رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل التاسع عشر 19 بقلم ياسمين عادل
رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل التاسع عشر 19 بقلم ياسمين عادل
البارت التاسع عشر
^^ليلة في منزل طير جارح^^
الفصل التاسع عشر :-
“طوق نجاة مغموس بالأشواك.”
____________________________________
وقفت على الأنقاض، بقلبٍ امتلأ بآلاف المشاعر السلبية، ترى بأم عينيها ما فعلهُ “حمدي الطحان” بأرضها، بعدما باتت گالخراب. لن يقبل مشتري بحالتها ولن تباع إلا بثمنٍ بخس.
تجمدت الدموع في عينيها، فقد جفّت أنهارهما النابضة بالحياة لتصبح مجرد حدقتين ترى بهما كارثة تلو الأخرى. ذلك الجمود والتيبس الذي أصاب جسدها أشعرهُ ببعض الريبة، فوقف أمامها مباشرة ليتفحص تعابيرها وهو يسألها :
– رحيل!.. انتي كويسة؟.
تجاهلت سؤاله دون عمدٍ، وسألته بنبرة خلت من المرونة التي اعتادها منها :
– عرفت منين إن هو اللي عمل كده؟.
برر لها علمه المسبق بكذبتهِ التي أعدها من قبل :
– رجالتي كانوا مراقبين الأرض بعد اللي حصل من ابن عمك وشافوا واحد من رجالته مع البلطجية اللي أجرهم عشان يبان إنه برا الصورة.
ثم نظر في ساعته وهو يقول :
– زمان الشرطة على وصول.. روحي مع السواق وانا هخلص وأجيلك.
كانت جادة وهي تعارض أمرهِ :
– لأ.. أنا هفضل معاك هنا.
تبدل الهدوء الذي كانت مرسومًا على وجهه لزوبعة خطيرة قد تفسد جمود وجهها، وقبل أن يتغير أسلوبه تمامًا معها كان يحافظ على شعرة من الثبات وهو يهتف بحزمٍ بدد تماسكها:
– يعني إيه لأ ؟!.. أنا بقول كلمتي مرة واحدة.. وهعتبر إني مسمعتش ردك ده مراعاة للصدمة اللي انتي فيها.
ثم أشار نحو السيارة ليكرر أمره :
– أركبي.
لم تنتظر ثانية أخرى، وكانت تسير بخطاها المتأرجحة نحو السيارة، حتى فتح لها السائق بابها الخلفي لتستقر هناك، ومن ثم انطلق بها عائدًا للقصر كما أمر “هاشم”، ريثما ينتهي الأخير من حياكة باقي خطتهِ للإيقاع بعمود آل طحان الأخير، والزج به بعيدًا عن طريقهِ وطريقها.
**************************************
كانت صدمة صعبة التقبل، جعلته يقف أمام والدهِ گالطفل الصغير الذي يُعنف جِراء أفعاله الصِبيانية المتهورة، عاجزًا عن ربط الأمور ببعضها للوصول إلى النتيجة المرغوبة، وهي – من الذي فعل تلك النميمة التي أدت لما هو فيه الآن-.
تنهد “رمزي” بنفاذ صبر بعدما ضغط على نفسه بشدة لئلا يقاطع وصلة توبيخ والدهِ القاسية، حتى أجبر “سليم” على الصراخ في وجهه :
– ما تـرد عـليا يا رمزي!.. هو انا بكلم نفسي يابني؟.
تدخلت والدته في الحوار لكي تمنع المعركة من الإحتدام بينهما :
– أهدا بس ياسليم.. خلينا نسمع منه.
لم يكن “سليم” قادر على الحفاظ على ثباته الإنفعالي لأكثر من ذلك، لا سيما في ظل الصمت الذي حافظ عليه “رمزي” :
– أهـدا إيــه بـس يا فادية!.. هو ابنك ساب فيا عقل؟!.
استجمع “رمزي” شجاعته قبل أن يواجه والده بحقيقة الحُب الذي يعيشهُ، ثم هتف بثبات ناقض شعورهِ بالسوء :
– أنا مش مصدق إن انت اللي بتقول كده يا بابا؟.. حضرتك راجل متعلم وعارف إن مفيش أي حاجه تعيب الست المطلقة، بالعكس.. من حقها فرصة تانية و……
قاطعه “سليم” بحزم بعدما أكد “رمزي” كل ما قاله “هاشم” بتلك العبارة الخادعة :
– أخــرس.. أنا ابني مياخدش بواقي حـد يا دكـتور، أنا متعبتش فيك وفي تربيتك عشان تبقى أخرتها طليقة هاشم اللي اتفضحت في كل حته وهيتسحب منها رخصة مزاولة المهنة كمان!.. الموضوع ده تنساه وتشيله من راسك نـهائي انت سامـع؟.
تدخلت “فادية” متضايقة من ذلك الوضع الذي انحشر فيه ولدها الوحيد :
– أخس عليك يا رمزي!.. ليه يا بني تبقى دي أخرة صبري؟ .
لم يتحمل “رمزي” أكثر من ذلك، خاصة وأن أسرتهِ الكريمة قد عاشت نفس الوضع بإختلاف الأماكن :
– أنا مش مصدق اللي بسمعه!..أمال لو مكانتش بنتك مطلقة وعايشة لوحدها هي وابنها كنتي قولتي إيه؟. المفروض تكوني أول واحدة تحس إن المطلقة في مجتمعنا أكتر واحدة مظلومة وسط الناس ومحدش بيرحمها.
دافع “سليم” عن ابنته (المتبناه) هادرًا :
– أختك وضعها مختلف.. أختك سابها حيوان عديم الرجولة عشان يهرب من مسؤولية ابنه المريض!.. مش واحدة على ذمة راجل وراحت بصت لغيره!! دي ××××.
اشتعلت الحمية في رأسه عقب سماع إهانتها بنفسه، واصطبغت أذناه باللون الأحمر من فرط الإنفعال وسخونة الرأس :
– لو سمحت يا بابا.. الست دي هي اختياري ومسمحش بالغلط فيها أبدًا!.
لم يتحمل “سليم” سماع ذلك، وتلقائيًا كان يجتذب ياقة ولده حتى وقفت “فادية” بينهما مذعورة من تطور الأمر فجأة :
– بتقول إيـه ياولـد ؟؟..يعني انت هتعصاني وكمان عايز تعلمني أقول إيه ومقولش إيـه؟؟.
ربتت “فادية” على كتف زوجها وهي تحاول منعهِ من التمادي مع ولدهِ الوحيد :
– ياسليم مش كده كله بالهداوة.
هنا فقط خطر على ذهنهِ السؤال الأهم، من أين حصل والدهِ على تلك المعلومات، وكيف علم بشأن تلك العلاقة – السرية- التي لم يعلن عنها أيًا من الطرفين!، ليقذف بالسؤال أمام والديه وعيناه الفضولية توزع النظرات بينهما :
– عرفت منين الموضوع ده يابابا؟.. مين وصلك المعلومات دي؟.
لم يرى “سليم” داعيًا من إخفاء الأمر، على العكس أحس بوجوب معرفة “رمزي” لكي يرى نصب عينيه استحالة تلك العلاقة وإنها محفوفة بالمخاطر لكل الأطراف :
– عندك فضول أوي؟!.. طليقها بنفسه جه لحد عندي واكتشفنا إننا معرفة قديمة.
ثم تحولت نبرته لأخرى ساخرة :
– كتر خيره عمل حساب للعشرة وجه يهددني في عيادتي قبل ما يواجهك بنفسه على أمل إني أعدلك دماغك وأبعدك عن أم بنته.
تضاعف التوتر لدى “فادية” مع سماع تلك التفاصيل المرعبة، وتخيلت أشياء خطيرة قد تحلّ بولدها جراء عنادهِ المعتاد، لذلك كانت حازمة معه وهي تصيح في وجهه :
– أسمع يا رمزي.. انت تبعد عن الست دي وإلا هفضل غضبانه عليك طول عمري.. الدنيا مليانة ستات وبنات يتمنوا بس إشارة منك، إنما تجيبلي واحدة بمشاكلها وكمان معاها بنت!! مش هقبل مهما حصل.
تقريبًا توقفت مسامعه لدى المعلومة التي أصابته بالصدمة، فلم يكن يتخيل أن “هاشم” له علاقة سابقة بوالدهِ، و سينزع فتيل قنبلة موقوتة ويتركها بين أحضان أسرتهِ لتنفجر في أي وقت، كي يفرق بينهما حتى بعد وقوع الطلاق.
ظل مجمدًا متجمدًا للحظات، وتفكيره العاجز لم يسعفه للخروج من ذلك المأزق، مسيطرًا عليه حمية الغضب التي أعمت ناظريهِ، سوى عن حقيقة أن “هاشم” بات گالشوكة المغروزة في عنق حبيبتهِ، گالسرطان الذي لن تتخلص منه بسهولة، وسيبقى مغيمًا لحياتهما مهما قدمت له من تنازلات، وهذه هي أولى المعضلات التي ظهرت أمامهما.
**************************************
مازالت على نفس حالتها المتصلبة تلك حتى عاد إليها، وكل ما يملأ رأسها إنها تقريبًا خسرت الأرض التي اعتمدت إنها ستؤمن دخل آمن إليها. لم تعد مشاعر الخذلان تزورها، فقد اعتادت رؤية ذلك المشهد الخائن من كل ذوي دمائها حتى باتت لديها مناعة ضد الشعور بالحزن منهم؛ لكنها الآن تشعر بالحزن على نفسها وعلى وضعها الذي أجبرت على معايشته.
جلس أمامها يتأمل وجهها الباهت، وقد ضاعف لون الوشاح الأزرق القات الملفوف على رأسها من إبراز ذلك البهتان، فـ مدّ يده نحو رأسها ينزع عنها وشاح الرأس برفق تحبهُ، وأصابعه تلمس بشرتها يمينًا ويسارًا بشكل متعمد، ثم حرر شعرها من رابطته لينساب على كتفيها، وهي تنظر إليه بصمت حزين، حتى حلّ وثاق لسانها وهو يحادثها قائلًا :
– بلاش غوامق تاني، الألوان الفاتحة بتنور عليكي.
أطرقت رأسها بدون أن تهتم لعبارتهِ، فـ حجم انشغالها وحزنها غطى على كل شئ، فقط بعض الكلمات التي غمغمت بها گتفريغ لتلك الطاقة التي ملأت رأسها :
– خلاص كده الأرض مش هتتباع!.. زمان الناس عرفت بالمشاكل اللي عليها ومحدش هيرضى ياخدها بمشاكلها.
رآها فرصة ذهبية للدخول وسط الأحداث وإنقاذها گالبطل الشجاع الذي يركض لصالح حبيبتهِ بدون مقابل، فعرض عليها عرضهِ السخي الذي بدا گسفينة النجاة، ويداه تمسح على خدها اللين :
– متشغليش بالك خالص.. أنا هاخدها وأدفعلك اللي انتي عايزاه.
اتسعت عيناها المتعلقة به للحظات طويلة، حينما أخرج هو دفتر الشيكات النقدية ووضعه أمامها ليقول :
– أكتبي المبلغ اللي يرضيكي وانا اشتريت خلاص.
ظهرت علامات الرفض المبدأي على وجهها، مما جعله يرتاب من الكلمات التي ستبثقها من فاهها الآن، لتبرر هي قائلة :
– مقدرش أسيبك في مواجهة طويلة مع أهلي هتخرج منها خسران.. كفاية إنك واقف ليهم عشاني.
وجب عليه الإقتتال من أجل الخروج من تلك اللحظة فائزًا، وإلا لن تسنح له تلك الفرصة مرة أخرى :
– أنا أقدر أقف لأي حد، هما اللي لازم يفكروا ألف مرة قبل مواجهتي مش أنا.. وبعدين أنا مش هسيبك تتعاملي مع ناس غريبة وتبيعي وتشتري وانا موجود!.. ولا إيه رأيك؟!.
كان جادًا في عبارته الأخيرة، وبدا ذلك جليًا في نظرات عينيهِ القاتمتين، فنظرت للدفتر الذي وضعه بين يديها وهي في حيرة من أمرها، لكن على الأرجح بدأت تميل للحل الذي عرضه عليها، على الأقل تتخلص من الأرق الذي تعيش فيه هي ووالدتها بسبب الفقر المدقع الذي تركهم فيه أبيها وزوجها بدون ضمان حقهما في الميراث الشرعي الذي حلله الله – عز وجل -، وهم في أمسّ حاجه لأبسط الأشياء التي تساعد على المعيشة الكريمة ليس إلا. أطبقت “رحيل” جفونها وهي تعيد الدفتر ليديهِ، فـ انبثق بداخله الظن إنها ترفض عرضهِ، وقبل أن يتحدث كانت هي تبادر قائلة :
– قدرها زي ما تحب ياهاشم.. أنا مفهمش في الأراضي.
بزغت ابتسامة واسعة على محياه وهو يخرج قلم من جيب معطفهِ، ثم بدأ يخطّ بالدفتر وهو يقول :
– أنا قدرتها بعشرة مليون، مع إنها تساوي ٣ بس، لكن فداكي أي حاجه.
جحظت عيناها بذهول مع سماع الرقم الذي اعتبرته -خزعلبي- وقد تخطى كافة طموحاتها، حتى رأت الشيك بين أصابعها وعادت تقرأ الرقم لأكثر من مرة قبل أن تهتف بـ :
– ده كتير أوي يا هاشم!.
مسح بيداه على ذراعها، ممهدًا لـ ليل طويل سيقيضاه معًا، ممنيًا نفسهِ بالغوص في أعماقها كما حدث في ليلتهم الأولى :
– مفيش حاجه كتير عليكي يا رحيل.. ده حقك.
ثم نهض ليجتذبها معه بكل طواعية حتى وقفت أمامهِ، ثم انحنت رأسه نحو منطقة الخدر في منتصف رقبتها والتي يحفظها عن ظهر قلب، ليضع بشفاههٍ بصمة لا تنساها قبل أن يهمس بـ :
– إحنا جايين من طريق طويل.. متهيألي لازم نـ…… نرتاح شويه.
واصطحبها للطابق العلوي وهي تستند بجسدها على جزعهِ القوي حيث يضمها إليه، إلى أن وصلت لغرفتهِ بالقصر، والتي كانت زيارتها الأولى لها هي اليوم، لتكون زيارة موسومة باللـذة.
*************************************
كانت منهمكة بالعمل على طلبيتها الجديدة من الموردين منذ ليلة أمس، لم تتذوق طعم النوم إلا بعدما اطمئنت على تمام كل شئ، وإنها سوف تسلم الطلبيات الجديدة للموزعين في المواعيد المقررة، بدون أي تأخير قد يضر بسمعة شركتها الصغيرة التي تحارب من أجل التواجد بين الماركات الشهيرة العالمية والمحلية.
تنفست “ندى” الصعداء بعد انتهاء تلك المحادثة الهامة، ثم نظرت بإتجاه أخيها لتعتذر منه على طول انتظاره لها :
– أنا آسفه يا رمزي.. بس كان لازم أخلص الإتفاق ده قبل ما ابعت العربيات تستلم الطلبيات الجديدة.
ترك “رمزي” مشروب(النسكافيه) جانبًا وهو يرفع عنها الحرج :
– ولا يهمك.. المهم تكون الأمور ماشية كويس.
نهضت “ندى” من خلف مكتبها لتجلس قبالته وهي تقول :
– آه تمام.
ثم تنهدت بضيق وهي تتابع :
– ماما حكتلي على كل حاجه بالليل.. على أمل إني أتكلم معاك وأقنعك طبعًا، مكنتش تعرف إني أول واحدة هتكون في صفك.
غرز “رمزي” أصابعه بين خصلات شعره الغزير ليحك فروة رأسه، شاعرًا بألم الرأس الذي يتطور عن الأمس للأشد والأقوى :
– مش عارف أعمل إيه ياندى!.. إنا مستحيل أتخلى عن كاميليا.. انتي مش متخيلة بقت بالنسبالي إيه.
مرارة غريبة ظهرت مع تلك البسمة الظاهرة على وجهها، وهي تنصحه بما تؤمن به من كل قلبها :
– أوعى تتخلى عنها يا رمزي.. حتى لو اللي بينكم هيخلص متكونش انت الطرف البياع في القصة.
لمعة الحزن الجلية في عيناه ذكرتها بتفاصيل من ماضيها، وكأنها ترى من جديد كل ما حدث في واقعة انفصالها عن “مراد”، الإنسان الوحيد الذي أحبته؛ لكنها لم تكن قوية كفاية لمواجهة ذلك العالم معه، تخاذلت حينما تتطلب الأمر منها بعض الشجاعة، ورأت في الهروب من المستقبل المتوقع ضمان لحماية كرامتها من أقل خدش قد يصيبها بجروح غائرة. انتبهت “ندى” لصوته يناديها، لينتشلها من الشرود المؤقت الذي علقت فيه بين صفائح الماضي :
– معلش سرحت بس.
ثم ربتت على يده گتعبير عن دعمها لموقفه وهي تقول :
– أنا هحاول أتكلم تاني مع ماما وأونكل سليم.. أكيد هوصل لحاجه ان شاء الله متقلقش.
نهض “رمزي” عن جلسته وهو ينظر لساعة الهاتف :
– أنا لازم أنزل عشان ألحق معاد العيادة.. هستني منك تليفون تقوليلي وصلتي لأيه، لأني مش عايز مواجهات تاني مع حد دلوقتي.
– حاضر.
اصطحبته للخارج كي تودعه بنفسها، فرأت “مراد” ينتظرها بالخارج، في زيادة مفاجئة غير مسبوقة بموعد، گرد على تجاهلها لإتصالاتهِ المتكررة خلال الأيام الماضية.
ارتكزت عينا “مراد” على ذلك الضيف الذي يعرفه جيدًا، فهو بنفسه قد تقصى حول معلومات عنه من أجل “هاشم”؛ لكنه لم يصادف في تلك المعلومات أي شئ يخص علاقته بـ “ندى”، مما جعل رؤيته هنا علامة إستفهام كبيرة بالنسبة إليه، ولم يقوَ على منع عيناه الفضولية من متابعة النظر إليه، حتى أصبح كلاهما أمام بعضهما البعض وهي تنشئ بينهما التعارف :
– آ.. أستاذ مراد client مهم عندنا.
ثم نظرت إليه لترى أمارات التعجب على وجهه لتعريفها المضلل له، بينما تابعت هي قائلة :
– دكتور رمزي أخويا.
لم يحس “مراد” سوى بإنقباضة ضربت قلبهِ، لا يعلم لماذا أصابته؛ لكنه لم يتردد في مصافحته عندما بدأ “رمزي” ومد إليه يده :
– أهلًا ياأستاذ مراد.
– أهلًا.
ثم التفت لـ “ندى” يستأذنها :
– أنا مستني منك تليفون.. باي.
وصافحها بشكل روتيني قبل أن ينصرف تمامًا من هنا، بينما وجّهت “ندى” ضيفها العزيز نحو مكتبها :
– أتفضل يا مراد.
فـ أشار لها كي تتقدم خطواته ومن ثم سار من خلفها، والأمر مستحوذًا على مداركه كلها بشكل أنساه لماذا هو هنا الآن؟.
**************************************
كانت تلك هوايته المفضلة، ومهارتهِ التي أخذت منه وقت طويل حتى أصبحت له شغفًا. راقبته بتمعن وهي تراه يلاطف طائر العقاب خاصتهِ، وأكثر الصقور تفضيلًا بالنسبة إليه، والبالغ من العمر سبعة عشر عامًا، وقد اشتراه حينما كان يبلغ أربعة سنوات. كان يقف على ذراعهِ وهو يرتدي القفازات القوية لحماية نفسهِ من تلك المخالب المتوحشة، والتي قد تنهي حياة إنسان بقسوة مميتة إن تم افتراسهِ على يد “عنبر”، العقاب المفضل لدى “هاشم” بعدما فقد “شاهين” عدوانًا من آل طحان. كانت تخشى تلك الصورة التي تراها الآن، والصقور تحوم من حوله كأنها تستأنس به، وهو يراعاها ويعطيها الكثير من وقتهِ، مشهدًا أصابها بـ القشعريرة، خاصة وإنها تعلم إنها أشد أنواع الطيور الجارحة فتكًا وأذكاهم على الإطلاق؛ لكن ما جعلها بهذا الهدوء المزيف هو رؤيتها لترويضهِ إليهم، وإنه على علم ودراية جيدة بطرق التعامل معهم.
ظلت هكذا بعض الوقت، حتى أنهى هو الوقت المخصص لأصدقائه وعاد إليها لتناول الإفطار في تلك الغرفة المحاطة بالزجاج، ليرى تعبيرًا مريبًا على وجهها لم يتفهمه تحديدًا، فعقبّ قائلًا :
– افتكرتك هتخافي تقعدي هنا وتتفرجي عليهم!.. طلعتي شجاعة.
ابتسامة رقيقة زينت مبسمها وهي تسكب الشاي المخمر في فنجانهِ قائلة :
– مخوفتش لأنك موجود.. وشيفاك مسيطر عليهم كويس وهما فاهمينك.
غمس الفطير الفلاحي بعسل النحل الجبلي قبل أن يقول :
– طبعًا.. دول عشرة عمر، صحابي اللي طلعت بيهم من الدنيا.
قطبت جبينها لتسأل :
– طب والبشر؟ ملقيتش فيهم صحاب؟.
مضغ الطعام بين فكيهِ قبل أن يجيبها بثباتٍ :
– صاحبي دراعي.. مفيش إنسان يستاهل يتصاحب يارحيل.. ولا حتى أنا.
كانت كلماته الأخيرة محلّ استفسار وتعجب منها، كيف يرى في نفسه تلك الصورة؛ بينما هي تراه صديقها الوحيد ومنقذها البطل؟.. أحست بوجود خلل ما، وقد يكون مرتبط بموقف أو حادثة معينة، فلم تتردد من سؤاله :
– ليه بتقول كده؟.. انت حد موثوق جدًا و……
جلجلت ضحكتهِ حتى ملأت الأرجاء، وعيناه عالقة بها وهي تنظر إليه بشدوه هكذا :
– والفكرة دي اتبنت في دماغك من الشهرين اللي عرفتيني فيهم؟؟.
رمشت عدة مرات بعدما نجح في إرباكها، ولم تدري بأي شئ تجيب :
– متهيألي إني عرفتك كفايه و…..
– مش كفاية.
قاطعها بشئ من الجدية، مستنكرًا عليها أحكامها المسبقة في حقه :
– مش يمكن أطلع عقاب؟.
حدقت عيناها فيه، بينما تابع هو مشيرًا لـ “عنبر” :
– زي عنبر كده .. ما هو ده عقاب، فصيلة شرسة من الصقور.
جمد لسانها وقد أثار تلميحهِ بوادر رعب نبتت في جذور قلبها النظيف الذي لم يحمل له سوى الإحترام والتقدير، ولم ترى فيه صقرًا أو وحشًا مفترسًا، على العكس اعتبرته بطلها الذي ظهر في حياتها عوضًا؛ لذلك كان سماع هذا منه صادمًا للغاية، وضرب بتوقعاتها عرض الحائط، مما جعل بشرتها تبهت فجأة، ليعاود هو ممارسة لعبة الإحترام الشديد واللطافة المزدوجة، لتحط يده على كفها يفركه بلطفٍ، كي يمسح تلك الكلمات من خاطرها المرتعب :
– في إيه مال وشك أصفر كده ليه؟؟.. أنا بهزر معاكي!.
رن الهاتف الخلوي بالغرفة الزجاجية، فنهض ليجيب على رجال الأمن الواقفين بالخارج، ثم التفت إليها آمرًا :
– عمك حمدي برا وعايز يقابلني.. أطلعي انتي أوضتك.
لم تنتظر ثانية أخرى، ونهضت لكي لا ترى وجه ذلك الظالم الذي انتهك حقوقها وأهدرها، مسرعة في خطواتها للعودة إلى داخل القصر، والتفكير في ذلك الحوار الذي سيدور بينهما هو شاغلها الأول. أغلقت على نفسها الغرفة وجلست على طرف الفراش، فلم يسعها الجلوس، لتقف وتدور في الغرفة يمينًا ويسارًا، ثم وقفت أمام زجاج الشرفة الذي يعكس الإضاءة، فلا يمكن للخارج رؤية الداخل، لتنظر من خلالهِ بفضول شديد، فرأته يدخل عبر الردهه بينما “هاشم” ينتظرهُ في أولها، واقفًا هكذا بكل شموخ، فقد أتى المهزوم للتفاوض مع المنتصر؛ وهذه الشماتة إحدى علامات ظفرهِ.
دلفت “رحيل” وكأنها لم تطيق رؤية عمها، كأنه أصابها بالغثيان من فرط كراهيتها النابعة من داخلها له، وجلست في هذه الزاوية المقابلة لمنضدة الزينة، لتقع عيناها دون قصد على أحد الأدراج المفتوحة، وقد نسى “هاشم” المفتاح فيها. دنت منها لتتفقد الدرج بدون تخطيط مسبق، فوجدت بطاقة هويتهِ التي انتهت صلاحيتها منذ عدة أشهر، وقد راودها الفضول لترى صورتهِ فيها؛ ولكن الشئ الذي أثار دهشتها فعلًا هو اسمه المدون في البطاقة، والذي ناقض ما تعرفه هي، فلم يكن “هاشم رضوان العزيزي” كما عرفته؛ ولكنه كان “هـاشم فـضـل الـعزيزي”.. وكأن الإنسان الذي تعرفت عليه سراب لا وجود له، والآن هي أمام حقيقة لم تفهم أبدًا معنـاهــا….
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية ليلة في منزل طير جارح)