رواية لحن الأصفاد الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم أسماء
البارت الحادي والعشرون (نبيذ للأبالِسة!)
فيلا الداركسان|نقطة ضوء في ٱفق الظُّلمة…
3
خلعت روكسان زوجي الكعب شاعرة بألم طفيف في أصابعها الممشوقة، و جلست قبالة المرآة ترمشُ ببطء و تتنهَّدُ بأنفاس غير مسموعة، لم تتعوَّد بعد على الأحذية العالية، نظرت من تحت جفنيها المُسدلين إلى دارك و هو يلقي بسترته و ربطة عنقِه على طرف السرير بينما يرمقها هو الآخر من تحت أهدابه الكثيفة، ثم يخلع حذاءه الأنيق أيضًا، و يلجُ الحمام، أخذت نفسًا عميقًا حين إختفى من مسرح بصرها، و باشرت بإزالة مساحيق الزينة عن بشرتها الناعمة، ليصل إلى سمعها صوت رقرقة المياه داخل الحمام.
تجردت من فستانها البُني، ثم وقفت بقطعتي الثياب الداخليتين فقط أمام خزانة ملأى بالقطع الفاخرة، حتى عجزت عن إختيار قطعة ملائمة لعروس تتحضَّر كي تنام…
نظرت ناحية الحمام بعينيها الواسعتين كأنها داخل حلم غامض، و همست لنفسها:
«تصرفي كعروس… أنتِ عروسٌ لدارك… عروس حقيقية!».
6
إزدردت ريقها، و مرَّرت يدها تتلمَّسُ بأطراف أصابعها خامات أثواب النوم الحريرية المعلقة لفائدتها، لتهمس مجددًا بصوت يرتعش:
«عروسٌ تتحضَّر كي تنام قربَ زوجها!».
ملمسُ الحرير الناعم… و بكل غرابة ممكنة… جرف نحوها ذكرى ملمس ذقنه الخشن و صدره الصلب، شعرت بكهرباء تصعق جسدها، فإتسعت مقلتاها و هي ترتدُّ ساحبةً يدها، و تتراجع إلى الخلف!
تنفست هذه المرة بصوت مسموع، و هسهست مخاطبة نفسها:
«الوقت باكر، أجل! لا ضرورة لحدوث هذا الليلة، سيحدث حتما، لكن ليس الآن، أنتِ لستِ مستعدة! لا تستعجلي روكسان!».
2
إلتفتت نحو المرآة، و عاتبت نفسها بهمس محاذرة أن يسمعها دارك:
«و ما أدراكِ أنكِ غير مستعدة؟ لقد تزوجتِ هذا الرجل بكامل إرادتكِ، و الآن تهربين من واجباتكِ الزوجية كفأرة جبانة! عظيم! هل أنتِ حقا روكسان التي تحدَّت السفَّاح طيلة أشهر؟! ماذا يحدث لكِ؟ الأمر بسيط… في غاية البساطة!».
8
دنت ثانيةً من الخزانة، و تناولت ثوب نوم بلونه المفضل، الأسود، و بينما تدس جسدها داخله تاركة خامته الحريريَّة تنزلِق بنعومة على جلدها الرقيق، كانت تردِّدُ بإرتعاش أقل في صوتِها و مرح محسوس في نبرتها:
«لإبادة الظُّلمة؛ على الفجرِ أن يبدأ من نقطة ضوء صغيرة؛ عليكِ البدء من نقطة ما يا روكسان!».
لفَّت نفسها بروب الثوب، و عقدت حزامه حول خصرها، و قبل أن ينتهي دارك من حمامه، سارعت بمغادرة الغرفة و نزلت الدرج بلهفة، كانت الفكرة التي خطرت لها تستحق العناء، لعلها نقطة ممتازة لتبدأ منها!
أمضى دارك قرابة العشرين دقيقة تحت المياه المنسابة بإسترسال، البخار المتصاعد بسبب حرارتها جعل جلد جسده يحمرُّ، و غلَّف الزجاج الفاصل بين الحوض و الجزء الثاني من الحمام بطبقة كثيفة من الضَّباب، هاجمته ذكريات طفولته بعنف مرة ٱخرى، قاومها بجهاد مرير، و فرَّ منها بخياله إلى غزالته الهيفاء، فتح عينيه رغم إسترسال تساقط المياه بقوة أعلى رأسه، و لوهلة إعتراه شعور بالحاجة للخروج و الإرتماء بين أحضانها، و أخذ أنفاس طويلة مشبعة برائحتها، لكن نفس اللحظة حملت شعورًا لعينًا بالحاجة للبقاء هناك، قيد الضباب الذي يمكنه حجب كل شيء إلا ندوب روحه… و رقرقة المياه التي يأمل أن يعلو هديرها فوق صوت ضجيج عقله؛ لكنه لا يفعل!
وضع أخيرًا نهايةً لذلك الفصل اللامتناهي من الإغتسال و التذبذب، و إستتر بروب الحمام مغادرًا تلك المساحة التي ضاقت برائحة المياه المتبخرة و هلام الإستحمام الرجالي!
لاحظ خُلو الغرفة من وجودها، فتخلى عن الروب و رماه على طرف من المقعد، و قبل أن يبحث لنفسه عما يرتديه، تفاجأ بمنامته السوداء و لباسه الداخلي محضرين مسبقا على جانب من السرير كي يرتديهما حال خروجه، رمش مرتين يتأمل اللحظة التي لا يصدق أنه يعيشها! أدرك أن زوجته هي صاحبة هذه اللمسة اللطيفة، زوجته! ما أجمل اللفظ! و ما ألطف المُسمَّى! هل تخيل يومًا أنه سيحظى بامرأة تهتم به، و ترتب فوضاه، و تختار له ما سيرتدي؟ يستحيل! حتى بأحلامه لم يُتِح له الخيال عيش لحظة مشابهة!
ألقى نظرة على الجهة الثانية من الخزانة، حيث تتواجد ثيابها، و بنظرة حذقة سريعة، و إبتسامة صغيرة على فمه، إنتبه لنقص ما، إتجه بصره فورًا للفراغ الذي خلَّفه إختفاء ثوب النوم الأسود، أغلق باب الخزانة يحدوه شوقٌ جنونيٌّ ليمرر ذلك البصر على جسدها المُرهف و هو ملفوف بالحرير الأسود…
9
«روكسان!».
همس ببحَّة، و بطرف عينه لمح فردتي الخُف الأبيض خاصتها، فزفر بإنزعاج كونها متمادية في عنادها، و ترفض العناية بنفسها مفضلة التجول هنا و هناك حافية!
رنَّ هاتفه فجأة، فكر في تجاهل المتصل، الوقت تأخر بالأساس، و لا رغبة له في الإبتعاد عن فجوة اللطافة التي حفرها القدر داخل حياته المتحجرة! لكنه أمال بصره رُغمًا عنه ناحية الهاتف، و قرأ على الشاشة إسمًا جعل كل خلية في دماغه تغلي و كل شريان في جسده ينبض بحدة!
+
«داجيو!».
3
فتح الخط، و إكتفى بالإصغاء دونما رد أو تعبير حتى، فشخر الآخر على الطرف الثاني من المخابرة، و قال دون مقدمات:
“أنا سعيدٌ لأنكَ فتحت الخط، لكنك لن تكون سعيدًا لأنني سأفتحُ لكَ طريقًا نحو الجحيم!”.
أخذ دارك نفسًا هادئًا يعاكس الفوضى التي تتطاحن داخله، و أردف ببرود:
“إن كانت هناك جحيم على الأرض؛ فلن تكون سواي! و أنا سعيدٌ لأنكَ ستفتحُ ذلك الطريق إلي، لكنكَ لن تكون سعيدًا، لأنكَ لن تستطيع فتح طريق آخر للنجاة مني!”.
سمع دارك غريمه يتنفس بحدة، و يكتمُ أنة ألم ما من طرفه، ثم تحشرج صوته و هو يُعقِّبُ بسخط:
“لقد باشرتُ خياطة كفنكَ منذُ هذه اللحظة… دارك ريغان!”.
“عظيم! إذن… الكفنُ عليك؛ و القبرُ علي! لكنهما لن يكونا من أجلي؛ بل من أجلكَ أنت… دايفن ليوني! و بما أنكَ رجلٌ لا يعرف عن الذوق شيئًا فدعني أتولى هذا عنك…”.
1
نقل دارك هاتفه إلى الأذن الٱخرى، و سنده بذقنه و كتفه، ليواصل كلامه و يداه مشغولتان بإقحام ساقيه داخل بنطال المنامة:
“…يبدو أنكَ يا حماي اللعين لن تتمنى لنا زواجًا سعيدًا؛ لذا سأكون أفضل منك، و أتمنى لكَ جنازةً سعيدة!”.
1
أغلق دارك الخط مشمئزًّا، لكنه شعر بتفوق جعله يرتدي الجزء العلوي من المنامة بمعنويات مرتفعة، نظر إلى الأسفل مجددًا، و تكررت إبتسامته الصغيرة، إنحنى ملتقطًا زوجي الخُف بإصبعين فقط، و بينما كان ينزل الدرج، نظر لإصبعيه المضمومين، و خطرت له مشاهد منحرفة، فضحك بهدوء، لكن ضحكته تلاشت فور رفع رأسه و هو يتجاوز آخر جزء من الدرج!
1
كانت روكسان قد ظهرت للتو من ممر المطبخ، إزدرد دارك ريقه عدة مرات، كاد الخُف ينزلق من بين إصبعيه، لكنه نجح في إبقائه معلَّقا قيد يده، و ظل هو الآخر معلقا قيد منظرها، يشعر بنفسه يطفو و يتأرجح بين السماء و الأرض، تجاوزت تلك اللحظة شعور التردد الذي إنتابه أول مرة سفك فيها دم إنسان، تجاوز شعور النشوة التي يشعر بها كلما محى وجود شخص يستحق الموت، و تجاوز أيضا شعوره بالتفوق و هو يجلدُ داجيو منذ قليل! هذه لحظة لا تُفسَّر، خارج حدود الفكر و التعبير! أقوى من قدراته على التمييز و التحليل و الإدراك!
إنه متردد في الإقتراب منها، و مُنتشٍ بعطرها الذي ملأ كل ركن في الفيلا، يشعر أنه تفوق على لعنة سواده بزواجه منها! لكنه أيضا… يشعر أنها لا تزال بعيدة… خارج قبضته… و أنه محروم منها رغم أنها معه و له!
تنفس بهدوء و بدأ يخطو باتجاهها، قرر أن يتشبث بما رسا عليه ليلة البارحة، لن يستعجل نفسه و لن يستعجلها، سيفوز بها شيئًا فشيئًا، سيظفر بقلبها قبل جسدها، و حين بلغ مكان وقوفها، و نظر داخل عينيها الواسعتين، لمح في كل بؤبؤ نقطة بريق تسطع بقوة، كأنها السلام نفسه يولد هناك، فأبقى دارك خبر إستفاقة والدها الوغد من غيبوبته لنفسه، و فضَّل أن يأخذ بيدها، و يتطلع من نوافذ عينيها نحو إرتقاء الفجر و إنبثاق الضوء من رحم الظلام! لقد تعفَّن بما فيه الكفاية في جوف تلك العتمة!
4
إنحنى قليلاً يضع الخُف أمامها، ثم إعتدل و رمقها بنظرة آمرة، مفادها أن تخفي قدميها داخل الفردتين، فإنصاعت لأمره صامتة، و فعلت ما أملاه دون أن ترفع بصرها إليه، ليبتسم دارك مُعجبًا بإرتفاع مستوى الطاعة عندها، غير أن صوتًا داخله ذكره بروكسان المتمردة، و صرخ به أنه إشتاق لنظرة التحدي التي كانت تجابهه بها!
صحيحٌ أنه هو من أمسك بيدها آنذاك، و همس لها أنها تبدو فاتنة في اللون الأسود، لكنها هي من أردفت بعد ردها الخجول شاكرة و على ملامحها ألق الترقُّب و الحماس:
“أريدُ أن أريكَ شيئًا!”.
“حقا؟”.
“أجل”.
همهمت، فتابع بصوت منخفض يرفع حاجبيه مدعيا الإندهاش:
“رأيتُ الكثيرَ و أنا أجوبُ بعينيَّ بين سُدولِ الغسَقِ في شعركِ و أشرعةِ الدُّجى المعقودة حول خصركِ! ماذا تبقى لأرى بعد هذا؟!”.
لاحظ أنها تواجه عُسرًا في التنفس، و تضغط على قلبها بينما تردف باسمة الثغر:
“لا تورِّطني يا دارك، أخشى ألا أجدَ ردًّا ينافس هذا الغزل الجميل!”.
3
إقترب أكثر… حتى بات شريكًا في أنفاسها المتقطعة، و قال بصوت مبحوح و دافئ:
“من قال أنكِ مضطرَّة لمنافستي في الغزل بالكلمات؟ غازليني بنظرة من عيون الرِّيم التي تتوِّجُ وجهكِ… ثم حوِّلي النظرة لقصيدة شِعر… و ٱقتليني بقافيةٍ من رجفاتِ أهدابكِ المعقوصة… لعلِّي مجنونٌ يطيبُ له الموتُ بين الجفنِ و رِمشه… أو الخُلود بين المُقلةِ و نورِها!”.
28
فوجِئت بدموعها تنهمر تأثُّرًا، فرجت بين شفتيها بحثًا عن هواء يؤكد لها أن اللحظة واقعية، و لوقت طويل لم ترمش، كأنها تخشى لو فعلت أن تضيع منها ثانية من حزمةٍ ثوانٍ مُغرقة ببريق عيونه القريبة!
تأتأ دارك بفمه غير راضٍ عن رؤية دموعها، ثم مضى يجففها بأنامله و يذكرها بما قاله هذا الصباح:
“سبقَ و قلتُ… لا تُحزني عيون الرِّيم خاصَّتي!”.
إبتسمت مجيبة بينما كانت عيناه السوداوان تبحثان عن الخيط الفاصل بين سواد المنامة و سواد شعرها المتهالك على كتفيها ملامسًا نهاية خصرها:
“من قال أن عيون الرِّيم حزينة؟”.
تناول خصرها بيده، و شدَّها نحوه، يُلصقُ جسدها اللين و الممشوق بصلابة جسده الفائر، و يهسهسُ في أذنها:
“خاصَّتي!”.
“ماذا؟”.
تساءلت بحيرة، فأضاف مغمضًا عينيه، يستنشق رائحتها كمن يبحث عن سبب وجيه لوجوده:
“قوليها ثانيةً و أنتِ تنسبين عيونكِ لي!”.
7
إتسعت إبتسامتها، و شعرت أنها فرغت من كل توتر و هي ترتفع على أصابع قدميها لتقلل من فرق الطول بينهما، و تردفُ زارعةً أنفاسها أسفل أذنه:
“من قال أن عيون الرِّيم خاصَّتُكَ حزينة؟”.
ضمَّها دارك إليه أكثر مبقيا عينيه مغمضتين، باسطًا كفيه على مساحات ظهرها الفتَّانة، يهسهسُ مرة ٱخرى، و يشعرُ أن فجوة اللطافة تتسع و تبتلع عالمه المتحجر ببطء:
“و من قال أنني سأسمح لهما بالحزن حتى؟ هاتان العينان لكِ… لكنهما تعكسانني، و أنتِ تعرفين ماذا يعني إنعكاس دارك!”.
إنزلقت من بين أحضانه مبتعدة، أسدلت جفنيها تستر النظرات التي صوبتها إلى الوشم ما بين نهديها، و أسرَّت شيئًا غامضًا بأعماقها تؤجل الحديث فيه لوقت لاحق، قبل أن تستطرد و هي تسحبه خلفها، و تتمايل أمامه بمشية غزال حقيقي:
“يبدو أنني تورطتُ بكل الأحوال، و عليَّ الردُّ على غزلكَ بشكل ما!”.
عند دخولهما قاعة الطعام، إكتشف دارك أنها حضرت له مفاجأة، إقترب من الطاولة الكبيرة و هو لا يزال ممسكًا بيدها، و نقل بصره المتسع بين طبقين من السباغيتي المُعدَّة سريعًا و طبق سلطة شهية يتوسطهما… إلى الشموع المعطرة التي زينت المكان، و زجاجة الشامبانيا التي وضعتها وسط وعاء من الثلج، إنتهى ببصره إلى وجهها الباسم، ثم عاود تأمل الطاولة مجددًا، و هذه المرة علق بينما يلاحظ وجود بتلات بيضاء تحيط بالشموع… تشبه تماما بتلات ورود باقة الزفاف التي حملتها أمس:
“هل حضَّرتِ كل هذا بنفسك؟”.
“أجل!”.
“في وقتٍ قصير؟”.
“عشرون دقيقة كافية لسلق ديك رومي!”.
ضحكَ لردها، و أردف بسعادة لم تعبر عنها الكلمات و لا النبرة بقدر ما عبرت عنها لغة جسده:
“الحق معكِ يا روكسان، الدقيقة الواحدة بقربكِ كافية لسلق قلب سفاح!”.
9
على عكسه… وجدت روكسان القدرة كي تضحك بقهقهة مسموعة، إلتفت نحوها دارك شاعرًا أن تلك الضحكة تدغدغ حواسه، سحب لها كرسيًّا كي تجلس، و عقِب إنضمامه إليها، سبقته بحركة لطف كان قد فكر فيها هو الآخر، و أطعمته بيدها، لم يعرف دارك تحديدًا… هل كانت اللذة في الطعم أم في رقَّة يدها، لكنه مضغ اللقمة بإستمتاع معربًا عن توقه للمزيد، و علق بنبرة لم تصدر عنه قبلاً:
1
“اللعنة! كيف كنتُ أقول عن ذلك الحساء الكريه طعامًا؟!”.
كأنه قال ذلك فقط كي يدفعها للضحك من جديد، و فور رؤيته لتباعد أطراف شفتيها، و لمعان أسنانها البيضاء، دنا و طبع قبلة قرب فمها، أين إرتسمت غمازة لم تكن تظهر و تكشف عن جمال خدها المكنون إلا لِمامًا!
كلَّفهما ذلك لحظة طويلة من الصمت و النظرات المتشابكة، ظن دارك أن قبلته العفوية ستعيدهما خطوات إلى الوراء، و أنه سيرى مجددًا تلك العروس المنكمشة على نفسها التي تطرده بعيدًا، لكن روكسان كانت أذكى من أن تسيء فهم دوافعه، كانت غير كل النساء، تمتلك ذكاءً عاطفيًّا يحتاجه رجلٌ مثله، تفهمه دون اضطراره للتفسير، بالأساس… هي تكره أن تجعل من المشاعر الإنسانية مادة جامدة قابلة للتحليل و التفسير، فمشاعر المرء تُعاش كما هي لتصبح مفهومة… و إن فُسِّرت… باتت مبتذلة و خسرت جوهرها الصادق… و ميزتها الصافية!
3
أجلت حنجرتها تعالج بعض الخصلات التي تداخلت مع أهداب عينها، ثم أشاحت عنه بخجل متمتمة:
“هيا كُل! ستصبحُ السباغيتي أسوء من الحساء إن بردت!”.
أطعمها هو بدوره مراقبا فمها الجميل و هي تسحب السباغيتي إلى حلقها بنهم شديد، قبل أن يعلق مستاءً:
“لماذا لم تطلبي مني تناول عشاءٍ دسِمٍ في الخارج… ما دمتِ تُضمرين كل هذا الجوع؟!”.
أجابته نافية:
“ليس الجوع هو ما يفتحُ شهيتي… بل وجودُك!”.
7
لم يصدق ما لفظته، هل حقا تطمئن لوجوده إلى هذا الحد؟ إزدرد ريقه دون أن ينبس بحرف، ترك الصمت يخيم عليهما، لم يشأ أن يفسد سحر اللحظة بأي تعليق، هو بدوره مغتبط بوجودها، و لا يريد لتلك الشهية إنقطاعًا!
أنهيا وجبة العشاء في صمت، لكنهما لم يمتنعا عن تشارك نظرات بارقة بالمتعة، و إبتسامات إنبساط هادئة، كانت الجلسة برمتها أشبه بعلاج روحي لكليهما، كانا يحتاجان ذلك بالفعل!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس العلوية|دسائس الليل…
ركنت مايڤا سيارتها بمحاذاة الرصيف، و سارت بضع خطوات تنعطفُ من ذلك الزُّقاق الهادئ نحو شارع أوسع، لا تزال تُحييه أقدام بعض المارة الساهرين، و عجلات سيارات تقطعه بين فينة و ٱخرى، لتبلغَ كُشكًا للسجائر و الجرائد يقع في نهاية الشارع، يديره فتى تعرفه منذ زمن يُدعى «باز»، صفقت الباب، فأطل الفتى برأسه من نافذة الكُشكِ يتطلع من القادم في مثل ذلك الوقت، و ما إن لمح قامتها الفارعة، و شعرها الأسود القصير، حتى ميَّزها و لوَّح لها بغبطة.
ألقت عليه مايڤا تحية مقتضبة، و إحتلَّت الكُشكَ بجسدها الممشوق و ملبسها الرمادي القاتم، إبتسامتها الشاحبة دلَّت على تعبها المكتوم، ناولها باز علبة السجائر اللتي إبتاعتها، ثم رفع يده لرفض الورقة النقدية التي سحبتها من محفظتها في المقابل، على أن نظرة مايڤا الحادة جعلته يتدارك موقفه، و يقرر قبول المال معتذرًا!
“لا تكرر هذا أيها المغفل… أنا لا أتفضَّلُ عليك! أخذتُ غرضًا و أقوم بدفع ثمنه!”.
زجرته بكلمات ساخطة، فأومأ بخنوع، و كانت تديرُ ظهرها له و توشك أن تغادر، لكنها توقفت على عتبة الكُشك، و أضافت بلهجة أقل سخطًا:
“كيف ستوفر أدوية والدتكَ المُسنَّة على هذه الحال؟”.
أجلى باز حنجرته و ردَّ أخيرًا:
“هل تظنين أنني لا أعرف؟!”.
إستخرجت مايڤا سيجارة من العلبة و دخنتها دون أن تستدير، و بعد أول نفثة أردفت تدعي عدم الفهم:
“ما الذي تتفوَّه به يا فتى!”.
“أحدثكِ عنكِ!”.
خرج من خلف مقصف البيع خاصته، و أصبح في مواجهتها و هو يضيفُ بإنفعال المراهقين:
“أعرف أنكِ دفعتِ مبلغًا طائلاً مقابل العملية التي أجرتها أمي، و أعرف أنكِ أنتِ من تدبرتِ من أجلي أمر هذا الكُشك، كما أنني لمحتُكِ عدة مرَّات تحومين حول منزلنا و تراقبيننا عن كثب، لتتأكدي أن أوضاعنا على خير ما يُرام، ثم تقفين هنا الآن… و تقولين أنكِ لا تتفضَّلين علي!”.
إلتقط أنفاسه، بينما كانت مايڤا تمتصُّ السيجارة بعنف… و تودُّ صفعه و ضمَّه في نفس الوقت، ليواصل باز من جديد حديثه المنفعل… و قد بدأ وجهه النحيف يتضرج و شرايين عينيه الدقيقة تبرزُ و تتسع بسبب مقاومته للدموع:
“أفضالُكِ تُغرقنا ٱختاه مايڤا!”.
“مايڤا و حسب يا ولد، أنا لستُ ٱختكَ… و لن أكون!”.
1
زمجرت بذلك بعدما داست بطرف حذائها على ما تبقى من السيجارة التي رمتها أرضًا، و لم تعبأ بدموعه المتساقطة، و لا بالفراغ الذي تركته ٱخته الميتة في حياته، ثم تقدمت منه تستطرد بشراسة جعلته ينكمش:
“هذا يكفي، أغلق الكُشك، تأخر الوقت… و لا ريب أن والدتكَ تمسحُ النوافذ بلهفة إنتظارا لعودتك، لا تشغل بالها أكثر!”.
إستغلَّت فرصة إنهماكه بإسدال ستائر النافذة الصغيرة، و دسَّت بصندوق مقصفه مبلغًا دسِمًا يساعده في مجابهة أيامه الصعبة، و دون أن تكترث لأمر توديعه، غادرته كشبح ليلي، و قطعت المسافة بين الكُشكِ و الزُّقاق الذي ركنت فيه سيارتها و هي تشعل سيجارتها الثانية و تسترجع تلك المشاهد مجددًا، والدها اللعين هو سبب كل هذه الفوضى، لو لم يُقِم علاقة مقرفة مع شقيقة باز الكُبرى «صوفي» لأنها تعمل سكرتيرة عدوه في العمل، لما إنتحرت والدتها هي، و لما ٱصيبت والدة باز المسكينة بجلطة دماغية و أصبحت مقعدة!
تذكرت خلال تلك الخطوات القليلة كيف نبذت والدها الفاسد، و تخلت عن مهنتها النبيلة بسبب فشلها في جعله يدفع الثمن، بعدما تبينت أن عصا القانون الصارمة ليست سوى المِغرفة نفسها التي تُحرِّك قِدر الفساد و تقدمه للشخصيات المنحطة على أطباق من طمع! لم تملك أدنى شفقة تجاه عشيقة والدها صوفي التي أنهت رحلتها في الحياة بشنق نفسها في غرفتها، إنتحار زوجة عشيقها جعلها تحتقر فعلتها و تضع حدا لحياتها بتلك الطريقة، لكنه لم يكسبها إحترام مايڤا و لا حتى حزنها، بل كرهتها أكثر، و نعتتها بالفارَّة الجبانة، لكنها لم تشعر بالمثل تجاه شقيقها باز و والدته العجوز، بل ظلت رقيبًا صارمًا يرعاهما من بعيد، و لم تمنع نفسها من سندهما بكل طريقة ممكنة، ربما هي تبحث عن عائلة، أو ربما هي فقط… تُكفِّرُ عن خطيئة والدها!
بينما كانت تستعيد نفسها من تلك الذكرى الثقيلة و تلجُ الزُّقاق، حدست أمرًا غريبًا، السكون هناك لم يعد مريحًا، و صدى خطواتها على الرصيف بات أوضح، و أشدَّ تلاعُبًا بالأعصاب، توقفت على بعد مترين من سيارتها، لتبدو هي و ظلها الطويل في فوهة ذلك الزُّقاق كالشبح حقا، أمعنت النظر، و فجأةً، زال عنها غمام التوتر الذي نشره حولها الماضي البشع، و تحولت من مايڤا الساخطة، إلى مايڤا الساخرة…
على سطح المحرك، كان ذلك الشرطي يتمدد بتكاسل جريء، يحتسي القهوة الجاهزة، و يلهو بمسدسه غير آبه بنظراتها المتسائلة، كأن السيارة له، و ما تلك الفتاة إلا دخيلة على المشهد!
ظلت تقف بعيدًا عنه بشكل مائل و متسلًّ، تبقي ثقل جسدها كله على ساقها المثنية، بينما تغمدُ رؤوس أصابعها في جيوب بنطال الجينز الرمادي خاصتها، مُباعدة بين قدميها، و السيجارة الجديدة لا تزال تتأجج في طرف فمها المبتسم بهزء!
رسم كِيان بأنامله أشكالاً وهمية على سطح سيارتها الصفراء الفارهة، و أطلق العنان لصوته الجذاب فجأة:
“فورد موستنج «جي تي»، مزودة بمقصورة قيادة رقمية و شاشة لمس قياس ثلاثة عشر بوصة، بالإضافة إلى تميزها بأقوى محرك من نوع «جي إي إن أربعة» بثماني ٱسطوانات، بحيث تعادل سرعتها خمسمائة حصان! يا للروعة! يا لها من سيارة مذهلة! لا بُدَّ أنها كلَّفتكِ ثروة! و لا ريبَ أن هذه الثروة تتطلبُ وظيفة مرتفعة الرَّاتب!”.
1
ومضت عينا مايڤا بلؤم، أبقت السيجارة رهن أسنانها المتراصة، و تقدمت منه بينما تحرك شفتيها مردفة دون إكتراث:
“ٱقرُّ أنَّها سيارة مذهلة حضرة الشرطي، لكنني لا أنوي بيعها، لذا تنحَّ جانبًا!”.
2
صرف كِيان أسنانه يبتلعُ جرأتها كمن يبتلع القش و هو يعي أن داخله إبرة ستثقب حلقه في أية لحظة، يا لها من مخلوقة مجردة من الخوف و الحذر! تحدثه بوقاحة كأنها هي الشرطية لا هو! توغَّر صدره و زفر بنفس حاد، قبل أن يعلق دون أن يتزحزح من مكانه:
“لستُ هنا من أجل السيارة، بل من أجل صاحبتها!”.
لاحظ أنها توقفت ثانيةً، لكن أقرب هذه المرة، فكشَّر عن إبتسامة الشرطي الفخور مضيفًا:
“و لستِ أنتِ من يملي على ضابط شرطة متى يتنحَّى جانبًا… و متى يبقى!”.
“إذن يا ضابط الشرطة العتيد، دعنا لا نضيع الوقت، إذا كنتَ تتوق للتحليق… فلا مانع لدي، في النهاية… طالما تعرف مزايا الموستنج، فأنت تعرف أيضا أين يمكن أن ترسلكَ سرعة خمسمائة حصان!”.
قفز كِيان عن سطح السيارة، و حاصرها بذراعيه القويين، جاعلاً ظهرها يلتصق بزجاج باب السائق البارد، و من بين شفتيه المزمومتين لفظ سؤاله:
“هل آخذ هذا على محمل التهديد… يا قطة الشوارع الشقيَّة؟!”.
تلاعبت بشفتيها إبتسامة عابثة، فشدت بصره إلى ذلك الجزء من وجهها لوقت طويل، لمح لسانها الرَّطب يبرزُ من بين تِنك الشفتين فيبللهما قبل أن تسحبه ثانيةً، و سمعها تردف بنبرة معسولة:
“فلنقل أنه تحذير لا مفرَّ منه، لا يمكنكَ تسميتي بالقطة أو الوحش… طالما لم تجرِّب مخالبي بعد!”.
فتحت باب السائق لتمتطي سيارتها، فتراجع عنها كِيان يمنحها مساحة كافية لذلك، لكنه قال قبل أن تصبح جالسة على المقعد:
“حسنا، لا ٱنكرُ توحشكِ و أنتِ تفرغين ثلاجتي بالأمس، لكن بالنسبة لي… أفضل مناداتكِ بلقبكِ الأنسب…”.
أخفى مسدسه في حزامه، و أشاح عنها مبتعدًا و هو يردد بلطف ساخر:
“تركتُ لكِ عربون صداقة أسفل الموستنج! آملُ أن تستمتعي به يا فتاة الكِنتاكي”.
حين تأكدت من إختفائه تماما، ألقت مايڤا نظرة أسفل سيارتها، و ثبت أنه بالفعل ترك لها شيئًا ما هناك، قرفصت و مدت ذراعها لإلتقاط العلبة، كان من الواضح أن داخلها وجبة كِنتاكي لشخصين، لكنها لم تطمئن لنواياه، فتحتها على مهل، و بدل تناول قطعتي الدجاج الشهيتين كما هو متوقع، فحصتهما جيدا، ثم مزقت تجاويف العلبة و فضت طيات زواياها، و آنذاك… أيقنت أن شكوكها قائمة، فقد عثرت على كيس صغير جدا من مسحوق الكوكايين، و نجحت في التخلص منه في أقرب حاوية قمامة، قبل أن تعقم يديها جيدا، و تنطلق من جديد نحو منزلها و هي تنبس بسخرية:
«عربون صداقة صحيح؟ تريد إعتقالي بأي طريقة؟ لنرى أي تعابير ستغلف وجهكَ الآن!».
قادت السيارة بسرعة مدروسة عن عمد، و كما توقعت… بعد وقت قصير من مغادرتها ذلك الزُّقاق، لاحظت سيارة فضية غريبة تتعقبها، و تلازمها كالظل، فكزت على أسنانها، و قاربت بين حاجبيها و هي تحدجها عبر المرآة العاكسة متمتمة:
“للأسف أنتَ لا تفهم يا حضرة الضابط، حيلُ الشرطة العظيمة هذه لن تنطلي على ضابط آخر!”.
إنحرفت الموستنج صوب ميمنة الطريق محافظة على السرعة القانونية، و بذلك فتحت مجالاً أمام صف السيارات خلفها كي تتخطاها، فتقدمت السيارة الفضية و ظلت في سرعة متساوية معها، توقعت مايڤا وجود نقطة تفتيش قريبة، و كانت على حق، فسرعان ما لمحت حاجزًا أمنيًّا يوجب على جميع السيارات التوقف للخضوع إلى تفتيش إضطراري، نظرت على يسارها، فأنزل سائق السيارة الفضية زجاج النافذة الجانبية الفاصلة بينهما، ليتبين أنه الضابط كِيان رافِنوود، فحذت مايڤا حذوه، و أنزلت زجاج نافذتها، و بسطت مرفقها فوق الإفريز تمنحه نظرة غامضة مقابل تعابير النصر المكللة لتقاطيع وجهه!
فتحت في مسرح نظره علبة كِنتاكي مزدوجة كانت قد إبتاعتها من أجل العشاء قبل أن تركن سيارتها في ذلك الزُّقاق و تقرر زيارة كُشكِ باز، و بدأت بتناول أول قطعة دجاج دون هم، فكر كِيان أن الحمقاء إبتلعت الطعم، و ستغدو أخيرًا في قبضته، لكن أفراد الشرطة عبثًا فتشوا سيارتها، دون أن يعثروا على شيء غير قانوني، شتم كِيان بغضب، و وثب خارج سيارته كاشفًا عن هويته كرجل شرطة، ثم تطوع بنفسه للتفتيش، و هذه المرة، لم يأبه بالصندوق و ما دون المقاعد، و لوح القيادة، بل ركز على علبة الكِنتاكي التي تضعها على المقعد الثانوي، و زمجر تحت نظرها الضيق:
“لا تهملوا أي غرض أثناء التفتيش!”.
تناول العلبة و مضى ينفضها يمينًا فشمالاً، و يمزقها كيفما إتفق دون جدوى، نضح جبينه عرقًا، و بلغ صوت تنفسه الحاد مسمعها بينما كانت تترجل من السيارة و تخطو نحوه قائلة بثقة:
“صحيح أنكَ ضابط حريصٌ و لا تهمل أي غرض أثناء التفتيش، لكنك أهملتَ أهم قاعدة في الحياة…”.
ضيقت عينيها أكثر مما سبق، و أخفت إبتسامتها، فبدت كقطة شرسة و هي تضيف مستمتعة بتفوقها عليه:
“…قططُ الشوارع لا تثق بسهولة! و الصداقة لا تحتاج إلى عرابين كاذبة و دسائس لئيمة كي تنشأ!”.
تكهرب الجو، و تبادلا نظرة مشحونة بالعداء و التحدي، لم يكن أمام كِيان سوى أن يقف بمكانه، و العجز و غرور الشرطي المكسور يتصارعان على تفتيته، و لم يكن أمام مايڤا سوى أن تطلق رصاصتها الأخيرة قبل أن تركب سيارتها و ترحل:
“لن تنفعكَ صداقتي… و لا عداوتي حتى يا حضرة الضابط، أنا ٱشبه زجاجة السُم التي يجب أن تبقى بعيدة عن متناول البشر!”.
4
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا الداركسان آنذاك…
1
في غرفتهما… إتجه دارك إلى أحد طرفي السرير، بينما تلكأت روكسان في خطواتها ثم وقفت متجمدة عند المدخل، رشَّ القليل من عطره على عنقه، ثم رمقها بحيرة من طرف خفي، فارتبكت و مثلت أنها تغلق الباب، أخذت نفسًا عميقًا و هي مشيحة عنه، فجلس دارك على السرير، و سخر متأملاً ظهرها باستمتاع:
5
“ما بكِ يا عروسي؟ هل يتطلب إغلاق الباب كل هذا الوقت؟”.
أردفت كاذبة:
“في الواقع… لا… لكن… أعتقد ان به عطب!”.
1
لم يصدقها، لكنه تظاهر بذلك، و أخفى إبتسامته الساخرة مدعيا الجدية، ليدنو منها فجأة و هو يقول:
“حقا؟ دعيني أرى أين يكمن العطب؟!”.
إنزاحت بسرعة جانبًا، و مثلت هذه المرة أنها منهمكة في تمشيط شعرها أمام المرآة، أمسك دارك مقبض الباب و ألقى عليه نظرة متفحصة، فتحه و اغلقه عدة مرات، قبل أن يستدير إليها معلنا و يداه في جيبي منامته:
“وضعه ممتاز، لا عطب يُذكر!”.
“عظيم!”.
تمتمت بصوت بالكاد سمعه، و تابعت غرز المشط بين طيات شعرها بسرعة محاولة بذلك إخفاء رجفة يديها، لكن دارك سبقها بخطوة و لاحظ ذلك، و ما لبث أن وقف خلفها… شديد القرب منها، و إنتزع المشط من قبضتها يرميه هامسًا:
“ألا تبالغين يا بلائي الفتَّان؟ هذا الحرير لا يتطلب مُشطًا! يمكن تسريحه بالأصابع!”.
مضى يغرق أصابعه داخل تلك الخصلات الناعمة، ثم يتخللها عميقا حتى تلامس رؤوس أنامله فروة رأسها، ليبدأ في التمشيط البطيء، مرورًا ببشرة عنقها الدافئة، و كتفيها المرتعشتين، و ظهرها المتحفز لكل لمسة، وصولاً إلى ما دون نهاية خصرها، أين يتوقف دارك ملتقطًا أنفاسه، طاويًا صفحة رغباته، مذكرًا نفسه بأن يتمهل في كسبها، ليعود من جديد إلى مفرق رأسها، و يبحر مرة بأصابعه بين أمواج شعرها!
أسند فمه إلى رأسها يستنشق رائحته، و بينما كان يفتح عينيه نصف فتحة، لمح نقطة حمراء تتراقص على شعرها، جحظ مدركًا أنه إنعكاس لضوء بندقية قنص، و بحركة خاطفة، لف ذراعيه حولها، و سحبها لتسقط معه على أرضية الغرفة، خلال سقوطها شهقت روكسان مجفلة، لا تفهم سبب تصرفه، لكن الرصاصة التي إخترقت المرآة و هشَّمتها منحتها الجواب في حينه!
همس دارك مربتا على ظهرها:
“إهدئي، و أبقي منبطحة، هناك قناص يستهدف الفيلا!”.
رفع نفسه بحذر مكررا أوامره بأن تظل مكانها، و أخرج مسدسه من درج المنضدة يتأكد من تلقيمه، لاحقته نظراتها المضطربة و هو يسير نحو شُبَّاك الشرفة المفتوح، مبقيا ظهره إلى الجدران، أصبح على مشارف الشُبَّاك، فأشهر مسدسه دون أن يجعل نفسه مكشوفًا، و حين لاحظ حركة على البناية المواجهة للفيلا، ضغط على الزناد، و كان واثقًا أنه أصاب الهدف، و أسقطه من ذلك الإرتفاع الشاهق!
ألقى نظرة على زوجته، و إكتشف جراحًا طفيفة على ساقيها سببتها شظايا الزجاج المتساقطة من المرآة المكسورة، فرفعها بحذر و وضعها على الفراش مطمئنا:
“لا تقلقي، هذه إصابة سطحية!”.
طرقت إحدى الخادمات بابهما بعدما أتت مسرعة إثر الجلبة، فسمح لها دارك بالدخول، و ما إن وقع بصرها على نزيف السيدة و الفوضى التي ألمت بالغرفة حتى شهقت مذعورة، و همت بالصراخ و طلب النجدة، غير أن السيد منعها من ذلك، و أمرها بتضميد جراح زوجته أولا، و الحق أن رغبته كانت أن يتولى هو معالجتها بنفسه، لكن مضطر للخروج و إكتشاف هوية الوغد الذي تجرأ على قنص منزله و أوشك على قتل زوجته!
حين بلغ دارك المكان الذي سقط به القناص، كان أول شيء لاحظه هو وجود قناع أسود على وجهه، لمس بطرف حذائه، فلم تصدر عنه إستجابة، إنحنى بعد ذلك يجسُّ نبضه، فإذا به قد فارق الحياة جراء طلقته التي إخترقت مؤخرة رأسه، تطاحنت أسنان دارك جراء ذلك، الظلام هو السبب، لو أبصره جيدا لما سدد نحوه طلقة قاتلة، هكذا لن يعرف من أرسله، لكن في مطلق الأحوال… هل لديه لائحة طويلة من المشكوك بأمرهم، الآن… لا يسعى أحد لقنصه هو و زوجته سوى القضاة و داجيو! و بمعرفته القديمة للوغد داجيو يمكنه الوثوق في أنه خارج دارج الشك، فهذه ليست أساليبه في الإنتقام، إذن… موت الداركسان في ظروف غامضة من بندقية قناص مجهول لا يخدم إلا مصالح القضاة الأبالسة!
مضت نصف ساعة فقط شهدت الكثير، أجرى دارك إتصالاً مستعجلاً بمارفل يأمرها بتحضير إجتماع طارئ بينه و بين القضاة، لكن هذه المرة ليس في المقر، بل في منزل الزعيم، فسارعت بتنفيذ ذلك مستغربة، و حين بلغ الخبر أذن داجيو، خاطبها بخبث:
“كوني هناك بصري و سمعي يا مارفل! مفهوم؟”.
لبى القضاة في غضون دقائق النداء الطارئ، و عندما إجتمعوا وسط ردهة الفيلا الواسعة، كانوا يتساءلون فيما بينهم عن دواعي الإجتماع، حتى أن أحدهم كان لا يزال تحت تأثير النعاس بعدما أفزعه إتصال مارفل، إلى أن أطل عليهم الزعيم ريغان، و دون أن يتكبد عناء إرتداء بدلة مثلهم، أو النزول لمصافحتهم، أشرف عليهم من عليائه، يقبض بهدوء على الدرابزين، و يقف بشموخ و غرور عند رأس السلالم مرحبا:
“حسنٌ أنكم لم تتأخروا، فموعد نومي إقترب!”.
علق أحد القضاة منزعجًا:
“طالما ترغب في النوم، فما الداعي لجمعنا هنا…؟”.
إحتدت نبرة صوته، فلكزه رفيقه منبها لوقوفه في حضرة الزعيم و ليس السفاح ريغان، ثم تدخل يسأل بلهجة أقل حدة من الأول:
“أيها الزعيم، نأمل أن تخبرنا بسبب الإجتماع الطارئ بإختصار، فلستَ بحاجة لنحيطكَ علمًا ب بقية المهام التي تنتظرنا في الكونغرس السفلي!”.
تجاهل دارك ذلك الإلتماس الماكر، فهو يعي جيدا أن معظم أوقاتهم يصرفونها في العبث مع العاهرات، و إحتساء المشروب، و بكل برود قال:
“ما رأيكم ببعض النبيذ أولاً؟”.
أشار على خادمه الذي يقف خلفهم، كي يدفع نحوهم عربة عليها ثلاثة كؤوس و زجاجة نبيذ أحمر من النوع الفاخر، تبادل القضاة نظرات الإستغراب للحظة، ثم إستسلموا لرغبة الزعيم رغم عدم هضمهم ما يجري، و بينما كانوا يرفعون الكؤوس، قرب أحدهم كاسه من أنفه، فلسعه دارك من مكانه بسخرية مهينة:
“إطمئن يا حضرة القاضي! لم أضع لكم السُمَّ في النبيذ، لستم بهذه الأهمية في نظري!”.
مضغ الذل تقاطيعهم، و من جهة ٱخرى، تأكدوا أن النبيذ لم يُخالطه سُم، لذا مضوا في إحتسائه بإرتياح، لكنهم و بالرغم من ذلك، أحسُّوا أن مذاقه مختلف عن المعتاد، فسأل أحدهم مقطبا و قد كره أن يمجد السفاح اللعين بينما هو يستمتع بإذلالهم:
“على الأقل تصرف كزعيم، تظهر علينا في منامة، و تستقبلنا في الردهة، ثم تسقينا هذا القرف و نحن وقوف؟!”.
وضع كأسه بعنف على العربة، و تابع مستهجنا:
“طعمه أسوء من روث البغال، من أين أحضرت هذا النبيذ الرخيص؟”.
1
إبتسم دارك بهدوء، في حين ومضت عيناه ببريق النصر و هو يردف رافعًا كأسه الخاص:
“ليس من مكان غريب، في النهاية أنتم من تحبون المصادر الرخيصة، ثم إنني أتفهمكم، ليس من المستساغ أن تشربوا من دم قناصكم الفاشل!”.
9
تمهل قليلاً مراقبا شحوبهم، ثم سأل محركًا النبيذ الصافي في كأسه:
“و الآن… كيف وجدتم طعم الهزيمة؟!”.
2
إمتقعت وجوههم بعد إدراك ما يرمي إليه، هل حقا ما يسمعونه؟ هل تجرأ هذا الوغد على خلط الدم بالنبيذ في كؤوسهم، تقأيا أحدهم ما إحتساه، بينما بصق الآخر الرشفة التي ظلت تتراقص في فمه، أما الثالث… فأحسَّ بألم يمزق أحشاءه، و عصفت به الصدمة حاجبة عنه كل طريق للرد، ليضيف دارك مستمتعا بالمشهد قبل أن يحتسي شرابه الخاص:
“سبق و حذرتكم من إثارة غضبي، لكنكم حمقى، هل تخيلتم أن ذلك القناص سينجح في تخليصكم مني؟ حقا؟! إذن… تستطيعون مقابلته و هو جثة معلقة في مدخل المدينة، أنا واثقٌ أنه سيشرح لكم كيف إنتهى به المطاف هناك!”.
4
أسلم دارك الكأس للخادمة التي وقفت خلفه، و ظل باسطًا يده بإتجاهها و نظراته لا تفارق الفشل المزروع على وجوههم، منحته الخادمة حقيبة سوداء، ثم إختفت، ليفتحها دارك و يرشقهم بأوراق لا تخلو من أعمالهم القذرة، و إختلاساتهم على مرّ سنوات من خزينة الميغا، جحظت أعينهم و هو يلتقطون الأوراق و يطالعون ما جاء فيها!
سأل أحد القضاة و هو يجفف عرقه بكم بدلته:
“كيف وصلت هذه الوثائق إلى يدك؟!”.
“فيمَ سينفعكَ أن تعرف كيف؟ ما يهم الآن أنها بحوزتي، و لن أتردد في إستغلالها كورقة رابحة متى ما شئت!”.
تبادلوا نظرات خبيثة فيما بينهم، كأنهم يتفقون على حركة جماعية أخيرة تنقذ ما يمكن إنقاذه، و شرعوا فجأة في تمزيق الأوراق وسط قهقهاتهم المتصاعدة، الأمر الذي لم يؤثر إطلاقا بالزعيم، بل جعله ينصت إليهم دون أن يخسر وقاره و ثقته بنفسه!
“نستميحك عذرا أيها الزعيم! كما ترى… ورقتُكَ الرابحة لم تعد موجودة!”.
“و رقابنا لم تعد بين يديك!”.
ليصدح صوت دارك من جديد بتعليق ساخر:
“بئسًا! أرهقتم أنفسكم قبل أن أخبركم عن النُسخ!”.
“نُسخ؟!”.
داعبت إبتسامة متسلية فم دارك قبل أن يعقب و هو يدخن سيجارة:
“ثمانية و ثمانون نسخة لقذارتكم يمكنني إرسالها إلى مقر البراتڤا في أية لحظة، و في المقابل هناك فرصة واحدة أمامكم لتتقبلوا أنني الزعيم و ملك السفاحين، و أن زوجتي سليلة عشيرة المونسترز!”.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)