رواية لحن الأصفاد الفصل السادس عشر 16 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل السادس عشر 16 بقلم أسماء
البارت السادس عشر (أسود شفَّاف!)
❞ربما يعجز لساني عن صياغة الكلمة…
لكنه يجيد رسمها على جسدكِ!❝
8
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
1
فيغاس|المستشفى المهجورة (سوق الأعضاء)…
في شارع مهجور… ردد الصدى صرير عجلات سيارة فرملت للتو بعنف أمام مدخل المستشفى، ألقى أحد الأطباء نظرة من أقرب نافذة، و لم يستطع تحديد هوية الرجل الضخم الذي ترجل من تلك السيارة و ألقى نظاراته السوداء جانبًا، ثم إنهمك بإستخراج شيء ما من صندوق سيارته، لم يعرف الطبيب ما هو، فقد تراجع عن حدود النافذة حين إستعجلته الفتاة المستلقية لينهي الأمر، و يخدرها كما طلبت قبل نزع أعضائها!
“حسنا!”.
إنضم إليه طاقم كبير من الجراحين على رأسهم ريدوود، أبقوا فقط أنوار الجراحة تعمل، و سحبوا ستائر النوافذ غامرين بقية الأرجاء بظلام مرعب، إرتجفت سيريا للحظات، و كرهت شعورها بذلك، لطالما سحبت الأرواح من أجسادها دون أن ترتعد أو يهتز لها جفن حتى، لماذا تخشى خروج روحها منها الآن؟ لماذا تهمها الحياة؟ لماذا ترفض أن تتألم و تفضل أخذ حياتها منها و هي مخدرة؟ لماذا تكترث و أكثر شيء رغبت به لم تحصل عليه رغم وجوده أمامها طوال الوقت؟!
أخذت نفسًا عميقًا، و إستلقت على سرير الجراحة تاركة شعرها القاتم يتساقط من حوافه مناقضا شحوب الغرفة و مآزر الجراحين الملطخة ببقع دماء قديمة كأنها مآزر لجزارين! أغمضت عينيها، تكرر ما قالته منذ قليل لريدوود:
“إفعلها! أنا مستعدة!”.
2
كلا! هي ليست مستعدة! هي و لأول مرة بحياتها، ترتعش حتى الموت لفكرة تحولها بعد لحظات إلى جسد ممزق، هي و اللعنة! تشعر أن برودة ذلك المكان تسحق عظامها و تمتد ساحقة حتى الروح!
تناول إدريك من صندوق سيارته بندقية رشاش يبقيها هناك تحت بطانة مموهة ليستعملها في مهماته كسفاح، تأكد أنها ملقمة عن آخرها كما يفضل أن تكون دائما، و هجم على المستشفى بوحشية، مضى يحصد أرواح كل من يظهرون عليه في الأروقة عمدًا أو صدفةً، ملأت رائحة الدم المكان و تصاعد الغبار مع الهواء الآتي من النوافذ المكسورة بسبب الرصاص القوي الذي كان يشوه الجدران و يفتت أجزاءً منها حرفيا!
2
بلغت أصوان الرصاص الطوابق العليا، و خاصة الطابق الأعلى الذي كانت تتم به المجازر في حق الجثث و الأحياء، حركت سيريا رأسها بعصبية مستغربة ما تسمعه، لكنها لم تستطع ترك السرير، فقد إنتابها الدوار بسبب رائحة العقاقير، و قبل أن يتم حقنها بالمخدر حتى، و بدأت بالفعل تشعر و كأنها ستغفو بعد قليل، نظر الجراحون لبعضهم، ثم لريدوود، إسترجع هذا الأخير المنظر الذي شاهده من النافذة، و بدأ يخمن ماهية الشيء الذي إستخرجه ذلك الرجل من صندوق سيارته!
“اللعنة! لا يمكننا البقاء هنا… إنه…”.
لم يتمكن من متابعة كلماته بعدما ركل إدريك الباب و كشَّر مشهرًا في وجوههم البندقية التي تشبههم، و تمزق الأجساد أسرع مما تفعل مشارطهم الحادة! و ما هي إلا لحظات حتى تحولت أجسادهم إلى مصفاة، و لطخت دماءهم كل شيء في الغرفة!
خفض إدريك سلاحه مركزًا بصره على الفتاة التي تستلقي فوق السرير دون حراك! إرتعش أنفه غضبًا، و إكتحلت عيناه بظلمة لا قرار لها، لم يعرف كيف حرك قدميه و إقترب منها، أبعد عنها الأضواء الخضراء، و الأجهزة التي كانت ستستعمل في العملية، و أغرقها بنظراته الكئيبة لمدة من الزمن يجهلها، إزدرد ريقه مطمئنا لأن لا خدش على جسدها النحيل، لكن سكونها الغريب طرد إطمئنانه بعيدًا، مد إصبعين يجس بهما وريدها، و ما إن أحس بنبضها، حتى إنجلت عنه الظلمة، و إستقر صدره من القبضة الحادة التي كانت تسحقه! تنفس الصعداء مدركًا أنها مخدرة أو فقدت الوعي فحسب، إنهار قرب السرير فاقدًا قوة ساقيه، فاقدًا كل قدرة على التحرك لأي مكان بعد هذا، قبض على بعض من شعرها المنسدل يقربه من أنفه و فمه، كأنما يلثمه، أو يربت به على صوته المختنق، و يجفف به دموعه التي تساقطت دون أن تترك له فرصة دفنها!
20
حين فتحت سيريا عينيها، لم تعرف كم كانت الساعة، و لا إستطاعت تحديد مكانها، لكنها بعد تحديق عميق فيما حولها شهقت غير مصدقة أنها كانت محمولة على كتف أحدهم، و ليس على الجدران و الأرضية سوى الدم و الجثث، حاولت الفكاك منه مستخدمة كل قوتها، لكن ذلك لم يكن لينفع مع شخص ضخم مثله، كيف لا و قد أدركت أنه هو… إدريك!
“ضعني أرضًا!”.
تجاهل ما قالته بعصبية، و تابع خطواته خارج تلك المستشفى اللعينة، لتضيف و هي تضرب كتفه:
“أنت تعرف أنني لا أحب أن ٱحمَل على الأكتاف كجثة!”.
“إخرسي!”.
وصل إلى سيارته و فتح بابها مضيفًا:
“كنتِ منذ قليل مستعدة لجعل هذا الجسد جثة مزرية بحق!”.
“لأنه جسدي، أنا أقرر بشأنه أي شيء، ما الذي يعنيكَ أنتَ في كل هذا! اللعنة إدريك! لقد أدميتَ هذا الجسد بحزامكَ لأنني إقتربتُ منك، و الآن تعترض طريقي لأنني قررتُ الإبتعاد!”.
أنزلها فجأة و ألقاها داخل السيارة بعنف، ثم جمدها بنظرات مميتة و هو يحاصرها برأسه المنحني و يعلق صارفًا أسنانه:
“إعذري لعينًا مثلي لأنه سيء في إيصال الفكرة بالكلام!”.
1
دنا منها أكثر حتى تنفست عطره و رائحة السجائر العالقة بفمه، و أضاف بصوت مبحوح كالزئير:
“سأشرح لكِ ماذا يعني لي هذا الجسد!”.
10
صفق بابها بقوة حتى أقسمت أنه لن يُفتح بعد ذلك أبدًا، و إلتف حول السيارة متخذا مكانه خلف المقود، سمعت صوت بابه أيضا يغلق بعنف، و إنتظرت أن يباشر القيادة عائدًا بها إلى البيت، لكن إدريك عاكس توقعاتها، و قاد السيارة على طريق هجره الناس منذ زمن بعيد، و أوقفها تحت جسر قديم لا تمر تحته أي مركبات، و لا يصله ضوء النهار، كأنها كانا حينها في العالم السفلي، كسائرين في الظلام، لكن ليس كسفاحين، بل كشيء آخر لم تصدقه سيريا، لم تره بوضوح بسبب الظلام، لكن بريق ساعة يده الذي قفز نحوها فجأة أكد لها أنه قرب يده منها، توقعت لكمة أو صفعة، توقعت كل شيء… إلا أن يمسك عنقها بأصابعه الخشنة و يرفعها عن مقعدها بخفة ليجلسها بحضنه و يدفن أصابع يده الٱخرى بشعرها الكثيف، و يستنشق ما بلغه من أنفاسها، قبل أن يقربها منه أكثر، و يلتصق صدرها بصدره، و يحدث تلامس طفيف بين شفاههما، حينها حلق كل شيء بعيدًا عن عقل سيريا، نسيت المستشفى و العملية و قرار الإبتعاد و التضحية بنفسها، و فكرت فقط كم تحب شفاهه التي تنطق إلا بالبرود و العنف، إندفعت نحوه أكثر حين شعرت بيديه تفلتان عنقها و شعرها و تزحفان على خصرها، فإلتحمت شفاههما لأول مرة في قبلة لا تحمل أي ذرة من الصواب، كانت مشحونة فقط بالتمرد و الجنون و الغضب، تصلب جسده تحتها أكثر، و تحفزت خلاياها لدى شعورها بإنتفاض الدم و النبض داخل عروقه بشكل أكثر فوضوية و تسارعًا، أحست منبهرة أنه يضيق الخناق على خصرها و يرفض إفلات فمها حتى لتتنفس، كأنه يريد سحبها لأعماقه و سجنها هناك إلى الأبد!
28
و لولا الإتصال المفاجئ الذي هز هاتفه، لما إنتهت تلك اللحظة الخارجة عن الطبيعة مطلقا، أفلت إدريك شفتيها لاهثًا، و لشدة ما كان غاضبا من نفسه شعر بصداع رهيب يشق رأسه نصفين، أما سيريا، فقد ظلت تجلس بحضنه طاوية ساقيها، تعض شفتيها مبتسمة كأنها في النعيم، و تتحسس صدره مسحورة، رافضة تذكير نفسها بأنه متبنيها!
1
إنتهى الإتصال دون أن يجيب إدريك، فقط ظل أسير البريق الذي يلمحه من عينيها في تلك الظلمة، أثارته تلك اللحظة أكثر، غير أنه أغمض عينيه هامسًا:
“ما هذا يا سيريا؟ ما الذي أفعله بكِ و بي؟”.
خشيت أن تستيقظ من حلمها الجميل، فإتسعت إبتسامتها أكثر، و غامرت بقولها:
“أنت تمنحني أجنحة يا إدريك… فلا تتوقف أرجوك!”.
“إذا كانت هذه الأجنحة ستحلق بكِ نحو الجحيم… فسأتوقف و لن تناقشيني في هذا! فلنتكتم عما جرى بيننا الآن، لأن ما فعلنا خطيئة!”.
تجهم وجهها، و أردفت بعنت:
“لنفترض أنها خطيئة، ألسنا مسوخًا؟ لماذا نكترث؟ اللعنة! إن حياتنا بأسرها سلسلة من الخطايا!”.
لم تحدد ما يجري على ملامحه في كنف العتمة، و لأنه ظل صامتًا… تابعت هي ثرثرتها بأمل:
“لنفترض أننا لسنا أبا و إبنته، لنفترض أننا لسنا سفاحين في الويد، لنفترض لمرة واحدة أننا يمكن أن نكون معا… إدريك!”.
“الحياة لا تُبنى على مجرد إفتراضات… سيريا… الحياة دقيقة للغاية… و إن أمضيتها و أنتِ تفترضين لنفسكِ كل شيء… ستكتشفين في النهاية أنكِ لم تعرفي الحياة مطلقًا!”.
وجدت نفسها تصمت مفكرة لثوانٍ قبل أن تردف بألم محشور داخلها لسنوات:
“أنا حقا لم أعرف الحياة يا إدريك، الحياة كانت بالنسبة لي فقط…السير خلفك! هل تعرف بالأساس لِمَ أنا سفاحة؟”.
إبتسمت ساخرة من نفسها و تابعت:
“ليس لأنني أحب القتل، بل لأنني أحب أن أتبعك و أفعل ما تفعل! ليس و كأنني أريد أن أكون تلك السفاحة التي يهابها الكل، كل مرادي هو أن تفخر أنت بي، و واقع أنك إنتشلتني من مكب نفايات و منحتني الأمان يجعلني أصر على الموت ألف مرة لتنظر لي و لو لمرة واحدة كامرأة لا كإبنة، أعرف أنني بذرة منبوذة ٱلقي بها في الشارع، أعرف أنني خطيئة لعينة تطاردكَ دائما، لكنك تعلم أن لا ذنب لي في كل ذلك!”.
للحظة ظنت أنه لن يعلق بشيء، لكنه صدمها بقول غريب:
“أنتِ لستِ خطيئة سيريا، و أنا لم أجدكِ في مكب نفايات كما أوهمتكِ لسنوات!”.
4
صعقتها الصدمة، فغرت فمها تبحث عن الكلمات، و أخيرًا سألته بينما يرده إتصال للمرة الثانية:
“ماذا تعني بهذا؟ لقد ظننتُ طوال حياتي أنني إبنة غير شرعية… و هذا ما دفع من أنجباني للتخلص مني في القمامة!”.
أكد لها إدريك أن ذلك غير صحيح، و تمتم ببروده المعتاد:
“دعيني أعالج الآن شيئًا مهما، ثم سنتباحث في هذا الشأن!”.
عادت للجلوس على المقعد الجانبي مضطربة، بينما تحرك إدريك بالسيارة مبتعدًا عن ظلمة ذلك الجسر، و هو يجيب الإتصال قبل أن ينقطع بلحظات:
“نعم دارك”.
“كل شيء جاهز، هل أنت على وصول؟”.
“بعد دقائق سأكون عندك!”.
“و ريدوود معك؟”.
1
تنفس إدريك بحدة و أجاب عاقد الحاجبين:
“ريدوود وجد معنى كنيته الآن، و بات بالفعل يسبح في وادٍ من الدماء!”.
أيقن دارك على الطرف الآخر بسرعة بديهته أن إدريك إرتكب مصيبة، فسأل فورًا:
“ماذا فعلتَ إدريك؟ طلبتُ منكَ إحضار ذلك الجراح اللعين… لا تصفيته!”.
“صدقني… لو كنتَ مكاني… ما كانت لتختلف النتيجة!”.
عاد دارك يسأل بتجهم:
“و ما العمل الآن؟ هل ستحضر جراحًا غيره!”.
11
“كلا!”.
ضاعف إدريك من سرعة السيارة أكثر، و أضاف حاسمًا قراره:
“سأتولى كل شيء بنفسي، لا تنسى أنني جراح المافيا الأبرع!”.
لم يكن لدى دارك أدنى شك بذلك، فإدريك حقا هو أفضل جراح عرفه العالمام السفلي و العلوي على حد سواء، لكنه علق رغم ذلك بإستغراب:
“ظننتُ أنكَ ترفض إجراء هذه العملية بالذات!”.
1
“يبدو أنني سأتعود منذ اليوم على قبول أشياء عدة سبق و رفضتها!”.
أنهى دارك المخابرة عند ذلك الحد، و إلتفت يطالع جسد روكسان و هي تغط في نوم عميق، إقترب منها ملتقطًا خصلة من شعرها الداكن، و فكر أن ما سيجري بين تلك الجدران سيمهد لعهد جديد بالنسبة له! قرب الخصلة من ذقنه، كأنه يقارن بين نعومتها و خشونته!
بينما كانت روكسان غارقة في معترك أحلامها و كوابيسها المتلاطمة، أفكارها غير واضحة، و مشاعرها تطفو مثلها، عطر مألوف لا ينفك يتدفق بجنون ثم يتلاشى، و صوت قوي يلفها بطاقة لا تستطيع تحليلها، كانت أشبه بغيمة وحيدة في عرض السماء، لا تعي إلى أين تتجه، و لا متى يتعين عليها أن تمطر، و لو أنها تلقت عيارًا ناريًّا في تلك الحال لما أحست، و لا زارها الألم، تعاقبت عليها الحرارة و البرودة كتعاقب الفصول، إهتزت و هدأت، و طوحت بها الحياة يمينًا و يسارًا، و لم يبق وجه إلا و تخيلته في تلك الرؤى، و لم تذر صوتا إلا و أعادت نسجه وفق نجواتها البريئة!
مرت الساعات ببطء ساحق، و عادت روكسان لصحوها أخيرًا، لكنها لم تكن بنفس الحال التي تخدرت عليها، شعرت بأسى حارق يتجمع بصدرها و هي تكتشف أنها مقيدة بالأصفاد إلى سرير ما، و حول عينيها… عصابة!
2
صلصلت الأصفاد حين رجتها محاولة الخلاص و هي تصرخ:
“أين أنا؟ ماذا حل بي؟ دارك! أين دارك؟”.
2
“هنا؟”.
طمأنها نسبيا سماع صوته، لكن الأسى تجلى في صوتها و هي تسأله باضطراب:
“الأصفاد… و العصابة… مجددا! لماذا يا دارك؟”.
ظل صامتًا، فأضافت بفم ملتوٍ شاعرةً أنها تعرضت لخيانة:
“هل كان مجيئنا إلى هنا… جزءً من خطة الإنتقام؟ هل صدر أخيرًا قرار موتي!”.
سمعت خطواته تقترب، و صوته يجيب:
“وسمُ المرايا يحميكِ حتى من واشمه على جسدكِ يا روكسان، لذا إهدئي و تأكدي أن قرار موتكِ مستحيل صدورًا و نفاذًا!”.
“إذن لماذا عدتَ لتصفيدي؟”.
صمت مطبق مرة ٱخرى ران عليهما، حتى وجدته يخطو ثانية لكن ليس مقتربًا منها، بل خارج تلك الغرفة، و قبل أن يفتح الباب و يختفي، أجاب بلهجة غريبة:
“لأنني لا أريد أن تزيلي العصابة عن عينيكِ قبل حلول الصباح التالي، رفعها الآن سيؤذيكِ، ثقي بي… روكسان!”.
28
أمضت روكسان تلك الليلة متقلبة بين القلق و الإطمئنان، تارة تتوقع منه كل شيء، و ٱخرى تمنحه ثقتها العمياء و تصبر نفسها يالإنتظار حتى الغد لتفهم ما الذي يخطط له هذا الرجل الغامض! و حين أشارت الساعة لمنتصف الليل، عاد إليها دارك، تسبقة رائحة السجائر، لتؤكد لها أنه دخن كثيرًا، و هذه إحدى عاداته التي حفظتها عنه، و دارك ريغان لا يدخن إلا حين يتوتر و يقلق، نظر إلى ذراعيها المرفوعتين، و سألها ببحة رقيقة مثلما حدثها حين كان ينام على بطنها ذات صباح:
“هل تؤلمكِ الأصفاد؟”.
وثب قلبها لتفكيره في ألمها، ثم أجابته دون روح:
“تؤلمني ذكرياتها!”.
كأنما عصفت به تلك الإجابة، لم ينتزر لثانية واحدة، تقدم فورًا، و حرر ذراعيها يفركُ آثار الأصفاد على رسغيها، ثم حذرها:
“و لكن كما قلت…”.
“أعلم، لن أرفع العصابة عن عيني، لن ألمسها حتى، عليكَ أيضا أن تثق بي!”.
“جيد!”.
تمدد قربها مسببا بثقل وزنه صريرًا حادًّا في نوابض السرير، و سحبها نحوه لتستلقي على صدره مسطردًا:
“تعالي يا غَسَقي!”.
29
لبت نداءه و سكبت شعرها الطويل على طول ذراعه و هي تسترخي فوق صدره و تسأله بحيرة:
“غَسَقُك؟”.
1
بدأ يمرر أنامله بلطف على جلد كتفيها الناعم تارة، و يغرقها بين طيات شعرها تارة ٱخرى كمحاولة منه لدفنها هناك، ثم أردف مفسرًا و عيناه تمشطان السقف المظلم:
“الغَسَقُ هو أول الظُّلمة و ما خفَّ منها، و أنتِ هكذا… شعركِ وحده يرسمُ بداية ظلمتي الخافتة… و عيناكِ هما أسودي الشفاف!”.
9
غفت روكسان على إثر كلماته و لمساته دون أن تشعر، لم تعد تفكر في سبب تصفيده لها و عصب عينيها بعدما ظنت أنه بدأ يرحمها، لم يعد يهمها أيضا أن تعرف سبب وجودهما في مقر الويد، كل ما إقتنص إهتمامها و هي تريح يدها على ساحة صدره هو أن النوم بين أحضانه بات يجرف نحوها سكينة عجيبة لم تختبرها من قبل!
1
…
الكونغرس السفلي|إجتماع السيناتورز الأول…
إلتفَّ ممثلوا العشائر الثلاثة و عدد من القضاة السفليين و أبناء عشيرة المونسترز المدعوين خصيصا حول طاولة الإجتماع و أعين الجميع منصبة على ما وضع أمامهم!
كان أمام كل شخص هناك طبق فضي يحمل ظرفًا رماديًا، إعتاد مجلس شيوخ المافيا في الكونغرس السفلي إرسال ظروف سوداء لعناوين عوائل المونسترز حين يتعين عليهم تصفية أحد السفاحين المتمردين، لكن اليوم الكونغرس نفسه إستلم ظروفًا غريبة بلون مغاير، و توقيع مألوف!
كانت إيسميراي تايغرز هي الوحيدة التي قرأت ما جاء في الظرف بإبتسامة واسعة، فخاطبها دومينيك ليوني متهكما:
”يقالُ أن النمور حين تضحك في الوقت الخطأ… تسرق الغربان من أنيابها الفرائس!“.
حدجته بنظرة ناعسة، و غمزته ترد له الصاع مضاعفًا:
”نمرةٌ مثلي لا تضحك إلا لتنظف أسنانها من بقايا الطعام! و لا معذرة إن لم يفهم أسدٌ جائعٌ مثلكَ هذا!“.
5
تضايق ممثل عشيرة الكامورا ألفانتينو فيسكونتي من الصدام المتواصل بين عائلتي ليوني و تايلور، و قرر رفع هذا الشأن للكابو «سيباستيان كامورا»، لكنه أرجأ ذلك حتى ينتهي الكونغرس من فض قضية ريغان التي تشابكت خيوطها أكثر و إستعصى عليهم حلها، لا سيما و أنه هو من إختفى لأشهر دون أن يبرز وجهه اللعين، و هو نفسه من أرسل لهم هذه الظروف الرمادية و يدعوهم لإجتماع غريب بعد يومين في كنيسة سانت مارونيت!
1
علق جيرو ليوني هازئًا:
”ربما سيستسلم لمصيره أخيرًا و سيجعلنا نقدمه كقربان هناك!“.
2
تحولت إيسميراي هذه المرة من نمرة بيضاء إلى أفعى تلدغ دون رحمة، و أفحمت جيرو برد جعله يبتلع لسانه:
”قدم لعائلتكَ حاضرًا مشرفًا يطمس تاريخها الملوث ثم فكر في تقديم القرابين!“.
6
إهتاج جيرو و سائر أفراد عائلته لذلك التعليق القوي، و لم يكد أحدهم يثأر لكرامة الأسود، حتى جاء تعليق آخر أخف نبرة و أكثر هدوءً من لسان أديلاين تايلور:
”ٱشكر حظكَ لأن ريغان لم يسمع هذا، و إلا لقضى شعب شيكاغو الليل يشعل الشموع على روحكَ!“.
إستهجن الحاضرون تحيز عائلة النمور الواضح لصف دارك ريغان، خاصة إيسميراي التي قطعت على نفسها وعدًا بحمايته مهما كلفها ذلك من ثمن، لكن رئيس الجلسة… ممثل البراتفا… «نيكولاس يامينوف» لم يعلق على ذلك، و قاد الإجتماع إلى نهاية باردة و هو يذكرهم بموعد إجتماعهم الثاني غدا، أين سيبحث موضوع الفتاة التي قيل بأنها السبب الرئيس في إنقلاب أقوى السفاحين ضدهم، و حينها سيقرر الكونغرس القرار المناسب بشأن دعوة ريغان لإجتماع الكنيسة… و بشأن مصيره أيضا!
1
…
فيغاس السفلية|الويد…
جلست روكسان بترقب تنتظر عودة دارك رفقة إدريك كما قال، كانت قد إستيقظت باكرًا، و بحال جيدة، جسدها حظي بنوم مثالي، و روحها كذلك شعرت بسلام لذيذ، حاولت جهدها عدم خيانة ثقته و بصعوبة بالغة منعت يديها من الإمتداد نحو وجهها و و لمس العصابة، إلى غاية وصول الرجلين و ولوجهما الغرفة صامتين!
دنا منها إدريك بدل دارك، و بدأ ينزع عنها العصابة ببطء شديد، لتدرك بعد لحظات أنه كان ينزع شيئًا ملفوفًا عدة مرات حول رأسها، أيعقل أنه شاش طبي؟ أيعقل أن ما تفكر فيه هو ما ٱجري لعينيها عقِبَ تلك الحقنة التي لم تجد لها تفسيرًا منطقيا يوازيها؟!
2
رفعت جفنيها، و لأول مرة منذ زمن بعيد لا تصطدم بالعتمة التي ألِفتها، بل إصطدمت بضوء ساطع آلمها بشدة! أغمضت عينيها للحظات، هناك نور، أجل! هذا ما تراه! يا للسموات! إنها ترى! إنها تبصر! روكسان العمياء تبصر أخيرًا! هاجمها صداع قوي بسبب عدم إعتيادها على الضوء لفترة طويلة، و مع ذلك تجالدت، و مضت تحاول إمعان النظر فيما حولها، كان هناك ضباب كثيف يغلف عينيها، و تدريجيًا بدأ يتلاشى، و بدأت ترى الرجلين اللذين دخلا منذ قليل، عرفت أن أقربهما إليها هو إدريك، الطبيب الذي زارها في كوخ الصخور و بفضله عادت دورتها الشهرية لطبيعتها، و لا ريب أنه الآن الجراح الذي أعاد لها بصرها!
10
أما الرجل الذي ظل واقفًا بجمود عند باب الغرفة، فكان حتما دارك ريغان، ليس لأنها رأته يرتدي ثياب الجلد السوداء التي يفضلها، و لا لأنها رأت قلادة الصليب خاصتها حول عنقه، و لا لأن ملامح وجهه الفريدة التي تحسستها عدة مرات بيديها تؤكد أنه هو، بالنسبة لها… هويته محمولة على أكتاف النسيم، تسبح ممتدة إليها مع كل موجة من عطره الذي يسبقه، هويته محفورة بأعماقها، بنبضها الذي يهز قلبها الآن دون هوادة، مررت بصرها على تفاصيل جسده الطويل صعودًا و نزولاً، و توقفت لفترة طويلة من الزمن عند أحد معصميه، لتؤكد لنفسها أن ما خمنته سابقًا صحيح، هذا هو دارك، و هذه هي الخصلات التي ضفرها و لفَّها حول رسغه بعدما قصَّتها من شعرها، هذا هو خاطفها المجنون!
14
كانت لحظة خارج الوصف و عكس التوقعات و شاذَّة عن المألوف… عندما قفزت روكسان عن السرير… و ركضت نحوه ترمي بجسدها المرهف بين أحضانه، لا هو و لا إدريك توقعا ردة الفعل تلك منها، لا سيما و أن هذا الأخير يحفظ طباع دارك كحفظه لمعالم كفيه، و يجزم أنه يعاني وسواسًا قهريا منذ طفولته من لمس الآخرين له و لأشيائه لذلك يكره العناق، و يحذر زملاءه في الويد دائما من خرق تلك القاعدة أيًّا كان السبب، لكنه لم يُمانع تحت بصر إدريك الجاحظ أن تفعل روكسان ذلك، تركها دارك تتعلق بعنقه حتى تدلت قدماها لفرط طوله، تركها تجهش بكاءً على كتفه و تبللها بدموعها قدر ما رغبت، و تشهق بقوة قرب أذنه كيفما شاءت، و تتمرغ برقبته الموشومة دون أن ترتعد و لو للحظة واحدة كونها تحتضن سفاحًا خطيرًا! طوقها دارك بذراعيه متجاهلاً وجود إدريك هناك، و للحظات طويلة لم يتردد سوى صوت نجيشها، و أنفاس دارك المسموعة بينما يغمض عينيه و يغرق يديه داخل شلال شعرها القاتم!
27
”أنا لا أصدق أنكَ أعدتَ لي بصري مرة ٱخرى!“.
2
هدأت أخيرًا، و خف نشيجها، لكن العناق طال و دموعها لم تتوقف و هي تقول ذلك، فأردف دارك بصوت لا نبرة له:
”لم أفعل شيئًا! إدريك هو من أجرى العملية!“.
واصلت ضمه لها بينما تُردف بأنفاس متسارعة:
”أعرف! لكنكَ أنتَ من أحضرني إلى هنا و قرر هذا…“.
أبعدت رأسها عن كتفه أخيرًا، و تأملت وجهه غير مغفلة أدق تفصيل فيه، ثم أضافت و هي تستغرب كيف تحمَّل وضع وشوم صغيرة جدا أعلى حاجبه و على وجنته:
”الآن أدركتُ الشيء الثالث الذي قلتَ أنك ستمنحني إياه بقدومنا إلى هنا، لقد فكرتُ في كل شيء إلا هذا، هذا… هذا… أجمل شيء يحدثُ لي! بعد هذا لن أفكر أبدًا أنكَ مجرد مسخ!“.
1
إنسحب إدريك من المشهد و فتح الباب كي يغادر، لكن روكسان لاحظت ذلك و إستوقفته معربة عن إمتنانها البريء:
1
”مهلا! دكتور إدريك! أنا شاكرةٌ جدا لك، لقد منحكَ الربُّ نعمة مميزة… بفضل يدكَ المباركة شَفيتَ بائسةً مثلي… و أعدتها للنور!“.
إلتفت إليها إدريك يغرقها بنظرة غامضة لم تعِ كُنهها، و إختفى خلف الباب دون أدنى رد، تعجبت روكسان لشخصيته الباردة، لكنها إحترمته أكثر من ذي قبل، و ظلت ترسم على شفتيها أجمل إبتسامة رآها دارك حتى الآن!
طلبت مرآة لترى كيف أصبح شكلها بعد كل تلك السنوات التي مرت، فقدم لها دارك ما هو أفضل، نقلها من ذلك الجناح الذي يُستعمل كقسم للجراحة، إلى جناح آخر يحوي عددًا هائلاً من الأروقة و الغرف الهادئة، فتح أحد الأبواب ممسكًا يدها، و قال مشيرًا لمرآة كبيرة تغطي ثالث جدران تلك الغرفة بشكل كامل:
”هنا سترين نفسكِ بشكل أوضح!“.
إقتربت روكسان من إنعكاسها ذاهلة، أهذه هي حقا؟ سبق و حاولت تصور نفسها في ملايين الأشكال… لكنها… لم تتوقع أنها كبرت و باتت على ذلك القدر كله من الجمال! كلا! الجمال شيء بسيط جدا أمام ما تراه، عيناها الواسعتان فقط تختصران كل فتنة الأرض، و شعرها الطويل يشبه فعلاً… بداية الليل… إنها حقا و كما وصفها دارك ليلة أمس… توأمٌ للغَسَق!
1
إبتسمت لنفسها و هي تتحسس وجهها المتورد، ثم مضت تتأمل الثوب الأسود الذي ألبسها إياه، و تلمس خامته، إعترفت أنه له ذوق مدهش فيما يخص النساء، و أنه أيضا يحفظ تفاصيل مقاسها، و يختار دائما ما يلائمها بشكل يُعجَبُ له! لفت إنتباهها إنعكاس دارك خلفها، نسيت فرحتها الغريرة ببصرها، نسيت الجمال الذي يغلفها، و تعلق بصرها فقط به، تساءلت أي نوع من البشر هو… الأخطر… أم الأحن؟ لعله خليطٌ من كل شيء! لعله خُلِقَ ليتفرَّد! تعمقت إبتسامتها له، فخطا نحوها دون أن تفلتها عيناه، و كسر المرآة فجأة، تراجعت روكسان متلافية شظايا الزجاج المتناثرة، و قبل أن تعلق بشيء على تصرفه الجنوني، تمتم ببرود:
”أكره أن يتأملكِ غيري… حتى لو كان إنعكاسي!“.
24
ظلت لوقت طويل بفم مفتوح و عينين شاخصتين تناضل لإستيعاب أبعاد شخصيته، لكنها تخطت الأمر بسرعة، و تجاوزت فوضى الزجاج لتمسك يديه و تحدثه بنعومة:
”لقد إكتفيتُ من التطلع بنفسي الآن، و أريد أن أحقق رغبة أهم“.
إزدردت ريقها متابعة:
”هل ستنفذ ما وعدتني به… و تسمح لي بمقابلة ذلك الشخص الذي حدثتكَ عنه؟“.
إسود وجه، و إحتدت نظرته، أهذا ما تريده بعدما منحها النور؟ لقد أعاد لها بصرها حتى تقف بكل شموخ أمام داجيو، أرادها أن تكون جسدًا متكاملاً لا عيب فيه حين تواجه والدها اللعين بعد صحوته، فلا يسخر منها و يكيل لها الشفقة و الإزدراء! و ها هي ذي تركض خلف رغبة ٱخرى لا يريد أبدًا تحقيقها مهما ألحَّت! لا سيما بعد ما إكتشفه أمس! إنه يفضل أن يضحي برأسه على أن يسمح لها بمقابلة الحثالة غابريال!
”مستحيل!“.
2
إمتعض و هو يضيف بقسوة:
”إنسي أمر ذلك الرجل!“.
إندهشت و ترقرقت عيناها بنفس الوقت لأنه أخل بوعده، لكنها لم تبكِ، بل تماسكت و هي تسأله مستغربة و لا تزال تمسك يديه:
”و كيف تعرف أنني أتحدث عن رجل؟“.
”أعرف ما هو أكثر مما يخمنه عقلكِ روكسان، رؤية غابريال أسوء شيء قد تفعلينه الآن، إقتنعي أن ماضيكِ كطالبة في المعهد و عازفة في الكنيسة إنتهى، و بدأ عهدكِ الجديد معي!“.
لم تسأله رغم حيرتها كيف عرف بشأن غابريال، بل قررت أن تواصل إستخدام اللطف معه، لأنه ينفع أكثر من العناد و المكابرة، ضمَّت يديه بين قبضتيها الصغيرتين و رفعتهما تقربهما لصدرها كأنها ترفع يديها المضمومتين لتستنجد بالرب، و تصلي، ثم أردفت بفم حزين و عينين متسعتين أملاً و رقة:
”أعدكَ أن أفعل أي شيء تمليه علي، لقد أعدت بصري، و إن فعلت هذا أيضا من أجلي، تأكد أنني سأفعل كل شيء من أجلك، سأصبح جزءً من عالمكَ ريغان، لكن أنا بحاجة الآن لنظرة أخيرة إلى عالمي القديم! إمنحني هذه الفرصة!“.
أشاح عنها كأنه لا يطيق النظر لعينيها و شفاهها دون أن يميل إليها، فإلتقطت وجهه بيد ناعمة، و أدارته إليها مجددًا ببطء، ثم همست بإلحاح:
”رجاءً!“.
لم تصدق روكسان أنه وافق على طلبها، و أنها سترى غابريال لأول مرة، سارت خلفه مخطوفة الأنفاس، عبرا ثانية نفق الثُّقب الأسود، و خرجا من باب المبنى المهجور، ليركبا سيارة دارك التي لا تزال مركونة هناك، و يباشر هو القيادة عبر شوارع فيغاس الصاخبة صامتًا. لاحظ بعد قليل أنها تتفرَّسُ بوجهه مبتسمة، و حين سألها عن السبب، أجابت بصراحة أسرته لفترة طويلة:
”يعجبني وشم الزهرة الذابلة على وجنتِك!“.
لم يقل لها دارك رمزية ذلك الوشم الذي يذكره بشخص عزيز، لكنه أردف مركزًا على تحريك عجلة القيادة:
”لم تخبريني عن رأيكِ في ما وشمته على جسدكِ!“.
شعرت بجلد وجهها يحترق، فأبعدت نظراتها عنه متمتمة:
”إنه في مكان حسَّاس، و قُبَّة هذا الفستان مرتفعة جدا، سأنظر إليه لاحقًا!“.
إلتفت دارك عن يساره، و إبتسم بينه و بين نفسه، ثم وجد بصره يعود لتأملها دون أن يتحكم به، و هاله أنها كانت آنذاك تجاهد لتنظر عبر زجاج السيارة الداكن إلى المشاهد في الخارج، فكبس على زر أمامه منزلاً زجاج النافذة المجاورة لها، و عرف أن ذلك التصرف يعرضه للخطر، فهو مستهدف بالقتل من قبل عوائل المونسترز، لكنه عرف أيضا أن رؤية العالم بأصغر تفاصيله يعني لها الكثير!
لاحقت بنظرها السيارات العابرة، و المارة المتقاطعين، و السحب الممشطة للسماء، حدقت بشرطي المرور، و بأطفال المدارس، و شيَّعت بعينيها الواسعتين امرأة حامل كانت تشق الطريق، حدقت حتى بلافتات الإعلانات، و بواجهات المطاعم، و كان يخيفها جدا أن ترمش لثانية من الزمن فيفوتها مشهد ما! و كان دارك إلى جوارها محتفظًا بإبتسامته الشاحبة و لا ينظر لسواها، كأنما هي تعيد إكتشاف العالم من خلال نافذة السيارة الصغيرة، و هو يعيد إكتشاف نفسه من خلال عينيها!
و ما هي إلا لحظات حتى فقد إبتسامته، و أوقف سيارته في مكان قريب من منزل غابريال، تأكدت روكسان أنه هو، القرميد الأبيض نفسه، و الجدران الصفراء نفسها، لمعت أسنانها البيضاء في ضحكة مشرقة و هي تلمحه يبرز من بين شجيرات حديقته الغناء، و ينادي جروه المخلص ويلي كي يتبعه، و قبل أن تحدد كم أصبح عمر ويلي بعد الأشهر التي إختفت فيها عن الأنظار، لمحت شابة شقراء تظهر من بين الشجيرات نفسها، و غابريال يتوقف على عتبة الباب يحثها كي تسرع في خطواتها و تنضم إليه، ثم إحتضن كل منهما الآخر، و تواريا داخل البيت يناديان ويلي معا!
”من… هذه… الفتاة؟“.
تساءلت و هي تحس بقلبها يثب بعنف خلف صدرها، فأجاب دارك ببرود:
”زوجته!“.
هزت رأسها رافضة تصديق ذلك، و عاودت النظر إلى البيت و الحديقة مؤكدة لنفسها أن غابريال كان يُلمح لها دائما بأنه يميزها عن كل طالباته و يكن لها مشاعر خاصة، صحيح أنه لم يقل ذلك بشكل مباشر، لكنه جعلها تشعر به في مناسبات كثيرة، حتى كايت كانت تصف لها الطريقة التي يتأملها بها دون غيرها خلال الحصص!
”يستحيل أن يكون ذلك حقيقة الأمر، لا شك أنها إحدى طالبات المعهد، ربما هي هنا في بيته لتحسن من ٱسلوبها في العزف!“.
تنهد دارك بعنف، و أيقن أنها لن تصدق واقع زواج غابريال مهما قال، لذا صمت، و أبقى الحقيقة لنفسه، قاد السيارة بعيدًا عن ذلك الشارع، و أوقفها وسط حديقة عامة يفضل الناس الجلوس فيها عادة للإستمتاع بضوء الشمس و إستنشاق رائحة الأشجار النادرة التي تُستنبتُ هناك!
نزل و فتح لها بابها كي تترجل مثله، منحته يدها و سارت إلى جانبه في عمق الحديقة بلا حياة، أجلسها على مقعد خشبي أسفل شجرة ممتدة الفروع وارفة الظلال، و ظل واقفًا أمامها كالحارس، إستفزته التعاسة التي سيطرت عليها، فيما بدا كل ما يحيط بهما من شجر و بشر و طقس مليئًا بالبهجة و ضاجًّا بالحياة، رأى فيها شخصًا باردًا و ميتًا مثله، و أزعجه ذلك إلى حد بعيد، فعلق بخشونة:
”كان علي قتله ليلة زفافه دون شك!“.
1
”أنا لم أصدق بعد أنه تزوج، طالما لم أرَ ذلك بأم عيني…“.
إمتنعت عن مواصلة كلامها حين إستخرج دارك هاتفه و أراها الدليل القاطع، شعرت أنها تهوي من مكان مرتفع و هي تشاهد مقطع فيديو لا غبار عليه نشره غابريال منذ يوم فقط على مدونته الشخصية، و كل ما فيه يؤكد أنه تزوج… و أنه كان سعيدًا بزواجه و بدخول تلك الشابة لحياته!
إرتجف ذقنها و خططت الدموع وجهها، شاهدت كل تفاصيل المراسم و الوعود و الأنخاب و الضحكات ممزقة الفؤاد، و أملت أن يقول غابريال أي شيء عن طالبته المختفية و هو يلقي كلمته لمعارفه و أصدقائه و طلابه اللذين حضروا الزفاف، لكنه خيب ظنها، و تصرف و كأن روكسان فارغاس لم تكن أي شيء يُذكَر بالنسبة له!
1
لاحظ دارك المخيم على رأسها أن إنهيارها النفسي جراء ذلك الإكتشاف سبب لها إرتعاشا غير مسبوق، حتى و هو يمارس عليها ألعابه السادية و يتوعدها بالتعذيب و الدمار لم تكن ترتعش هكذا، ألهذا الحد بلغ بها التعلق بذلك الوغد؟ تزايد إهتزاز يديها المرتعشتين و لم تعد قادرة على حمل هاتفه أكثر، فإفتكه منها يعيده لجيبه، و سحبها كي تقف مثله، ضامًا يديها بقبضتيه، جاعلاً إياهما داخل جيوب سترته الجلدية، حتى لا ينتبه أحد من المحيطين بهما لتلك الرعشات و يسخر من ضعفها و هشاشة روحها! و لكي يحمي وجهها الباكي أيضا من الأنظار الفضولية، أحنى رأسه عليها كأنما هما مجرد ثنائي عادي يتبادلان قبلة، لكنه لم يلثم شفتيها، بل ظل يسحب أنفاسها لأعماق صدره، و يتأمل بريق أهدابها اللامعة، قبل أن يهمس متسائلاً:
”هل تريدين مني أن أمحوه من الوجود هو و عروسه اللعينة؟!“.
2
ظلت صامتة، فتابع بقوة:
”سأفعل لو طلبتِ ذلك!“.
هزت رأسها رافضة إقتراحه، و نظرت إليه من خلف دموعها مردفة:
”إفعل شيئًا واحدًا… و خذني إلى بيتنا، أنا متعبة!“.
28
لم يرق له التعب الذي غمرها في غضون لحظات بعدما كانت أشبه بغزال رشيق منذ قليل، غير أن رغبتها بالعودة معه إلى بيت واحد يجمعهما راقت له بجنون، هي الآن تتأبط ذراعه رغم كل سواده و لعنات حياته، تختار البقاء بعالمه رغم كونه مجرمًا و لا يستحق حتى أن تطالعه عذراء نقية مثلها بطرف عينها!
2
إمتطى السيارة بعدما أغلق بابها من جديد، و رفع زجاج نافذتها هذه المرة لأن المطر بدأ يهطل بخفة و يتناثر على وجهها، ثم أجرى إتصالاً مع إيسميراي:
”مرحبا ريغان!“.
”سيدة تايلور، ماذا كانت نتيجة الإجتماع الأول؟“.
أجابته و هي تطرد مصفف شعرها خارج غرفتها، و تضع ساقًا فوق ٱخرى:
”جيدة إلى حد ما، نجحتُ في إقناع عائلة النمور بالوقوف خلفك، لكن غالبية الأصوات المتبقية كانت تصب في خانة موتك! هل تملك خطة ما لحماية نفسك و الفتاة التي معك!“.
”الخطة جاهزة دائما، لكنها تتطلب هذه المرة شريكًا موثوقًا!“.
نظرت لجمالها في المرآة بغرور، و أردفت متسلية:
”من الممتع جدا أن أستفز الأوغاد الذين يجلسون في القمة، لذا إعتبرني شريكًا موثوقًا، و أخبرني فقط ما الذي تريده مني؟“.
”سأفعل!“.
قال ذلك و هو يبلغ حدود فيلا فخمة في شارعٍ راقٍ، و أضاف متسائلاً:
”لكن أخبريني أنتِ سيدة تايلور… كم بيدقًا ستحركين من أجل سفاحك المفضل؟“.
أيقنت إيسميراي أنه يشير إلى رجالها الأكفاء و سياراتها «اللومبرغيني» الثمينة، عندها ضحكت شاعرة بالإثارة، و أجابت دون تردد:
”الكل لو أردت!“.
”من الجيد أنكِ الوحيدة التي تفهم طباعي بين الوحوش، دارك ريغان يفضل دائما الأشياء الكاملة!“.
أغلق دارك الخط، و لم يكلف نفسه عناء شرح أي شيء لروكسان، لا عن المخابرة، و لا عن الفيلا التي آلمتها رقبتها حين حاولت تأمل أعلى نقطة فيها، سحبها إلى الداخل، و بعدما تكررت أسئلتها حول سبب وجودهما هناك، و لمن تكون تلك الفيلا، أجاب أخيرًا:
”نحن في بيتنا الجديد، لأننا سنفتح صفحة جديدة في تاريخ العالم السفلي، و سنكتب عهدًا جديدًا ينحني فيه الجميع لنا، و طبعا لن يليق بنا أن نعيش في ذلك الكوخ بعد الآن!“.
ٱخذت بجمال الهندسة، و قيمة الأثاث الباهضة، و سحر إطلالة الصالون الواسع على أجمل مناظر المدينة، و إستفسرت ثانيةً:
”من أين لكَ كل هذا المال لتوفر بيتًا كهذا؟ هل أنت ثري إلى هذا الحد؟“.
1
إسترخى على أريكة ذهبية من جلد النمر الفاخر، و قال و هو يدير مفاتيح سيارته بين أصابعه:
”بعض المال لي طبعا، فأنا قاتلٌ من الدرجة الأولى، و أتقاضى أجرًا خياليا، لكن هذه الفيلا ليست لي، أو فلنقل أنها لم تكن لي حتى وقت قريب!“.
”و لمن كانت إذن؟“.
”لوالدك!“.
عبست لمجرد تذكرها أمره، و تابع دارك مستمتعا بسلبه كل شيء كان له:
”داجيو اللعين أخذ أكثر مما يستحق، و قد ولى عهد سيطرته، و قام عهدنا!“.
”أليست هذه سرقة؟“.
1
قهقه دارك لدى سماع ذلك بصوتها الدافئ، و علق متخليا عن الأريكة الفاخرة:
”هذه مُثُلكِ العليا فقط يا ملاك الكنيسة، دعيني أعرِّفكِ على مُثُلي السافلة…“.
6
أحاط كتفيها بذراعه، و أضاف بينما يتسلقان معا الدرج الملتوي المفروش بالسجاد الأحمر نحو الطابق الثاني:
”سرقة الأنذال متعة لا تُقاوم! سترين كم سيرقص داجيو فرحًا بعد معرفته بأنني صرفتُ كل مال خزنته على شراء قرنيتين سليمتين لعينيكِ!“.
18
تعبت روكسان من التجول في الفيلا، إكتشفت أن بها أربع صالونات ضخمة، و غرفتين للطعام، و قاعة إجتماع طويلة، و عدة غرف للمكاتب، علاوة عن عشرات غرف النوم، و التي تحتوي كل منها على حمامها الخاص، آلمها بحق التباين الشاهق بين فقرها المدقع في ذلك الشارع البسيط و الترف الذي كان يغرق فيه داجيو، نقمت عليه رغم كونها فتاة مسالمة و عطوفة، عجزت عن إيجاد شيء واحد تحبه في والدها هذا، كرهته أكثر مما كانت تكره عجز عينيها! و لم تشعر بأي حنان تجاهه!
كان دارك قد تركها تستكشف الفيلا على راحتها، و بعدما طلب الطعام و تناولا وجبة العشاء، إختفى داخل غرفة ما في الأعلى ليستحم، لم تعرف أين كانت غرفته بالتحديد لذا مضت تتعرف على غرف النوم واحدة تلو الٱخرى، و في الوقت نفسه كانت تبحث عنه، و ما إن دلفت أكثر الغرف وُسعًا و قتامة، حدست أنها تشبهه، باردة و مظلمة مثله، لكنها راقت لها، لأن بها تفاصيله، و أغراضه، لمحت مسدسه و ساعة يده و علبة سجائره و القداحة خاصته على المنضدة الملاصقة للطرف الأيمن من السرير الواسع، صوت رقرقة المياه داخل حمام تلك الغرفة جعلها تثق بأنه لا زال يستحم، لذا إستغلت الفرصة و قررت أن تمكث هناك لبعض الوقت، كل شيء يتعلق به يجذبها على نحو غريب، دنت من المنضدة، حملت المسدس أولاً و بدأت نبضاتها تتسارع و هي تتلمسه، ثم وضعته و مرت لعلبة السجائر و القداحة، أشعلتها متأملة نورها الذهبي، ثم إلتقطت الساعة، وضعتها على معصمها مدركة أنها واسعة و لا تناسب ٱنثى، و قبل أن تعيدها لموضعها رفعتها لأنفها مكتشفة عطره العالق بها، و إبتسمت، كانت شاردة في عالم هذا الرجل المظلم، إلى أن أفزعها صوت إنفتاح الباب خلفها، و مخاطبته لها و هو يخرج من الحمام و يقترب:
”ماذا تفعل كارثتي المتجولة؟!“.
10
نجحت في وضع الساعة بمكانها دون أن تتسبب في سقوطها فتتلف، و إبتلعت ريقها مستغربة إرتباكها المفاجئ إزاء صوته الذي لم يسبق أن أثر بها إلى هذا الحد، أخذت نفسًا عميقًا، و قررت أن تستدير و تفسر له ما كانت تفعله، في النهاية سيعذرها لأنها بعد إستعادة بصرها باتت تحب النظر لكل شيء، لكن جسدها تجمد فجأة حين إلتفتت و طالعت جسده المبلل، و عيناها جحظتا، و ذرفتا الدموع المتلاحقة، و أنفاسها حبست بصدرها، فكر دارك و لا ريب أنه أفزعها بظهوره المفاجئ، و أخافها بصوته الذي لا يحمل أدنى رقة كما هو صوتها، لكن روكسان لم تكن كذلك فعلاً، كانت تنظر لخصره، بين كل وشومه القاتمة و التي لا حصر لها… تحديدًا أسفل سُرَّته… و فوق المنشفة التي يلفها على نصفه السفلي بإنش فقط… كان هناك إسمها موشومًا بوضوح… حرفًا بحرف… روكسان! ليس ذلك و حسب بل كان على ساعده الأيسر أيضا وشم كبير لوجهها بكل تفاصيله، تكاثفت دموعها مدركة أن الوشم ليس تجربة سهلة، لقد تذوقت ألمه، لكن ما تذوقته لوقت قصير على مساحة صغيرة جدا بين نهديها لا يقارن بما تراه على جسد دارك، إقتربت منه و لمست ساعده أولا تؤكد لنفسها أن ما تراه حقيقي، إعترتها نفس الرعشة، و هي تمرر يدها لخصره هامسة:
1
”هذا… إسمي… و… وجهي!“.
تمهلت مخمنة أن جمال وجهها و ندرة إسمها هما السبب، ربما أراد أن يضيف لقائمة وشومه شيئا جديدًا يميزه عن غيره، لكن ذلك لا ينفي أنه تمزق ألما و هو ينفذ ذلك الجنون، فسألت بذهول و الدموع تسترسل في الإنهمار من عينيها:
”دارك… كيف تحملتَ كل هذا الألم على خصرك؟!“.
أيقن أخيرًا أنها لاحظت الوشمين، و أجابها ممررًا أنامله على عنقها فبللها:
”ذكرتُ نفسي أنكِ تألمتِ من نفس المكان يا أسودي الشفاف!“.
2
ذكرت روكسان نفسها أيضا بما فعله حين كان الحيض يؤلم رحمها، هي لم تنسَ ذلك التصرف بالأساس، فإقتربت أكثر و همست برقة تشبه رقته القاسية تلك الليلة:
”إذن عليَّ سداد ذلك الدين!“.
تحولت أنفاسه لثورة لهاث حين فهم مرماها، و دون أن يتخلص من المنشفة و يرتدي شيئًا مناسبًا للنوم، إستلقى على ظهره كما هو، فإرتج السرير الوثير، و لم تمضِ ثوانٍ حتى إنضمت إليه روكسان و تمددت فوق جسده الرطب، تحتضن خصره بحنان جاعلة وجنتها الرقيقة تسترخي فوق حروف الوشم، كأنها تحاول محو الألم الذي شعر به، كما سبق و فعل هو، لتنتظم أنفاسها شيئا فشيئا، و تغفو على تلك الوضعية، أما دارك فقد تورط في شيء لم يفهمه، و ظل بسببه ساهرًا، يبحر بأصابعه وسط أمواج شعرها، و يجاهد كي يحافظ على نسق أنفاسه و نبضات عروقه المستثارة، و يمنع خيالاته الجامحة من أن تتحقق في حينها!
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)