رواية لحن الأصفاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم أسماء
البارت السادس والعشرون (نصفُ إمرأة!)
❞أسرجَ قلبي بنظرة…
فضممتُ روحه بشفاهي!❝
7
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس العلوية|من الدم و إلى الدم…
2
جلست روما إلى الطاولة التي قادهما نحوها النادل، تأملت المقهى بنظرة سريعة، ثم إستقرت عيناها على المرأة التي استرخت فوق المقعد المقابل بوقار. بدت السيدة اليابانية من عالم بعيد تماما عن عالم روما، بدلة كلاسيكية سوداء، تصفيفة شعر مرموقة، ملامح آسيوية حادة، و سيجارة تتأجج بين أصابعها الطويلة.
1
جعلت تلك التفاصيل روما ترتعش دون أن تفهمَ لِمَ، و بدأت تنظر حولها مجددًا، و تتمتمُ بريبة:
“من أنتِ حقًا؟ و ما الذي يربطكِ بيوري؟ و لماذا قلتِ أنه يابانيٌّ مثلكِ؟ يوري كان كوريًّا!”.
نفثت السيدة دخان سيجارتها عبر شفتين رقيقتين، و ابتسمت بخفة مجيبة:
“إليكِ أمرين بسيطين عني يا صغيرتي، أولاً: أنا أزدري رسميات التعارف و سخافات الكُلفة اللعينة، لذا سنكتفي بإسمي المُصغَّر، «火كاي» ، و ثانيًا و هذا الأهم: أنني أزدري يوري أكثر، و أزدري علاقتنا، لذا دعينا نتجاوزها، و نبلغَ السبب الرئيس لوجودي هنا!”.
4
رفعت روما حاجبيها مستغربة، فيما نفضت كاي الجمر على المنفضة التي أحضرها النادل مع فنجاني قهوة، و تابعت ببرود:
“كان يوري شابًا يافعًا، يملكُ مقهىً معروفًا في طوكيو، يقصده يوميا المئات، ليحتسوا الساكي، و مختلف مشروبات الأعشاب التي ورثَ خلطاتها الخاصة عن أجداده، و في نهاية كل دوام، كان يأتي إلى مقر العشيرة، و معه رقم جديد”.
اتسعت عينا روما بتوجس، و سألت:
“تقصدين أنه يقدم لعشيرتكم عددًا من المشروبات كل ليلة؟”.
4
“بل أقصد عددًا من القاصرات!”.
11
“و فيم الحاجة للقاصرات؟”.
6
أصبحت إبتسامتها مثقلة بالشر الفخور و هي تمنحها جوابًا صادمًا:
“لا حاجة لهن، لأنها نرسلهن إلى العالم الآخر في نفس الليلة، لكننا نحتفظ بتذكارات صغيرة منهن!”.
5
ارتعدت فرائصها في مكانها، أدركت بوجع حاد يحفر صدرها ما ترمي إليه كاي، لكن قلبها فنَّدَ ذلك الإدراك بقوة، هل كان حقا يوري بتلك القسوة؟ هل كان وحشًا مخبأً بقشرته الودودة، يسقي القاصرات مشروبًا ورديًّا، ثم يسوقهن إلى تُجَّار الأعضاء بيديه؟ لماذا قد يفعل شيئًا بتلك الفضاعة؟ نخزها السؤال حتى العظم؛ لكنها لم تقاطع المرأة، أو ربما لم تملك القوة الكافية لتفعل!
“لا تنظري نحوي بهذا الوجه المرعوب! نحنُ لسنا مُخيَّرين، الحياة مجرَّد غاب، و تلك طريقتنا في البقاء!”.
3
عثرت روما على صوتها أخيرًا، فعلقت بحدة:
“كيف يُفترضُ بي النظر إلى وحشٍ ملطَّخ بالدم؟”.
3
و دونما إكتراث مضت الٱخرى تسردُ تاريخ عشيرتها بملامح مزهوة:
“تتحدَّثين هكذا لأنكِ تعيشين في عالم مغلَّف ببراءة خادعة، لا شيء مثاليٌّ هنا، طالما البشر بعيدون عن المثاليَّة؛ فأطوارهم كذلك بعيدة! في عشيرة «ياماغوتشي غومي» تختلفُ القواعد، كلما تلطختِ بالدم، كلما لمَّعتِ صورتكِ أكثر في نظر الكبار، و إعتبروكِ ياكوزا من الصفِّ الأوَّل؛ يوري كان دائما مؤهَّلاً، لكنه تنكَّر لأصله و عشيرته حين وقع في حبائل والدتِك!”.
11
تشكلت على وجه روما علائم الصدمة بينما كاي مسترسلة في حديثها، و مجَّات شفتيها تنتقِصُ من عمرِ السيجارة:
“أكره سردَ الماضي، لكن دعيني ٱكملُ القصة الناقصة التي أمطركِ بها مُربِّيكِ اللطيف منذ الصِغر! كانت «لينيل ويتمور» ابنة سياسي أمريكي مهم، و طالبة كيمياء نباتية في إحدى أكبر جامعات طوكيو، عاشت بين عطور الزهور و معادلات الكيمياء، و تنقلت بين المطاعم الراقية و المقاهي الشعبية، حتى تعثرت بسفاح داخل بدلته البيضاء، جذبها عِطر زهوره الفوَّاح، و حكمة لسانه العذبة، و أسكرَها حبُّه مع الوقت، كما يسكرُها شراب الساكي، و كانت النظرة الواحدة من عيني تلك الشقراء كافية ليتوقف قلب يوري عن الخفقان، كافية ليديرَ ظهرهُ لنا، و يتخذها زوجة!”.
5
لهثت روما من فرط الصدمات المتعاقبة عليها، و تمزقت بين الضحك و الدموع:
“زوجة؟ ما الهُراء الذي يجري على لسانِك؟ يوري قام بتربيتي أنا و أخي فحسب، هو لم يتزوج ٱمَّنا لينيل، لكان أخبرنا لو فعل!”.
سحقت كاي السيجارة المُنتهية، و أشعلت ٱخرى مزيلةً اللُّبس عن القصة:
“الحق معكِ، كيف سيخبركما أن زواجه منها كان سببًا في قضاء نحبِها باكِرًا؟”.
4
أصبحت روما كشبح جالس هناك دون حياة، فقط عينان جاحظتان، و فم فاغر، الصدمة الأخيرة كانت أعنف بمراحل، لا سيما و كاي تتابع سردها ببرود تام:
“يوم زفاف يوري و لينيل، و الذي ٱقيمَ بفيغاس إثر إصرار عائلتها، حدث إطلاق ناريٌّ خرَّب اللحظة السعيدة، و حول العُرسَ إلى فوضى، ليثبتَ لاحقًا أن السياسي جاكسويل تيمور كان رافضًا لتلك الزيجة، و تعمد إقامتها في مدينة ٱشتُهِرت بالسفاحين و إشتباكات المافيا، لتتجه الأصابع نحو عصابات العالم السفلي، بينما القاتل الحقيقي كان والد العروس نفسه!”.
7
إختلطت الأمور في ذهن روما، و استرسلت كلمات كاي في النزول على رأسها كالصواعق:
“كانت لينيل متزوجة قبل يوري من وزير أمريكي خمسيني، طبعا جدكِ جاكسويل مدبِّرُ الزواج لتحالفات مالية و سياسية بحتة، دون إكتراث لمشاعر إبنته ذات الثمانية عشر عاما آنذاك، كان زوجها عنيفًا إلى حد دفع بها لأخذ طفليها و اللجوء لجمعية تختص بحماية النساء و الأطفال من العنف الٱسري، و التي أقنعها أعضاؤها برفع شكوى ضد زوجها و ضد والدها، كسبت لينيل القضية طبعا، حصلت على تعويض مادي بعدما خلعت الوزير من أول جلسة، ثم على دعم كامل من الجمعية لتتابع دراستها في اليابان و تستقر هناك مع طفليها؛ لكن والدها كان وغدًا، تحالف مع زوجها السابق لإستعادتهم بأي طريقة، و كان خادمًا لمصالحه أن تهاتفه إبنته بعد أشهر تدعوه لزفافها من ياباني صالح بنية الصلح!”.
5
حبست روما أنفاسها، يخبرها حدسها أن ما تبقى من القصة هو الجزء الأقسى!
“عرف جاكسويل كيف يستغل طيبة إبنته الغبية، و أقنعها بأن سعادته لن تكتمل إلا إذا تزوجت على أرضها، علاوة عن شوقه لرؤية حفيديه. و بمنتهى السذاجة وافقت، دون أن تتوقع حتى في أسوء كوابيسها أن والدها استأجر قاتلًا مأجورًا ليتخلص من العريس الياباني، لكن… لينيل عشِقت يوري إلى الحد الذي إندفعت فيه بينه و بين الرصاص دوم تردد!”.
6
تجمدت الحياة في مقلتي روما و هي تتبين الطريقة الحقيقية التي توفيت بها ٱمُّها، عكس ما تعوَّد أن يروي لها يوري، تحولت شفتاها الجميلتان إلى خط باهت. رمقتها كاي بسخرية، و بأتم برود، دفعت نحوها علبة السجائر المفتوحة لتلتقط واحدة و تدخنها، على أن روما نشبت فيها نظرة ضيقة تفيضُ حِدَّةً و رفضت مدت يديها صوب العلبة.
آنذاك تنهدت كاي بضجر، و تابعت مرتشفة القليل من قهوتها بعدما نفذت سيجارتها الثانية:
“و مثلما طارد يوري قاتل حبيبته، ستطاردين قاتل مُربِّيكِ، أساسًا عدوُّنا واحد، و الياكوزا برمَّتِها لن تتوانى عن دعمكِ كي تقدمي لها رأسًا واحدًا من سفلة الويد!”.
10
نالت كاي نظرة إستنكار من الفتاة، فشتمت باليابانية، و قفزت ثانيةً إلى الإنجليزية الباردة:
“ربما فشل يوري في تصفية إدريك، لكنكِ لن تفشلي، رغم أنكِ لستِ يابانية، إلا أنني أرى فيكِ عنفوان الياكوزا!”.
10
تراجعت روما في مقعدها، متذكرة عدة مناسبات ذكر فيها مايلس إسم إدريك على لسانه أو حدثه هاتفيا أمامها، و كثيرًا ما كان يبتسم حين يأتي ذكره ذلك الرجل، قائلا أنه بمثابة أب له، جفَّ حلقها، و إنتابها دوارٌ جعل كل شيء حولها ينراقص، لمست أعلى بطنها بخفة تقسم أن معدتها تتخبطُ. شبكت بصرها أخيرًا ببصر المرأة اليابانية، الدم يغلي بدماغها، و شفتاها تتلعثمان:
“إد… إدريك!”.
إبتسمت كاي بمكر معلقة:
“يُخيَّلُ إليَّ أنكِ تنطقين إسمه عن معرفة سابقة! و بما أنكِ تواعدين سفاح الفورمولا الوسيم ذاك، فهذا مؤشر جيد، أنتِ قريبةٌ جدًّا من الويد!”.
3
“الويد؟!”.
1
تمادى ضجر كاي، لكنها كانت مضطرة للمحاضرة عن ٱولائكَ السفلة كما تلقبهم:
“السائرون في الظلام، أقوى سفاحين عرفهم التاريخ، نتشارك معهم السواد و القسوة و شغف التمزيق؛ لسنا على وفاق تام معهم، لكنهم باتوا أعداءنا المباشرين مُذ صوبوا نحو واحد من الياكوزا! و إذا إتبعتِ إرشاداتي، سنلقنهم درسًا لن يُمحى من تاريخ العالم السُّفلي!”.
لم تعد روما قادرة على سماع المزيد، نهضت فجأة متسببة في سقوط المقعد إلى الخلف، و إنتشار همهمة بين رواد المقهى حولهما، و بينما كانت كاي تمشطها بنظراتها القاتمة، صرخت روما منفعلة:
“كفى! لا أريدُ سماع أشياء كهذه، أنتِ كاذبة! مُجرَّدُ مخادعة كالبقية!”.
3
هرولت خارج المقهى، الصراخ لا زال يتجاوز شفتيها، و الدموع ما فتئت تنفذُ بغزارة من عينيها المتورمتين. أخذ المارة يتفادونها معتقدين أنها فقدت عقلها، كل شيء من حولها بدا بعيدًا، كانت في خطواتها العشوائية أشبه بمن يسير إلى الخلف، لم تكن ترَ سوى طوق الأكاذيب الذي يضيقُ مع كل متر تتقدمه، تشوشت الصور في عقلها، كأنها أمس كانت جاثية على ركبتيها تبكي رجلاً ملطخًا بالدم، تعتقدُ لوهلة أنه يوري، ثم تتبين أنه ليس سوى… أبولو!
عند التقاطع، مرّت سيارة داكنة النوافذ ببطء، لم تلحظها روما التي لا تزال قيد تشوشها، تابعت السير وهي تحني رأسها، حذاؤها كأنما يزحف على الأسفلت، لا أحد التفت لها، لا أحد لاحظ كيف كانت تتفتَّت، و لا أحد أيضا إنتبه كيف إبتلعتها السيارة المجهولة… و إختفت كالعدم!
2
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا الداركسان…
1
ها هو ذا دارك أمام منزله، حياه الحارس و فتح له شقًّا من البوابة الثقيلة غير قادر على النظر مباشرة داخل عينيها القاتمتين، صوتها و هي تنغلق خلفه، لم يكتم صدى كلمات إدريك التي ظلت تطنّ بحدة في عقله بعدما صرَّح دارك برغبته في تصفية الضابط رافِنوود:
“لا تمارس دور الزعيم عليّ، كنتُ و سأظل بمثابة أب و أخ أكبر لثلاثتكم، و ستراني إما مرشدًا تصغي له، أو جلادًا يشوه وجهك. اختر ما يُناسبُك!”.
7
لم يتوقع أنه سيضحك حينها، ضحكة شبه ميتة، وهو يردّ بنبرة لا تكاد تسمع:
“كأنني أصدق أنك قد تفعل هذا…”.
أما الآن، و الغضب يغلي في أضلعه، فقد عاد يتساءل إن كان قد بالغ في الاستهانة برافِنوود و فريقه؟
كانت خطواته تقترب من الصالون، مصطحبًا معه سواد أفكاره، ليصطدم كل إنشٍ ظلامي منه بربيع أبيض بدأ يستيقظ بين تلك الجدران، و يصفع كل ما لا يشبهه! هل أخطأ العنوان و دخل جنة ما؟
توقف عند المدخل، أغمض عينيه للحظة، قبل أن يعاود فتحهما متأكدًا مما أمامه، إنها كلبته الشرسة لايكا فعلاً، و بالقرب منها زوجته التي كانت حتى وقت قريبٍ تخافها، و غير معتادة عليها، كانتا و لدهشته أقرب لبعضهما من النفَس و صاحبه، تتدحرجان، تلك تعوي بحشرجة لطيفة، و الٱخرى تقهقه بنعومة، لم يسبق لدارك أن تاه بمبسم امرأة كما فعل توًّا، كما لم يسبق له أن سمعها تضحك بتلك الإنسيابية و الغِبطة، دغدغ المنظرُ شيئًا من كوامنه، و تدحرج قلبه معهما. راحت الكلبة تلعق أطرافًا من شعر روكسان، فصاحت هذه مستنكرة بمزاح و الضحك لا زال يقطع صوتها:
4
“لا تفعلي هذا يا مقرفة! غسلتُه قبل قليل فقط!”.
ساءه هو الآخر أن يحدث ما حدث، هل يجوز لغيره أن يقربَ تلك الجدائل الطويلة و يحتكرها لملمس يده، و مطبع لثمته، مُنافسًا بها ظلامه؟!
5
لاحظت لايكا وجود سيدها، فوثبت نحوه هازَّة ذيلها، تلتفُّ حول ساقيه مرحبة. تخضَّب وجه روكسان رافعة رأسها نحوه، لم تكن تتوقع أن يضبطها في تلك الوضعية المحرجة، فلملمت نفسها من فوق السجاد، و قالت بتوتر أنها كانت تبحث عن سلسالها الرقيق الذي إنفكَّ و سقط هناك.
“أتساءل كيف سقط دون أنتبه؟”.
توقعت روكسان و هي تراه يخطو صوبها ببطء أنه سينادي خادمة ما لتبحث عن السلسال، أو لعله سيتجاهل الأمر معتبرًا عذرها أسخف من أن يستحق التمرغ بالسجاد لأجله؛ لكن دارك فاجأها بحركة لم تكن في الحسبان، رفع يده مزيحًا الشعر الذي كان يستريح فوق كتفيها، ثم إلتقط خصرها و سحبها نحوه بيده الٱخرى، و طبع قبلة طفيفة على نقطة النبض في عنقها، قبل أن يبعد شفتيه إنشًا واحدًا و يهمس:
2
“عنقُكِ لا يقبلُ زينةً غير قبلاتي!”.
22
لو لم يكن دارك ممسكًا بخصرها، لأفقدتها حرارة صوته توازنها، سحبت بعض الهواء لرئتيها مثبتة قدميها بالأرض و هو ينظر عميقًا في عينيها و يتابع متسائلاً:
“ماذا فعلَت معذبة ريغان في غيابه؟”.
7
أراحها أنه غيَّر دفَّة الحديث، و عجزت عن كتم إبتسامتها إثر تلقيبها بمعذبته، أسدلت جفنيها مبللة شفتيها بطرف لسانها، قبل أن تجيب:
“قضيتُ بعض الوقت في الحديقة، ثم تدرّبتُ على العزف، يقول الٱستاذ ٱوكاليبس أنني أحرزُ تقدّمًا!”.
أفلتها مستعيدًا بروده، سيرةُ الأشقر الخبيث نغَّصت عليه فخره بأدائها المتقدم، لذلك إكتفى بكلمة باهتة، تسلق بخطاه الثابتة السلالم، ثم مضى نحو الممر المؤدي إلى غرفة الأستاذ، دلق الباب كأنه يقتحم وكر عدو، و شمله بنظر ثاقب، بعدما ألفاه قابعًا في إحدى الزوايا، بشعر مشعث، و عينين مضطربتين، و من الواضح أنه كان غارقًا في تنقيح بعض النوتات التي عملت عليها تلميذته.
1
إنتصب دار أمامه، يداه في جيبي بنطاله، و صوته مشحوذٌ و قاطعٌ كحدّ المِشرط:
“هل مدحتَ عزفَها اليوم؟”.
4
“أجل سيد ريغان، لم أنسَ أنكَ أمرتَ بـ…”.
“هل مدحتَ بإسهَاب؟”.
1
أظلمت حدقتا عينيه بشدَّة و هو يقاطعه، فسارع ٱوكاليبس للنفي مرعوبًا من أطوار هذا الرجل اللامتوقعة:
“كلا، لم… لم أفعل!”.
دنا دارك خطوة منه، فضيق عليه الخناق أكثر، و حاصره بعينين لا تخطئان التصويب:
“تذكّر… هناك شعرة رفيعة بين المدح والغزل، إن تجاوزتها مع إمرأتي، سأجد أداةً بنفس الدقة… لتمزيقِك!”.
8
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
بدأت روما تفيقُ من تأثير المخدر الذي إستنشقه، رفعت رأسها الثقيل تنظر حولها، لم تعد داخل تلك السيارة المجهولة، بل مكبلة الأطراف على كرسي خشبي، في مكان يشبه المستودع القديم، تتراكم بين جدرانه الكئيبة الكراسي المستعملة، و قناني المشروب الخاوية، و لا نوافذ تخبرها أ هو ليلٌ أم نهارٌ خارجًا. لمحت ظل أحدهم يقترب، رجلٌ ضخم الجسد، فبدأت بالصراخ طلبًا للنجدة، حتى أخرسها بصوت بارد و منفر:
“رحمةً بأحبالكِ الصوتية، سأخبركِ أنكِ تحت الأرض بعشرات الأمتار!”.
3
تخشبت من هول الصدمة لوقت طويل، ثم إبتدرته بسؤال وجيه:
“لماذا تحتجزني هنا؟”.
و دون مماطلة، منحها الجواب الدقيق بإقتضاب:
“حتى أضمن حرية إبني!”.
11
إحتدت نظرتها، تجمعت الدموع في مقلتيها، و إمتعضت من تخمينها قائلة:
“لم أتصور أنني سأواجهكَ و أنا مقيدة… إدريك!”.
كانت على بعد خطوات فقط من القاتل المأجور الذي حرمها من ٱمها، و كانت أيضا أضعف من أن تقتصَّ منه. علق إدريك و هو يلتقط لها صورة:
“ستصلُ هذه الصورة لهاتف شخص عزيز؛ ألن تبتسمي له؟”.
أدركت من يقصده بالشخص العزيز، فأردفت بقوة تعجبتها في نفسها:
“ستبتزَّ أخي بي إذًا؛ لا أستغربُ هذا من سفاح لعين، هيا، أرِني كيف ستجبرني على سحب إتهامي لمايلس بقتل يوري! أ ليس هذا ما تصبو إليه و ما ستحاوله تنفيذه؟”.
1
“ليس تماما!”.
1
تأكد إدريك أنه حفظ الصورة الملتقطة، ثم عرض عليها صورة ٱخرى إلتقطها لسيريا و هي بالعناية المركزة، قبل أن يضيف:
“أنا واثقٌ أنكِ ستفعلين ذلك بملئ إرادتِك حين تعلمين أن مايلس كان يحاول إنقاذ ٱختِه من يوري!”.
لم تكن روما تعرف الفتاة، لكنها لم تستطع منع قلبها من التأثر و هي تراها أشبه بجثة جامدة على سرير المستشفى. فجأة جحظت عيناها، و تمتمت خالعة بصرها من الصورة تعيده إلى وجه إدريك:
“ماذا تعني بأنه كان يحاول إنقاذها منه، أ لستَ أنتَ عدوّ يوري الأساسي؟”.
“يبدو ذلك قائما إلى حد ما، لكن يبدو أيضا أنه يكنُّ نحو حقدًا غير مسبوق، و أنه راقبني لفترة طويلة، طالما إستهدف سيريا، فهو يعي جيدا ما تعنيه لي، و يعرف أنني لا أبالي بحياة بل بحياة من حولي، و خاصة بحياتها!”.
3
لم يسبق أن كان إدريك بذلك الوضوح أمام أحد، لكنه قرر أن يضع روما في الصورة، و عكسه قررت روما أن تظل غامضة، و ألا تخبره بأنها إبنة لينيل ويتمور التي قتلها في أسعد لحظاتها دون وجه حق!
“ستظلين هنا، حتى تتخذي قرارك!”.
تحرك إدريك بنية مغادرة المكان، لولا صوت روما الذي إستوقفه:
“لا تقحِم أخي في كل هذه القذارة، سأتحمل نتيجة سذاجتي، و سأدفع ثمن خطأي بمفردي، إطمئن! سأشهد لصالح مايلس!”.
وزن إدريك كلماتها بخبرة طويلة في قراءة الناس، أقسم أنها صادقة بخصوص سحب الإتهام و تغيير أقوالها، لكنه لم يأتمنها بكا يكفي، كان داخلها شيء مبهم لم يستطع تحديده، شيء لا يعني مايلس، بل يعنيه هو على وجه الخصوص. إنحنى يفكُّ قيودها، ثم قادها عبر عدة ممرات، أفضت بهما إلى درج مظلم، ليجدا نفسيهما وسط شارع مهجور، أين ركن إدريك سيارته، السيارة نفسها التي إبتلعتها قبل قليل!
“إصعدي!”.
أطاعته بصمت، ليس خوفًا و إستسلامًا، بل حكمةً و تعقُّلاً، ربما لن يتوانى قاتلٌ مثله على تفجير رأسها بطلقة واحدة إن فكرت بالهرب. جلست بهدوء إلى جانبه، و تمتمت حين إنطلق باتجاه المركز:
“هل تعدُ بأن أخي لن يتعرض لأذى بسبب منظمتكم؟”.
“إسحبي إتهامكِ فقط، و سينتهي الأمر في أرضه، ربما سيعرقلُ عنادُ أخيكِ سيرورة الإجراءات، لكن براءة مايلس تحصيل حاصل إن تصرفتِ بعقلانية!”.
شعرت بالخزي لأنها تجلس قربه بذلك الهدوء كله، كتمت صرخات ممزقة، و دفنت دموعًا ملوعة، و أغمضت عينيها باحثة عن قوة تجيرها الإنهيار، حتى قطع الإتصال الذي هز هاتفه أفكارها، و سمعت إدريك يجيب:
“نعم!”.
و ما هي إلا ثوانٍ حتى سقط منه الهاتف، و غير إتجاهه قاصدًا مستشفى سامرلن، ظلت روما متجمدة من السرعة التي قاد بها، و لحسن الحظ أنها كانت فطنة كفاية لتربط بين صدمته و بين تلك الفتاة التي أخبرها أنها تعني له و لمايلس الكثير، هل يعقل أن مكروهًا ألمَّ بها؟ هل يعقلُ أن إنتقام يوري تحقق و قضى على أقرب شخص للقاتل الذي حرمه حبيبته لينيل؟ رغم حبها ليوري و إمتنانها له، لا يمكنها إستساغة موت الأبرياء! لا يمكنها التصالح مع فكرة الثأر من شخص لا ذنب له، الثأر بحد ذاته لا يبدو خيارًا سليمًا!
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا الداركسان…
دلفت روكسان إلى غرفة نومهما مفترضة أنه أخلد للنوم بعدما لم تجده في أي جزء من الطابق الأرضي، لكن عيناها لم تتعثرا به هناك أيضا. أغلقت الباب خلفها مستغربة، خطت ببكء فوق سجاد الغرفة الناعم، أخبرتها رائحة الغسول الرجولي الذي يستعمله و التي ملأت الغرفة… أنه إستحم منذ وقت قصير، لتخمن بعد ذلك أين يمكن أن تعثر عليه!
أزاحت الستائر، و دفعت باب الشرفة المنزلق فانزاح إلى اليمين، ليتراءى لها منظر متوقع، و الغريب أنه كان محبَّبًا لناظريها! منظر دارك و هو يتكئ بمرفقيه على الدرابزين، الرياح تموِّجُ شعره، و وميض سيجارته الأحمر يخفتُ و يتوهجُ كلما تنفس ذلك الدخان الأسود.
1
أخذت الرياح تموجُ جدائلها الطويلة أيضا ما إن إقترب منه، و وقفت على بقربه، إلى جواره، كتفها يلامس زِندَه، و بعض من خصلاتها الحريرية تحلق مغازلة ذقنه و أنفه، قبل أن تحط ثانية بسلام على كتفيها! لاحقت أدق تفاصيل وجهه بعينيها المتفرستين، و تلاطمت أعماقها بآلاف الأحاديث، غير أنها فضلت الصمت، و كانت أثناء ذلك تسلِّمُ بأنه تائهٌ في مكان ما، فلا يشعر بها، و لا يلاحظ وجودها من الأساس، لكن دارك حرك عينيه فجأة نحوه، أغرقها في البداية بنظرة غامضة، قبل أن ينتزع السيجارة من بين أسنانه، و ينحنى قليلًا نحوها، معلنًا بأنفاس باردة كحديثه:
1
“سأسافر في مهمة خاصة، أما أنتِ فستبقين عند إدريك حتى عودتي!”.
15
إختنقت روكسان، و رفعت رأسها نحوه بقلق:
“لماذا إدريك دون سواه؟”.
6
ابتسمت عيناه للحظة، دون أن يكون هناك أثر ابتسامة على شفتيه:
“لأنه الشخص الوحيد الذي ستكونين بأمان معه… من بعدي!”.
سحبت الهواء البارد لأعماقها، و أغمضت عينيها مقاومة ذلك السؤال، لا تريد نطقه، لا تريد التفكير به، حتى إبتسم دارك دون أن يبدو ساخرًا أو باردًا، و بسَّط الأمر:
“أعرف في أي سؤال تفكرين يا عذابي، لذا هاتيه دون تردد، مصائبُ هذا الثغرِ أشهى من الغزل نفسه!”.
10
شجَّعها قوله على الجهر بأفكارها، و لو أن جهرها أتى مهزوزًا، كما لو أنها لا تريد لذلك الإفتراض الحتمي أن يتحقق:
“هل… هل… ستقتلُ ثانيةً؟”.
4
و عكس الغضب الذي إنتظرته، أبدى دارك هدوءً غريبًا، و إحتفظ بالمرح في كلماته، و هو يردُّ على سؤالها بسؤال آخر:
“و هل ستصدقينني إن أخبرتكِ أنني لن أسلبَ حياةً؛ بل سأحفظُها هذه المرة؟!”.
24
لأول مرة تشعر روكسان أنه يحتل مكانة ما بحياتها، رمقته بنظرات خارج تفسيره، كأن النظرة نفسها لا تكفي لتحفظ ملامحه، و تطويها داخل ذاكرتها لوقت طويل، لذا مدَّت يديها نحو وجهه، و إرتفعت فوق رؤوس أصابعها، لترنو منه، جامعة أنفاسها بأنفاسه، حاصرة نظرتها بفمه، لاثمة شفتاه اللتان جففتهما الرياح، و روتهما للتو قبلة ٱنثى!
6
و لأول مرة يرتبك السفاح ريغان، و يخوض رحلة غير مسبوقة، عائدًا جسد الرجل البارد، إلى جسد الطفل الحائر، ذاك الجسد الصغير المفعم بالحياة، الذي كان يلاحق عُقَاب نيڤادا ببصر مشدوه، و يتعلم منها كيف يتسيَّدُ الصحراء، ها هو الآن يلاحق رحيق فمها العذب، و أقسى أمانيه أن يتسيَّدَ قلبها!
1
لم يصدق دارك أن روكسان و باندفاع منها، و دون ضغط أو مطالبة من جانبه… تبادر بتقبيله، و بتلك الرغبة القوية و الشوق المشحون، كأنها تتحرق للإجتماع بشفتيه منذ زمن بعيد! سقطت من يده السيجارة دون أن ينتبه لها، ضم زوجته بين ذراعيه أكثر، و أطال من عمر القبلة، إذا كانت ستودعه بهذه الطريقة، فسيسافر في اليوم ملايين المرات.
12
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس العلوية|المصلُ يأتي من الأفعى نفسها…
صوت العملة المعدنية ظل يتردد في الهاتف العمومي، لحظة صمت قصيرة تخللها الرنين، ثم فُتِحَ الخط، و إنبعث صوت رجل متقطع:
“مرحبا، هنا منزل آل فاندرمان”.
1
كان صوت المحامي الشهير فاندرمان متثاقل ببقايا النوم و هو يجيب، ليسمع صوت إبنته الآمر:
“أنا أنتظركَ أسفل منزلك!”.
أرسل نظرة إلى الجدار، و تمتم بنبرة متذمرة:
“في مثل هذه الساعة يا مايرا؟”.
ومض التهديد في كلمات مايڤا و هي تردف:
“إن لم تنزل حالًا، سأجبرك على النزول بطريقتي الخاصة! و صدقني لن تستعمل الدرج لأشهر!”.
3
إلتقطت صوت تنهيدة طويلة تسللت عبر الخط، ثم همهمة استسلام:
“حسنًا، آتٍ إليكِ”.
بعد لحظات كان قد أطفأ أنوار منزله، و نزل إلى الشارع بخفة باحثًا عنها بعينين لا زالتا تحت تأثير النعاس. لمحها تسند جسدها الرشيق على أحد جدران منزل جيرانه، و ما إن خطا نحوها، و دقق النظر في قصة شعرها الأسود، و بريق عينيها الحادتين، حتى كاد يشبهها بقطط الشوارع الليلية، تجمع بٱعجوبة بين الفتنة و الشراسة، تموء و تخدش في اللحظة نفسها. وقف قبالتها حائرًا، تأمل يديها الغائرتين بجيبي سترتها، و سأل مباشرة:
“ماذا تريدين؟”.
اقتربت نصف خطوة، و أجابت بوضوح يناسب سؤاله الدقيق:
“أن تدافع عن شخص يهمني”.
ولدت عيناه ابتسامة جانبية، خالية من الدفء، و ردد:
“مقابل مسامحتي؟”.
فسخرت مايڤا غير عابئة بتوقه للصلح:
“بالغتَ في تفاؤلك!”.
ألقت سيجارة كانت تدخنها منذ لحظات، و صححت له:
“مقابل التغاضي عن فسادك… لفترة!”.
1
ظل والدها صامتًا، عقله يدور حول المساومة، و ٱبوته لا تنفكُّ تحاصره، ثم طرح السؤال الذي كانت تنتظره مايڤا:
“تفاصيل القضية؟”.
“قتل شخص في الطريق العام!”.
مد يده كمن ينتظر أوراقًا، ربما توقع منها كلمة شكر، أو حتى عناقًا عابرًا، إلا أن مايڤا ضربت صدره العريض بحقيبة سوداء تسلمتها من إدريك، و كادت تسقطه نصف خطوة للوراء بسبب ذلك و هي تتابع:
“كل شيء هنا!”.
ثم أدارت له ظهرها، و مضت في طريقها متلاشية مع الظلام، حتى تأكد أنها رحلت دون أن تلتفت لمرة واحدة، تاركة له جبلاً… من الضيق و الندم!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
مستشفى سامرلن|عودة مع وقف التنفيذ…
الضوء الأبيض فوق رأسها كان يتدلى كخيط موصول بالسرير، و الأجهزة الطبية ترسم أنفاسًا بطيئة تؤكد لسيريا أنها عادت للحياة، لكنها لا تشعر كأنها كذلك حقا. نظرت في زوايا الغرفة و في وجه الممرضة عدة مرات، و ليس بين شفتيها سوى إسم واحد يتكرر!
في الوقت الذي شهدت أروقة المستشفى الدكتور الغامض شديد الإتزان و الهدوء يركض مستبقًا نبضه و شوقه و جنونه، و في أثره روما، تركض مثله دون أن تعي سببًا لتوترها، كأنما تشتر بثقل ذنب لم ترتكبه، كأنما ستمحو تلك الإنسانية وحشية يوري!
حالما بلغ إدريك غرفتها، دلق الباب حتى ظنت الممرضات أنه ركله، و إنكب فوق سيريا، مقبلاً جفنيها، غير مصدق أنهما إرتفعا أخيرًا، و سمحا لعينيها بأن تعرفا النور. و كانت سيريا في البداية مشوشة، لا ترى بوضوح، و تتحدث بتثاقل في اللسان، إدراكُها ضعيف تتنازعه اليقظة و الدهشة، و نبضها يستقر تدريجيا!
3
راقبتهما روما من خلف الزجاج، و استغربت كيف تشعر بالشفقة من أجل قاتل ٱمها، أم أنها لم تشعر سوى بالشفقة على نفسها لأنها وقعت ضحية كل هذا!
تناول إدريك يدها مافخًا فيها من نفَسِه الدافئ، ثم تمتم و الكلمات تتكسر على طرف لسانه:
“مرحبا بصغيرة دادي من جديد!”.
10
لم يصدّق أنه ينظر إليها حيّة بعد كل تلك الأيام الباردة التي عصفت بقلبه، رفع أصابع يدها الشاحبة إلى شفتيه كمن يعيد للحياة قطعة ضائعة، و همس أنه لن يسمح لها بأن تموت قبله!
لم يكن وجه سيريا خاليا من تعابير السرور كذلك، حين بدأت تدرك أين هي، و تسترجع تفاصيل الحادثة التي أفضت بها إلى سرير الحياة و الموت، كررت إسمه دون أن تقول شيئًا غيره، و ذرفت دموعًا لم تكد تجف أبدًا، حتى باغتته بشيء جمد هواء الغرفة تماما، و حول عرَّاب الأرواح إلى روح تائحة بلا ملجأ و لا وجود!
“إدريك! هل أنا حية؟”.
“إنكِ حية تُرزقين يا صغيرتي!”.
“إذًا، لماذا… لا أشعر… بنصف جسدي؟”.
18
مات إدريك من أعمق نقطة فيه، بكل ما تحمل كلمة الموت من معنى، يده ما زالت فوق يدها، لكن قلبه هبط كصخرة عنيفة، صارت الغرفة كتلة من العتمة و ضوضاء بعيدة لا يعرف مأتاها، أ هو صفير الأجهزة، أم هو ضجيج الرفض داخله، رفض ذلك القدر، رفض تلك العودة المأساوية! أ ليست منتهى القسوة أن يكون أول شيء يعيشانه بعد عودتها للحياة هو واقع أنها أصبحت مشلولة، و سترى نفسها منذ اليوم، نصف امرأة؟ نظر إليها بإدريك بعجز قاتل، و لم يجد أي جملة تلحق بهذا الخراب!
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)