رواية لحن الأصفاد الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم أسماء
البارت الرابع والعشرون (الكل يريد الهجينة)
❞أحيانًا لا تكون الخيانة طعنةً في الظهر، بل ضمّة… في المقبرة!❝
13
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
مستشفى سامرلن| مِشرَط و ربطة شعر!
نفس اليوم… بعد حلول الظلام
في تلك الأروقة الباردة التي بدت كسراديب الموتى، سكنت الأصوات خلف جدران القلق، و ساد صمت خانق، لم يقطعه بين حين و آخر سوى أزيز الأجهزة الطبية، و همسات الممرضات هنا و هناك. كانت سيريا قد تجاوزت مرحلة الخطر، لكنها لم تستعد وعيها بعد، لا زالت تحت رحمة الأجهزة، و لا زال إدريك عالقًا في جحيم الإنتظار!
5
وقف بعد إجرائه ثماني عمليات جراحية حساسة عاري العينين من النوم بجوار زجاج كاشف في الممر المحاذي لغرفتها، ثم زفر مفرجًا عن تنهيدة ملوثة بالألم! لم يأخذ قسطًا من الراحة منذ أن أرقدها الخطر في غرفة الإنعاش، أو لعل ما أرقدها هناك… ليس إلا عجزه عن حمايتها كما يجب!
4
كانت روكسان تتوارى في إحدى الزوايا، عيناها الزجاجيتان تحملان ظل الموت، و شفتاها مطبقتان كمن يواجه نوبة اختناق باردة، حين أحضر دارك قهوة مزدوجة لكليهما، لكنها تركت نصيبها يفتر، و لم يلمس دارك نصيبه أيضا بسبب تركز نظراته على وجهها المائج بأفكار لا يعرف عنها شيئًا، تُرى… أ مازالت تتساءل حول أبعاد شعورها الغريب تجاه إدريك؟!
11
كانت قد رفضت تناول أي وجبة، كما رفضت العودة إلى الفيلا كي تنال قسطًا من الراحة، كان يراودها شعور غريبٌ بالمسؤولية، بأن من واجبها البقاء! لاحظت أخيرًا أن زوجها يحدّق في بشرتها الشاحبة التي بدت أشبه بصفحة مهجورة من الماضي، فهزت حاجبيها مستفسرة:
1
“لماذا تتفرسُ بي هكذا؟”.
6
إمتنع عن منحها جوابًا، أبعد كوب القهوة الكرتوني عن يديها، و أعلن دون إبداء أسباب أو تفسيرات لعينيها الحائرتين:
“لنخرج!”.
عجبت روكسان لأمره، قاومته في البداية بعبارة غير مشجعة على الخروج لأي مكان و عيناه تتعلقان بغرفة الإنعاش:
“لا رغبة لي!”.
“بلائي! لم أسأل عن رغبتكِ!”.
25
قالها بنبرة ثابتة، ظنت قبل أن تستدير باتجاهه أن تعليقه كان مجحفًا في حقها، لكنها ما إن صوبت نظرها نحوه، حتى لمحت شبح إبتسامة تعبر فمه، و سمعته يضيف بينما يلتقط يدها و يسحبها خارج المستشفى:
“لا تظني أبدًا و لو لمجرد لحظة أنني سأترك زوجتي تتلاشى في هذا المكان اللعين!”.
6
خفق قلبها مسعورًا بسبب تلك الكلمات، لكنها تمهلت حين كان يقودها نحو عربة المصعد، و إحتجَّت بعبوس:
“و لكن سيريا…”.
قاطعها دون أن يمسك خطواته أو يتكبد عناء الإلتفات:
“سيريا لديها أبٌ يعتني بها؛ كما لديكِ أنتِ زوجٌ يمنعكِ من الإنتحار بؤسًا!”.
14
عقدت حاجبيها مستغربة أن يصف حالتها على ذلك النحو، و تمتمت مرجعة خصلات من شعرها خلف أذنيها:
“أنا لا أنتحر! إنما أنا فقط حزينة من أجل أحدهم، و المرء ليس مُخيَّرًا بين الحزن و السعادة، المشاعر لا تستأذننا قبل أن تطرق صدورنا، صحيح؟”.
تعامل دارك مع سؤالها بصمم حيرها، رغم أن عقله تصاخب بجواب صارخ، لكنه أبى أن ينطقه، لقد أبى حتى أن يعترف بما يطرق صدره مُذ طرقت روكسان حياته!
1
عندما تركا عربة المصعد، و خرجا من المستشفى، هاجمتهما بعض الرياح التي لم تحرك في دارك سوى ياقته و أطرافًا من قميصه، لكنها لوحت بخصلات روكسان الطويلة هنا و هناك، حتى أزعجها ذلك، و ضايق عينيها، ليتدخل دارك و يجمعها بقبضته محولاً سوار معصمه المضفور الذي صنعه من خصلاتها سابقًا إلى ربط شعر!
15
…
بعد دقائق، ها هما يجلسان في كافيتيريا صغيرة قرب المستشفى، بينهما علبة سجائر دارك و كأسٌ من شراب الليمون بالعسل و البابونج، كان قد طلبها من أجلها، لكنها لم تمسسها بعد إلا بنظرات تائهة من عينيها المحتفظتين بحزنهما العميق!
1
إنكبَّ دارك على إمتصاص السيجارة التي أشعلها، و إحصاء تلك النظرات بعصبية مكنونة سترها شكله البارد و دخان كثيف يتصاعد بينهما، و قبل أن يحثَّها على تناول الشراب الذي سيعيد لونها المخطوف، تبين له أنه لم يكن الوحيد الذي يتأملها!
7
على يمين الطاولة التي يجلسان إليها طاولة ٱخرى تضم ثلاثة رجال يحتسون الموخيتو، لم يملكوا أعينهم للحظة مُذ شهدت الكافيتيريا ولوج امرأة يمكن أن تحبس الأنفاس بعينين واسعتين تعلوان وجهها! علقت نظراتهم الماجنة مطولاً عند خصرها المرهف، لكنهم عرَّجوا من جديد إلى رأسها، إلى عينيها تحديدًا، تلك العيون التي من الصعب حقا تجاهلها!
10
لم ترَ روكسان أيًّا من ذلك، لكن دارك رأى ما يكفي لإيقاظ السفاح النائم داخله! رأى بجلاء نظراتهم الجائعة، و قرأ على شفاههم نبسات شيطانية و هم يتغزَّلون بعيون الريم، بالثمانية عشر إنشًا التي تخصُّه:
13
“ٱنظر هناك!”.
همس أحدهم و هو يلكز خاصرة رفيقه، فردَّ هذا الأخير معتصرًا شفتيه:
“نظرتُ يا صديقي، و إنتهى أمري، أتساءل كيف ستبدو عيناها و هي تتأوه تحتي؟!”.
19
سرت بينهما ضحكات سافرة حتى تدخل الثالث بتعليقه:
“يا لذلك الخصر الضيق! يمكنني إحتواؤه بقبضة واحدة!”.
5
“اللعنة! أعرف أنني لن أنام الليلة إن لم أضاجع امرأة تشبهها!”.
3
هزَّ الأول رأسه مجعدًا أنفه:
“لن تجد! هذا النوع يمرُّ بالرجل مرة في العمر؛ و الحمقى فقط من يضيعون الفرصة!”.
خلال كل ذلك أنهت روكسان شرابها دون شهية تُذكر، و أيضا… دون أن تلاحظ شيئًا، و أمامها كان دارك قابعًا على مقعده متقلص الفكين، يده تمتد بهدوء نحو هاتفه، أصابعه تنتقي الرقم المطلوب، و حنجرته البارزة تتراقص برتابة أثناء تحدثه إلى شخص ما:
“هل مستشفى سامرلن بحاجة لأعضاء اليوم؟!”.
15
جاءه صوت موظفة الإستقبال فاترًا و مرهقًا في مثل ذلك الوقت المتأخر:
“نعم سيدي، من المتحدث؟”.
“متبرع مجهول الهوية!”.
9
سألت الموظفة مجددًا مستعدة لتدوين المعلومات على دفتر بين يديها:
“حسنا، ما هو نوع الأعضاء المتبرع بها سيدي؟!”.
أجاب دارك و عيناه السوداوان لا تحيدان عن طاولة الرجال الثلاثة:
“عيون… عيون لا تعرف حدودها!”.
8
“عفوا…!”.
قطع دارك الخط تاركًا موظفة الإستقبال ضحية حيرتها، و خاطب روكسان بلهجة آمرة لم تخلُ من الغضب البارد و التسلط المريح في آن واحد:
“أعتقد أن وجهكِ إحتفظ ببعض الشحوب، إغسليه في الحمام قبل أن نغادر!”.
11
حدست أن شيئًا ما يجوب عينيه، لكنها أطاعت الأمر في صمت، و سارت باحثة عن حمام السيدات. حين تأكد دارك أنها إختفت من ساحة المشهد تماما، صب جام إنتباهه على الثلاثة، و إفترسهم بنظرات سوداء قبل أن يدنو منهم و في قبضته مشرط يحتكمُ إليه حين يسمع أصواتًا غامضة آتية من رأسه:
«مزِّق… مزِّق… مزِّق!»
9
ثلاثة أوغاد قادهم القدر إلى امرأته المحرَّمة، و منها إلى مشرطه المتعطش، تحدثت أعينهم بما يكفي، و الآن… سلاحه الصغير سيكتب العدالة وفق مفهومه الخاص!
2
كانت ضحكاتهم لا تزال صادحة حين إسترعت خطوات دارك المحسوبة إنتباههم، و قبل أن ينجحوا في إتمام إلتفاتة كاملة نحوه، كان المشرط قد شطب أول وجهين، ثم وثب إلى الثالث معززا خط الدم الذي رسمه على أديم الطاولة!
3
كلها ثوانٍ فقط، لم يتحدث، لم يهدد، لم يقم الدنيا و يقعدها بصوته المنفعل، و صرخاته المهتاجة، فقط ترك مشرطه يتولى كل شيء، إقتلع أعينهم وسط صدمة موظفي الكافيتيريا و روادها اللذين عجز الكثير منهم عن البقاء في مواقعهم، فكر بعضٌ من الموظفين في مخابرة الشرطة، لكن نظرة دارك الباردة جعلتهم يراجعون الفكرة ألف مرة قبل أن يتجرأوا على لمس الهاتف.
8
تجاوز الجرحى المكدسين على الأرضية دون أن يسمح لدمائهم بأن تعلق بحذائه، و دون أن يستأذن أحدًا، قصد مغسلة المطبخ الصغير في الكافيتيريا، و نظف يديه بعناية، ثم خاض حوارًا جديدًا على الهاتف:
“سيفاك!”.
6
“في الإستماع يا دارك!”.
“أيا كان ما يشغلكَ الآن، تفرَّغ حالاً، و هيِّء نفسك لحملة تنظيف مكثفة!”.
“أنتَ لا تتوقع مني تنظيف مكان ما بعد إحدى مسرحياتك الدموية دارك؟!”.
“ليس مكانًا، ستنظف بعض العقول!”.
6
أدرك سيفاك إلامَ يرمي، سيغسِل عقل أحدهم ثانيةً، و على مضض منح موافقته و سأل عن مكان تواجد العينات التي ستنظف عقولها، ليمنحه دارك حيثيات الموقع، و يغلق المحادثة متجهًا صوب حمام السيدات، أين كانت روكسان قد فرغت من غسل وجهها، و خرجت متفاجئة بإنتظاره لها هناك!
سألته عن سبب الضجيج الذي سمعته قبل لحظات، لكنه مرة ٱخرى تصرف كأنه لم يلتقط سؤالها، و قادها نحو مخرج الطوارئ الجانبي قائلاً:
“نشبت مناوشات عنيفة بين بعض الرواد، و لم أرِد أن تحضريها فيذهب مفعول شراب الليمون سُدًى!”.
5
كانا قد إبتعدا عن الكافيتيريا بخطوات، و إنعطفا نحو الزقاق التالي الذي إنخفضت بناياته فسمحت لضوء القمر بالتسلل إليه و إحتلاله. نظرت حينها روكسان إلى ملامحه محاولة النفاذ لأعماقه الغامضة، و استفسرت مضيقة عينيها:
“دارك… لم تكُن طرفًا في المناوشات، أ ليس كذلك؟”.
13
خصَّها بنظرة مموِّهة، و أجاب بصوت غريب عنه:
“كلا، كنتُ ذلك الزوج اللطيف الذي ينتظر زوجته و حسب!”.
17
للحظة أوشكت على القهقهة عاليًا، و علقت بغير تصديق:
“أنتَ و اللُّطف؟ إعذرني على قول هذا، لكنكما لن تلتقيَا أبدًا!”.
6
أنهت عبارتها تلك بإبتسامة ساخرة، و رمت بصرها نحوه تتحرَّى تأثير كلماتها عليه، فرأت أنه يبتسم بشكل أعمق من ذي قبل، أقنعت نفسها أنها لا ريب تتوهم تلك الإبتسامة التي أكسبته وسامة مختلفة، و توقعت منه أي رد بارد كما يفضل أن يكون، لكن دارك توقف فجأة عن السير ضاغطا على يدها، و دفعها برقة إلى الجدار المحاذي للرصيف هامسًا:
5
“أنتِ اللُّطف الذي أعرفه، و كما ترين لم نلتقِ فقط؛ بل أصبحنا زوجًا و زوجة!”.
13
أربكتها الحرارة المثيرة في صوته الهامس، شيءٌ غامضٌ كان يتسربُ من عينيه الباردتين بقوة نحوها، سحبت نفسًا مهزوزًا، ثم زفرت بإرتياح حين رأته يتراجع عنها، و يستكمل سيره دون أن تفلت قبضته يدها!
4
تركته كذلك خلال خطوات معدودة، ثم رفعت رأسها بحدة، و توقفت معلنة:
“عليكَ تركُ يدي… دارك!”.
1
“لماذا؟!”.
توقف بدوره متسائلاً، فإستأنفت بشموخ:
“لأن السيدة ريغان و زعيمة الويد لا تسير هكذا!”.
10
بريق عينيه كان دليلاً صارخًا على أن ما قالته أرضى شيئًا ما داخله، لكنه لم يفصح عنه، بل سأل مجددًا و في نبرته شبحُ فخر؛ أو هكذا شعرت روكسان:
1
“و كيف تسير إذن… السيدة ريغان؟!”.
“دون توجيهٍ أو إقتيادٍ من أحد!”.
دفعت ذقنها للأمام، و أضافت بتحدٍ:
“دون أن تكون يدها في قبضة شخص آخر يراها مجرَّد امرأة ضعيفة!”.
ترك دارك فاصلاً طويلاً من الصمت، إنتظرت روكسان بفارغ الصبر أن يُفلت يدها محترمًا رغبتها؛ غير أنه لم يفعل، بل على العكس من ذلك، لفَّ أصابعه القوية بإصرار حول يدها الناعمة، و ببرود يناقض دفء كلماته علق:
“أنا لا أمسكُ يدكِ لأنها يدُ امرأة ضعيفة؛ بل أمسكها لأنها يدُ امرأتي!”.
14
تمهل قليلاً يتأمل وجهها الحائر، خال لوهلة أنها تحبس أنفاسها لشدة تأثرها بما قاله، قبل أن يتابع بلهجة ساخرة:
“هل هذا سببٌ كافٍ حتى لا تفلتي يدي جلالة الزعيمة؟!”.
5
و حين كان جوابها هو الصمت و السير إلى جانبه بهدوء، إختار دارك هو الآخر عدم الحديث ثانيةً طوال المسافة المتبقية إلى حيث ركن سيارته.
…
فيلا داركسان|سليلة الوحوش
1
كانت روكسان بعد عودتها إلى الفيلا تلك الليلة تحاول أن تنسى، عيني سيريا المغلقتين، و طنين الأجهزة الطبية في ٱذنيها، و إدريك المتحجر في الوجع و هو يُخفي صدوعه خلف كمامة الجِراحة!
إستيقظت بعد منتصف الليل لاهثة، كانت تعيش كابوسًا خانقًا، يدا والدها داجيو تمدان من العدم لكتم أنفاسها، و تمنعانها من الصراخ! تنفست بقوة مطمئنة إلى أنه مجرم حلم بشع، و نظرت حولها، لتفاجأ بعدم وجود دارك إلى جانبها على السرير، بل لا وجود له في أي غرفة ٱخرى!
2
أيقنت بعد جولة قصيرة أن البيت خاوٍ… من عطره حتى، و الهواء ثقيل كالألم. نزلت إلى الصالون، و جلست قبالة البيانو الأبيض، ملامسة المفاتيح ببطء، كأن أصابعها تبحث عن بارقة أمل وسط سرداب يأس مسدود!
بدأت تعزفُ مقطوعة: «نزهة الدموع اللَّيلية»، تلك الموسيقى الكلاسيكية الحالمة التي تولد من نغمات منخفضة و بطيئة، كأنها تسير على أطراف الليل، لتتصاعد تدريجيًا إلى لحن درامي يُغذيه الفقد و الحيرة و الحنين، ثم تنتهي بنغمة طويلة تذوب في الصمت كما لو كانت مجرد تنهيدة.
أفرجت عن أنفاسها، مدركة بأسف أنها ارتكبت عدة أخطاء و هي تعزف، فكرت أن السبب هو تركها للعزف منذ أشهر، ثم عزت ذلك إلى التوتر الذي تصاعد في حياتها مؤخرًا، و لعل ما اكتشفته يوم زفافها أيضا له بالغ الأثر على موهبتها و شغفها، من يصدق أن الفتاة العمياء التي اعتادت ارتياد المعهد بعصا و الجلوس خلف بيانو الكنيسة بصمت تنحدر من عائلتين سفاحتين هزَّتا العالم السفلي بصراعهما الدامي؟!
16
تركت البيانو، و اتجهت إلى إحدى مرايا الردهة، حيث أمكنها ضوء الثريا الذي أنارته من رؤية وجهها بوضوح، تمعنت في تفاصيلها، و تساءلت بفضول: تُرى من ٱشبه أكثر بين العائلتين؟ و الغريب أنها لمحت عميقًا في عينيها الواسعتين جرأة النمور و هيبة الٱسود على حد سواء!
فجأة… وقعت طرقات ما على الباب الخارجي، سرقتها من أفكارها، كانت ستخمن أنه دارك لو لم يطرق، رجحت أنه شخصٌ آخر، إلتقطت آنية زينة ثقيلة لحماية نفسها، و ألقت نظرة من العين السحرية، و لوهلة لم تصدق من رأت خلف الحارس الذي كان صاحب الطرقات!
1
لم تتردد روكسان لتفتح، أخذ منها الأمر ثوانٍ فقط لتسحب نفسًا، و تدير المقبض آمرة الحارس أن ينصرف لمحرسه لأنها ستتولى ذلك بنفسها؛ إلا أنها لم تكن مرحبة أبدا و هي تقف وجهًا لوجه مع فتيات آل تايغرز و تسألهنّ ما الذي يُردنه في تلك الساعة المتأخرة!
1
مشطتها أديلاين بنظرة حذقة، لاحظت أنها ترتدي كيمونو حريريا فوق روب النوم، و هذا يعني أنها مستيقظة منذ فترة لا بسبب زيارتهم المفاجئة، لو كانت نائمة لإستغرق وصولها إلى الطابق الأرضي وقتًا! أما إيسميراي تايلور فبدت نافذة الصبر و عاطفية بشكل عصبي و هي تتساءل غير مصدقة:
“ما هذا يا نمرتي؟ توقعتُ إستقبالاً حارًّا لبنات أخوالك!”.
3
لوت شفتيها المطليتين بملمع شفاه كرزي، و ألقت نظرة على إبنة عمها زوي كما لو أنها تتوقع منها موافقتها كالعادة، لكن هذه الأخيرة غمزتها، و إحتفظت بالصمت، مفضلة أن تتجه بعينيها اللوزيتين إلى أكبرهن و أكثرهن دبلوماسية… غولدينا تايلور!
و كما توقعت روكسان، ابتسمت غولدينا بثقة و نطقت بحكمة:
“تبدينَ أنيقة و أصيلة حتى و أنتِ بثوب النوم، و لا أحد يبدو هكذا إلا إذا كان ينتمي إلينا… روكسان!”.
7
مشطت روكسان بدورها الفتيات الأربع اللاتي تجمعها بهن رابطة الدم، كُنَّ أنيقات و جذابات حد الدهشة، و كُنَّ يحملن في عيونهن وعدًا بالإنتماء و الحماية حتى الموت، لكنها لم تكن مثلهن، لم تكن جاهزة بعد لتقبل ذلك، لا زال يصعب عليها حتى إستيعاب الأمر!
عادت ببصرها إلى غولدينا مردفة:
“سمعتُ شيئًا كهذا ليلة زفافي، هل أتيتُنَّ فقط لتكررن نفس الأمر على مسمعي؟”.
1
تدخلت إيسميراي كأنها لا تطلب شيئًا بل تقرِّرُه:
“نريدُكِ بيننا عزيزتي، أنتِ واحدة منا، ربما أخذتكِ الحياة لسنوات، لكننا لن نفرط بكِ بعد الآن، لديكِ عائلة قوية تحميكِ و تفتخر بكِ، لديكِ أخواتٌ شرساتٌ يفتحنَ ألف حرب من أجلكِ، و نحنُ لدينا جزءٌ منا يسري في عروقكِ!”.
7
إبتسمت روكسان بألم، و تمتمت:
“في عروقي يسري دمُ أعدائكم أيضا، كيف يُفترضُ التعامل مع هذا؟”.
و قبل أن تنجح إحداهن في الردّ، إرتفع صوت رجل من خلفهن متهكِّمًا:
“هذه هي لبؤتُنا، تعرف تماما أين تضع أنيابها”.
إلتفتت فتيات التايغرز نحو صاحب الصوت، و اتجهت عينا روكسان أيضا إليه. كان دومينيك ليوني يخطو بثبات إلى جانب الحارس، و حين أومأت له روكسان بأن لا بأس باقترابه، تراجع نحو محرسه، ليضيف دومينيك و هو يرمي النمرة الشقراء بنظرات مستفزة:
6
“ليتني أجيدُ استخدام كلمات بليغة لٱعبر لكِ عن إعتزازي روكسان، إعترافكِ بدماء الٱسود يؤكد لي أنكِ ولدتِ لتكوني ليونز حقيقية!”.
كالت إليه إيسميراي نظرة سامَّة، و علقت بوجه يحتقن غضبًا و هي تدنو منه في خطوات مهددة كما لو أنها نمرة فعلاً:
“أ هذا أسدٌ يتحدث أم مجرد نمسٍ تاه في الغاب؟ دعني ٱعلمكَ بلاغة التعبير الأصح، لو لم يضع وحشكم الحقير يديه على عمتي لما كانت إبنتها تحمل دمكُم القذِر!”.
1
”فليخرسكِ سلاحي خيرًا من أن تذكري عائلتي بسوء!“.
11
تكهربت الأجواء، و سرعان ما اضطرمت نيران العداوة من لا شيء، نظرت غولدينا إلى شقيقتها تحاول السيطرة عليها:
“إيسميراي! ليس الوقت مناسبًا لتبادل السباب، ركزي على ما أتينا من أجله!”.
أردفت الشقراء لا تفارق عيناها وجه دومينيك الذي جمع الوسامة و الخبث:
1
“لا أصدق أنني أصغيتُ إليكِ يا ٱختاه و تركت أسلحتي داخل السيارة! كان ليشفي غليلي أن أراه يتحول لمِصفاة أمامي!”.
2
أغمضت روكسان عينيها تكزُّ على أسنانها، بينما الكلمات المتأججة من فميهما لا تنفكُّ تتطاير فوق رأسها، و في لحظة أخرست الكل، و جعلت الأعين تحجُّ نحوها، اقترن حاجباها، و صرخت بحدة:
“ٱصمتوا! كفى شجارًا! تنهشون بعضكم أمام منزلي، و تدعون في الوقت نفسه أنكم أهلٌ لي؟! أ هذه هي العائلة بنظركم؟ مجرد أفراد ينتمون إلى بعضهم البعض بالدم! لو كنتُ سأفتخر بمجرد قطرات حمراء تعني في عالمكم شيئًا مميزًا… لافتخرتُ بداجيو اللعين التي أنجبني إلى هذه المعمعة!”.
4
تقدمت غولدينا نحوها بخطوة مدروسة، كأنها تودّ الإمساك بكتفيها، ثم تراجعت على الفور، تهمس:
“أنتِ تسيئين فهم نوايانا، صدقيني! لو علمنا أن الشياطين أنفسهم يشاركوننا بدمكِ ما كنا لنتراجع عن ضمكِ لنا! حتى لو حملتِ قطرة دم واحدة من النمور، ما كنا لنتنكَّر لكِ تحت أي ظرف! أعطِنا فرصةً و سترين أي عائلة نحن، روكسان تايغرز!”.
2
ومض شيء خافتٌ في عيني روكسان، شيء أشبه بالموت، احتدت نبرتها الواثقة و هي تردفُ ناقلة بصرها بين الفتيات و دومينيك:
“سواءَ أ قرَّرتُ الإعتراف بإنتمائي لعائلة أم لٱخرى، إياكِ أن تنطقي إسمي بشكل خاطئ مجددًا غولدينا تايلور، أنا الآن… روكسان ريغان، السيدة ريغان!”.
18
ربما تضايق دومينيك منذ ثانيتين لأن روكسان لم تتجاوب مع رغبته في ضمها إلى عائلته، لكن الشراسة النارية في كلماتها أعجبته، و البرود الذي غلف نظراتها الواثقة ذكره ببرود مشابه، اللعنة! لو لم يكن واثقًا أنها إبنة داجيو، لأقسم أنها تشبه إدريك إلى حد مخيف!
16
و كان دومينيك على وشك التعليق، لكن صوت رجل آخر برز خلفه، و قال ساخرًا:
“يبدو أنني لا أستطيع ترك زوجتي لثوانٍ وحدها دون أن يلاحقها الوحوش!”.
9
تقدم دارك نحوهم ببطء، و بدا واضحًا أنه خرج فقط لمكان قريب من الفيلا، إذ كان هو الآخر يرتدي لباسًا منزليا من القطن المريح، عكس الجينز و سترات الجلد و القمصان القاتمة التي يرتديها عادة بالخارج! و لم يكن ينتعلُ حذاءه المعتاد، بل كانت قدماه داخل خُفَّين منزليين بسيطين!
طاف في وجوه الكل، متوقفا في النهاية عند وجه روكسان، ملاحظا الحالة النفسية السيئة التي تمر بها، و التي تحاول جاهدًا مواراتها. و من مكان قريب سمع كلمات دومينيك المتهكمة:
“تتحدثُ كما لو أنكَ لستَ مسخًا أسوء من تاريخ الوحوش كلهم!”.
4
ردَّ دارك دون أن تهتز له شعرة:
“وفر مزاحك لغيري سيد تايلور، فأنا لا أتنكر لذاتي، أعرف تماما متى أكون مسخًا أو زوجًا!”.
6
حدست غولدينا نشوب شجار قريب فتدخلت بهدوء:
“دارك، نأسفُ جدا على التسبب بأي إزعاج، لكن كان من الضروري أن نحظى بهذا اللقاء، عاجلاً أم آجلاً!”.
أبقى دارك عينيه الداكنتين قيد وجه روكسان الخالي من أي تعابير، و قال:
“ماذا تقول السيدة ريغان في هذا الشأن؟”.
1
رفعت روكسان رأسها غير متخلية عن موقفها:
“سبق و منحتُ جوابي، لكن بما أن زوجي لم يكن حاضرًا، فسأكرّره، يلزمني وقتٌ لأستوعب هويتي و ٱقرر في أي مسار أذهب، المعذرة! أنا حقا لا ٱريد التحدث بهذا الخصوص أكثر في الوقت الراهن!”.
3
إرتسمت إبتسامة خافتة على فم دارك، تحرك ليقف إلى جوارها، و أمام أنظارهم، طوق خصرها بذراعه، و طرد الكل بلباقة سوداء لا تشبه اللباقة في شيء:
“هنا يبلغ اللقاء اللعين نهايته، و أحذركم من مضايقتنا حتى إشعار آخر!”.
13
رضخت غولدينا و من معها للأمر، هن يعرفن جنونه جيدا، و لن يغامرن فيخسرنه و يخسرن روكسان أيضا، لذا تراجعن واحدة تلو الٱخرى، و سُمع في الٱفق صدى محركات سياراتهن مغادرة. أما دومينيك، فقد عقد حاجبيه، و رفض المغادرة قبل أن يخوض حوارًا حادًّا مع دارك!
“وجودكَ لن يغير شيئًا ريغان، روكسان كانت و ستظل من آل ليوني!”.
“سمعتَ بوضوح ما قالته زوجتي، و أنا ٱساندها في أي قرار تتخذه الآن و لاحقًا!”.
حينها سار دومينيك مبتعدًا، تاركًا خلفه كلمات كالشظايا الحادة:
“لقد وقفتُ ضدّ الميغا من أجلك ريغان، لا تجعلني أندم على هذا!”.
1
عندما تلاشى ظله تماما، تحركت روكسان تنجو بخصرها من قبضة دارك الحارقة، غير أنه أحكم تطويقها أكثر، و تنفس بالقرب من وجنتها هامسًا:
4
“كيف غفلتُ عن تلقيبكِ بمتوحشتي؟ لعمري! ما رأيتُ شخصًا غيري أنا و إدريك قادرًا على محادثة الوحوش هكذا!”.
18
إزدردت ريقها شاعرة أنه يهمس داخل قلبها بذلك الصوت الأجش المبحوح، و تنحنحت معلقة:
“لا ٱلامُ في هذا، هم من أرادوا اللقاء بسليلتهم الموقرة! و كم أبكروا بذلك!”.
أردف دارك بهمهمة دغدغت حواسها، ثم إستطرد مديرًا أصابعه بحركات صغيرة مثيرة على جانب خصرها الأيمن:
“دعكِ منهم و أخبريني متى سأسمع ذلك ثانيةً!”.
2
رفعت حاجبيها متمتمة:
“تسمع ماذا؟”.
أجابها بشكل مباشر و صريح:
“مناداتكِ لي بزوجِك!”.
6
أشاحت عنه متلعثمة:
“ذلك كان… أنا… إنه…!”.
“إنه ماذا روكسان؟!”.
“إنه…”.
2
“دعيني ٱكمل عنكِ، إنه لفظٌ يجب أن يسمعه الزوج بإستمرار!”.
5
كان ما يريد سماعه أوضح من الشمس، و ما يصبو إليه أسهل من قطف زهرة تنمو في كل شبر من الأرض، و مع ذلك، شعرت روكسان أنها أثقل من أن تتنفس أمامه حتى! منعت عينيها من النظر نحوه معقبة:
“قلتُ ذلك دون تفكير، كان عفويًّا!”.
“ٱوه! إذن لا بُدَّ لي من أن أشجع هكذا عفوية في حياتنا! رغم يقيني بأنكِ أذكى من أن تسيري خلف العفوية، و لكن من المفيد أن يُبنى الزواج على السجيَّة”.
5
هل من المعقول أن يتحدث سفاح مجنون مثله بلسان خبير في العلاقات الزوجية؟ كاد يضحكها ذلك الرد، فعلقت هازئة:
“هكذا إذن؟ تصورتُ أنك ستقمع أي محاولة مني لأكون على سجيَّتي!”.
و هنا أرسل إليها دارك ومضة خاطفة حملت الرقة و التحذير معا:
“لا تتبعي الظنون معي! لا يمكنكِ أن تتوقعيني!”.
3
أربكها كلامه، جرف نحوها الكثير، لقد عاشت تحت نفس السقف معه أحداثا متناقضة و متقلية كمزاجع، تارة يعاملها كعدو يشمئز منه، و ٱخرى يسمو بها إلى مقام أميرة غنوج لا يليق بحضرتها سوى إلقاء الأوامر و التنعم بالدلال! حقيقةً هو آخر رجل يمكن أن تتوقع تصرفاته أو قراءة أفكاره، لكنها الوحيدة التي استطاعت الشعور به، بكل صراع يحتدم داخله، و بكل قهر عاشه، و بكل حقد ملأه و دفعه للإنتقام، و لن تعجز في يوم من الأيام أن تشعر بأي شيء يطرق صدره و يعتمل في جوفه المعتم!
تململ لسانها لوهلة باحثًا عن رد قوي، لكن عينيها اللتين فشلتا في تفادي وجهه، و تسمرتا على تقاطيعه الجذابة جعلتا لسانها يصاب بالشلل للحظات، قبل أن تتخلص من ذراعه و هي تعلق بعصبية لم تخلُ من الٱنوثة:
“ٱفٍ دارك! ما هذا التعقيد؟ لماذا لا تمنح ردودًا بسيطة كأي شخص طبيعي؟!”.
5
و لسبب ما، توقعت جوابه قبل أن ينطقه:
“لأنني لستُ شخصًا طبيعيًّا يا هجينتي!”.
5
حين سارت في مقدمته نحو الدرج الملتوي لأعلى، فكرت بتوتر أنه سيحملها بنفسه إلى غرفة النوم و يفتكَّ حقوقه الزوجية هذه المرة، لذا تسلقت الدرجات بحذر، مصغية لكل خطوة خلفها، إلا أن دارك تصرف بشكل عادي إلى حد الغرابة، و ما إن أصبحا داخل الغرفة، انشغل بانتزاع قميصه تاركًا البنطال الخفيف القطني الذي لا يزعجه أثناء النوم، ممتنعا عن النظر باتجاهها، كأنه يقول لها دون كلمات: «تفضلي النمط الذي تريدينه، رجلٌ يكبح عينيه و جسده فقط كي لا تنظري إليه كمسخ!».
5
استلقى دارك بهدوء على جهته من الفراش، و خفف الإنارة الجانبية قدر الإمكان، ليس ليحظى بنوم عميق، بل ليوفر لها مسرحًا معتمًا تستطيع التجرد فيه من الكيمونو الطويل دون خجل من عينيه، لكن روكسان فكرت أنه يسعى لعيش ليلة جامحة في قلب العتمة، لقد سمعت من قبل أن بعض الرجال يفضلون ممارسة الحب في الظلام، لأنه -و كما يزعمون- يوسع آفاق خيالهم و يمنحهم نشوة أفضل من تلك يحصلون عليها تحت إضاءة كاشفة!
8
طردت تلك الفكرة من رأسها بقسوة، نزعت الكيمونو، و استعجلت نفسها كي تستلقي على جهتها من الفراش محاذرة أي احتكاك بينهما، لكن و بسبب الظلام و النور الشحيح، لم تتبين ذراعه التي كانت مبسوطة على وساطتها، فما إن تمددت حتى أطبق على عنقها، و انقلب جاعلاً ذراعه الٱخرى تحاصر صدرها من الأعلى، مرخيا جانبا من رأسه على كتفها، مما جعل أنفاسه الحارة تضرب عنقها و جيدها، كما تضرب الأمواج المتهادية صخور المحيط المتعجرفة! تسابقت الدماء تحت جلدها، و تدفقت نحو عقلها أعنف الأفكار و أكثرها توحشا و دموية، سيفعل بها هذا و ذاك حتما، لكن الصدمة أن دارك كان يبحث فقط عن صدر حنون يُسند إليه رأسه المثقل بالسواد و الفوضى!
8
همس فجأة و هو يقاوم النعاس الذي أوشك على حمله بعيدًا:
“إسترخي يا مصيبتي العزيزة، يوما ما سنبتكر معا جدولاً للجنس، لكن ليس الآن، ليس و أنتِ متشنجة هكذا!”.
18
تذكرت عبارة قالها ليلة الزفاف، عبارة وعد فيها بأن يفوز بقلبها قبل جسدها، هدأت أنفاسها المسموعة تدريجيا، و أغمضت عينيها مستسلمة مثله للنوم!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
3
اليوم التالي…
كانت السماء فوق لاس فيغاس رمادية كقلوبهم، و الهواء ثقيلٌ، و نشيج البعض هنا و هناك متاخمٌ بمرارة الفقد. وقف الجميع حول تابوت يوري، الرجل الذي أحسن تربية روما، و الذي أُغلق عليه الصندوق الخشبي إلى الأبد.
نظرت روما إلى تلك الحفرة المظلمة، رأتها ندبة غائرة لن تندمل، كأنما هي فوهة في صدر الذاكرة، و مضت لحظات فقط حتى ٱنزل تابوت يوري إلى تلك الحفرة، و وُريَ التراب، و رحل الجسد كما رحلت الروح! انهارت روما فوق قبره رغم كل محاولاتها للصمود، صرخت دون صوت، و تهاوت دموعها على الخشب كصلوات معطلة.
5
و من جهته، كان شقيقها كِيان السند المثالي، صحيح أنه بكى يوري دون دموع، و ودعه بقلبه قبل عينيه، لكنه لم يستطع إخفاء العلاقة الوطيدة التي جمعتهما طيلة سنوات. قرر حضور الجنازة في بزة الشرطة، لتكون تلك طريقته في توديع أقرب الناس له، إذ كان يوري أول شخص شجعه على الإلتحاق بسلك الشرطة!
1
وضع يده على كتف شقيقته الصغرى مُربتا برقة، و ذكرها أنه موجود، يقف هناك خلفها حتى يلفظ آخر نفس!
و في اللحظة نفسها كان مايلس خلفهما، يمني نفسه بفرصة ليحتضنها مواسيا، لكن كيف يمكنه أن يواسيها و هو السبب الأول في مصابها العظيم؟ تراجع فجأة مقررا أنه لن يستطيع مواجهتها و النظر داخل عينيها و النطق بعزاء الأب الذي قتله بيديه!
5
لكن و بينما هو يستدير مغادرًا المقبرة، كأنما روما شعرت بوجوده في مكان ما بالقرب منها، إذ التفتت و رددت إسمه بعفوية:
“مايلس!”.
توقف مغمضا عينيه، في حين كانت هي تلعن لسانها، و تذكر نفسها بأنها لا يجب أن تراه فتى السباق اللطيف كما تعودت!
1
أيقن مايلس أن أوان الرحيل قد فات، التفت ببطء ناظرا ناحيتها، لكنه لم يقترب منها، و لم ينطق ببنت شفة، اتخذت روما الخطوات بنفسها إليه، و إستدار رأس كِيان ملاحقا خط سيرها، ليضيق عينيه فجأة و هو يدرس الفتى الذي تحدثه، شعر أنه رآه من قبل، لكنه لم يتقصى الأمر أكثر، إذ دنا منه القس يسأله عن أمور مهمة تخص الراحل!
عينا روما المتورمتان قالتا كل شيء، لكنها تمتمت بصوت ميت:
“إلى أين؟ ألستَ صديقي؟ ألستَ من يجب أن يواسيني الآن؟”.
1
أرغم نفسه على الاقتراب، عانقها للحظات شاعرًا أن كل ما يستند عليه جسده بدأ بالإنهيار، يده المرتجفة مسحت على ظهرها، لكنه لم يستطع النطق بأي حرف من الحقيقة المروعة. في تلك الأثناء كانت روما تضمه إلى صدرها بقوة، و كان كِيان قد فرغ من حديثه مع القس، و عاد بنظره إلى شقيقته، و سرعان ما برقت عيناه، و قست شفتاه، تذكر حديثه مع روما أمس، قالت بكل وضوح و ألم أنها ستسلمه قاتل يوري في المقبرة، قالتها و هي تذرف الدموع تباعًا لأنها في أعمق نقطة منها لا تريد زج مايلس في السجن:
2
“أنا سٱعانقه، و أنتَ ستمنح رجالكَ الإشارة كي يقتحموا المقبرة و يحاصروه!”.
11
تمتم كِيان بشيء ما قرب جهاز الإرسال خاصته، في الوقت الذي حسم مايلس قراره، و منحه نبضها المتسارع القوة الكافية كي يعترف بفعلته، و يفسر لها دوافعه! لكن لسوء حظه، انقلب المشهد العاطفي إلى فوضى عارمة، كشَّرت العجلات و دوت الصافرات حول أسوار المقبرة، ليتحرر مايلس من أحضان روما، و يجد نفسه عالقًا في حلقة مغلقة من رجال الشرطة المدججين بالأسلحة!
3
فهم مايلس ما حيكَ له في الخفاء، لقد خانته، حكمت عليه دون أن تقيم له محاكمة منصفة! إنه لا يخسر حريته فقط؛ بل يتلاشى… في عينيها، و في أسوء مشهد قد يمر على حياة رجل بدأ يكتشف الحب!
1
حذره كِيان الذي أشهر مسدسه و الأصفاد من مقاومة الشرطة و محاولة الفرار، لكن مايلس لم يقاوم، و لم يملك نية الفرار من شيء سوى من طلقةت الإتهام و الخذلان التي أمطرته بها تظراتها!
إحتفظ بقصته لنفسه، سقطت يداه على جانبيه فاقدًا كل رغبة في الشرح و التبرير، و إنساق مع ما يجري! و في خلفية المشهد، كانت مايڤا تراقب تلك المهزلة بغليان! قبل أن تطلق شتيمة من بين أسنانها:
3
«اللعنة! اللعنة!»
سحبت مسدسها، و ترجّلت من سيارتها عازمة على التدخل، لن تترك مايلس بين يدي ذلك الشرطي الوغد! غمغمت لنفسها عاقدة حاجبيها ناقلة أول رصاصة إلى بيت النار:
«سيظل رجال الشرطة أوغادًا، و مايڤا لا تحب الأوغاد!».
11
آنذاك تقدمت سيدة آسيوية، غريبة، فارعة القامة، ترتدي طقمًا كلاسيكيًا صارمًا، عقدت شعرها الأسود خلف عنقها، وأخفت عينيها بنظارات داكنة. وقفت بمحاذاة روما التي لم تستطع النظر إلى مايلس المصفد، و انحنت على كتفها هامسة بصوت متلاعب:
“فعلتِ الصواب، يوري سيكون فخورًا بك، لكن فخره سيتعاظم لو حققتِ أمنيته!”.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)