رواية لحن الأصفاد الفصل السابع عشر 17 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل السابع عشر 17 بقلم أسماء
البارت السابع عشر (أبيض قاتم!)
❞اللعنة ليست على حبركَ القاتم الذي خطَّ وشومكَ…
اللعنة على من أخبروك أن الأسود لون لتخليد الألم!❝
4
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
لاس فيغاس| نادي 89 | نصف ساعة عقب منتصف الليل…
إدريك لازال ينقل بصره بين ساعتين، إحداهما مثبتة على الجدار خلف الساقي، و الٱخرى حول معصمه، ثم يمضي للتحديق بباب النادي في ترقُّب صامت، إحتسى كأسًا واحدة مُذ أتى، ليحتفظ بتركيزه و وعيه لما تبقى من الليل، و بينما كان يعالج ربطة عنقه و يسري بنظره نحو المدخل مجددًا، إصطدم بعينين كانتا تتابعان أدق حركاته منذُ حضوره، و رغم ما إكتنزه جسد صاحبة العينين من جمال صارخ و فتنة عذبة، إلا أن إدريك و في لحظة قصيرة لا تُذكر نظر إليها ببرود كما ينظر لعمود إنارة في الشارع… ثم عاد يتحرى ساعة يده، لتغرق المرأة في دوامة من الإحباط و الغضب، و ترفض خوض جولة ٱخرى في لعبة الورق!
1
”مارسِلين! ألن تلعبي؟“.
1
سألها أحد الرجال عن يسارها و هو يلوح بالمال و الورق في قبضته، فزجرته بتجهم مشيحة عنه باحثة في جيب رفيقها الآخر عن سيجارة تدخنها:
”دعني الآن! أشعر أنني على كوكب آخر!“.
إنتبهت إحدى صديقاتها إلى أين تتجه نظرات مارسِلين المتأججة، و علقت بكلمات مبطنة:
”عزيزتنا مارسِلين جعلت معنى نصف إسمها الأول حقيقيًّا… و سافرت إلى مارس (المريخ) بالفعل!“.
1
تبادل السبعة الجالسون حول تلك الطاولة الضحكات الصاخبة مستمتعين بالدعابة، في حين جمعت مارسِلين نفسها، و غادرتهم بوجهها المتجهم، لتواصل تدخين سيجارتها خارج النادي، و هي تحاول إقناع عقلها المهتاج بأن ما حدث للتو وهم، و أن ذلك الرجل الجذاب لم يتجاهل حُسنها الأخاذ، و لم ينظر إليها بقرف عكس سائر الرجال… كأنها أتفه شيء على الوجود!
و بينما كانت تحاول تجاوز الرصيف بكعب حذائها المرتفع لتبلغ سيارة الكاديلاك خاصتها، إرتطم كتفها بذراع شخص ما، فتأوهت متألمة، و إستدارت لتوبخه على خشونته و عدم إنتباهه، لكنها إرتعدت لمجرد النظر لوجهه، إبتلعت ريقها متوجسة من وشم زهرة ذابلة على وجنته، و أقلقتها عقدة حاجبيه التي تتوجه عينيه الباردتين، فأبقت لسانها قيد فمها، و توارت خلف سيارتها مركزة على إمتصاص سيجارتها و حسب!
لاحظ إدريك وصول دارك، فتحفزت خلاياه ليعرف ما سبب دعوته له هناك في ذلك الوقت، لكن دارك لم يُرضِ فضوله على الفور، و كعادتهما تواجها كغريبين يلتقيان لأول مرة، لا مصافحات و لا أحضان أخوية، و لا حتى إبتسامات، لكن… و بطريقة ما… بطريقة غريبة جدا… يمكن لأي ناظر نحوهما الشعور بكم عارم من الإحترام العميق الذي يتبادلانه مع كل نظرة! قدم دارك علبة رمادية ملفوفة بشريطين أبيض و أسود للساقي، و قال بتعبير جامد و نبرة جافة:
”هدية بسيطة من أجلك أنت و عشيقاتك الست!“.
1
صعق الساقي لمعرفة هذا الرجل الغريب بأمر مواعدته لست شابات يعملن كنادلات في النادي، لكنه لم يمانع قبول الهدية، قبض على العلبة الثقيلة بيدين متلهفتين، و هم بفك شريطيها و رفع الغطاء، لكن دارك أفسد عليه اللحظة قائلاً:
1
”على الأقل قدم لي خدمة أولا لقاء لفتَتي…!“.
1
أخفى الساقي العلبة تحت المقصف، و قال متعرقًا من اللهفة:
”آسف! تفضل سيدي!“.
دفع نحوه قائمة المشروبات من الأقل ثمنا إلى الأبهض، و تابع مبتسمًا:
”يمكنني مزج أنواع فاخرة و صنع خلطة خاصة من أجلك سيدي!“.
إستحضر دارك شكل روكسان و هي تنام بنعومة على خصره المبلل، و كرر منتشيا بخياله:
2
”خلطة خاصة… تبدو تجربة مثيرة!“.
إنتظر إدريك بفارغ الصبر أن يوليهما الساقي ظهره، و تمتم بهدوء:
”سينعقدُ إجتماع الميغا الثاني بعد لحظات!“.
علق دارك و هو يأمر الساقي بأن يحضِّرَ له مشروبًا خاصًّا لا يقدم في العادة إلا لرواد النادي من الطبقة الرفيعة:
”أعرف!“.
”و هل تعرف أن نتيجته قد تكون قرار قتلك النهائي؟!“.
أخذ دارك وقته في إنتظار مشروبه، و لم يجب إلا بعد تذوقه أول رشفة، و جاء جوابه خاليًا من القلق:
”أنا أعرف فقط ما سيتم، و قتلي من قبيل الأمور التي لن تتم!“.
3
أخذ رشفته الثانية بينما إدريك يحلل كلماته، بعد قليل… أردف هذا الأخير غير متخلص من شكه الدفين في إحتمال تعرض دارك لمحاولة إغتيال ثانية:
”الجرة لا تسلم من الكسر دائما، خطة رميكَ في الوادي آلت للفشل، لكن هذا لا يعني أن بقية الخطط ستلقى نفس المصير، عليك الإحتراس فأنا أكثر شخص يعرف خبث أعضاء الكونغرس!“.
ظل دارك على عدم إكتراثه، و وجد أن مشروبه المميز تحول لقطرات في قعر الكأس، فإزدردها دفعة واحدة، و أدار قطعة الكريستال المبلورة بين أصابعه ناظرا إلى إنعكاس زوايا النادي و لاعبي الورق و الرواد الثملين و النادلات عليها، ثم عقب بصوت لا حياة فيه:
”أنت أكثر شخص يعرفهم، و أنا الشخص الوحيد الذي يسبقهم دائما بخطوة!“.
1
إخترقت حوارهما قهقهة صديقة مارسِلين بعدما فازت أخيرًا في جولة الورق، و بينما أخذ البعض يصفقون لها بحفاوة، أضاف دارك مركزًا عينيه على المال الوفير الذي كسبته و بدأت تجمعه و تحتضنه بجشع سافر:
”أعضاء الكونغرس لعبوا معي جولة قذرة حين فكروا في تصفيتي بعد كل خدماتي المتفانية، و الآن… حان دوري… لكنني لن ألعب على طريقتهم… جولتي ستكون الأقذر في التاريخ!“.
2
كان إدريك سيسأله عن خطوته القادمة، لولا إقتراب إمرأة جميلة منهما لتستعرض جلدها الأسمر تحت ثوب أسود شفاف يكشف الكثير، جذبها إدريك بأناقته الفذة و ضخامة جسده الرجولي، لكنها مالت أكثر لصاحب الوشوم، فركزت بصرها على دارك، و مطت شفتيها متأملة قلادة الصليب على صدره المصقول، و ثياب الجلد التي لاءمته إلى حد جعل حلقها يجف، أسدلت جفنيها كما لو أنها ستنام و هي تتأمله يجلس في مسقط بصرها بتكاسل و ضجر، كأن لا حسناء عند رأسه تنتظر أن يهتم بها، داعبت المرأة شعرها العسلي الكثيف بأظافرها الطويلة لتثير إهتمامه، و حين فشلت، لجأت لصوتها الٱنثوي الذي ينجح دائما، فقالت:
”سمعتُ أنك تفضل الأشياء الخاصة! ما رأيكَ لو أسديتُكَ خدمة خاصة جدا… في بيتي!“.
إبتسم دارك متسحضرًا شعر روكسان الطويل، و بينما كان يتخيل إنزلاق تلك الخصلات الناعمة بين أصابعه، أجابها:
”لكنكِ حتما لم تسمعي أنني أتلقى أفضل الخدمات الخاصة في بيتي…!“.
16
الإستحقار كان كل ما شعرت به تلك المرأة، سريعًا إنصرفت عنه ممتعضة، في حين إسودت عينا إدريك أكثر من سوادهما الطبيعي و هو يستنتج الكثير وراء الخدمات التي ذكرها دارك، فسأله بحدة:
”دارك… أنتَ لم تلمس روكسان، صحيح؟“.
”لنفترض أنني فعلت!“.
خرج إدريك عن حدود هدوئه، و أصبحت نبرته أكثر حدة و هو يردف ضاربا المقصف بقبضته:
”في هذه الحال… لن أنتظر قرار الكونغرس… لأن أمرك سينتهي على يدي!“.
15
”سأقبل بذلك إذن، على يديك نشأت و عليهما سينتهي أمري، يا لها من حلقة عظيمة!“.
3
تنفس إدريك بغضب، شعر حقا أنه في قمة غضبه، لكن دارك نجح في إخماد شعوره ذاك حين أضاف بصدق يلمسه في صوته للمرة الأولى:
”هيا يا إدريك! هل تظن حقا أن دارك الذي ربيته بنفسك يمكن أن يفعل هذا؟ أنا قاتل من الدرجة الأولى، أنا سفاح و مجرم لعين، لكنني لم أغتصب امرأة من قبل، و لن أفعل!“.
4
أفرج إدريك عن أنفاس إرتياحه، و خفف من إشتداد قبضته فتمكن الدم من بلوغ أصابعه الشاحبة، و إلى جواره دارك الواجم، يتأمل كأس الكريستال بحزن، و هذه المرة لا يرى شيئًا منعكسًا عليها سوى ذكرياته المشؤومة و براءة رهينته!
”لم أستطِع فعل نفس الشيء بها…!“.
تابع ببريق غامض إكتنف عينيه:
”ظننتُ أنني أؤجل الحكم فقط لحين إستيقاظ داجيو، لكنني تأكدت أنها محصنة مني، و أنها مقدسة عن كل ألم كِلتُه لها في مخيلتي، لقد فازت علي حين قالت أنها عمياء… و أنت الوحيد الذي يعرف ماذا يمكن أن يعني لي هذا!“.
15
تحول غضب إدريك إلى شرود، تذكر هو الآخر ما يتذكره دارك، كلاهما رأى المشهد نفسه تلك الليلة، لكنهما لم ينبسا بحرف، و للحظة… سيطرت الموسيقى الصاخبة و الضحكات الماجنة على المكان، و بدأ البعض بالتصايح لدخول رجال مألوفي الوجوه، عرف إدريك زعيمهم، و كان ميليارديرًا أمريكيا من أصل إيطالي، يُدعى «دومينيو باتشي» لكن لقبه الشهير «ملك الدولار»، و كان واحدًا من أكبر أعداء عائلة «دارغاريا» (التنانين)، و التي كانت تعتبر العائلة الأكثر ثراء و نفوذا في القارة الأمريكية و ظل كبير الدارغاريا يعتبر ملك الدولار الأصلي… إلى أن ظهر باتشي منذ سنوات قليلة و سرق اللقب من التنانين!
”ما الذي حل هنا بحق الجحيم؟!“.
تساءل إدريك و هو يرى دخول أشهر أعداء عوائل المونسترز و لقاءهم تحت سقف واحد، و قبل أن يضيف كلمة ٱخرى، تمتم دارك تاركًا مقعده:
1
”دعني أعيد ترتيب عبارتك! الجحيم بحق ستحل هنا… لكننا لن نشارك… سنكتفي بالمشاهدة عن بعد!“.
سار الرجلان بين الرواد مقررين ترك النادي، و بينما كان دارك يدفع باب الخروج، لفت إنتباهه مجسمان موضوعان على طاولة في الزاوية، يجسدان الرقمين الأخيرين من تاريخ الإفتتاح «89» (1989)، فقلب مجسم الرقم تسعة و وضعه بشكل عكسي… ليصبح العدد «86» و قال بغموض متجاهلاً حيرة إدريك:
1
”هذا يبدو متناسقًا أكثر!“.
خارجًا وقفا قرب سيارتيهما المركونتين على بعد أمتار قليلة، و شرع دارك في تدخين سيجارة بتسلية غريبة متفقدا ساعته، نظر إليه إدريك بعصبية، ثم وجده يستخرج هاتفه، و يقول:
”إنها أخيرًا الواحدة بعد منتصف الليل…!“.
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
لاس فيغاس السفلية| إجتماع الميغا الثاني…
أفراد المونسترز المهمين إتخذوا أماكنهم، و البقية كذلك، تبادل القضاة السفليين نظرة خاصة فيما بينهم، فقد إتفقوا خلف الكواليس على جعل تصفية ريغان نتيجة حتمية لإجتماعهم، خوفا من أن يعلو شأنه يوما ما… و يزيحهم من أماكنهم المرموقة، لأن الجميع داخل تلك القاعة يعي جيدا القوانين التي سنتها عشيرة الكامورا، القاضي ليس سوى سفاح قوي حصد سيرة دموية مشرفة فإقتنص لنفسه مقعدا طويل الأمد بين أصحاب الدم الأبيض، و هذا ما لا يريدون لدارك ريغان أن يحققه!
”لو كنتُ على قمة الميغا… لغيرتُ هذه العادة اللعينة، آه! من يعقدُ إجتماعا بعد منتصف الليل! أتمنى ألا يضر هذا السهر بشرتي!“.
قلبت غولدينا عينيها متأففة من تذمر شقيقتها إيسميراي، و همست بوجه مشدود:
1
”نحن على قمة جبل من الذنوب عزيزتي، و لنلمع صورتنا علينا كسب رضا كبار الميغا بأي طريقة، لكنكِ لويتِ أذرعنا الآن بقصة ريغان و فتاته، و ها نحن نقف في صفه ضد الميغا بأسرها، هل تعرفين في أي وضع نحن بينما تقلقين أنتِ على بشرتك؟!“.
لم يحرك ذلك أي قدر من قلق إيسميراي، و علقت متفقدة جمال أظافرها التي طلتها قبل حضورها بلون زهري إنسجم مع ملمع شفاهها الفائح بعبير الورد:
2
”ثروة الميغا بأسرها لا تقارن بقيمة المنتجات التي أوفرها للعناية بجمالي، هل تعرفين أنتِ هذا؟“.
تسامحت غولدينا مع أطوار إيسميراي كونها الٱخت الأكبر و الأكثر هدوءًا و عقلانية، و همست ملاحظة وصول كابو الكامورا و إقتحامه القاعة وسط عدد كبير من حراسه الشخصيين:
”دعيني أتحمل ما سيجري هنا أولا، ثم سأعدكِ بالإصغاء لمحاضرة الجمال خاصتكِ لبقية الليل!“.
شمل الكابو سيباستيان كامورا الحاضرين بعدما وقفوا إحتراما له بنظرة باهتة، ثم تقدم بخطوات واثقة، و جلس على رأس طاولة المستديرة مفتتحًا الإجتماع، سمح لممثل عشيرته بإستعراض آخر مستجدات قضية ريغان في كلمات وجيزة، ثم طلب من القضاة أن ينطقوا بالحكم الذي توصلوا إليه بشأن السفاح، قبل أن يعلن بسلطته النافذة موافقته أو رفضه لمنطوق الحكم!
”سبق و قررنا تصفية السفاح دارك ريغان لسبب وجيه كما ذكرنا في رسالتنا إليكم حضرة الكابو، و اليوم نجد أن موته أمر محتوم و ضروري، لأن ريغان بات الآن في نظرنا سفاحا متمردا و مشروع إنقلاب على الميغا بأسرها، و بالإضافة لضرورة تصفيته نذهب أيضا لضرورة تصفية الفتاة التي معه، قوانين عالمنا واضحة، و أي دخيل بيننا يكشف أسرارنا… يحكم عليه بالموت!“.
هز سيباستيان رأسه ببطء مقتنعا نوعا ما بمنطقية الطرح الذي سمعه من جهة القضاة، لكنه و بحسب بروتوكول إجتماعات الكونغرس كان مضطرًا لسماع وجهات نظر العشيرتين الٱخريين، و بما أن عشيرة البراتفا تترفع عن حضور تلك الإجتماعات و تكتفي فقط بتعيين ممثل لها هناك، فقد كان أمامه فقط ممثل وحيد للبراتفا… و أربعة عوائل ليست على وفاق تجسد عشيرة المونسترز!
”ماذا تقول البراتفا عن هذا سيد يامينوف؟“.
بدا نيكولاس يامينوف باردًا جدا و هو يجيبه كأي روسي بلكنة إنجليزية حادة:
”لا شيء، زعيم البراتفا لا يرى ضرورة لتدخله في هذا، و يبقي الحكم في يد الكامورا!“.
إبتسم الكابو الإيطالي بخفة شاعرًا بالزهو، و مرر بصره و إنتباهه صوب أفراد عشيرة المونسترز مستأنفا:
”ماذا عن الوحوش؟ لماذا لا أسمع زئيرها؟“.
إبتسمت أديلاين تايلور إبنة عم إيسميراي و غولدينا، و ردت بثقة:
”التايغرز مع ريغان، و ضد موته!“.
”لماذا؟“.
تولت غولدينا الإجابة هذه المرة:
”لأنه أهم سفاح لدينا، و لن نتخلى عنه!“.
إختفت إبتسامة سيباستيان و علق بعينين محمرتين:
”سفاحكم المهم… قتل سفاحا مهما آخر و مزق جثته!“.
شخر مضيفا:
”هل تعلمون من يكون كروفر بالنسبة للكامورا؟“.
1
تبادل الجميع نظرات صامتة، قبل أن يفتح الكابو فمه ثانية بنرفزة:
”ريغان قتل إبن عمي و أخلص رجالنا… فابيلو كامورا!“.
كانت الصدمة موقعة على وجوه الكل، خاصة إيسميراي التي وصلتها الأخبار بشأن قتل دارك للسفاح كروفر، و رغم ذلك لم تنسحب من صفه، و دون خوف من مركز الكابو القوي… بدأت تلدغه:
”إن كان المقتول كروفر أحد عظماء الكامورا… فما الذي كان يفعله بين سفاحي الويد تحديدًا؟“.
”هذا شأن إستخباراتي تقوم به الكامورا من حين لآخر، يحق لنا إرسال شخص كفء ليمضي وقتا بين السفاحين و يتأكد أن الويد و المونسترز تطبقان القوانين!“.
1
”لكنني لم أقرأ أي قاعدة تجيزُ لكم التجسس علينا!“.
لم يعجب ذلك سيباستيان، و خشيت غولدينا أن تكون إيسميراي في معرض غضبه، فتدخلت بحكمتها تحرف القليل من كلامها:
”شقيقتي لا تقصد أيها الكابو، نحن نعرف أن الكامورا هي المقنن، لكننا نجتمع هنا لنتشارك في إتخاذ أنسب القرارات، و أجد أن من حقنا أيضا كعشيرة معرفة سبب جهلنا هوية كروفر الحقيقية كل هذه المدة!“.
وجد سيباستيان في غولدينا إمرأة ديبلوماسية يستطيع مناقشتها دون إنفعال، فعلق بهدوء و كان يهدف بتعليقه إثبات مقام عشيرته رغما عن أنوفهم:
”كونكم عشيرة مفككة يجعل من الصعب بمكان أن تفهموا ما تعنيه وحدة الكامورا، نحن بيد واحدة أخضعنا أوروبا لنفوذنا، و بيد واحدة سننا القواعد التي تسير العالم السفلي، و بنفس اليد قررنا اليوم تصفية ريغان و الفتاة التي معه!“.
بسط كفه بإتجاه أحد القضاة ليسلمه ظرف الموت الأسود، و من داخله سحب ورقة ليوقع على القرار المحتوم دون تردد، ثم بحث بعينيه عن المنفذ، و بكل مكر ممكن، إبتسم لإيسميراي التي هاجمته بجرأة قبل قليل ناسية مركزه، و أمر أحد حراسه الشخصين كي يضع الظرف أمامها، و هو يعلن بإستفزاز:
”المرأة الشقراء معروفة بشراستها، و هكذا فأنتِ الشخص الأمثل لأداء هذه المهمة!“.
شعرت إيسميراي بأشياء كثيرة تحترق داخلها، فقد تعمد إختيارها لأنها تجرأت على مهاجمته، كان بإستطاعته إختيار غولدينا أو دومينيك ليوني، أو فيرينا دارغاريا التي قتلت سبعا و عشرين شخصا دون أن ترمش الٱسبوع الماضي، لكنه إختارها هي، ليهينها، ليذكرها بأنه الآمر الناهي!
عرفت إيسميراي كيف تبتلع كل تلك النيران الغاضبة، و قررت أن تثبت له كلامه في حينه، فهو محق بخصوص شراسة الشقراوات، ليس في القتل فحسب، بل في فنون الرد أيضا!
أدارت الظرف الأسود بين يديها مبتسمة، ثم شرعت في الضحك بصوت ناعم و مجلجل في الآن نفسه، قلق القضاة مما سيحدث تاليا، و توتر الوضع أكثر، لا سيما حين مزقت الشقراء الظرف بما فيه من أمر و توقيع، و رمت بالقصاصات عاليا و هي تلتقط أنفاسها و تعلن بجرأة بالغة:
”أرفض!“.
1
توقع الجميع أن ينتهي أمر النمرة البيضاء بعد تلك الحماقة التي إرتكبتها، لكن سيباستيان إكتفى بإنذار بسيط و هو يذكرها قائلاً:
”الرفض ليست إمتيازا تتمتع به عشيرة المونسترز لأنها ليست سوى عوائل متوحشة تسير تحت أوامر الكامورا!“.
إحتدت نظرات الوحوش جميعا، فالعبارة الأخيرة لم تكن لإيسميراي وحدها، بل للعوائل الأربعة، و قبل أن يستطيع أي منهم الرد، وجدت إيسميراي الفرصة سانحة لتستعيد كرامة عشيرتها، و أردفت محرقة بولاعتها قصاصة من الظرف الممزق:
”و إلقاء الأوامر ليس إمتيازًا تتمتع به عشيرة الكامورا على أرضنا!“.
نفخت على بقايا الرماد بين أصابعها مضيفة:
”لا تتحدى الوحوش داخل منطقتها أيها الكابو فنحن لا نكتفي بالزئير إذا غضبنا!“.
1
بعدما قالته النمرة البيضاء، أصبح الجميع في صفها، و إنجرفت الأمور إلى مسار آخر، و لم يعد التمرد محصورًا في عائلة النمور فقط، ڤيرينا دارغاريا مثلاً كانت مستعدة لسحب سلاحها على الفور، و قنص سيباستيان بين عينيه، و حتى الليونز اللذين يمقتون التايغرز إلى حد بعيد وجدوا أنفسهم يبتسمون إثر كلمات إيسميراي، و يشعرون بالفخر لأنها ردت كما يفترض بوحش أن يزأر محافظا على حدوده!
و قبل أن يقرر سيباستيان أي شيء بخصوص ما يجري حوله من وقاحة و عصيان، رن هاتفه على نحو مفاجئ، و قرأ الرقم المألوف على الشاشة بشفاه مطبقة، و لم يكن هناك مفر من الرد!
”نعم… ريغان!“.
”كابو… لا تكن أنانيا و إفتح مكبر الصوت!“.
نفذ سيباستيان ذلك غير مخير، لأنه سمع كثيرا عن جنون دارك، و لا يريد أن يرتكب خطأ يجعله ينفذ من حكم الموت، لذا يبدو أن عليه مسايرته مؤقتا حتى يفهم دعوى الإتصال! و كيف له أن يصل لرقم هاتفه السري؟
”تم! قل ما تريده، و سنعتبره أمنية أخيرة لك قبل الموت!“.
أردف دارك على مسمع من الكل بسخرية:
”دارك ريغان لا يتمنى… بل ينال ما يريد بيده، أما بشأن الموت… فأنا فقط من سيقرر متى و كيف تنتهي حياتي أيها الكابو… لأنني… و بعد دقيقة واحدة سأصبح السفاح الأقوى في تاريخ فيغاس و العالم!“.
3
لم يمضِ الكثير حتى بلغت الساعة ثمانية و ستين دقيقة بعد الثانية عشرة أي الواحدة و ثماني دقائق… و سرعان ما دوى إنفجار قوي أودى بحياة كل من ظلوا داخل النادي، و تسبب بتهشم زجاج بعد المباني و السيارات القريبة منه، شخصت عينا إدريك مدركا فحور العلبة التي قدمها كهدية للساقي، و بسرعة إندفع نحو دارك يحميه من أي شظايا محتملة، بينما إنحنت مارسِلين مستترة بسيارتها و هي تشهق حينًا و تكمم فمها حينًا آخر محاولة فهم ما يجري!
2
أما دارك فقد طمأن إدريك بنظرة هادئة، و تابع محادثة أعضاء الميغا المجتمعين كأن شيئًا لم يكن:
”إنتهى شيء إسمه النادي 89… في الدقيقة الثامنة بعد الستين بعد الواحدة ليلاً… و أخذ معه ستةً و ثمانين وغدًا… من ضمنهم أعداءٌ لكم… دارك ريغان قتل أعداءكم حتى و أنتم تخططون لقتله، و الآن قتل حتى فكرة تخلصكم منه، لأنكم منذ هذه اللحظة لا تستطيعون تصفية رجل محرم!“.
عقد سيباستيان حاجبيه، و تبادل كل من جيرو و ألفار نظرة إدراك لواقع خطير، بينما أغمض أحد القضاة عينيه متأكدا من تحقق ما كانوا يخشونه!
”محرم؟“.
سأل سيباستيان رغم تأكده من أن سؤاله ذاك لا معنى له:
”أنت لم…“.
أكمل دارك عنه بكل غرور:
”بلى! حطمتُ رقم جينيوس القياسي! كروفر أتى لقتلي بأمر من داجيو فنال ما يستحقه، و الحقيقة أنني كشفت هويته بنظرة واحدة لخاتمه الذي يحمل حرف الكامورا الأول (C)، لكنني لم أشِ به لأحد، و لم أضعه في خانة أهدافي حتى تجرأ هو و فعل ذلك! عشيقة داجيو الساقطة كانت تراقبني و تجمع معلومات عني لصالح عشيقها فكانت التالية، و الشخص الذي تخلص منها بأمر مني رأى وجهي فذاق من نفس الكأس، ثم جاء دور عجوز قذرة تجرأت على تعذيب فتاة تخصني و كانت تستحق أكثر، لكنني تصرفت برحمة على غير عادتي و إكتفيتُ بقتلها و تمزيقها فقط، ثم خمسٌ و ثلاثون جثة في الصحراء وضعوا أنفسهم تحت رحمتي، و رحمتي سيئة كما تعلمون، ثم ستةٌ و ثمانون جثة في النادي، هل تجيدون العد، أم تنتظرون مني ذكر حصيلتي الجديدة بالتفصيل لتتأكدوا أنني السفاح الذي يتصدر قائمة العشرة الآن؟!“.
13
غمر الصمت القاعة بأتم معنى الكلمة، فغر فم جيرو، و على جانبيه دومينيك و ألفار يعترفان ضمنيا بأن دارك كان و سيبقى دائما أذكى السفاحين و أخطرهم، حتى جينيوس لم يُسمع عنه يوما هذا الكم المرعب من البرود و السادية، في حين إبتسمت إيسميراي شامخة بذقنها، و ظل سيباستيان وسط كل هؤلاء دون أدنى رد فعل عدا العينين المتسعتين أعلى رأسه و الخطوط التي تعمقت حول فمه من فرط الإنفعال، ليضيف دارك كأنه في مناسبة سعيدة:
”أعتقد أنكم بعد درس التاريخ القصير هذا ستلبون الدعوة جميعا دون إستثناء غدا في كنيسة سانت مارونيت كي نضع حدا لهذه العداوة و نستعيد إستقرار الميغا و الويد! في النهاية… ستكون مناسبة جيدة لتوضع الأمور في نصابها أخيرًا… حتى الدارغاريا عادوا للواجهة… و عاد إليهم اللقب المسروق بموت باتشي في النادي!“.
تبادل آل دارغاريا نظرات عدم التصديق و الصدمة، لكنهم لم يشكوا لحظة في أقوال دارك، صحيح أنه كان يقتل بكثرة لصالح التايغرز اللذين ينشطون في نفس مدينته، لكن سمعته تكفي ليقتنعوا بأي شيء لعين يلفظه، و هذا دفعهم للوقوف تباعا و إعلان دعمهم لدارك ريغان، ليس هذا فحسب، بل حتى آل ليوني و آل أدولفز إنحازوا لصف السفاح على حساب القضاة و الكابو!
نظر يامينوف يمينا و يسارا موقنا تعقد الوضع أكثر، و قرر أن يكتب تقريرا جديدا و مفصلا هذه المرة لزعيم البراتفا، في الوقت الذي قال دارك كلماته الأخيرة قبل أن يغلق الخط:
”سيكون اللقاء غدا الساعة الثامنة ليلاً!“
تدخل سيباستيان متوعدا:
”عرض نفسك علينا بعد كل الجنون الذي إرتكبته لا يعني أننا سنتصرف كما تتوقع يا ريغان، ربما لا نستطيع قتل أقوى سفاح الآن بسبب تلك القاعدة اللعينة، لكنها قوانيننا في النهاية… نضعها حسب أهوائنا… و قد نغيرها متى شئنا!“.
4
أردف دارك دونما قلق:
”لكنكم لا تستطيعون تغيير القواعد التي ليست من وضعكم! أليس كذلك؟“.
حدس سيباستيان أن خلف تلك العبارة شيء لن يروق لأحد، أو للكامورا على الأقل، فعشيرة البراتفا أبقت نفسها خارج الأحداث، و عشيرة المونسترز الآن حققت المستحيل و أثبتت أن عوائلها المتصارعة يمكن أن تقف في الصف نفسه ذات يوم! أيا يكن! فيمَ يهم موقف أي عشيرة بعدما لم يعد للكامورا نفسها موقف واضح في الوقت الراهن، سوى أن تصر على معاقبة ريغان بطريقة ما دون أن تقتله!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا داركسان…
13
دلف دارك رافضا إضاءة أنوار الغرفة، فقد لمح ضوء القمر يتسلل من النافذة و يسقط على روكسان التي لا تزال على نفس الوضعية كما تركها منذ ثلاث ساعات، تفقد معصمه محددا الوقت، ثم أرجع بصره إليها و هو يدنو كاتمًا أنفاسه بصدره، فكر أنه لم يرَ مشهدًا مماثلاً بحياته، و شعر أنه يكاد بينهما، بين قمر في السماء… و آخر على فراشه!
خلع حذاءه و سترته، ألقاهما جانبًا، ثم إنحنى باحثا عن عطره فيها، و حين ألفاه لا يزال متمسكا بها، أفرج عن أنفاسه، و إستلقى إلى جانبها يقربها منه و يكتشف في جلد كتفها نعومة مختلفة عن خشونة ذقنه، حتى فتحت عينيها نصف فتحة و سألت مخمورة بالنعاس:
”دارك… أين كنت؟“.
”في الحمام!“.
9
أجاب بإقتضاب و كذب، فقالت مجددا تاركة جفناها يسقطان ثانية:
”ظننتُكَ تتجول… في الخارج!“.
عندها إبتسم و يغمض عينيه مردفًا:
”نامي مطمئنة… لا كارثة تتجول غيركِ هنا!“.
14
حظيت روكسان فعلاً بنوم عميق؛ عكسه هو، فقد مابه قسط قليل جدا من الراحة، و خاض نومًا متقطعًا و تصارع مع كوابيس متذبذبة، و كلما أفاق جاحظ العينين يبحث عن صوته ليصرخ من هول المشاهد المريعة التي كانت تلاحقه منذ الطفولة، كان يجد روكسان مستلقية على صدره تحتضنه بملامحها المتسامحة، فيتمسح بشعرها الحريري، كأنه حجر أسود كريم يلتمس منه الحظ!
3
كانت هي أول من أفاق بعدما ضايقتها أشعة الشمس التي تسلطت على وجهها، لكنها لم تتذمر بسبب ذلك، بل إبتسمت متجاهلة الصداع الذي كان ينتفض داخل رأسها، لقد فقدت نعمة البصر لوقت طويل، و ها هي ذي تستعيدها أخيرًا، و لا شيء سيدفعها للتذمر حتى لو صاحبها الألم لبقية حياتها، ثم إن دارك شرح لها ما قاله إدريك عن صداع ما بعد العملية، و حسب خبرته الطبية، يستمر الصداع لبضعة أيام فحسب!
2
أقنعت نفسها أنها تستطيع تحمل الصداع، و ستساعدها الحبوب التي وصفها لها في التقليل من ألمه، هذا علاوة عن أن إمكانية رؤية أي شيء حولها لوحدها تكفي كي تنسيها أي معاناة جسدية، تستطيع الآن رؤية أدق التفاصيل، تستطيع أن…
توقفت فجأة عن نقل بصرها هنا و هناك حين أدركت أخيرا أنها تنام بأحضانه، و تستطيع رؤية أدق تفاصيل وجهه و جسده، لاحظت ذاهلة العدد الكبير لوشومه أفضل مما فعلت أمس، نهضت عنه قليلاً دون أن تبتعد عنه كليا، و ظلت للحظات طويلة تتأمل بمشاعر متضاربة خصره حيث وشم إسمها… و ذراعه أين إختار ملامح وجهها وشمًا مطابقًا للحقيقة، عجزت عن منع أصابعها من لمسه، مررتها فوق خصره برقة و كادت تبكي مجددًا، تسلقت صدره و كتفيه بأصابعها الممشوقة تتحسس كل وشم على حدى، تواريخ غامضة، رموز لم تفهم كُنهها، و الأبرز كان وردة وجنته الذابلة و كلمة ”الأم“ على ظهر إحدى يديه، إغرورقت عيناها أكثر متذكرة ما قاله ذات يوم عما فعله داجيو بأمه، حملت نفسها بعيدًا عن السرير، أرجعت الستائر حتى تمنع الشمس من إزعاجه لأن جفناه المتورمان ترجما حجم تعبه، ثم فتحت الخزانة بحثا عن شيء ترتديه بدل الثوب الأسود، إختارت بنطالاً و قميصًا من القطن المريح، لونهما يشبه البُن المحترق، تماما كشعرها و عينيها، و نزلت الدرج بإتجاه المطبخ، كان قد حدثها عن قدوم فريق خدم خاص للإهتمام بكل ما يخص الفيلا، لكنه لم يحدد ميعادًا لذلك، لذا قررت بسبب ضجرها أن تحضر الفطور دون أن تنتظر وصولهم، و بما أنه ملأ الثلاجة أمس، فقد وجدت المهمة غاية في السهولة، و لعدة مرات كانت تمسى واقع كونها مبصرة، فتمضي لتحديد المواد بحواسها كالتمييز بين الملح و السكر من خلال الشم، ثم تفيق لهفوتها فتضحك لنفسها، و تواكب عملها بإستمتاع، حتى تفاجأت بعد لحظات بدارك مستيقظا يقف على باب المطبخ، و يتأملها كمن يتأمل شيئًا دخيلاً على حياته، كأنه هو الأعمى الذي أبصر توًّا و يواجه صعوبة في التعرف على عالمه الجديد!
تفاجأت لوهلة بوجوده، لكنها ما لبثت أن حيته بإبتسامة متألقة، و تمتمت في حماس:
”جيد أنني إنتهيت في نفس لحظة إستيقاظك… تفضل بالجلوس!“.
1
فعل مثلما أملت، كأنه مجرد طفل حظي بليلة كوابيس مؤرقة، و إستيقظ أخيرًا ليتناول من طبخ أمه البارعة و يغترف من حنانها، جلس دارك على رأس طاولة المطبخ دون أن يذكرها بوجود أماكن أفخم في الفيلا مخصصة لتناول الطعام، فربما هذا هو نمط حياتها البسيط، طاولة عادية وسط مطبخ عادي تفوح بين جدرانه روائح فطور عادي، و تلك الأشياء العادية لم يعتدها مُذ فقد صانعتها الأولى بحياته، في أحيان يفطر بأي مكان بينما يلاحق هدفه ليحدد متى و كيف يسلبه روحه، و في أحيان ٱخرى لا يملك رغبة سوى في إزدراد قهوة بسكر قليل و إمتصاص ما لا يقل عن سبع سجائر!
راحت روكسان تحوم حوله كطير نمت له أجنحة حديثة، حشدت عدة أطباع و فناجين أمامه مرددة عد أسماء، لكنه لم يستطع حفظ تلط الوجبات، بل ظل يتابع تمايل شعرها و هو يحتك أحيانا بجسدها و أخرى بزوايا الطاولة، و يحصي خطواتها، قبل أن يسمعها تسأل و هي تسقط من المقلاة شريحتين من البيض المخفوق على طبقه:
”بماذا تريد أن تبدأ… بالبيض المخفوق… أم القهوة؟“.
رفع بصره نحو عينيها الواسعتين، و أجاب دون أن يبدي شعورًا واضحًا على ملامحه الجادة:
”بكِ!“.
13
إرتبكت لدى سماع جوابه، و حاولت بوجه محمر و صوت مرتعش أن تدعي عدم سماعه!
”هناك أيضا سلطة فواكه… و خبز الـ…!“.
”لا أريد غير روكسان ريغان… هي طبقي المفضل!“.
11
تزايد إرتباكها ما إن أمسك يدها و سحبها بخفة لتجلس بحضنه، أصبح لون وجهها منافسا للون الدم، تحججت بوجود مقعد آخر لها، غير أنه حشر داخل فمها قطعة فاكهة ليمنعها من الكلام، ثم لثم شفتيها بشكل سطحي و راح يتذوق القليل من كل طبق، قبل أن يسكب القهوة بنفسه كما تعود أن يفعل طوال حياته، لكنها لم تكن نفس القهوة، و لا يبدو أن أي شيء سيجمعه بروكسان سيشبه أي شيء عاشه لوحده من قبل!
أخيرًا وجدت روكسان فرصة لتتكلم، فخاطبته و هي لا تزال جالسة فوق فخذيه بوزنها الخفيف:
”دارك!“.
”نعم يا مصيبة دارك!“.
22
تشجعت و أفضت له بما تفكر فيه و يضرم النار في عقلها دون هوادة:
”هل كان سيختلف شيء لو لم أخبرك حينها أنني عمياء؟“.
1
ظل صامتًا، و أملت عبثًا أن يجيبها، لكنه تصرف كمن فقد لسانه، فتركت فاصلاً زمنيًّا يمضي و سألت مجددًا:
”هل كنت سأستطيع النظر إليك يوما ما كما أفعل الآن؟“.
كان دارك ملك الذكاء و التلاعب النفسي، فسأل هو الآخر بطريقة جعلتها تستغرق وقتًا في البحث عن جواب:
”و هل تنظرين إلي حقا الآن؟“.
”أجل!“.
”ألا تخيفكِ وشومي؟“.
”كلا!“.
تمتمت بسرعة و بصدق هذه المرة، و أضافت مغرقة عينيه بنظرات عطوفة:
”لماذا تخيفني وشوم لا تتجاوز صفحة الجلد، حقيقتُك ليست هنا…“.
لمست وشما غامضا على كتفه مستأنفة قولها:
”حقيقة المرء دائما بأعماقه!“.
”إذن فحقيقتي أسوء حقائق الكون، لأنني لا أحمل بأعماقي سوى السواد!“.
”ليس ذلك سيئًا دائما!“.
تمهلت لثوانٍ مبللة شفتيها، و تابعت بصراحة لم يسبق لأحد أن حدثه بها:
”كلما زادت حلكة الظلام… تزايد لمعان النجوم و بدت أقرب و أوضح للعيان! السواد ليس دائما دلالة للحزن و الألم و القسوة، و حتى لو كان كذلك، هل تنكر أن من اللون الأسود تتفجر كل الألوان التي حولنا، مثلما تفجرت أشياء عدة من سوادكَ، إنتظام دورتي، و عودة بصري، و إستقراري تحت سقف بعيد عن الفاقة، أنا… و بشكل غير منطقي و غريب… ممتنة لسواد خاطفي! أعرف أنك آذيتني في البداية، و جرحت كرامتي، و سببت لي آلامًا نفسية يصعب نسيانها، لكنكَ الوحيد الذي شعرت بالأمان معه!“.
4
كان دارك مأخوذًا بكل حرف نطقته، و سرعان ما سألها بشحوب:
”هل يمكن أن تغفري لي تلك الأذية يوما ما؟!“.
3
تفرست في عينيه الداكنتين بنظرات عميقة، و همست تجيبه:
”لا أعرف… ربما يستغرق شفاء بعض الجروح وقتًا أطول مما نعتقد، لكن المغفرة لا تتقيد بالزمن، و إنما بمدى إستحقاق المذنب لها!“.
5
أغرق في كلماتها، فهمست ثانيةً مبتسمة:
”لكن هذا لا يعني أنني أنظر إليك كشخص سيء كما كنتُ في البداية، فداخل أعتم المغارات… يمكننا العثور على أثمن الماسات، لا شيء يكدِّر الماس و لو دفن تحت أطنان من السواد! صحيح؟ و بما أنني كنتُ رغم براءتي أسودكَ الشفَّاف… يمكنكَ أن تكون رغم خطاياك أبيضِي القاتِم!“.
10
لم يطق دارك صبرًا أكبر و هو يرى ثغرها يتحرك بتلك الكلمات المتناغمة، عجَّل في إلتقاط فمها الجميل بشفتيه، مطوقًا بذراعيه خصرها الرقيق، و مع كل لحظة تمر على تلك القبلة الناعمة… كان يكره نفسه أكثر، و يرفض الماضي الذي كان يسعى لإيذائها فيه، و ما لبث أن وضع نهاية لتلك اللحظة المؤججة للعواطف، فإستعدت روكسان للوقوف، لكنه لم يخلِ سبيلها، بل حافظ على تطويقها وقتًا أطول، و نبس قرب أذنها كأنه يوقع بأنفاسه هناك:
”الأبيض يبدو أجمل عليكِ!“.
8
أذابها ذلك الإعتراف الصغير منه، جردها من كل منطق، و تركها فارغة من كل شيء عدا كلماته و أنفاسه المطبوعة على جسدها، سمح لها أخيرًا بالنهوض عن حضنه، لكنه إستطرد قبل أن تغادر المطبخ:
”سيكون هذا أهم أيام حياتكِ روكسان! هل أنتِ مستعدة لشعاع رمادي يجمع أبيضَكِ و أسوَدِي؟“.
1
”أعتقدُ أنني كنتُ واضحة حين أخبرتكَ ليلة البارحة عن رغبتي في سداد ديوني!“.
عقد حاجبيه معلقا:
”لا يمكنكِ سدادُها، تدينين لي بملايين النظرات، بساعات طويلة من التأمل و أنتِ نائمة، تدينين لي بوعيي المفقود حين يصبح شعركِ طرفًا في حوارنا، تدينين لي بقواعدي المكسورة و الأنفاس التي لفظتها من أجل التعرف على أي شيء يشبه رائحتكِ، تدينين لي بأشياء لن يستوعبها عقلكِ في حيز ضيق من الزمن!“.
15
أرسلت صوبه نظرات تائهة تشبه تلك التي يرمق بها الملحدُ الكنيسة، لديه ميل فطري للإعتناق و مع ذلك يثقله الشك في العقيدة نفسها! و أردفت بصوت خافت:
”سيتسع الحيز يا دارك… و من يدري؟ ربما أستوعب أكثر مما تتخيل!“.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)