روايات

رواية لحن الأصفاد الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم أسماء

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

رواية لحن الأصفاد الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم أسماء

 

 

البارت الثاني والعشرون (رائحة الحُب و الدَّم!)

 

 

❞حين تفوح رائحة الحُب؛
أعرف أن امرأة واحدة في الجوار!❝
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا داركسان في الصباح التالي|اللحن المفقود…
رفعت روكسان يدها كي تحول دون وصول أشعة الشمس لعينيها، لكنها فجأة تذكرت أنها كانت حتى وقت قريب محرومة من حدث بسيط كهذا، لذا إستندت على مرفقيها، و سمحت للأشعة الذهبية بأن تنسكب عليها، و تغلفها ببريقها الحي و أن تبعث فيها حرارة منعشة!
1
غير أن تلك الحركة كلفتها ألمًا في ساقيها المضمدتين، إسترجعت أحداث الليلة الماضية بتتابع، كانت قد إنتظرت عودة دارك من إجتماعه الغامض، و لم تذق النوم حتى ، و سمعت صوت محركات سيارات القضاة و هي تغادر باحة الفيلا، رأت زوجها يلج الغرفة مجددًا، و يتمدد قربها ليسألها كيف تشعر الآن؟
حين فرغت من حمامها الشمسي، أدارت رأسها نحو الجهة الثانية من السرير حيث يفترض أن تجد زوجها نائما، لكنه لم يكن هناك، لمست الفراغ الذي خلفه على الفراش بحزن يملأ مقلتيها، تذكرت الليلة الثانية التي قضياها داخل تلك الجدران دون أن يلمسها كما يفترض بأي رجل أن يلمس عروسه، و فكرت أنه و لا شك إستيقظ باكرًا و غادر الفيلا لممارسة أعماله كزعيم، مقررًا ترك هذه الزوجة المترددة لفراش خالٍ و منزل موحش، لكن صدور ضجة غريبة في الفيلا أطلقت فضولها من عقاله، و دفعتها لترك السرير، و إرتداء أول ثوب قابلها قبل الخروج من الغرفة و تتبع الصوت!
كانت الضجة آتية من الطابق الأرضي، نزلت روكسان الدرج ببطء، و خطت بتردد صوب الصالون، أين بدا لها أن الضجة بدأت تعلو و تتحول إلى أصوات واضحة، كأن أحدهم كان يسحب غرضًا ثقيلاً، و عند إقترابها أكثر، سمعت بوضوح صوت دارك و هو يخاطب أشخاصًا آخرين بلهجة آمرة:
“إنها مجرد أريكة!”.
أردف صوتُ رجل لم تتعرف عليه:
“لكنها أنتيكا يا سيدي! لا بُدَّ أنها قيِّمة”.
“قيمتها الوحيدة في نظري هي مساحة الفراغ التي ستتركها هنا حالما تُزاح، لذا تخلصوا منها دون إضاعة وقت!”.
ألقت روكسان نظرة، فأيقنت أن زوجها كان يتوجه بخطابه إلى خدم الفيلا، إنتظرت بحيرة لحظة خروجهم مثقلين بوزن الأريكة، ثم دلفت الصالون و علائم الإستغراب بادية على وجهها، لماذا يزيحُ دارك واحدة من أكبر أرائك الصالون؟ لماذا يحتاج إلى مساحة شاغرة هنا؟ إلتفت دارك في تلك اللحظة شاعرًا بوجودها خلفه، و قبل أن تطرح عليه أي سؤال، عاد فريق الخدم مجددًا، و كانوا مثقلين هذه المرة بوزن غرض آخر غير الأريكة الثمينة! ذكرها بشيء عزيز على قلبها، و أثمن من أي أنتيكا داخل تلك الفيلا!

“إحملوه بحذر، و ضعوه هنا برفق!”.
2
عجزت عن تصديق ما تراه، هل هي في حلم جميل أم أنه واقع حقيقي، إنها لا تصدق أن زوجها سفاح العالم السفلي و زعيم منظمة السفك الخطير… يريد إسعادها… و الفوز بقلبها بأي طريقة، إلى حد أن يقتني لها بيانو!
22
في غمرة تفكيرها كان دارك مستمرًا بحذيرهم من مغبة خدش غطائه العاجي الأملس، أو كسر سيقانه الرفيعة، حتى وجدت روكسان صوتها، و سألته بنبرتها العذبة:
“ما الذي تفعله من أجلي يا دارك؟ هل يهمكَ إسعادي إلى درجة إحضار بيانو مطابق للذي كنت أعزف عليه في سانت مارونيت؟!”.
أجابها مسددا نحو عينيها النجلاوين نظرات مثقلة بالعاطفة العميقة:
“بل يهمني إسعادُ زوجتي إلى درجة إحضار ذلك البيانو نفسه من سانت مارونيت إلى هنا!”.
9
حدقت فيه لبرهة دون أن ترمش، ثم طرف جفناها أخيرا و هي تتمتم متلعثمة:
“ماذا… ماذا قُلت؟ أحضرتَ… البيانو… نفسَه؟!”.
بالكاد رأته يهزُّ رأسه إيجابًا، فازدردت ريقها تقترب بخطواتها المتلهفة من البيانو، و لم تكن بحاجة سوى لرفع غطائه و لمس مفاتيحه كي تتأكد أنه البيانو نفسه الذي عزفت عليه لزمن طويل، ربما يخونها البصر الذي إستعادته حديثًا، لكن يستحيل أن تخونها ذاكرة الأنامل!
جندت أهدابها لإخفاء تلك الدموع التي أقسمت أن تتقافز من شرفات عينيها تِباعًا، و إلتفتت إلى زوجها تخاطبه باذلة كل ذرة جهد تملكها فقط في سبيل أن تتماسك و ألا تبكي:
“إنه هو! هذا هو! كيف سمحوا لكَ بذلك؟ هذا البيانو ليس ملكي بل ملكٌ للكنيسة، أنا لم أكن أكثر مجرد موظفة هناك، دارك…!”.
دنت منه، و أضافت قلقة:
“الأب لوثر سيغضب…!”.
“فلينفجر! أنا لا أكترث!”.
6
أردف دارك ببرود، فوضعت روكسان يدها على ذراعه برقة، و علقت بحذر و الشفقة حيال القِس تغمرها:
“لكنه رجل صالح، أعتبره بمثابة أبي الروحي، و قد تعاقبه الٱسقفية بسبب أخذنا للبيانو!”.
بدا على دارك الإرتياح التام و هو يتفرس بأناملها الرقيقة مردفًا:
“لا أتصورُ أن الٱسقفية ستتسرع و تتخذ قرارا كهذا بحق الأب لوثر على وجه الخصوص، فحسب ملاحظتي، سانت مارونيت أكبر كنيسة بفيغاس… و بها عشرات القساوسة!”.
وجهت إليه روكسان نظرة إستنتاج مفاجئ، و سألت بمسحة مرح على شفتيها:
“حسب ملاحظتك؟ تتحدث كمن يزور الكنيسة أيام الآحاد! متى تسنى لكَ أن تعرف كل هذا عن سياسة الٱسقفية و قساوسة سانت مارونيت الكُثر؟”.
عقَّب دارك في قرارة نفسه:
«عن أي آحاد تتحدثين يا مصيبتي؟ لقد لعنتِ ريغان بهوسِ الكنائس، و ما من يوم ينقضي دون أن يقفَ في رحابها رغم أنفِ آثامه… و يصلي من أجل أن تغفر له عيناكِ!»
16
فكَّر في الجهر بما قاله لنفسه، لكنه أسرَّه أكثر، و غير دفة الحديث ملتقطًا يديها:
“هل يمكنُ أن تعزفي لحنًا ما على شرف قصتنا؟!”.
طال صمتُ روكسان، و أخيرا أجابته بلمعة غريبة في عينيها:
“يحتاج هذا إلى تأليف متكامل، ربما لا تعرف هذا… لكنني لم أبلغ تلك المرحلة في دراستي بعد، ثم إن قصتنا العنيفة و التي جنحت لاحقا إلى هدوء عجيب تتطلب لحنًا عميقًا و عزفًا ناضجًا، و أنا لستُ مؤهلة لإبتكار شيء خاص كهذا…”.
نظرت في عينيه و تابعت بحزن كدر نظراتها كأن تلك النظرات المهمومة… تزنُ كل أثقال الأرض:
“…لم أنضج موسيقيًّا بعد يا دارك؛ خروجي المبكر من المعهد لن يتيحَ لي أبدًا أن أمتلكَ يومًا ما مقطوعتي الخاصة! أمامي الكثير لأتعلمه في التأليف الموسيقي… و عودتي لمزاولة الدراسة في معهد الفنون مستحيلة!”.
“أصبحتِ السيدة ريغان الآن، هذه حقيقة كافية لتنسي كلمة المستحيل!”.
“أصغِ إليَّ دارك! من السهل أن تحضر بيانو سانت مارونيت إلى الفيلا، لكن هذا يختلف، من الصعب، بل من المستحيل أن تعود روكسان إلى ذلك المعهد، تغيبتُ عنه لأشهر، و القواعد هناك صارمة، لذا…”.
3
ألجم شفتيها بطرف سبابته مقاطعًا:
“روكسان لن تعود إلى المعهد، بل المعهد هو من سيعود إلى روكسان!”.
1
“ماذا يعني هذا؟”.
لم يوضح دارك مرمى كلامه، بل إكتفى بالرد و هو يربت على كتفيها:
“سنترك هذا لوقت لاحق، إعزفي أي شيء تجيدينه!”.
جلست روكسان أمام البيانو تراقب بطرف عينها إسترخاء دارك على إحدى الأرائك، مطَّط ساقيه و ثناهما بإستقامة ينتظر أن تبدأ العزف، فيما أرجعت هي خصلات شعرها الطويلة خلف كتفيها، و أخذت نفسًا عميقًا، قبل شروعها في مداعبة المفاتيح، إنتقت مقطوعة «أميلي» للعازف الفرنسي «يان تيرسن»، تعمدت أن تعزف ذلك اللحن بالذات، ليس لأنها تحبه فحسب، بل لأنه يحمل شيئًا من الأمل، شيئًا يشبه نقطة الضوء التي يبدأ منها الفجر في الإنتشار، شيئًا يشبه التغيير الذي طرأ على خاطفها السفاح و حوله إلى رجل يعرف كيف يجعل امرأة تحلق دون أجنحة!
3
و من جهته… كان دارك يصغي لتلك المقطوعة شاردًا، يرى إنعكاسه متوهجًا في شعرها المسكوب كالرصاص الأسود من فوق كتفيها، و بين تعرجات ذاك الرصاص المرتعشة يرى نفسه، يرى أسودَ أمه الصغير، يرى الطائر الذي تحرر و فردَ جناحيه أخيرًا، و بدأ يستعيد عنفوانه، في طفولته… كان كثيرًا ما يجالس النافذة، و يتأمل الصحراء منتظرًا عودة والده من العمل الغامض الذي يبعده عن أسرته أغلب الأوقات، و إذا جلس على عتبات الصخور المتوجة للكوخ، يقبض على حفنة من الرمال المحترقة بلظى القيظ، و يسألها عن موعد عودة والده، ثم يفلتها خائبًا لأنها تظل مصرَّة على الصمت، حتى يسمع صوت إنفتاح الباب، و يشعر بخطوات بطيئة خلفه، و حين يلتفت يفاجأ بأمه تنظر نحوه بحنان رغم عمى عينيها و عجزهما المحزن، كانت كفيفة و لا أمل في أن تبصره، لكنها كانت ترى روحه و تفهم أوجاعها دون أن يشتكي، فيجدها تجلس قربه على الصخور، و تمسد ركبتيه الصغيرتين بلطف مهونة:
“أنت تشتاق له كثيرًا!”.
لم يكن يجيبها غالبًا حين تقول ذلك، لكنها كانت تبتسم بمرح و صبر في كل مرة، و تضيف موجهة بصرها الفارغ إلى الأفق كأنها توأم للصحراء و مرآة لها:
“لن تحدثكَ الرمال عن والدكَ يا صغيري، و لن تفعل السماء الشاحبة التي ترتفع فوق رؤوسنا، و لا حتى الصخور التي تحتضنُ كوخنا ستحرك ساكنًا و تنطق خبرًا عنه!”.
تأخذ بعد ذلك حفنة رمال بدورها، و تفرج عنها من بين أصابعها ببطء ضاحكة:
“ٱنظر! الرمال تكتم الأسرار جيدا؛ لذا حدثها أنتَ عن والدكَ، من يمكن أن يعرفه أفضل منا، أتسمع هذا الصوت يا دارك؟”.
كانت تشيرُ لزعيق أقوى جوارح الصحراء، ملكُ الطيور الشامخ، فيهزُّ دارك الصغير رأسه بشغف مجيبًا:
“أجل، أسمعه و أعرف لمن يعود، إنه العُقاب الذهبي، أبي يحدثني عنه بإستمرار، و أنا لا أنفكُّ أراقبه كيف يحلق بكبرياء و ينقضُّ على فرائسه بقوة!”.
“عظيم! إذن راقب صديقكَ الذهبي بدل التحقيق مع الرمال الصامتة، يمكن لهذا أن يخفف عنك وطأة الشوق! ربما سيشعركَ بأن والدكَ قريب، فوالدكَ و العُقاب الذهبي يتشابهان كثيرًا يا صغيري!”.
إمتدت ذاكرة دارك في تلك اللحظة و هو يغوص بين طيات اللحن إلى الصباح الذي مرت عليه أشهر الآن، حين خرج من نفس الكوخ، لكنه لم يكن طفلاً بريء النظرات يبحث عن طيف والده الذي تأخر، بل كان رجلاً عابس الوجه، ضيق العينين، في يده بندقية صيد، و لا يضع نصب عينيه سوى نية البحث عن طريدة دسمة لإطعام رهينته، تذكر العُقاب الذهبي الذي لمحه يحلق فوق رأسه ناشرًا جناحيه بكبرياء كأنه يتزعم الصحراء، تذكر الٱمنية البريئة التي نسجها الطفل الميت بداخله يوما ما بأن يحلق هو الآخر هكذا! تذكر كيف أغمض عينًا، و أشهر بندقيته ليسقطه و يضع نهاية لتلك الٱمنية، و تذكر أيضا أن ٱمه كانت تحب تلك العُقبان و تُسمسها بحراس الصحراء، و الغريب آنذاك أنه تذكر ما قالته رهينته، حدثته عن مزايا تلك العُقبان ببريق جميل في صوتها، كأنها تقول أنها مثل ٱمه تتبارك بصوت العُقبان، و تشعر بالأمان لوجودها حول الكوخ كطوق حارس! في نهاية المطاف… أرخى دارك قبضته، و رفع جفن عينه المغمضة متراجعًا عن إصطياد العُقاب، و منذ تلك اللحظة بدأ يشعر أن الطفل داخله لم يمت تماما، بل كان يفتح عينيه من حين لآخر، و يتطلع بهما فقط… لوجه روكسان!
1
“ما رأيك؟”.
أفاق من شروده الطويل، و إكتشف أن روكسان أنهت عزف المقطوعة، و إستقامت عن مقعدها ملتفتة نحوه و كلها تلهف لمعرفة إنطباعه حول أدائها!
ترك دارك الأريكة يشعر أن الكلمات لن تسعفه ليصف أين أخذته هذه العازفة بمقطوعة واحدة، و كان الحل الوحيد أن يستنجد بلوحة وجهها الفاتنة ليحرر لسانه:
“لستُ خبيرًا في العزف، و ربما لا أعرف الكثير عن الموسيقى، لكنني أعرف عن يقين أنني لم أشعر هكذا من قبل، حتى لاكريموزا لم تؤثر بي إلى هذا الحد!”.
علت إبتسامة السرور محياها، و أردفت بتواضع:
“كنتُ واثقةً أنكَ ستحبُّ مقطوعة «أميلي»! أنت على حق… هذا اللحن مميز و عميق، يان تيرسن مبدع!”.
“لكن السرَّ ليس في المقطوعة و لا في مؤلفها، السرُّ في عازفتي…”.
3
هسهس بذلك مردفًا، فلاحظ أنها إبتلعت ريقها، و أسدلت جفنيها تهرب بعينيها خجلة من مديحه، تناول دارك يديها مقتربًا منها أكثر، و أطبق أصابعه المصقولة حول أصابعها الغضة مواصلاً الهسهسة قرب وجنتها المتضرجة:
“…هناك سحرٌ عجيبٌ في أصابعها هذه!”.
وضعها على فمه يلثمها ببطء مغمضًا عينيه، فتحت روكسان ثغرها تستنجد بالهواء، و بينما هي تلهث و هو يزيح أصابعها عن شفاهه الدافئة و نفسه الحار، و يضعها على صدره مقتربا من شفاهها المغرية أكثر… إقتحم أحد الخدم المكان، و أجلى حنجرته معتذرًا، هضم دارك غضبه باذلاً كل جهده كي لا يرتكب جريمة أمامها، و قال بإقتضاب:
5
“ماذا هناك؟”.
لجأت روكسان إلى الطرف القصي من الصالون محرجة، تدعي أنها تتصفح واحدًا من الكتب المصفوفة داخل خزانة زجاجية للزينة، بينما كانت ٱذناها تنقلان لها حوار الخادم و زوجها بوضوح:
“أحدهم حضر لرؤيتك سيدي، يقول أن إسمه سيفاك، و معه العصفور الذي طلبته!”.
رفع دارك ذقنه فجأة مستمتعا بما طرق ٱذنيه، و أردف باسطًا يده كما لو كان سلطانًا من الأزمان الغابرة:
“زيارتُه مقبولة، لنرى ماذا إصطاد لنا سيفاك هذه المرة!”.
كانت منظمة الويد تحافظ على نسق المهمات النظامي، فلا تسند عملية لسفاح معين إلا بعد يقين قوي بأنه الشخص المناسب لإنجازها على أتم وجه، فمهام إسترجاع البيانات الخطيرة و الملفات المفقودة توكل مثلاً للسفاحة مايڤا، لإمكانياتها المعلوماتية و خبرتها الواسعة في إختراق الحواسيب – إلى جانب قدراتها المبهرة في القتال و القنص بالطبع، أما مهام التعقب المستحيلة فكانت دائما تُسند لسيفاك!
لم يُعرف ذاك الفضي المجنون بمجرد كثرة سفكه للدماء، و بروده إزاء آلام الآخرين، عُرف عنه أيضا أنه متعقب ممتاز، و خبيث العقل، بإمكانه إصطياد أي شخصية أينما كانت و مهما إشتدت الحراسة حولها، و دارك كان واثقًا أنه الوحيد الذي يستطيع الإعتماد عليه في هذا الخصوص.
1
شهد مدخل الصالون دخول سيفاك بوجه باهت، لا أمارات واضحة تعلوه فتحدد حالته المزاجية، و خلفه تقدم رجل آخر أشقر قليلاً و ذو ملامح قوقازية عليها كدمات قاتمة و آثار دماء جفت تؤكد أنه كان تحت وطأة عنف مخيف، أخذ يسير في أعقاب آسره و هو يتعثر في خطاه الضيقة بتردد و اضطراب، و في الوقت نفسه يعاين المكان بنظرات جاحظة و مرعوبة كأنما يُساق به إلى السجن، و الحق يُقال، فالسفاح الفضي جعل أصفادًا حول رسغيه، و غُلاًّ غليظًا حول رقبته، موصولاً بسلسلة مجلجلة يقبض عليها سيفاك بإحكام، و يسحبه من خلالها كلما تباطأت خطواته أو تلكأ في السير عن عمد!
3
إذن هذا هو العصفور! إقتربت روكسان في خطوات حثيثة، و أشرفت على المشهد بنظرات لائمة و قلب مشفق، ثم سألت مخاطبة زوجها:
“من يكون؟”.
تجاهل دارك سؤالها، و وجه الخطاب نحو سيفاك مستفهما بهدوء مريب سبب وجود الكدمات و الجروح على وجهه:
“لماذا هو في هاتِه الحال؟”.
أجاب سيفاك كأن الأمر لا يعدو كونه مغامرة مسلية:
“لأنه تصرف كعصفور عنيد، و رفض فكرة تجربة القفص!”.
رمى السلسلة في قبضة دارك، ثم غمد يديه في جيبي سترته، و تراجع نحو باب الخروج مضيفًا:
“هو لك الآن كما طلبت، ربما سيروقك أن يسرد بنفسه كيف رسمتُ على وجهه القبيح خريطة إفريقيا… بعدما ضبطتُه يتنمر على طفل أسود!”.
2
غادر سيفاك غير آبه بحيرة زوجة الزعيم، و إنهمك دارك في تقليب ملامح الرجل المتمورمة، و يمرر بصره على جسده النحيل صعودًا و نزولاً، أقرَّ أنه واحد من ٱولئك الٱوروبيين المتعالين، يزاول مهنته المرموقة، و يتقاضى أجره المرتفع، مدعيا أنه شخص فاضل، و ذو مبادئ، بينما هو يجهل أن كل شيء على هذه الأرض بدأ بالمساواة، حسنا، هو ليس ناسكًا ليعلمه الأخلاق، و ليس إفريقيا ليثأر منه بسبب تنمره، هذه ليست قضيته، قضيته الوحيدة هي روكسان، و لأجل هذه القضية… على الرجل الوضيع الذي أمامه أن يحقق ٱمنيتها!
“دارك أنت تثير قلقي، لِمَ لا تجيب؟ من يكون هذا الرجل؟ و لأي سبب هو هنا؟”.
منحها دارك الجواب أخيرا و هو ينبس من بين أسنانه المتقاربة:
“ٱستاذكِ الموسيقي!”.
9
“ماذا؟”.
حدقت في الرجل الأشقر الذي كان بالكاد يستطيع مواصلة الوقوف، ثم عادت بنظرها إلى زوجها متمتمة:
“ٱستاذٌ لي أنا؟!”.
دار دارك بخطوات وتيدة حول الرجل المُكبَّل، كأنه يتفحص هدية إقتناها من أجل عروسه، و أردف:
“أجل يا روكسان، هذا ما كنتُ أقصده بقولي أن المعهد هو من سيعود إليكِ دون أن تتكبَّدي العناء!”.
2
أضاف و هو يرمق الرجل بامتعاض:
“قيل عنه أنه فنان شهير، و عازف بيانو من قامة الكِبار، آمل أن تكون أنامله بارعة في العزف، كبراعة لسانه في الهزء بالزنوج!”.
1
عقبت روكسان و لكن هذه المرة كانت في عينيها الواسعتين أشباح دموع:
“أنتَ قُمتَ بأسر عازف و ضربه… ثم إحضاره إلى هنا كما لو كان مُعتقل حرب… ليكون ٱستاذي الموسيقي! هل تدركُ ماذا فعلت؟!”.
3
شمخ دارك بأنفه مردفًا:
“سيفاك هو من اعتقله و استعمل معه العنف أثناء مقاومته!”.
“تنفيذًا لأوامرك أنت حضرة الزعيم!”.
عقبت على رده بسخرية مريرة، فقال مجددًا دون أدنى شفقة:
“راسلته في البدء بأدب، لكنه ترفَّع و إغترّ، و رفض تعليمكِ و منحكِ الشهادة!”.
صرخت روكسان بإستنكار:
“هذا ليس مبرِّرًا لتهينه بهاته الطريقة!”.
إحتقن دارك غضبًا، و رغم ذلك حدثها بهدوء و برود:
“ٱشكري السماء أنه لا يزال يقفُ على ساقيه بعدما وصفكِ بالعاجزة العمياء و رفض تقديم العون لكِ!”.
4
إتسعت حدقتا عينيها دهشةً، فأضاف دارك و هو يكيل للٱستاذ الموسيقي نظرات سوداء:
“ربما لم تتعرفي عليه بعد لأنكِ لم تري وجهه العفِن بعد إستعادة بصركِ، هذا هو رئيس قسم الموسيقى «ٱوكاليبس يالجان»، من أبرز أساتذة الموسيقى المخضرمين في معهد الفنون، إنه أكثر رفعة من رئيس المعهد نفسه، و ينحني الكل له كما لو أنه إله الفن! لكن داخل جسده الراقي… تكمن روحٌ خبيثة تجد لذة في السخرية من غيرها، أمثاله يستحقون السحق تحت النعال؛ و ليس مجرد حلقة حديدية حول عنقه و بضع كدمات على وجهه!”.
سعل الٱستاذ فجأة، ففاضت قطرات دم من فمه و تساقطت على طرف السجاد، لتدرك روكسان أن سيفاك كان عنيفًا معه إلى درجة أفقده ضرسًا! أرجعت خصلتين خلف أذنها و تطلعت نحوه حزينة على حاله، و ما لبثت أن نادت إحدى الخادمات، و خاطبتها آمرة:
“أحضري ثلجًا و بعض القطن و الشَّاش!”.
2
إنصرفت الخادمة مسرعة، أما روكسان فقد تجاوزت كل شيء، و غرزت نظراتها المخذولة في زوجها متسائلة و هي تشير إلى بقع الدم:
“هل تشعر بالإرتياح الآن و هذا الرجل المسكين يتألم و ينزف؟!”.
6
رأت فكيه ينقبضان، و سمعته يردُّ و قد بدأت عيناه تسودَّان أكثر من سوادهما القاتم:
“تتحدثين و كأنكِ لم تسمعي ما قاله سيفاك عنه!”.
“سمعت، و أجد تنمره على طفل بسبب لون بشرته مثيرًا للإشمئزاز و غير إنساني، لكن تصرفكَ أسوء، إذا لم يملك هو الرحمة، فلا تكن مثله!”.
بهتت نظرته، و حل الليل داخل عينيه حين قال بأكثر النبرات برودًا:
1
“أنا سفاح يا روكسان، لا أملكُ ما تسمينه رحمة!”.
“أنت مخطئ!”.
إقتربت منه بشدة، حاصرته بعينيها النجلاوين، و أخذت تروح و تجيء برأسها نافية، ثم أضافت بهمس:
“أنت تملكُ أجمل رحمة ممكنة، لكنكَ تأبى إظهارها، لأنكَ تخشى أن تضعفك، لكن ما تجهله هو أن الرحمة ليست ضعفًا على الإطلاق، بل العكس! حين تهمس لك كل خلية غاضبة في جسدكَ على أن تنال من شخص سبق و أذاك، يتطلب الأمر قوة عظيمة كي تتمرد على نفسك و ترحمه، ليس لأنك ضعيف، و لا لأنه يستحق رحمتك، بل لأنك لست مثله، هذا ما عشتُه حين كنتُ مخيرة بين الهرب و تركك على مشارف الموت و بين البقاء رهينتك… فقط لإنقاذك! هذه هي قوة الرحمة يا دارك!”.
كره دارك أن تستعيد كل ذلك الآن، كره أن تذكره كيف كانت رهينته المعذبة، و كيف كان خاطفها البارد! و ما كرهه أكثر هو أن أصفاد هذا الٱستاذ اللعين لا تذكرها سوى بأصفادها هي، لكن هل ستفهم يا تُرى لِمَ أصرَّ أن يحضره سيفاك مُصفَّدًا؟ هل ستفهم أنه أراده عاجزًا و ذليلاً بعدما تجرأ على وصفها بالعاجزة العمياء؟!
أسرَّ دارك كل ما فكر فيه، و أخفى غليان أعماقه خلف ستائر عينيه الباردتين، ليقول فجأة رغم أنه أكثر من يمقت تبرير أفعاله لأحد:
“دعينا من فلسفة الرحمة و الغِلظة؛ فعلتُ ما فعلتُه لإسعادكِ!”.
2
تمهلت قليلاً قبل أن تجيبه بصوت بارد رغم رِقَّته:
“للأسف… لا يمكنكَ إسعادي بإيذاء الآخرين، هذا لا يجلبُ علي غير الشعور بالذنب!”.
حضرت الخادمة في أذيال تلك العبارة التي إخترقت قلب دارك كنصل متأجج، بين يديها صندوق إسعافات وجدته في المطبخ، سلمته لسيدة الفيلا، و عادت من حيث أقبلت، فتحت روكسان الصندوق بعدما أجلست الٱستاذ على الأريكة القريبة حيث كان مجلس دارك، و دون كلمات، و دون حتى أن تنظر إلى زوجها، بسطت يدها نحوه متجهمة، بما يعني أنها تريد مفتاح الأصفاد و الطوق المُذلِّ الذي يلفُّ رقبته، لم يكن بحوزة دارك أي مفتاح، فسيفاك هو المسؤول عن أسره، لذا… و رغم رفضه قرارها، إستخرج مشرطه من الجيب، و برأسه الحاد، حرر الأسير، و ظل واقفًا على رأسيهما يراقب ما ستفعله زوجته كاظما غضبه!
طفقت روكسان تعالج جراح ٱوكاليبس و تحاول الطبطبة بحذر على كدماته، بينما كان هو يئنُّ حينًا و يطرف بجفونه محدقا في حركاتها حينًا آخر، لم يُخيَّل له يوما أن تلك الطالبة العاجزة عن الإبصار ستكون الملاك التي تغرقه برحمتها و تخلصه من وحشة العجز، شعر بالندم لأنه لم يكن يراها سوى جسدًا جميلاً يفتقرُ لنعمة البصر، و شعر بالإستكانة أيضا لأنها موجودة و تستطيع الحول بينه و بين الألم!
2
لكن صوت دارك الخشن أفزعه و جعله يُشيح عنها و يغرز نظراته بالأرض:
“لا ريب أنك لا تريد أن أطعم عينيكَ لكلبتي، لذا لمصلحتكَ تمالكهما!”.
3
ثم أضاف محذِّرًا:
“أمامكَ خمسُ دقائق فقط لتبدأ أول حصة موسيقية!”.
إمتقع وجهُ ٱوكاليبس مضطربًا، و إلتفتت روكسان نحو زوجها تزمُّ فمها بإستياء، قبل أن تعقِّبَ مغلقة الصندوق بحدة:
“لن يستطيع العزف و هو هكذا!”.
تفرَّس به دارك لثوانٍ، و إستأنف غير آبه بوضعه المزري:
“لا أرى أنه يشتكي من شيء، لكنه لن يكون بخير إن ماطل أو تقاعس عن أداء مهمته!”.
جف حلق الٱستاذ، و قرأ تهديدًا عنيفًا في كلمات دارك، لكنه حاول مراوغته ليستعيد حريته، فتدخل قائلاً:
“ما تطلبه مستحيل، روكسان فارغاس فُصِلت من المعهد منذ زمن بسبب غيابها الطويل، و تسليمها الشهادة الآن مخالف للقوانين!”.
لم يمهله دارك ثانيةً واحدة ليتوقع ذلك الرد العنيف، هاجمه في حركة سريعة، و خنقه بكلتا قبضتيه مزمجرًا:
“أوَّلاً… حين تتحدث عن زوجتي… لا تتجرأ على نطق إسمها دون لقب السيدة، و ثانيًا… لا تذكر قوانينك اللعينة تحت سقف بيتي، فهنا… قانون دارك فقط هو الساري و النافذ!”.
1
تقطع صوت ٱوكاليبس و هو يردف مختنقًا:
“إنها ليست… قوانيني؛ بل… قوانين… المعهد!”.
“ما الفرق بينكَ و بين ذلك المعهد الرثّ الذي قرَّر فصل زوجتي؟!”.
“توقف دارك! ما الذي تفعله؟”.
جاهدت روكسان لتخليص الرجل من بين يديه لكن قوتها كانت لا تقارن بقوة دارك، لا سيما و هو يستشيط غضبًا، و يتنفس بتلك الحدة بينما يضيف مضيقًا عينيه:
“و ثالثًا و الأهم… زوجتي لم تعد تحمل كنية فارغاس القذرة… إن كرَّرتها مجددًا… سأحرصُ على فصلِكَ من الحياة!”.
صرخت روكسان ثانيةً:
“أفلِته! دارك… إنه يختنق! سيموت بين يديك!”.
تجاهلها تماما، أبقى إحدى قبضتيه طوقًا مشدودًا حول عنقه، و عرَّج بالٱخرى إلى فكِّيه، ليسحقهما بأصابعه الخشنة مفرقًا بين أسنانه و هو يواصل قوله:
“خاطِبها بإحترام و قُل… السيدة روكسان ليوني ريغان!”.
أغمض الٱستاذ عينيه، إصفرَّت سحنته، و فرَّت الدماء من وجهه كأن لمسة أصابع دارك تلسعها و تطردها بعيدًا، ليتمتم بغُصَّة و حشرجة:
“السيدة… روكسان ليوني… ريغان!”.
أخلى سبيله أخيرًا، و نفض يديه معلقًا تحت بصر روكسان الذاهل:
“أحسنت، إذا إستمرَّيتَ هكذا فستنال من لدُنِّي مكافأة، أنا إذا أثرتَ غضبي، فسٱكافئ الأرضَ بجثتِك!”.
إسترخى على الأريكة المقابلة، و إستطرد بعد نظرة خاطفة إلى ساعة يده:
“إنتهت الدقائق الخمس، و الحصة إنطلقت الآن!”.
كظمت روكسان إستياءها من حدة ٱسلوبه، و خاطبته بلين هذه المرة:
“إمنحه وقت راحةٍ كافٍ على الأقل!”.
رمقها دارك بنظرته الباردة، و ردَّ فورًا:
“سيفاك أحضره من منزله الفاره الذي يقع في مدينتنا هذه، و ليس من ٱوروبا، لذا هو في غنى عن الراحة!”.
وجد ٱوكاليبس الشجاعة لينطق:
“لنفرض أنني واصلتُ تلقينها الدروس الموسيقية المتبقية، و نجحت في الإختبار النهائي، كيف سأمنحها الشهادة دون أختام هيئة الإدارة؟!”.
أجابه دارك هازئًا:
“من السهل تدبُّر شيء بسيط كهذا، لو طلبتَ ختم إبليس نفسه، فسيكون هنا قبل غروب الشمس!”.
1
أدرك ٱوكاليبس أنه وقع في قبضة عصابة مجانين يمكنهم فعل أي شيء، إزدرد ريقه و بحث بعينيه في أرجاء الصالون، فلاحظ البيانو، و سأل من جديد:
“آلة العزف لا تكفي، تلزمنا…”.
“نوتات! سُلَّم موسيقي! مؤلَّفات كلاسيكية! جهاز ٱسطوانات! كتبٌ حول تاريخ الموسيقي و عمالقة العزف على البيانو! مقطوعات شوبان! روائع باخ! حركات بيتهوفن العبقرية! سبق و وفَّرتُ هذه الأشياء في الفيلا قبل أن آمرَ بإحضاركَ… ٱوكاليبس يالجان!”.
3
لم يجد الٱستاذ ثغرة واحدة للنفاذ منها، ألفى نفسه مجبرًا على أداء تلك المهمة بصمت و خنوع حفاظا على حياته، و في قرارة نفسه كان يفكر بشخصية دارك: إما أن هذا الرجل مهووس بزوجته أو أنه سايكوباتي لعين!
12
عجزت روكسان عن تفسير شعورها و هي تجلس قبالة البيانو مستعدة لعزف المقطوعة التي ذكرها ٱوكاليبس، كأنها ممزقة بين الإنشراح لإهتمامه… و النفور من قسوته تجاه الآخرين! عزفت لحنًا هادئًا و عميقًا جعلها ترغب بالبكاء فجأة، إقتحمها شعور الذنب و الشفقة على دارك، تذكرت دفعة واحدة الطفولة الأليمة التي عاشها، من يدري أي أهوال عاشها في الميتم أيضا؟ أدركت أنه لا يُلام على قسوته و بروده مع الغير، و حزَّ في نفسها أنها صرخت بوجهه منذ قليل، ناسيةً أنه من أعاد النور لعينيها، و الآن ها هو ذا لا يقف في تلك النقطة فحسب، بل يحاول بطريقته الخاصة إعادة الموسيقى لحياتها!
دلفت خادمةٌ محملة بالكتب و الأغراض الموسيقية التي إقتناها دارك و أمر بوضعها في الغرفة الخاصة بكتب زوجته، فأسرعت نحوها روكسان تساعدها في حملها، و هي تخاطبها بلهجة متسامحة:
“ما كان عليكِ إحضارها معا، لن نحتاج في حصة اليوم سوى لبعض النوتات!”.
حملت بين ذراعيها المتشابكتين جهاز الٱسطوانات و بعض الكتب، ثم إلتفتت تعتذر من الرجلين:
“إسمحا لي بلحظة!”.
أضافت و هي تخصُّ ٱوكاليبس بكلامها:
“حضرة الٱستاذ يالجان، سٱواصل عزف المقطوعة بعد إعادة هذه الأغراض إلى غرفة المكتبة، لن أتأخر!”.
وجد دارك تلك الفرصة مواتية كي ينفرد بالٱستاذ، و يضغط على ذراعه مندِّدًا:
“أصغِ إليَّ جيِّدًا، ستعود زوجتي لإستكمال المقطوعة، و حين تنتهي… أخبرها أنكَ لم تسمع أداءً أجمل من هذا طيلة حياتك، لأنني سأقطع أصابعكَ العشرة و أحرمكَ من العزف ثانيةً إن تجرأتَ على إنتقادها! مفهوم؟”.
37
أومأ ٱوكاليبس بفرائص مرتعدة، و غمغم متلعثمًا:
“مفـ… مفهوم!”.
في غرفة المكتبة، سألت الخادمة روكسان بعدما فرغتا من الترتيب:
“الفطور جاهز سيدتي، هل تريدين شيئًا خاصًّا إلى جانب الشاي و خبز التوست و العصير؟!”.
فكَّرت روكسان مبتسمة، و أجابت:
“البيض المخفوق و القهوة المُرَّة… السيد ريغان يحبهما!”.
“حاضر سيدتي!”.
عادت روكسان إلى الصالون مجددًا، و بعد فصل طويل من العزف، أرخت يديها متنفسة الصعداء، تنتظر تعليق الٱستاذ بفارغ الصبر، و في الوقت نفسه تخشى من أي إنتقاد قد يفجر البركان الأسود الجالس خلفهما!
ظل الٱستاذ صامتًا لفترة من الزمن، كزَّ دارك على أسنانه، فكر أنه يضمرُ نية إنتقادها في أية لحظة، و هذا يعني حزنها، الشيء اللعين الذي يكره أن يراه في عيون الرِّيم! لكن ٱوكاليبس فاجأ الزوجين بتعليق منبهر و تصفيق متباطئ من فرط ذهوله:
4
“كان هذا ساحرًا! تعزفين بٱحتراف! كأنَّ أناملكِ جُبلَت على الرقص فوق مفاتيح البيانو بتناغم و سلاسة! يبدو أنكِ تتمرَّنين بإستمرار!”.
مالت روكسان برأسها خجلة، و أردفت في تواضع زادها جمالاً:
“بل على العكس، إنقطعتُ لمدة طويلة عن العزف، لكنني كنتُ قبل أشهر عازفة في الكنيسة، و ربما هذا ما صقل قدرتي على عزف أي نوتة أمامي!”.
“هذا يفسِّرُ السلاسة الجميلة في عزفكِ سيدتي، العزف في الكنائس يكسبكِ خبرة من ذهب، و الخبرة عامل مهم في مسيرتِك كعازفة!”.
لمعت عينا روكسان بشكل ملفت، و علقت غير مدركة ماذا فعلت تلك اللمعة بروح دارك:
“هل تقصدُ أن هناك أملٌ كي أصبحَ عازفةً ناجحةً يومًا ما؟!”.
أجاب ٱوكاليبس بصدق ناسيًا هو الآخر وجود دارك في المشهد:
“و ما المانع؟ و لأكون دقيقًا… أنا لا أرى أي نقصٍ في عزفك، سيدة ريغان… قد تعتبرينها مبالغةً مني؛ لكنني واثق… أنتِ لن تصبحي عازفة ناجحة فحسب، ستكونين أيقونة الفن!”.
فكَّر دارك الآن أنه بارع في التمثيل، في مطلق الأحوال… روكسان تستحق ذلك الإطراء، لكن هذا الأخرق الأصفر بالغ و تمادى، لا ينقصه إلا أن يغازلها أمامه! إنتفض دارك من مجلسه، و قبل أن يحول الٱستاذ إلى مضغة بشرية، أنقذ الموقفَ دخولُ الخادمة و هي تعلن عن جاهزية طاولة الفطور!
6
دعا زوجته كي ترافقه إلى غرفة الطعام، فوضعت يدها بقبضته و سارت بمعيته بضع خطوات، ثم توقفت فجأة على باب الصالون متسائلة:
“و ماذا عنه؟ ألن يتناول شيئًا؟”.
لو لم يكن مجبرًا على تحمل منظره من أجلها، لسقاه السُمَّ و أرسله إلى العالم الآخر! شملها بنظرة غامضة، و أجاب:
“سيفعل ذلك في الغرفة التي خصصتُها له!”.
إرتاحت مبدئيا لأنه لن يغصبه على الإقامة في القبو مثلاً، فهي أكثر من يعرف أي قدر أسود يمكن أن يواجهه المرء هناك، لكنها عادت للسؤال مجددًا بلطف:
“ألا يستطيع الجلوس معنا على نفس الطاولة؟ ألا يمكننا معاملته كضيف على الأقل!”.
“لا!”.
جوابه السريع و الجاف حسم الحوار، و جعلها تبتلع لسانها طيلة المسافة الفاصلة بين الصالون و غرفة الطعام، سحب لها الكرسي، فجلست محافظة على الصمت، و بينما كان يتخذ مكانه قربها مترئسًا الطاولة، كانت الخادمة تتنقل بينهما ساكبة القهوة للسيد و الشاي لزوجته، و هكذا مضت تلك اللحظات متأرجحة بين الصمت المزدوج، و النظرات الناطقة، و كان المخرج الوحيد من تلك المعمعة أن يقتنع أحدهما بخِيار من إثنين: إما أن تقبل روكسان زوجها كما هو دون الإعتراض عن ٱسلوبه السوداوي و البحث داخله عن دارك الرحيم؛ أو أن يسعى دارك لكسب قلب زوجته دون اللجوء لتعنيف الآخرين و إعلاء قانونه المتوحش!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس|منزل إدريك|رائحة الحب و الدم…
الثالثة مساء…
جلس صاحب المنزل داخل صالونه كغريب، لأول مرة في حياته لا يفهم أ هو بحاجة للشرب أم للنوم فترة طويلة أم للغرق بين أحضانها فقط؟! رآها تعود من الخارج مرهقة و على مقدمة حذائها قطرات دم، أدرك أن مهمة قتل جديدة ٱسندت إليها، صمتها المفاجئ أزعجه، و صعودها المباشر لغرفتها عبث بأعصابه، هل هي مثله؟ هل تفكر أيضا فيما حدث بينهما تلك الليلة؟ هل تتساءل عن مستقبل علاقتهما وسط هذا المستنقع الملوث؟
كره فجأةً أن يمكث على وضعيته تلك، ليلة البارحة لم ينعم بنوم لحظة واحدة، و اليوم مُذ عرفت الشمس شروقها، لم يعرف عقله راحة، و لا ذاقت روحه سكينة!
دخن سيجارتين متتابعتين و هو يذرعُ الصالون بخطواته جيئةً و ذهابًا، و حين قرر الصعود إليها، رنَّ هاتفه الخلوي، ففتح الخط و قال على مضض:
“تكلمي يا ليشا! ماذا هناك؟”.
إقتحمت السفاحة الموضوع على الفور بصوت لا يطمئن:
“هناك شخصٌ مجهول يلاحقكَ أنت و سيريا منذ أيام، ربما هو فقط يجمع معلومات حولكما، و ربما أيضا يترصدكما بنية خبيثة، كن يقظًا! لقد إستعاد داجيو وعيه، و لم ينسَ أنكما رفعتما السلاح في وجهه، لا أستبعد أن تتعرضَا لهجوم في أية لحظة!”.
أعادت ليشا الهاتف لجيبها، و إنتبهت أخيرًا لوقوف مايلس على باب القاعة، و قبل أن تنطق بحرف، كان قد ركض خارج مقر الويد، و القلق عليهما يفترسه، هما و دارك عائلته الوحيدة، لا يمكنه الوقوف بعجز و مشاهدتهما في معرض الخطر، سيفعل المستحيل لحمايتهما، حتى لو تطلب ذلك وضع روحه على المحك، قاد بسرعة جنونية نحو منزل إدريك، بينما كانت مكالمات متكررة تهزُّ هاتفه دون أن يوليها إهتماما، ألقى نظرة أخيرا على الشاشة، فلمح إسم روما، لكنه لم يكن في وضع مناسب ليجيب، لذا حول هاتفه إلى الوضع الصامت، و تابع القيادة بتوتر، يخشى أن يبطئ السرعة لثانية واحدة فيخسرهما!
تسلق إدريك السلالم في خطوات واسعة، و دلق باب غرفتها بعنف فكاد يكسره، إستدارت نحوه سيريا ذاهلة من تصرفه، كانت قد أخذت حماما سريعًا تخلصت به من آثار جريمتها، و ها هي ذي قد إرتدت ثيابًا نظيفة و على تأهُّب لتجفيف شعرها، لكن هجومه على خلوتها بتلك الطريقة لم يكن من طبيعة إدريك الباردة، شيء ما في عينيه جعلها تتحفز و تقلق!
أخذ يمسح زوايا الغرفة بنظرات ثاقبة، و أفكاره تتسارع، فيما تمتد الدماء في شرايينه و تتقلص كالزئبق! إستبعد تماما أن يكون الشخص المجهول الذي يتعقبهما من طرف داجيو، و أدرك أن العدو غيره، فحين وجد تلك الأشواك داخل تلك الغرفة، كان داجيو لا يزال تحت تأثير الغيبوبة، ثم إنه زار في مستشفى المقر ليلة البارحة، و دار بينهما حوار مشحون بالعداء، لكنه لم يحدس أي خطر يخصه هو و سيريا، بل كان كل غيظ داجيو منصبًّا على دارك الذي سرق منه الزعامة و النفوذ و الثروة! إنه يعرف شقيقه حق المعرفة و هذه ليست أساليبه! علاوة عن أنه لا يعرف بحقيقة إنتماء سيريا للتايغرز، صرف إدريك دايفن عن أفكاره، و وضع غيره تحت مجهر الشك، لا ريب لديه أن الليونز هم يمارسون معه هاته الألاعيب، سبق و هددوه بكشف سره إن لم يقدم لهم أسرارا يستخدمونها ضد التايغرز، و بما أنه تعنَّت رافضًا أن يتصرف كواحد منهم، ها هم يحاولون لوي ذراعه بإستخدام سيريا!
“ما الأمر؟”.
سألت سيريا مستغربة، و أضافت:
“هل تبحث عن شيء ما؟!”.
إكتفى بهزِّ رأسه نافيًا، ثم دنا منها في خطوات وتيدة، و توقف عند نقطة تبعد عنها بسنتمترات فقط قائلاً:
“لا تتركي الشبابيك مفتوحة بشكل دائم! و لا تسلكي نفس الطرق خلال تحركاتكِ هذه الفترة!”.
عقدت حاجبيها مستفهمة:
“لماذا تعطيني هذه التعليمات؟ ما الذي يجري بحق السماء؟”.
“ليست تعليمات، إنها أوامر، و لا أسمح لكِ بمخالفتها!”.
أمسك لسانه لبرهة من الزمن، و قبل أن تردف، إستأنف بإنفعال غريب:
“أتعلمين؟ غيرتُ رأيي! ستلازمين البيت هذه الفترة، هناك مئات السفاحين ليتولوا أداء المهام عنكِ!”.
إحتدت نظرتها و هي تعلق:
“هل أفهم أنكَ تحتجزني؟”.
“لا، فقط أحدُّ من حريتكِ مؤقتًا!”.
رفعت يديها تحدق بالسقف ساخرة:
“ما الفرق؟”.
تجاهل إدريك ردة فعلها، و أشار إلى التلفاز المثبت على أحد جدران الغرفة:
“لا تضخِّمي الأمر، تسلي بألعاب الفيديو إلى أن تنجلي مرحلة الخطر!”.
أردفت بعصبية:
“بربِّكَ عن أي خطر تتحدث؟ ثم… مهلا! هل قلتَ ألعاب فيديو؟!”.
فغرت فمها بدهشة مسرحية، و لوحت أمام وجهه تضيف ساخرة:
“و لكن إدريك… آه! هل تراني بشكل جيد؟ هل أبدو لك في عمر الزهور لأتسلى بألعاب الفيديو؟ لا أصدق هذا! من المضحك ظنك بأنني لا زلت مراهقة و لا زالت تلك الأشياء تسلِّيني!”.
وسط كل ذلك القلق و الخوف من أن تتعرض لمكروه، وجد الإبتسامة تتسلل إلى وجهه و تهزُّ شفتيه كاسرة عن تقاطيعه تعويذة البرود، تذكر كيف كانت تتأوه بين ذراعيه و تخدش ظهره و تعض كتفيه من فرط الرغبة به، لاحظت سيريا أنه أسير أفكار مثيرة على ما يبدو، فمن النادر أن تكلل إبتسامة كتلك فمه القاسي، لذا إتجه تخمينها فورا إلى نفس المشهد، لتنتقل من العصبية إلى الشغف، و تعض شفتها و هي تدنو منه و تتمتم قابضة على ياقة قميصه:
1
“فيمَ يفكر دادي المثير؟”.
أجاب إدريك مقاومًا الإنفجار الذي قد يحدث داخله في أية لحظة:
“في مراهقة شقية ليست بحاجة لكي تصبح امرأة؛ لأنها إختصرت كل نساء الأرض في ليلة واحدة!”.
1
إزدردت ريقها بصعوبة، ظمأت فجأة لشدة جمال ما سمعته، و الأجمل أن تلك الكلمات من لسان إدريك! فنزلت إلى المطبخ لترتشف بعض الماء و تتخلص من جفاف حلقها، آنذاك… و قبل أن يغادر إدريك غرفتها، قرَّر أولا إجراء إتصال ضروري!
فتح سجل مكالماته، و إختار رقما لم يكن يرغب بسماع صوت صاحبه حتى، لكن لا مفرَّ من وضع النقاط على حروفها بعدما أفضت به ليشا! و على الطرف الآخر من المخابرة الهاتفية، أجاب أخوه الأصغر جيرالد ليوني؛ أو كما يختصر الجميع إسمه بمناداته «جيرو»:
“هل توقف الكوكب عن الدوران أم أن الأخ الخائن يتصل بي حقا؟”.
لم يتجاوز إدريك تلك السخرية بأعماقه، لكنه أردف ببرود:
“لم أخُن أحدًا، أنت تعرف أنهم إتحدوا جميعا لنبذي من العشيرة!”.
إهتاج جيرو و ردَّ بسخط:
“بلى، حين تنصب المكائد لأخينا الأكبر و تضعُ حدًّا لحياة والدنا… لا تكون إلا خائنًا للدم!”.
“دم؟!”.
كرَّر إدريك بسخرية قاتلة، و أضاف بصوت فارغ من الحياة:
“طالما نشأتم على حجر ذلك الجراح السافل، فلن تجري في عروقكم سوى القذارة! و على ذكر القذارة، كفُّوا عن مراقبة سيريا و ملاحقتها كالكلاب الضالَّة، لأنكم لا تعرفون من إدريك… و لا ما يمكن أن يصدر عنه لو حدث و مسَّها ضرّ!”.
أبعد الهاتف عن أذنه، و قربه من فمه مواصلاً التنديد هذه المرة بلهجة تفزع الموتى:
“لقد مزقتُ أبي فقط لأنه أراد أخذها من بين يدي و هي رضيعة، هل يمكنك أن تتخيل ما الذي قد أفعله لو حاولتم إيذاءها بعدما قضت معي كل هذه السنوات؟!”.
1
كان جيرو قد قفز من مقعده و شدقاه يزبدان غيظا، و لسوء حظه أن أخاه سبقه و أغلق الخط بوجهه، لولا ذلك، لسار خلف أعقاب هياجه الجنوني و قال ما لا تحمد عقباه، ربما لم يعد إدريك يعيش تحت سقفه كما كان في صغره، لكنه لا يزال يذكر جيدا أي شخصية يمتلك، إنه هادئ بارد و نادر الكلام، لكنه حتما ليس النوع الذي يمكن للمرء أن يغامر بالعبث معه! لكنه واثق أنه لم يرسل أي متعقب خلفهما، و لا يظن أيضا أن بقية أفراد الليوني قد فعلوا! لا سيما في الظروف الراهنة، زواج دارك بواحدة تحمل دم الٱسود و النمور معا خلط الأوراق، و غير الحسابات، الآن كلا العائلتان مجبرتان على إيقاف العِداء و عقد هدنة حقيقية، من جهة هناك روكسان التي توحدهم شاؤوا أم أبوا، و من جهة ٱخرى هناك عشيرتا الميغا الكبريين التين تضعانهم تحت المجهر!
مكثت سيريا في المطبخ لبعض الوقت تلتقط أنفاسها، و إستغربت ما يمر به جسدها من أعراض لا تصدق، الوقوف أمام الأعداء، و النظر للجثث و الدم، لا يهزُّ شعرة منها، بينما مجرد الوقوف أمام إدريك و النظر داخل عينيه يذوي قلبها و يحول روحها إلى عاصفة لا تكفُّ عن الهبوب داخلها!
إستجمعت قواها، و صعدت من جديد إلى الطابق العلوي، و بينما كانت تعبر الرواق بثبات معتقدة في صميمها أنه حتما رحل أو إنزوى بغرفته، سمعت صوته العنيف و هو يخاطب شخصا ما على الهاتف منددا، لم يكن ذلك الصوت باردًا و فارغًا من الحياة كما إلتقطه جيرو، بل كان بالنسبة لها الحياة نفسها، كيف لا و هي تسمعه بأذنيها يحذر أيًّا كان من التعرض لها!
دفعت الباب الموارب بلهفة، رأته ينهي المكالمة و يخفي الهاتف بعصبية في جيبه، تأملت كتفيه العريضتين بنشوة، و في اللحظة التي شهدت إستدارته نحوها، ركضت سيريا دفعة واحدة و إرتمت بين أحضانه تسقيه شهد شفتيها، شبكت ساقيها حول خصره، فضغط عليها بقبضتيه يحشرها في ثناياه أكثر، ثم جمع شعرها المتساقط في يد واحدة، و غرز أسنانه برغبة جامحة في شفتها السفلى، القبلة التي أخذت من الزمن الكثير أدارت رأس إدريك و نشرت النجوم الوهمية حول عيني سيريا، إنحرف بها لنصف دائرة و هي لا تزال متشبثة به، فأصبح ظهرها في مواجهة شُبَّاك الشُّرفة، و بات الأضواء المتسللة من الخارج تنزلق فوق رأسها كطرحة العروس، قدماها تتأرجحان، و قبضتاه تمسكان فخذيها إحكام الآن، و ثغراهما يرفضان ترك تلك القبلة الجنونية لنهاية ما، أفلت إدريك فمها أخيرًا، و تنفس بحرارة في وجهها كالمحموم، قبل أن يعلق مبتسمًا:
“ما هذا؟ لا أذكر أنني علمتكِ التقبيل بهذا الجموح!”.
دعكت شفتيها بطرف لسانها و ضحكت مردفة:
“الرغبة ٱستاذ خطير! إنها تدفع لأكثر من هذا!”.
“الرغبة و حسب يا شقيَّة؟!”.
سألها بتهكُّم مضحك، فامتنعت عن الجواب و فضلت أن تستمر بتأمل عينيه، هل ستتمنى أكثر من هذا الآن؟ الشعور بتصلب جسده، و إنتفاخ شرايينه كافٍ لتقتنع أن هذه هي فقط… أقاصي السعادة!
لاحظ إدريك أنها شاردة و لا تتجاوب معه في الحوار، فغير دفة الحديث سائلاً:
“هل ستقضين اليوم أيضا في مراقبة عائلتكِ عن بعد؟!”.
حركت رأسها نافية رغبتها في ذلك، و قالت أن تحيد نظراتها الساهمة عن عينيه:
“أنا بين أحضان عائلتي الآن!”.
أفرج إدريك عن نفس مكتوم، و أسند جبينه إلى خاصتها مصغيًا للحن أنفاسها، بينما هي تتمتم بلمعة بارقة:
“إدريك!”.
“ماذا؟”.
“ماذا سنفعل بخصوص ما حدث بيننا؟”.
1
أطلق تنهيدة قصيرة تنمُّ عن إنشغال ذهنه بالأمر عينه، و أردف بتفكير عميق:
“دعي هذا لي، في مطلق الأحوال… لا توجد وثيقة تثبت أنني تبنيتكِ قانونيًّا، و لكن سنستعد لكل الإحتمالات، فأنا لا أضمن أحدًا!”.
أمالت سيريا رأسها معلقة بعذوبة:
“أنا أضمنُكَ أنت يا إدريك! و أكتفي بهذا الضمان لقلبي!”.
ران صمتٌ طويل جعل الهواء ثقيلاً في الغرفة، قبل أن يستعيد إدريك صوته و يسألها بصوت تشوبه بحة عاطفية غير مسبوقة:
“هل تحبينني إلى هذا الحد يا صغيرتي؟!”.
5
حينها، إبتسمت سيريا كما لم تفعل من قبل، وضعت إحدى يديه على يسار صدرها، و لمست حلمة ٱذنه بطرف شفاهها هامسة:
“تأكد بنفسك! أليست هذه النبضات المجنونة إحدى لغات الحب؟”.
عانقها بقوة، و تحولت ذراعاه إلى طوق أمين حولها، لكنها لم تكن آمنة كفاية، حتى و هي محمولة و مخبأة بين أحضان الرجل الذي تحب، كان الحظ العاثر حاضرًا! لا الحب أنقذها، و لا الأحضان و القبلات أبقتها بعيدة عن الخطر، و الدماء التي تخلصت منها خلال إستحمامها قبل قليل، عادت و إلتصقت بها ثانيةً، لكنها لم تكن دماء الضحية التي ٱمِرت بتصفيتها، بل كانت دماء السفاحة نفسها، إتسعت عينا إدريك و أجفل بحدة و هو يحاول جاهدًا تكذيب الصوت الذي سمعه و المشهد الذي يراه، لا، هي لم تسقط، لم تخترق أي رصاصة ظهرها و هو موجود و يحيطها بذراعيه، هو فقط كابوس لعين يمكنه الإستيقاظ منه! سيريا لا تنزف الآن، و أنفاسها لا تخفت بينما تتمسك بياقته و تردد:
8
“ٱحبُّك!”.
بلغت سيارة مايلس المكان أخيرًا، و قبل أن يجد فرصة ليترجل و يطمئن عليهما، سمع دوي طلق ناري، فجحظت عيناه، ثم تلا ذلك ركض رجل ملثم ليفر عابرًا الرصيف الملاصق لمركنه، لاحظ مايلس أت في قبضته مسدس، إحمرَّت مقلتاه و هو يفتح باب سيارته في اللحظة المواتية، مشكلاً به حاجزًا يمنعه من الفرار، لم يكن لديه أدنى شك في أنه المتعقب الذي ذكرته ليشا، لذا لم يرأف به، فور إصطدامه بباب السيارة و تكوره أرضًا، إنهال عليه مايلس بالركل و اللكم دون هوادة، حاول الآخر الدفاع عن نفسه، لكن مايلس كان أسرع و أكثر رشاقة منه، ليس بفضل جسده الرياضي فحسب، بل لشدة غضبه و خوفه على عائلته الوحيدة، مخاوفه في تصاعد، أين إنتهت تلك الطلقة يا تُرى؟ هل هما بخير؟ هل ٱصيب إدريك؟ أم أن سيريا هي…؟ لا! لا يمكن أن يخسر أيًّا منهما، و إن حدث ذلك، فلن يذرَ عظمة سليمة في جسد هذا الوغد!
داس مايلس على أصابع الملثم حين لاحظ أنه يحاول إمساك مسدسه من جديد، كسر مرفقه الأيمن، و ركل السلاح الناري إلى زاوية بعيدة، قبل أن يضغط بركبته على عنقه، و يقرر نزع اللثام عن وجهه، لتعلو الصدمة العنيفة ملامحه و هو يرى تحت بصره صاحب مقهى الزهور… الرجل نفسه الذي ربى روما منذ صغرها… يوري!
11
في تلك اللحظات… فقدت سيريا الوعي، و فقد إدريك صوابه، بدأ يهزُّها متوسلاً:
“لا… لا… لا! إبقي معي صغيرتي! طفلتي العزيزة… ٱنظري إلي! أنا هنا… دادي هنا! سأنقذكِ! ستعيشين أليس كذلك؟ لا تفعلي هذا! لا أحب هذا المزاح اللعين! حدثيني يا شقيَّتي!”.
8
لم تكن تتحرك أو تستجيب، فإرتفع صوته في صرخات هستيرية و هو يسرع بحملها خارج الغرفة و ينزل بها الدرج يوشك على التعثر:
“سيريا! ٱصمدي! أنتِ قوية! أعرفُ أنني ربَّيتُ فتاة يُعتمد عليها!”.
4
بلغت تلك الصرخات مسمع مايلس، فتأكدت مخاوفه، و أيقن أن سيريا هي التي ٱصيبت، لمحها محمولة بين ذراعي إدريك يركض بها نحو سيارته، و بسبب تشتُّت إنتباهه، إستغل يوري الفرصة، و ركله بقوة، و إلتقط نظاراته التي سقطت منه خلال صراعهما، ثم لاذ بالفرار، لم يأبه مايلس لنظاراته التي فارقت عينيه، كل ما فكر فيه هو شعور روما، كان سيتركه يفلت على قيد الحياة من أجلها، لكن منظر دماء سيريا التي طبعها حذاء إدريك في طريقه إلى السيارة ألهب النار في صدره، فأغمض عينيه صارفًا أسنانه… و أطلق النار دون أن يفكر!
شهق يوري، و سقط دفعة واحدة، إخترقت تلك الرصاصة ظهره، و منعته من معاودة الوقوف، و بينما كان يتخبط في دمائه و يصغي لرنين هاتفه المتكرر، هرع مايلس نحو إدريك يسأله:
“كيف وضعها؟!”.
مددها إدريك على المقاعد الخلفية و صفق الباب مجيبًا بلهاث:
“إنها لا تتنفس… و قلبها لا ينبض!”.
8
شحب مايلس و هو يردف:
“ألا تحمل في حقيبتكَ ما يمكن أن يساعدها؟”.
إنتقل إدريك إلى مقعد السائق و هو يجيبه و قد نضح جبينه عرقًا:
“لا شيء داخلها ينفع! سيريا بحاجة لإنعاش و جراحة فورية، يجب نقلها حالاً إلى المستشفى بدل المقر… حيث حظوظ نجاتها أكبر!”.
إنطلقت سيارة إدريك مسرعة، و في أعقابها سيارة مايلس، كلاهما يقودان بتوتر و تشوش، كلاهما سيخسر فردًا عزيزًا من عائلته، لكن القهر الأكبر كان من نصيب إدريك، تسابقت الدموع على خديه أسرع مما كان يسابق الزمن بعجلات مركبته! لن يخسر مجرد طفلة ربَّاها و راقبها تكبر أمام عينيه، أو مجرد فتاة مرَّت بحياته و قضت معه ليلة مثيرة، لن يخسر فردًا واحدًا، بل سيخسر كل شيء صمد من أجله لو لم ينجح في إنقاذها!
أفلتت إحدى يداه المقود، و ضغطت على يسار صدره، الإنقباض الذابح ينتاب قلبه مرة ٱخرى، و هذه الدموع اللعينة تمنعه من الرؤية بوضوح، و على المقاعد الخلفية ترقد سيريا بلا حياة، يرتجُّ جسدها بفعل سرعة قيادته… دون أن تفتح عينيها أو تهمس له مجددًا بالحب!
3
سعل يوري باصقا بعض الدماء، فيما إستمر رنين الإتصالات المتعاقبة، بذل آخر ما تبقى له من جهد كي يحرك يده و يخرج هاتفه من جيبه فاتحًا الخط، لينطلق صوت روما القلق:
“عزيزي يوري! مضت ساعة و أنا بإنتظارك في المقهى، تأخرتَ كثيرًا، حتى زبائنكَ قلقين، هناك ثلاثة شُبَّان يريدون شراب الساكي خاصتك، و تعرف أنني لا أجيد تحضيره بمفردي!”.
سمعت لهاثه المريب، فتضاعف قلقها، و تحول إلى ذعر بينما تخاطبه من جديد:
“يوري! ماذا بك؟ هل أنتَ على ما يُرام؟”.
تمكن من التمتمتة بصوت واهن:
“روما… عزيزتي… إعتنِ… بنفسكِ…!”.
“يوري! لماذا تتحدث على هذا النحو؟ لا تثر رعبي أرجوك!”.
“إنها النهاية… صغيرتي! لطالما… أحببتكِ كإبنة… من صلبي! لكنني لا أستطيع… البقاء معكِ… أكثر…”.
إنحدرت دموعها مردفة بذعر:
“ماذا… تقصد؟”.
“أنا… ٱحتضَر!”.
1
كادت تنهار، غير أنها تماسكت مانعة جسدها من السقوط، و سألت بينما تركض خارج المقهى لإيقاف سيارة ٱجرة:
“إهدأ… و قُل لي… أين أنتَ الآن؟”.
منحها يوري عنوان ذلك الحي الراقي الذي يقع فيه منزل إدريك، قبل أن يسقط الهاتف من قبضته، و يبدأ شعوره بالخِدر في قدميه، و بغشاوة ضبابية تغلف بصره! كانت سكرات الموت أعنف مما تصور، هل تصور بالأساس أنه سيلاقي حتفه بعد تحقيق إنتقامه بلحظات فقط… و هو لم يتجاوز أربعين عمره بعد؟!
9
حركت الرياح الأوراق اليابسة من حوله، فتلطخت بدمه، و بعد دقائق، سمع صوت فرامل قريب، ثم تلته خطوات متسارعة تدنو منه و تصبح أوضح و أكثر حدة و هي ترتطم بالأرض، جثت روما على ركبتيها تسند رأسه إليها، و شرعت في البكاء هاتفة:
“يوري… عزيزي يوري… ماذا حلَّ بك؟ أنتَ تنزف! عليَّ نقلُكَ إلى المشفى حالاً! ربَّاه! من فعل بكَ هذا؟”.
أجابها بصعوبة و الدماء تفور و تنزلق من شدقيه:
“فـ… فتى… السباق….!”.
“ما الذي ذكركَ بمايلس في وضع كهذا؟ لا تقلق! لا داعي للإتصال به، أستطيع نقلكَ في سيارة الٱجرة! فقط تحلَّ ببعض الأمل!”.
حين حاولت رفعه فشلت بسبب نحول جسدها و ضعف بنيتها الٱنثوية، فهرع سائق الٱجرة لمد يد العون، لكن يوري وضع شيئًا باردًا ملطخًا بالدم في قبضتها، و قال بصوت متقطع ما أخمد شعلة الأمل في روحها، و قتل في أعماقها ذلك القلب البريء المفتتن بفتاها المهذب:
“فـ… فـ… فتى… السباق… قاتل!”.
14
إنزلق رأس يوري و سقط عن حجرها فاقدًا من عينيه بريق الحياة، تدحرج دموعها غارقة في زوايا فمها الفاغر، و إنتهى بصرها إلى ذلك الشيء البارد الذي تقبض عليه بأصابع متيبسة، أرخت قبضتها أخيرًا بتردد، و بعينين مزجَّجتين و فؤاد محطَّم، تعرفت على نظارات مايلس!

 

 

0 0 votes
Article Rating
____

لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها

أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x