رواية لحن الأصفاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم أسماء
البارت الخامس عشر (الثُّقب الأسود!)
❞في عالم بهذه البشاعة…
إما أن يدفعوك لقتل نفسكَ أو لقتلهم
و في كلتا الحالتين ستفقد براءتك!❝
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس|منزل إدريك
سكبت له الخادمة فنجان بالقهوة السوداء، لكنه تجاوزها ببصره ينظر إلى مقعد سيريا الشاغر، و سأل بتجهم:
“لماذا لم تنزل بعد؟”.
أيقنت الخادمة أنه يقصد إبنته المتبناة فأجابت منشغلة بسكب العصير له:
“هل تريد أن أوقظها سيدي؟”.
“كلا!”.
رفض العصير بحركة من يده، و إزدرد القهوة المرة بعصبية دفعة واحدة، فأحرق حلقه و شفتيه، لكنه ضرب بكل ذلك عرض الحائط، و صرف الخادمة متسلقا السلالم لطابق غرف النوم، توقف للحظات أمام غرفتها، وضع يده على المقبض، فكر في أي المشاهد التي سيجدها خلف الباب، تخيل ألف صورة في عقله، لكنه سخط و لعن ما إن ألقى نظرة و لم يجد لها أثرًا هناك، سريرها مرتب و فارغ، كأنها لم تستعمله منذ أمس، و الفوضى التي كانت تصيب ثيابها و أغراضها لم يكن لها وجود أيضا، إستغرب حالة الغرفة الهادئة إلى حد ما، لكنه إفترض أنها داخل الحمام، أو لعلها عصت أوامره مجددا و قصدت مكانًا ما دون إستئذانه أو ترك خبر له حتى!
1
خطا صوب الحمام ليطرق و يتأكد من وجودها هناك، لكن رنين هاتفه جعله يتراجع خارج الغرفة!
“نعم دارك! الآن؟ … الذهاب إلى الويد الآن فيه مجازفة بحياتك! … حسنا… ما المطلوب مني؟ ماذا؟ … لن يكون هذا القرار في صالح أحد! أستطيع إحضاره في أي وقت تريد… لكن هل تستطيع أنت إحضار روكسان طواعية؟”.
أغلق إدريك الخط و هو يتساءل كيف أقنع دارك روكسان على الذهاب بقدميها إلى المنظمة؟ أغمد هاتفه في جيب سترته، و نزل السلالم بتؤدة، كان يخطط للذهاب إلى المستشفى التي يعمل بها كدكتور مرموق عادي، لكن بعد إتصال دارك، غير وجهته لمستشفى ٱخرى يظن العلويون أنها خرجت عن الخدمة منذ زمن بعد نشوب حريق غامض فيها، لكنها ظلت بشكل سري تعمل تحت راية المافيا و بتمويل من الميغا، و تسمى في عالمهم الأسود سوق الجثث، أين تُعامل جثث البشر هناك بناء على الأعضاء السليمة لديها، لا يهم إسم الجثة أو نفوذها أو أصلها أو سنها أو لون بشرتها… بقدر ما تهم سلامة أعضائها الحيوية!
تصل إلى هناك جثث ضحايا السفاحين، ليتم إستغلالها في بيع الأعضاء السليمة بمبالغ خيالية، و الجثث التي لا تصلح لشيء تُشرَّحُ و تُحنَّطُ و توضع في متحف خاص بقبو المستشفى لهدف تدريب السفاحين الجدد على إمتلاك قلوب ميتة تتحمل النظر إليها دون فزع!لكن إدريك حين مضى في تنفيذ رغبة دارك، و أجرى إتصالا بمدير تلك المستشفى بينما يمتطي سيارته، سمع آخر شيء توقع سماعه في حياته!
1
“دكتور ريدوود!”.
“سأضحي بأضراسي لأعرف سبب إتصال إدريك العظيم بي!”.
“ستذهب بعد وقت وجيز للويد و هناك إسأل دارك، لأنه السبب!”.
ثبت إدريك الحزام، و أصغى لتعقيب ريدوود:
“حقا؟ غريب! لم أره مُذ كان صبيًّا عنيدًا!”.
صمت قليلاً و تابع مستغربا:
“إنها المرة الأولى التي يبدي فيها ريغان إهتماما بي! في آخر لقاء لنا نعتني بجزار البشر، ثم أصبح أسوء مني!”.
ظل إدريك على الخط بصمت، يتابع الطريق بتركيز، و بدا أن حركة ما صدرت حول ريدوود، كأن أحدهم دلف مكتبه، و عرض عليه ملفًّا، فإستطرد بجفاف مخاطبًا مساعدته:
“عظيم! هذا سيكسب المستشفى ثروة، لم يسبق أن قام أحدهم بهذا من قبل، لكنني لن أتوانى عن إستغلال الفرصة!”.
عاد بخطابه لإدريك مضيفًا:
“لو لم أكن أخشى أن يحولني دارك لجثة غير صالحة حتى للدفن، لتجاهلتُ دعوته لي اليوم، و لركزتُ فقط على الهدية التي تلقتها المستشفى منذ الصباح!”.
سأل إدريك بشكل عام:
“أي نوع من الهدايا، صناديق كِلى… مثلاً؟”.
“بل جسد متكامل… سليم… و حي يُرزق! يا لها من فتاة! أتعرف أفكر في مضاجعتها قبل تشريحها! أفترضُ أنها وجدت التخلي عن جسدها الجذاب نوعا جيدا من الإنتحار، لقد منحت جسدها و روحها للمستشفى دون مقابل!”.
4
عقد إدريك حاجبيه يستغرب ذلك، فلم يسمع من قبل عن شخص يتخلى عن جسده بالكامل، من المجنونة التي يمكنها فعل ذلك، و لماذا؟ و كيف تعرف عن سوق الجثث تلك؟ هل أرسلتها الميغا؟ هل إرتكبت ذنبا فقرروا لها تلك العقوبة؟ و ما هي إلا ثوانٍ حتى أعاده صوت ريدوود إلى الواقع و هو يعلن بصوت أجش:
5
“سأرسل لك صورها التي ٱلتقطت لها منذ قليل قبل إجراء العملية! من يدري؟ ربما تحب أخذ بعض أعضائها و بيعها بأثمان أغلى في السوق السوداء! أنت دكتور شهير و مرموق سأحدد سعرًا مناسبًا من أجلك!”.
2
كان كل شيء على ما يُرام بالنسبة لإدريك، مثل تلك المحادثة تجري على مسمعه كل يوم دون أن تبدو غريبة أو شاذة، إنهم يعيشو في أقسى عوالم الكون، و قد تعودوا الآن، و لم يعد يزعجهم! لكن لسبب ما إشمأز و إستعجله كي يتجه حالاً إلى الويد!
أنهى إدريك المخابرة بضجر، فآخر ما يريده آنذاك النظر لصور فتاة ستوزع جسدها على أفواه المسوخ، لكن حدسًا غريبًا ألح عليه كي يلقي نظرة على هاتفه، ففتحه ثانية، و ضغط على ملف وصله توا، ليجد نفسه و بصدمة عنيفة… ينظر لصور سيريا!! أجل! سيريا مدللته العنيدة لا غير! صورها و هي عارية تماما، تقف أمام جدار أبيض حاملة رقم جثتها، تستعد لولوج زنزانة الموت، كمجرمة تحمل رقمها التسلسلي لولوج السجن، و ليس على وجهها سوى الجمود و الشحوب، أوقف السيارة بفرملة حادة، و عاد يقلب الصور رافضا تصديق ما بين يديه، ما الذي تفعله هناك؟ ما الذي ساقها إلى هذا الحد من الجنون؟! إلى أين أخذت نفسها؟ و كيف تقرر ببساطة الرحيل… و هكذا؟ نظر لكل إنش منها بسخط، شعر بإنقباض مميت في صدره، كأن أحدهم كان يخلع ضلوعه من مكانها، كأن شيئًا هائلاً ينهار داخله، كف عن التفكير، عاود الإنطلاق بأقصى سرعة مستأنفا طريق للمستشفى اللعينة، إلتهم المسافات بعجلاته، و قبضتاه تلكمان المقود تارة بتارة، حاول الإتصال مجددا بريدوود، على أن الرنين خاب و لم يكن له مجيب في الطرف الآخر! أخذ يوسع من ربطة عنقه شاعرا بالتعرق و الإختناق، إنتباته نوبة ضيق في التنفس، و إزداد إنقباض صدره إلى درجة أنه شعر و كأنها ذبحة خطيرة هاجمت صدره و ستودي بحياته، لكنه صمم على المواكبة حتى لا يضيع ثانية واحدة تعادل فرصة نجاتها من ذلك الإنتحار الأحمق، كانت قيادته غير متزنة، و مع ذلك لم يتوقف، و لم يبطئ، كان يقود و هو يبحث عن أنفاسه، يؤكد لنفسه أنه سيصل قبل فوات الأوان، و سيجدها سالمة، يدعو السماء أن لا تسبق بترك هذا العالم! كل ما رآه يشير إلى أنها سالمة، أجل، كانت تقف عارية و جاهزة للعملية اللعينة… لكن… سالمة لا أذى بها! إلا إذا… إلا… إذا… كز على أسنانه يأمل أن يكون مخطئا للمرة الأولى بتخميناته، و يقسم في اللحظة نفسها بأنه سيكون آخر أيام ريدوود إن تجرأ على لمس سيريا!
5
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
10
نيڤادا|كوخ الصخور
ثوبٌ أسودٌ ذو خامة قطنية ناعمة، إلتصق على ثنيات جسدها حين إنزلقت داخله روكسان، لم تسأل عن لونه، و لا مما صُنِع، و لا فكرت حتى كيف ستبدو به، قبلته بصمت، و مضت تتنفس بلهاث مسموع و هي تشعر برؤوس أصابع دارك تلامس ظهرها بخفة بينما يغلق السحاب، كأنما كانت تلك الأصابع القوية تجسُّ نعومة جلدها الرقيق و تتقفى دبيب الحياة في شرايينها حين بلغ حدود الرقبة!
ترك هناك رشة من عطره الرجولي القوي، و همس لها بينما يسرح شعرها بمشطه الخاص:
“قُبَّةُ هذا الثوب مرتفعة و لا تكشفُ شيئًا، لكن حتى مع أكثر الثياب سِترًا يمكنني رؤية الكثير!”.
1
أغمض عينيه و أضاف مستنشقًا ما فاح به عنقها:
1
“أصبحت لنا الرائحة نفسها!”.
لوهلة إرتعشت روكسان، و راق لها ما تسمعه، لقد قررت أن تتعمق داخل هذا الرجل، ربما لا زالت تراه ذلك المجرم الأهوج الذي كان يمتعه أن يشاهد عذابها بين يديه لأسباب مريضة، لكن للجميع فرصة واحدة على الأقل للتغير، أليس دارك ريغان واحدًا من الجميع أيضا؟ ألا تحق له فرصة إثبات إنسانيته التي طمسها سواد الإجرام؟ لقد نشأت رغم حياة مارغو المائعة على مبادئ دينية صارمة، حفظت جسدها طوال عشرين سنة من القذارة و العار، و أبقت روحها و عقلها طاهرين، كان الأب لوثر يردد دائما أن للجميع نزعة خير فطرية، و مهما تراكمت خطاياهم فلهم حقٌ في طلب المغفرة أمام الرب، لكن منح المغفرة البشرية يتطلب قلبًا قويًّا مشبوبًا بالسماحة، و هؤلاء نادرون حقا!
و بسبب فلسفتها الكنسية تلك، تعودت روكسان على غفر أي ذنب يُرتكب في حقها، طالما يبدي المخطئ نية في الإعتذار و تسوية ما إقترفه، لكن الوضع معقد هنا، بما أن دارك ريغان لم يعتذر حتى الآن بصراحة، و لم يبدي نية في التغير أيضا، فهي الٱخرى لن تمنحه الغفران بتلك السهولة، و لا بذلك الوضوح، لكنها ستمنحه فرصة إكتشافها و إكتشافه، و سحبها لعالمه الداكن، و هي تعرف أن خطوة كهذه تتطلب قلبًا قويًّا كقلبها تماما!
إمتنع دارك عن إضافة أية لمسة زينة على شكلها، القلائد و الخواتم لا معنى لها على جسد إختصر كل الجمال، دس قدميها في حذاء ذو كعب عالٍ متعمدا، فقد أيقن بفطنته أن آخر ما قد تفضله فتاة عمياء هو الكعوب العالية، و خوفها من إختلال توازنها خلال سيرها إلى جانيه سيجبرها على الإمساك بذراعه طوال الوقت، و هذا يروقه بشدة!
4
“إليكِ هذه القواعد…”.
أصغت له بإنتباه شديد و هو يثبت قبعة رياضية سوداء على قمة رأسها، ثم يضع نظارات شمسية قاتمة و عريضة على عينيها، و تابع قوله بينما يترك خصلات شعرها على جانبي وجهها ليخفي من معالمه الكثير:
“لا تفلتي يدي إلا إذا قلتُ لكِ ذلك!”.
أحاط معصمها بساعة مصممة خِصِّيصًا للكفيفين، بحيث تستطيع أناملها تحديد الوقت من مجرد لمسة، و أضاف منتقلاً لتلميع حذائها الأسود بتفانٍ:
“لا تفتحي فمكِ إلا لمخاطبتي أنا!”.
1
سحبت أنفاسها بقوة تصغي للقاعدة الأخيرة:
“و لا تتصرفي بذعر مهما سمعتِ!”.
توقع أن يبدأ ذعرها و قلقها من الآن، و أن تقول مثلاً: «أوه! و ما الذي سيحدث هناك ليثير ذعري؟» لكن روكسان فاجأته بسؤال دقيق غير مجرى الحوار:
“لماذا تلمِّعُ حذاء رهينتك بنفسك دارك ريغان؟ لماذا يهمك إلى هذا الحد أن أبدو في أبهى طلة و أنا ألجُ منظمة القتلة تلك؟!”.
رفع رأسه معلنًا عن إنتهاء مرحلة التلميع، و أجابها بنبرة تحاكي غروره الشهير:
“لأنكِ تخصِّينني، و يجب أن يكون كل ما يخصُّني مثاليًّا!”.
6
ساقها خارج الغرفة بعدما تأكد أنها جاهزة، قبض على يدها بتملك، و دفع أصابعه لتتغلغل في فراغات يدها، و مرة ٱخرى شعرت روكسان بشيء ناعم على معصمه يحتكُّ بجلدها في تماس طفيف بين فينة و ٱخرى، لكنها لم تستطع التأكد من حقيقة ما يلفه حول ذلك المعصم، ثم إن عقلها ظل شبه مشلول إثر جوابه!
يا له من سفاح مريض! حتى رهينته لا يقبل أن تظهر بأقل مما يليق به شخصيا، و لكن من هو دارك ريغان بالأساس؟ و لماذا يخطو بتلك الثقة نحو المنظمة التي قد تكون محطته الأخيرة؟ لقد قال بلسانه أن عشائر المافيا تريد رأسه، و أن سفاحي الويد لن يجرؤوا على لمسه، لكنهم مقابل مبالغ دسمة أو ترقية ما… قد يبيعون خبر ظهوره في المنظمة مجددا بمثل سهولة حك رؤوسهم!
سارا معا نحو باب الخروج، وقفا على مصطبة الكوخ الخارجية، و بينما كان بيده الحرة يدير المفتاح في قفله و يعاود غلق الباب، إنطلق نباحٌ حادٌّ خلفهما، فدوت صرخة روكسان، و دون وعي منها، إلتصقت بصدره فزِعة!
“هذه لايكا!”.
1
تذكرت كلبته التي يبقيها خارج الكوخ أغلب الأوقات، و وعت للطريقة التي تمسك بها قميصه كأن صدره هو موطن كل أمان في العالم، فأجلت حنجرتها تفلته، و تنفست الصعداء متسائلة:
“ظننتُها كلبة هادئة، لماذا علا نباحها بهذا الشكل المفاجئ؟”.
“لأنها تمقت البقاء وحدها!”.
تمهل قليلاً يجيل بصره هنا و هناك، ليضمن عدم وجود رقابة ما، ثم إستطرد بسخرية كأنه كان يبتسم:
“هل تخافين الكلاب يا روكسان؟”.
في البداية أرادت تجاهل السؤال، لكن لسانها تمرد عليها، و قال بعفوية:
“ربما أحذرُها فقط!”.
تمتم يهزُّ رأسه ببطء و هو يداعب عنق الكلبة:
“الحذر وجهٌ آخرٌ للذكاء!”.
دفع دارك لايكا نحو كشكها الصغير الذي تعيش به قرب الكوخ، و حين تأكد أن معها ما يكفيها من طعام و شراب، واصل مساره رفقة روكسان نحو سيارته المركونة في ظل الصخور العملاقة المحيطة بالكوخ، فيما مشت روكسان بخطى متوازنة و قامة ممشوقة أدهشته!
فزم شفتيه معلقا حين إتخذت مكانها داخل السيارة قربه:
“تجيدين السير بالكعب!”.
“العزف في خلفية الزيجات و التأبينات و الجنائز له كل الفضل، الٱسقفية تشترط على العازفين و فرق الأكابيلا أزياء مناسبة للأحداث التي تشهدها الكنيسة، و الكعوب العالية جزء مهم من كل زي جربته هناك!”.
بدا دارك مهتما جدا بخبايا ماضيها، فسأل ثانيةً و هو يعلن إنطلاقه تاركًا خلف سيارته زوبعة ذهبية من الرمال:
“من كان يحضرُ لكِ تلك الأزياء؟”.
“كايت تتدبُّرها ببراعة، و بتسعيرات مرضية أيضا!”.
“كايت؟!”.
عقد حاجبيه مستغربًا عدم سماعه إسم غابريال، فيما ظنت هي أنه بالطبع لا يعرف من تكون كايت، لذا أردفت مبتسمة:
“صديقتي المقربة! كانت دائما تجيد إنتقاء ما يناسبني تماما!”.
1
“و من غيرها أيضا كان يفعل؟!”.
1
أردفت مرة ٱخرى بنفس الإبتسامة و لكن مع حزن كامن في عينيها:
“لا أحد!”.
إنتفخ صدره بكمية كبيرة من الهواء المسحوب، و كشَّر معقبا:
“هل تريدين إقناعي بأنكِ لم تتلقي أي شيء من أي شخص آخر غير صديقتك؟!”.
فجأة لم تعد تبتسم، و طال بها الصمت، و باتت تكشيرة دارك أعنف لظنه أنها تفكر بغابريال الوغد دون شك، لكن ما سمعه منها تاليًا جعله يرغب بإيقاف السيارة و مضاجعتها فوق رمال الصحراء حتى تحرقهما الشمس و يجرفهما السراب إلى بُعد آخر!
6
“لم يسبق لأحد قبلكَ أن أهداني أي شيء أو أنفق علي لأظهر بحسن كاليوم! كل ما كنتُ أطلبه من كايت كنتُ أصر على دفع ثمنه في حينه، كبرتُ تحت إسم اللقيطة، أرتدي الثياب المستعملة التي يرسلها لي الجيران، و بقية القطع الجميلة و النفيسة التي تدخل البيت تكون من نصيب عمتي مارغو! لا أحد أراد أن تكون طلَّة روكسان فارغاس مثالية من قبل!”.
3
شعر دارك بالخيلاء لأنه أول من ألبسها قطعًا مميزة و باهظة الثمن، و منح جسدها الفاتن ما يستحقه، و لسبب غريب… بدا له من المريح أن غابريال لم يسبقه في هذا الشأن، لكن عدم تفوقه في شيء ما، لا يعني أن شبحه اللعين لن يبقى مخيما على عقلها!
صرف نظره عن وجهها الحزين، و ألهى نفسه بالقيادة، معلنا في قرارته أن الصحراء تخسر أمام غموض الفتاة التي قربه! بينما مكثت هي ساهمة على الطرف الآخر، تتسلق أتعس أفكارها، و تتأمل غرابة الحياة، لقد كانت مارغو مومسًا معروفة في ذلك الشارع، تبيع جسدها في الحانات و الملاهي لتكسب المال الوفير و فراء الثعالب الأصلية و كععوبًا من أشهر الماركات، و السماء وحدها تعرف كيف حافظت روكسان على طهارتها و شرفها تحت سقف عاهرة مثلها؟! و كيف ظلت طيلة سنواتها العشرين تقدرها و تحترم كونها عمتها، و أملت أن تتطهر من عُهرها و قذارتها يوما ما… و تجد طريقها نحو الرب!
أوقف دارك السيارة بعد دقائق، ساعدها في النزول و يده تتحسَّسُ مسدسًا ثبته على خصره، فلن يستثني تعرضه لأي هجوم محتمل من قبل عشيرة الوحوش، حسنا، ربما ضمن وقوف النمرة البيضاء إيسميراي في صفه، لكن أفراد عائلتها قد يكون لهم موقف مغاير بشأنه، علاوة عن وجود ثلاثة عوائل ٱخرى قد تحرك أوغادها في أية لحظة صوب فيغاس للقضاء عليه و نيل المكافأة العظمى!
وجدت روكسان نفسها تتمسك به رغم براعتها في السير بالكعب، لم يكن الخوف من التعثر سبب ذلك، بل كان الخوف مما ينتظرهما لو حدث هجوم يستهدفه و لم ينجُ هذه المرة! شعر بها دارك تلف ذراعه بيديها الناعمتين، و تتشنج بينما تواكب خطاه باضطراب، فطوق خصرها، و قربها منه أكثر ليزيد ذلك من أمانها و هما يتقدمان صوب مبنى مهجور يتوسط المدينة، و من ذلك المبنى بلغا مكانا مجوفا و باردًا أشبه بالنفق، أين كان عليه حملها بسبب الأرض المقوسة، لينتهي بهما المطاف ينزلان درجا سريا، قبل أن يضعها دارك أرضًا، و يفتح بابًا ثقيلاً من الفولاذ، و خلف ذلك الباب… و كما توقع و خطط… ألفى مايڤا و مايلس و سيفاك بإنتظاره!
7
كان ذلك النفق واحدًا من أهم الممرات بين العالم العلوي و نظيره السفلي، و الأكثر سرية! يُطلق عليه «الثُّقب الأسود»، تتم اللقاءات بين السفاحين فقط هناك، حتى فخامة الميغا لا تعرف عن وجوده، فهو معبرهم الخاص الذي لا يستعملونه إلا في الحالات الطارئة، لكن لا فكرة لدى السفاحين الثلاثة عن سبب إستدعاء دارك لهم اليوم و داخل الثُّقب الأسود تحديدًا؟! كل ما قاله على الهاتف أنه سيعود إلى الويد، لكن من خلال ممر الطوارئ السري، و عليهم إستقباله هو و فتاته هناك!
“هذه هي إذن فتاته؟”.
ها هو ذا سيفاك يهمس في أذن مايلس و هو يضيق عينيه السوداوين و يفركُ شعره الفضي متفحصًا الفتاة التي دخلت خلف دارك إلى تلك الردهة المظلمة و شديدة الوُسع، ليهمس مايلس بدوره متذكرًا رغم القبعة و النظارات إلى أي فتاة ينظر:
“لا أعرف لماذا إستخدم على الهاتف لقب فتاته، لأنني أرى الآن رهينته نفسها التي أقسم على قتلها بيديه العاريتين!”.
“اللعنة يا رجل! بالنظر إليها… أتفهم سبب تغير اللقب من رهينته إلى فتاته!”.
1
علق سيفاك بذلك، و داخله فضول متعاظم حول عيني الفتاة اللتين ظلتا خلف النظارات السوداء، و عكس الشابين… حافظت مايڤا على صمتها، فهي الٱخرى تعرف من هي فتاة ريغان، و ربما لا تخمن ما يخطط له، لكنها تخمن وجود إهتمام قوي في عينيه نحوها!
أما روكسان وسط كل ذلك فكل ما شعرت به هو الرهبة و البرودة، و للحظات ظلت تسمع تردد عدة أصوات مختلفة تتجاذب حوارًا غامضا، و بين تلك الأصوات كان لصوت دارك وقعٌ مختلفٌ و تأثيرٌ خاص!
“أنت لم تستعمل هذا الممر منذ سنوات، لماذا تفعل ذلك الآن؟”.
سأل مايلس بإهتمام متجاهلاً تعليق سيفاك، فعبر وميضٌ رماديٌّ عيني دارك و هو يجيبُ بعجرفة تميزه عن غيره من السفاحين:
“لأننا سنغير مجرى التاريخ!”.
كانت حركة ذكية من دارك إستخدامه ذلك الممر السري، لثقته بأن من يريدون تصفيته لن يفكروا و لو للحظة أنه سيمر من نفس سري تحت الأرض، و سيبلغ المنظمة و يجتمع بزملائه دون أن يصيبه خدش واحد!
ألقى تعليماته بأن تُعامل روكسان كما يُعامل، نظر الثلاثة لبعضهم يستفهمون ذلك، لكنهم لم يملكوا الجرأة للنطق بإستفهاماتهم، و فضلوا أن يسمعوا أكثر مما يحركون ألسنتهم!
و ظلت روكسان إلى جواره، محتفظة بنظاراتها و قبعتها كما أراد، تمتنع عن المشاركة في الحوار الغريب كما حذرها في كوخ الصخور، و لو لم يسمع مايلس صوتها في لقائه السابق بها، لأقسم أنها خرساء! إلى ذلك الحد أطاعت روكسان أوامر دارك، و إلتزمت بتنفيذ قواعده الثلاث، غير أنها إنتظرت لحظة إنفرادها به لتفهم الهدف من وجودها في ذلك المكان البارد، بين هؤلاء القتلة!
أجلسها في زاوية من تلك القاعة الفسيحة، و بفضل لمساتها أدركت أنه إختار لها أريكة من جلد ممتاز و مريح، لكن الصمت الذي حل فجأة لم يكن مريحًا لها، فقد خفتت أصواتهم تدريجيا، بعدما إبتعد بهم دارك إلى الطرف القصي من القاعة، و مضى يملي عليهم أوامر غامضة لم تلتقطها بسبب صوته الخفيض.
إنحنت إلى الأمام كي تصغي بشكل أوضح، مضى الوقت و تلاشت الهمهمات دون أن تميز حرفًا واحدًا، فتنهدت بخفوت، و إنحنت أكثر، لكنها هذه المرة إنزلقت من على الأريكة و أوشكت على السقوط لولا إرتطامها بجسم ما، تلمست الجسم مدركة أنها ساقه، هذه رائحته، و بنطال الجينز هذا يعود له، تنحنح دارك متسليا بالمنظر و هي تحتضن ساقه، شفاهها منفرجة من الدهشة و الترقب، وجنتاها مخضبتان من برودة ذلك المكان السفلي، و أصابعها متصلبة من التوتر، ليعلق متشدقا:
1
“كان يجب رسمنا و نحن بهذا الشكل الحميم، ذكريني أن نجرب هذه الوضعية في وقت لاحق، أما الآن… فلدي ما هو أهم!”.
1
شعرت أن وجهها يحترق بعد تلك الكلمات، إجترت ريقها بغصة فيما كان يتابع في نبرة مريبة:
“علي التغيب لمعالجة شيء!”.
“و ماذا عني؟!”.
تركت الأريكة فورًا متسائلة، فأردف بسرعة أيضا و هو يعيدها لوضعية الجلوس:
“ستنتظرينني هنا!”.
حين تكورت على الأريكة، بدت كطفلة حائرة، يتوالى العالم على صفعها، و مع كل صفعة تختلف اليد الموقعة، تخيل دارك واحدة من الصفعات موقعة بيده، أغنض عينيه ساحقًا خياله، تراجع خطوتين عنها، و وضع أحد كتب البرايل الذي حمله معه بين يديها مُضيفًا:
4
“إقرئي ليمضي الوقت!”.
لم تصدق إنفصام هذا الرجل، حين مررت أناملها على عنوان الكتاب، كيف يعقلُ أن يجعلها تقرأ كتابًا دينيًّا داخل مجزرة بشرية كتلك المنظمة؟ كيف يفترض بها أن تقرأ عن الملائكة وسط الشياطين؟ لم تستطع فهم تناقضه، لكن مع ذلك إبتسمت لأنه رغم شيطنته إستوعب ملائكيتها، و رغم دموية عالمه و رغم كونها عنصرًا شاذًّا فيه، إلا أنه حافظ على تميُّزها هناك، كبقعة ضوء على مسرح مظلم، تبدو دخيلة، و بحيز ضيق، لكنها تسرق الأنظار، و تفرض على الكل الإنحناء و التصفيق لها!
2
كان تصرفه بكل الأحوال تهوينًا لبشاعة عالمه على عقلها النقي و روحها الغضَّة، فالمرء يُقاس بإنسانيته، و الإنسانية تولد من إستيعاب أحدنا للآخر، و في هذه الحال… دارك ريغان لديه نوع خاص من الإنسانية، ذلك القاتل المجنون… إنسان جميل و لو تحرك لسانه بألف إنكار! و شخص يملكُ قلبًا قويًّا فقط يمكنه الشعور بتلك الإنسانية الجميلة و القبض عليها بين موقف و آخر!
قبل أن تفتح الصفحة الأولى من الكتاب، و قبل أن يغادر لمعالجة أمره الطارئ، إستوقفته و وجهت إليه طلبًا بدا أشبه بٱمنية أخيرة قبل الموت:
“حين نغادر المنظمة… هل لي بزيارة قصيرة؟”.
“إلى الكنيسة؟!”.
“كلا، إلى مكان آخر!”.
صرف دارك أسنانه واثقًا من سماع شيء لن يعجبه، في حين أضافت روكسان بأمل غريب يحدو عينيها:
“إلى صديق مهم!”.
لم يكن بحاجة لإسم محدد كي يدرك أنها تشير إلى غابريال، النظر لوجهها المتورد يكفي، أهذا ما تريده بعد كل ما فعله لتبدو إنعكاسا له؟ أفكار جنونية عصفت بعقله حينها، تقبيلها بعنف حتى يمزق شفتيها مثلاً، أو تمزيق غابريال هنا في المكان نفسه، لكن شيئًا غامضًا منعه من تمزيق تلك النظرة البلهاء على وجهها، أيقن أنها فيما يخص ٱستاذ الموسيقى ذاك… عمياء الروح و الجسد! و لسبب لم يعِ كنهه كره أن يكسر ذلك العمى الآن، ليس في صالح خطته بأية حال أن يكدرها في هذه اللحظة بالذات!
1
“دارك! ألا زلتَ هنا؟”.
“أنا معكِ يا ورطة العمر!”.
11
إبتسمت لا شعوريا لإبتكاره لقبًا جديدًا لها، و أردفت رافعة حاجبيها:
“هل أستطيع زيارته بعد خروجنا من هنا؟”.
قاوم نفسه حتى لا يكسر كل شيء حولهما، و لم يصدق صوته و هو يردد بخشونة:
“إذا كانت هذه ٱمنيتكِ… فسآخذكِ لزيارة أي شخص تريدين!”.
هي الٱخرى عجزت عن تصديق ذلك، هل خاطفها نفسه المتحدث أم أن حاسة سمعها تخدعها؟! لمعت عينياها المحفوفتان بالأهداب الكثيفة معلقة:
“هل أعتبرُ هذا وعدًا؟!”.
دفع ذقنه للأمام يأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يردف بعبارة ستخلدُ في عقلها للأبد:
“الذكور يمنحون الوعود، الرجال فقط من يمنحون الأفعال!”.
19
النبضة التي أحست بها لم تكن عادية، كانت هزة قلبية دون شك، كانت شيئًا لا يمكنها تفسيره، بللت شفتيها بطرف لسانها، و هي تسأله للمرة الأخيرة قبل أن يفتح باب القاعة و يختفي:
“لو لم أكن إبنة داجيو، هل كانت نظرتُكَ لي ستتغير؟”.
شعر دارك أنه محاصر، أنها أقحمته في زاوية ضيقة و خنقته، أنه يحارب ضد نفسه، كيف يخبرها أن نظرته بدأت تتغير مع أنها إبنة ذلك اللعين؟ كيف يخبر نفسه بذلك وجهًا لوجه؟ دارك الذي تعود على البوح برأيه في وجه أي كان أحب من أحب و كره من كره… يجد صعوبة الآن في البوح برأيه عنها حتى لنفسه!
ضاقت شفتاها مفكرة أنه تركها و غادر، لكنها سمعته يقول ببرود بعد صمت طويل:
“لن أتأخر… دقائق و أعود!”.
توالت الدقائق ببطء، تحسستها على ساعتها الجديدة دقيقة تلو الٱخرى، و قلبت معظم صفحات الكتاب دون أن تقرأ شيئًا، كأنه حين غادر القاعة أخذ بمعيته جزءً كبيرًا منها، بدأت تقلق من غيابه الغامض، بدأت تفكر جديا في سبب وجودها هناك، ماذا أراد دارك منذ البداية؟ العذاب، الأسى، و الموت البطيء، هل تغير فعلا؟ أم أنه فقط خدعها بلطفه المزيف و جاء بها إلى وكر الثعبان نفسه… لتكون اللدغة أقوى؟! سحبت هواءً كافيا لتتخلص من تلك الوساوس، و صلت أن تظل في حماية في الرب، فحدسها القوي يؤكد لها بأن لحظة موتها لم تحن بعد، و شخص نقي مثلها لا يستحق نهاية بشعة، لا يستحقها! صحيح؟
كانت تبحث في شأن تلك الفكرة و هي تتمشى وسط القاعة لتشيع في جسدها بعض الدفء، حين إنبعث ضجيج إنفتاح الباب مجددًا، و ترددت من خلفها خطوات بطيئة و متناغمة، وقعها عريض، توحي بأن صاحبها قوي البنية و ثقيل الوزن، إرتعش قلبها بعنف، و رقص أنفها ملتقطًا رائحة رجولية نافذة، و قبل أن تلتفت نحو القادم، وخزة حادة أصابت مؤخرة عنقها بشكل مفاجئ، شلت حركتها فورًا، سقطت دون مقاومة، إلتقطتها يداه، أبعد الخصلات القاتمة عن وجهها، تنفس بالقرب من شفتيها و أنفها فميزت بصمة تلك الأنفاس، كانت الأنفاس تشبه أنفاسها المتباطئة، و كانت الرائحة الرجولية التي تنبع منه هي نفسها التي تحملها،و تأكدت شكوكها حين سمعت الشخص الذي خدرها و هي تفقد وعيها تدريجيا:
1
“آسف من أجل هذا يا مصيبتي!”.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)