة الجميع في البلدة، وتحولت سمعة العائلة لأضحوكة تمر على شفاة الجميع، الآن فقط تحققت العدالة الآلهية ونالت “سعاد” ما تستحقه، الأقامة في غرفة مهترئة في مبنى قديم يطل على الترع، بعدما جعلتها تفقد منزلها وزوجها بعنادها المتجبر، ها هي تتذوق مرارة ما أذاقته لغيرها.
****************************************
أغلق السائق حقيبة السيارة بعدما وضع فيها الأغراض الهامة، ثم نظر لسيدهِ منتظرًا الإشارة :
– تمام كده يافندم.
نزع “هاشم” نظارة النظر وهو يسأله :
– خدت نصيبك انت وعيالك من اللحمة؟
ابتسم السائق بإمتنان لإهتمام سيده :
– آه ياباشا يدوم عزك.
نظر “هاشم” من حوله يبحث عنها خِلسة :
– طب اركب انت وخليك جاهز.
ثم أشار لـ “عبير” كي يسألها :
– هي الهانم لسه منزلتش؟.
– لأ نزلت من بدري وكانت قاعدة هنا، بس شويه ولقيتها لفت ورا عند البيت الأزاز.
أومأ “هاشم” برأسه متفهمًا :
– طيب.
كانت تشاهد “عنبر”، الصقر المفضل لـ” هاشم”، يبدو عليه القوة والجسارة، عيناه الحادتين المخيفتين توحي بإنه متربصًا ينتظر الهجوم على أحدهم، بينما جناحيهِ العريضين اللذان لا يحجبهما سوى القفص كانا يلوحان برغبة شديدة في الطيران. تأملته “رحيل” وكلها رغبة في الإقتداء به، أو ربما بسيدهِ، قوية ، شديدة البأس، لا تخشى أحدًا ولا تهاب مستقبلها الغامض، لقد أصبح الخوف والقلق المستمرين عبئًا على صدرها الصغير، لم تعد قادرة على حمله أكثر من ذلك، ظنت لربما يكون ذلك الصقر هو معلمها الجديد، أو هكذا خيّل إليها تفكيرها الحيران، وسط كل المشاعر السلبية التي تعيشها الآن.
– بتعملي إيه هنا؟.
انتفضت مفزوعة وهي تلتفت إليه، فقد كان الفاصل بينهما عدة سنتيمترات معدودة :
– جيت أقف شويه لحد ما تنزل.
– طب يلا متأخرين.
قبل أن يستبقها كانت تمسك بذراعهِ ليقف كي تقول :
– هاشم.. انت زعلت مني؟.
نظر إليها صامتًا، فـ أسبلت جفونها بتحرج منه وهي تقول :
– أنا أسفة، كنت مخنوقة شويه.
كانت نظرتهِ تُقبض قلبها، گالوعيد الصامت قبل إنفجار القنبلة الموقوتة :
– آخر مرة تحصل.. لأني مش ضامن رد فعلي ممكن يكون إيه لو اتكررت تاني.
تحاشت النظر لعينيه التي ذكرتها بـ “عنبر”، كأن فيهما خصالًا من بعضهم البعض، وراقبت ابتعاده وهي تسير ببطء من خلفه، حتى وصلت للسيارة، لم يفتح بابها گالعادة أو يطمئن على جلوسها بالخلف، فأدركت إنه ربما يعاقبها أو متعمدًا تجاهلها، ليسبب ذلك ضيقها أكثر وأكثر وتمر عليها الرحلة في منتهى الصعوبة، هذا ما أراده “هاشم”، حيلة الضغط النفسي قد أتت بأولى نتائجها وبدأت “رحيل” تلوم نفسها لأنها لم تستجب لرغبة زوجها الذي يهتم بشؤونها ويحلّ عنها المشاكل والصعاب، بدأت ترى إنها مخطئة بحق، وعليها إصلاح الخطأ الذي ارتكبته بدون وعي كي يكون راضيًا عنها.
***************************************
طيلة الطريق كانت عيناه على اليمين، كأنه يشاهد الطرقات وهي تركض أمامه گجري الوحوش، لم يتحدث إليها بكلمة، لم ينظر تجاهها، ولم يعيرها أي اهتمام؛ بينما في السابق كان يغدق عليها باهتمامهِ ولطفهِ الزائد الذي اعتادت عليه، فلم يكن يسيرًا عليها أن تتقبل هذا التغير الذي تسببت فيه بنفسها الآن.
ظلت محتفظة بصمتها تجنبًا لإثارة إنفعاله، فالتحدث أمام السائق الشخصي لن يكون لائقًا الآن. وصلت السيارة أمام منزلهم، فـ فتحت الباب بنفسها بدون أن تنتظره، ووقفت لحظتين حتى ترجل هو أيضًا، ثم استبقها للداخل في خطى منتظمة، متعمدًا كل تلك الخطوات التي ستؤدي بها للوصول إلى مسعاه هو وبكامل إرادتها، بعدما بدأت مسيرة العصيان على قرارتهِ، الأمر الذي كان مرفوضًا بالكامل بالنسبة له، خاصة بعد تجربة مريرة ذاق فيها كيف تكون المرأة إذا ترك لها الرجل كامل الحرية وأرخى إليها زمام الأمور.
دخل “هاشم” وعيناه تبحث عن صغيرته التي افتقدها جدًا، وقبل أن ينادي عليها كان صوتها الرنان يصل لأذنيه وهي تقترب منه، فـ انبعجت شفتيه بإبتسامة مبتهجة وهو ينحني ليحملها بين أحضانهِ وهي تركض إليه ركضًا. ضمها لصدره برفقٍ وهو يقول :
– وحشتيني يا ليلى.. وحشتي دادي أوي.
شددت “ليلى” ذراعيها اللاتي يعنقانهِ وهي تقول :
– وانت كمان وحشتني أوي أوي.
كانت “رحيل” تقف بالخلف، تنظر للقاء الحارّ في تشوقٍ محروم، بينما أسرعت إليها “جليلة” في شوق وهي تقول :
– حمدالله على السلامة.. أتأخرتوا ليه مش كنتوا هتيجوا امبارح ؟.
لمحت “جليلة” ضمادة اليد، وترآى لها ملامح الإعياء والإنهاك على وجه ابنتها حينما اقتربت منها، فـ شحب وجهها وعيناها تتفحص معالم وجه ابنتها قبل أن تسألها متوجسة :
– إيه اللي حصل؟؟.
ثم وجهت أنظارها نحو “هاشم” وكأنها تعيد السؤال، فأردف بدوره :
– متقلقيش ياهانم موضوع وخلص.. رحيل هتحكيلك فوق في أوضتها.
كأنه إيحاء لها، كي تصطحب والدتها للأعلى وتختلي بها ثم تقصّ عليها التفاصيل، فـ استجابت “رحيل” لرغبته وتقدمت بخطاها :
– تعالي يا ماما هفهمك.
داعب “هاشم” وجنتي “ليلى” وهو يسألها عن حالها :
– عملتي إيه وانا غايب يا روح قلب دادي؟.
تحمست “ليلى” وارتفع الأدرينالين في دمائها، مستعدة لأن تحكي كل شئ لوالدها العزيز :
– حاجات كتير أوي.. تعالى معايا أوضتي وانا احكيلك، ناناه جليلة جابتلي لعب حلوة أوي، وورق كتير أرسم فيه وألوان، وكور ملونة كمان.
وأخذت تسرد بعشوائيتها تلك إلى أن وقع لسانها بالحقيقة التي حذرتها “جليلة” بألا تحكيها، رغمًا عنها وأمام جاذبية أبيها وقدرته على استخراج الكلمات من لسانها عجزت عن الأحتفاظ بالسر الخطير، وهي لا تعلم ماذا سيكلف هذا!.
تلقى “هاشم” المعلومة بدون أن يثير أية ضجة أمام الصغيرة، كأنها لم تحكي شيئًا، بينما صدره يغلي غليان مسعّر، فقد ساعدت تلك السيدة على وجود طليقته هما والإنفراد بـ ابنته التي تركها لها أمانة، والأدهى من ذلك إنها تحاول أن تدس الأمر بمساعدة الخادمة و “ليلى” التي لا تعي شيئًا مما يدور حولها.
غادر “هاشم” غرفة الصغيرة، وهو لا يشعر بإنها من خلفه بخطواتها الرشيقة، صوت دقات قلبهِ المندفعة بإنفعال جعلته يغفل عن وجود “ليلى” خلفه، ليتصادف مع ذلك مناداتهِ للخادمة بصوتهِ الجهوري :
– حِـــراء!.
حضرت بين يديه خلال دقيقة واحدة، فـ زجرها بنظرة مستشيطة لن تنساها أبدًا، قبل أن يسألها بحزم صارم :
– انتي معايا بقالك قد إيه؟.
أحست “حِراء” بأن الأمر جمّ خطير، وإنه متعلق بتلك الزيارة التي لم تحكي عنها شيئًا، ورغم إنها حاولت أن تداري خوفها إلا إنه كان متفشيًا على ملامحها :
– ١٣ سنة!.
بات صوته مشحونًا بكثير من الغضب، وهو يسألها في عصبية مفرطة :
– كل السنين دي ومتعلمتيش إني محبش حاجه تحصل من ورا ضهري؟؟.
أصبحت متأكدة إنه علم بالأمر، فـ اتخذت الطريق الأسهل وقدمت الإعتذار قبيل أن يحكم عليها :
– حقك عليا يا باشا.. والله كلمتك يوميها مردتش عليا.. أعمل إيه بس؟.
كان جوابه على سؤالها قاطعًا، لا يحمل أي احتمال للتغيير :
– تلمي حاجتك وتغوري من هنا.. مش عايز أشوف وشك تاني ومن غير ولا كلمة، وقبل ما تمشي تبعتيلي شريكتك عشان تاخد حظها هي كمان.
كانت “ليلى” قد اختبأت في خوف بجانب الدرج، بعدما رأت إنفعال أبيها الذي لم تراه من قبل، وقد حجبه عنها مرارًا وتكرارًا، هي فقط الوحيدة التي رأت وجهه الناعم ودلاله المفرط، والآن قد رأت وجهه البشع الذي يخلو من أي تعبير من تعابير الرحمة. ظلت تشاهد من بعيد حتى رأت والدها يختفي بداخل غرفة المكتب، وقد ترك الباب مفتوحًا تمهيد لحضور “جليلة” أيضًا، فـ انتظرت “ليلى” بتصرف تلقائي غير مدبر، حتى رأت “جليلة” وهي تقترب من الباب وتدخل، ليفاجئها “هاشم” بوابل من الكلمات الحادة التي من وسعها أن تنهي العلاقة بينهما للأبد، والتي لم تتحملها “جليلة” بتاتًا، وهي إمرأة حرّة عاشت طيلة حياتها لا تطلب سوى احترام الجميع. رمقتهُ “جليلة” مذهولة، لأول مرة ترى هذا الوجه المرعب، وتسمع لتلك الكلمات الحادة، من رجل ظنت يومًا إنه راقي ومهذب أكثر من اللازم؛ لكن ذهولها لم يدم طويلًا، وسرعان ما حاولت الدفاع عن نفسها وعن الموقف الذي اتخذته في الوقت الذي كان فيه غائبًا :
– أسمع.. أنا مسمحلكش تكلمني باللهجة دي.. أنا مش حارس من حراس بيتك هتؤمرني وأنا عليا الطاعة، أنا هنا ضيفة وعليك تحترمني.
لم تتغير معالم وجهه الحانقة وهو يقول :
– والله الضيف ميجيبش ضيوف تاني في مش ملكه.. ومكنش من حقك تستضيفي واحدة انتي عارفه عداوتي معاها.
خشن صوتها الناعم، وصدر من صدرها قويًا عاليًا وهي تصيح في وجهه بدون أن تأبى لشئ :
– مش مشكلتي.. حل مشاكلك بعيد عني وعن بنتي، ومن بعد النهاردة أنا ماليش مكان هنا.
كأنها تعابير محتقرة، غزت ملامحه بدون شعور :
– أوعي تكوني فاكراني همسك فيكي!.. مع السلامـة.
لم تنتظر دقيقة أخرى، وكانت تهرب من غرفته وهي تتماسك بأقصى قواها لئلا تنهار أمامه، لكي لا تبكي على الإهانة التي شعرت بها منه، غير شاعرة بالطفلة التي رأت وسمعت كل شئ، وتوّجع قلبها الصغير لما رأته ومازال الذهول مسيطرًا عليها.
ركضت “ليلى” لغرفة المكتب التي مازالت مفتوحة، فرآها “هاشم” الذي حاول أن يتستر على غضبه في تلك اللحظة بصعوبة شديدة :
– لوليتا!.. إيه اللي نزلك من أوضتك؟.
تجاهلت “ليلى” سؤاله وقد بدا صوتها متحشرجًا ينذر بالبكاء :
– انت هتسيب حِراء وناناه جليلة يمشوا؟؟
كبح “هاشم” جماح عصبيته وهو يبتسم في وجهها ويقترب منها قائلًا :
– أنا هفضل قاعد معاكي وهنلعب كتير أوي مع بعض.. وكمان رحيل معانا.
انفجرت “ليلى” بصراخ طفولي، غير قادرة على تقبّل ما يحاول “هاشم” إقناعها به :
– أنا مش عايـزة أقـعد مـعاك.. انت مش بتحـبني.. انت خدت مني كل الناس اللي بحبهم.. مامي وناناه هداية وحِراء وناناه جليلة، أنا مش هقعد هنا أنا همشي مع ناناه جـليلة.
وركـضت من أمامـه ركضًا سريعًا، بينما لم يدرك هو إلى أي نقطة وصل تعلق “ليلى” بـ السيدة “جليلة”، تلك الوحيدة التي عوضتها غياب “كاميليا” وملأت ذلك الفراغ قليلًا، والآن عليه أن يواجه توابـع أفعالهِ، التي وصل تأثيرهـا لابنتـه الوحـيدة “ليلـى”…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى