رواية لحن الأصفاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم أسماء
البارت الثامن عشر (قيامة الداركسان!)
❞لا تطالع التاريخ؛
إصنعه!❝
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
2
لاس فيغاس العلوية|الشوارع الغافية…
تمسحت عينا روما بقطع السكر الذائبة في فنجان شاي الزنجبيل خاصتها، و إبتسمت ببطء بينما كان إنعكاس وجهها يدور مع دوامة الشاي و السكر، و معه يدور أيضا… وجه متسابق الفورمولا… أبولو المهذب! و لولا رنين الهاتف المفاجئ لما أفاقت من شرودها العميق، كانت تذوب و تطوف مثل السكر، و تبتسم كمن قطفت بفمها الصغير قضمة من الغيم، لكن ما لبثت الإبتسامة أن تحولت إلى ضحكة واسعة شملت صف أسنانها بأكمله حين تبينت هوية المتصل!
إنطلقت المخابرة بينهما بصوتها اللطيف و بطريقة غريبة عليه أيضا:
“سباق أو ثمالة؟”.
عجز مايلس عن فهمها، فضحكت مفسرة و هي تقلب عدة صفحات أمامها بعشوائية:
“ماذا يريد أبولو هذه المرة من روما… جنون على المضمار… أم إسترخاء حول السَّاكي؟”.
إسترجع ضاحكا إستمتاعهما بشراب السَّاكي الياباني حد الثمالة، و أجاب بلهجة دافئة لن يصدق عاقلٌ أنها تصدر عن سفاح:
“ربما يريد فقط أن يغرق في عالم فتاة التاريخ الهادئ!”.
إرتعشت يد روما و هي تتخلى عن تقليب الصفحات، و تشعر بأن كلماته هي التي مضت تقلب صفحات ما داخلها بعشوائية مدمرة، همست بتلعثم مراقبة من النافذة أوراق الشجر المتساقطة بفعل الرياح:
“سيشعركَ عالمي بالركود، إنه خالٍ من مغامراتكَ المثيرة يا مجنون السباقات!”.
“لا ضير في بعض الركود بين جنون و آخر!”.
بدأ قلبها ينبض بحدة حين أضاف و هو يتنفس بحرارة مسموعة:
“ثم إننا نتشابه رغم إختلافاتنا، أنا أخوض المغامرات على المضمار، و أنتِ تخوضينها بين الرفوف و فوق الصفحات المطعمة بالغبار!”.
إبتسم و هو ينقل الهاتف لأذنه الأخرى، و يسنده بكتفه، بينما يثبت على خصره السلاح الذي لا يفارقه:
“أ مازلتِ تتسلقين السلم لتبلغي مجلدات التاريخ التي عفا عليها الزمن؟!”.
إبتسمت بدورها و عيناها تواكبان خطوات شاب و حبيبته عبرا الشارع و جلسا على كرسي الرصيف ينتظران الباص، و كم راق لها أن أيديهما ظلت متشابكة، و أعينهما تلمع كلما تشاركت نظرة، و بعد وقت قصير أجابت:
“الحب أبديٌّ يا أبولو… و أنا أحب ما أفعله!”.
هو الآخر أحبَّ ما تفعله، بل أحبَّ كل تفاصيل تلك الفتاة العادية، منح سيارته إشارة الإنطلاق بينما يستطرد متسائلاً:
“أين أنتِ الآن؟”.
كانت الساعة المتاحة لها داخل مقهى الإنترنت و هي تتلقى ذلك السؤال قد إنتهت، أومأت للسيد «غارمي» الذي يملك المقهى شاكرة لطفه المعتاد، و نقدته مجيبة مايلس:
“ٱغادر المقهى الذي ٱطالع فيه بعض القصائد الغابرة كل صباح… و أتجه إلى… آه…!”.
تأوهت روما حين خرجت من المقهى و إصطدم بها شاب غريب و تسبب بوقوع كتابها، فسأل مايلس بقلق:
“ماذا هناك؟”.
مضى الشاب دون إعتذار، دون أن ينظر ثانية للفتاة التي فاجأها بإصطدامه العنيف، و دون حتى أن يناولها الكتاب العزيز، إنحنت روما تلتقطه بتقطيبة و تمسح عنه غبار الأرض كأنها تعتذر له عن قسوة البشر، فكرر مايلس سؤاله بقلق متعاظم، لتجيبه و هي تستوي واقفة و تستكمل طريقها:
“لا شيء… أحدهم إصطدم بي… و أوقع كتابي!”.
قطب حاجبيه مردفا:
“هل أنتِ على ما يرام؟”.
“أجل بالطبع!”.
فكر مايلس بمرارة في إحتمال مزعج، و سأل مجددًا:
“هل نظر داخل عينيكِ الخضراوين؟ هل لمس يدكِ بينما يلتقط الكتاب و يعيده لكِ؟ هل هو جذاب؟”.
3
“على رِسلكَ أبولو!”.
فغر فمها دهشة لثرثرته، و أضافت و هي تقطع الشارع نحو مخبزة فرنسية تبتاع منها الفطائر و الخبز بإستمرار:
“كيف يفترض بي أن أجيب عن كل هذا دفعة واحدة؟!”.
إلتقطت أنفاسها بعدما أصبحت في الضفة الٱخرى، و إستأنفت قولها تسير الخطوات القليلة التي تفصلها عن المخبزة:
“حسنا، يمكنكَ أن تطمئن، فلم يسفر الإصطدام عن لحظة شاعرية كما يحدث في الروايات و الأفلام الوردية، هل تظن أن الجميع مهذبون مثلك؟ كان شابًّا صلفًا يفتقرُ للذوق، لم يتكلف حتى عناء النظر لي…”.
تنفس مايلس الصعداء لما قالته، و همس:
“سأشكر السماء دهرًا لأنه لم يفعل!”.
كانت قد دلفت المخبزة، و أغرقت في موج من موسيقى الكلارينيت الكلاسيكية التي يديرها الموظفون هناك بشكل متواصل، فلم تلتقط تعليق مايلس بوضوح، و طلبت أن يعيد ما قاله، غير أنه سأل محتفظا بذلك لنفسه:
“هذا يعني أنكِ لن تقعي في حبه؟!”.
ضحكت معتبرة تلك نكتة طريفة، و سمعها تجيبه بواقعية ملفتة و بنبرة ناعمة:
“أنا لن أقع في الحب من مجرد إصطدام عابر، الحب يجب أن يكون شيئًا ثابتًا، تهتزُّ الحياة بأسرها… و لا يتحرك الحب قيد شعرة، لا توقعني الأحداث الصاخبة، بقدر ما توقعني الأحداث الطبيعية، لا أريد للحب أن يكون حدثًا عاصفًا بحياتي، يأتي بسرعة ليغادرني بسرعة أكبر، أريد أن أقع فيه بكل هدوئي و إتزاني، أريد ممن سيحبني أن يجلس بقربي للأبد حتى و هو يعلم أنني أكثر فتاة مملة و عادية على هذا الكوكب!”.
2
أخذته تلك الكلمات لشواطئ هذيان لم يزرها عقله من قبل، لماذا لم يفكر في الحب على طريقتها؟ لقد واعد عدة فتيات لفترات قصيرة و متعاقبة، لكنه لم يسمع من ثغر إحداهن كلامًا مشابهًا، كانت كل فتاة تقتحم حياته تجعله يرى الحب مجرد سخافة غير منطقية، لكن روما غيرت الفكرة برمتها داخل رأسه، و جعلته يرى واقعيتها شيئًا خياليًّا لشدة جمالها!
1
هل قالت أنها عادية؟ لا… هي ليست كذلك على الإطلاق! … ليس بالنسبة له!!
“إذن لنعد قبل لحظة الإصطدام، إلى أين كنتِ تتجهين؟”.
“إلى المخبزة!”.
“أي واحدة من مخابز فيغاس بالتحديد؟”.
“لودوغ إيتيرنال”.
لم يكن مايلس من معجبي الخبز أو مشتقاته، لذا لم يستطع التعرف على المخبزة، فإستعان بببرنامج خرائط هاتفه الذكي، و عثر عليها في غضون لحظات، و لحسن الحظ كانت قريبة و على بعد أمتار معدودة من موقعه. ركن سيارته قبالتها، و ترجل منها مغمضًا عينيه لشدة إعجابه بالرائحة الزكية التي كادت تسقطه على وجهه، رفع جفنيه منتشيا بما إستنشقه، و لمح فتاة شقراء تطل من باب المخبزة المنشودة و تلوح له ضاحكة، كانت روما، فتاة التاريخ، و الآن أصبحت فتاة الخبز الفرنسي أيضا، و ها هي كما عرفها أول يوم، بثيابها الواسعة، و تواضعها المحير، تصافحه كما لو كان أحد نجوم السينما، ثم تقدم له صاحب المخبزة بفخر، و تصف له حبها لقائمة لا متناهية من الكرواسان و الخبز و الفطائر المحلاة…
أما هو فلم يعارض أن يستمع لكل ذلك بصبر و مرح و إعجاب حقيقي، دون أن يمل، دون أن يتذكر واقعه الدموي، و دون أن يستغرب ما يطرأ على حياته من لمسات غريبة، لا يهم ما يقولانه، لا يهم أين يقفان، و لا يهم أيضا أي شيء يستنشقانه… سواء رائحة الخبز الساخن أو رائحة الكتب العتيقة! أي شيء تحبه روما يرحب به… و يبدو أنه قرر للتو تغيير المقولة المأثورة… كل الطرق لا تؤدي إلى روما… بل روما هي من تحتلُّ كل الطرق إليه!
قدم لها البائع كيس الخبز الساخن، فحمله مايلس بدلاً منها بكل تهذيب، و تجاهل رفضها و هو يسدد المبلغ المستحق من محفظته الخاصة، و بينما كانا يغادران المخبزة، شكرت روما لفتته النبيلة بخجل، و قررت أن تحدثه بأي شيء يخفف من إحمرار خديها، فنظرت إلى لافتة تعلو المدخل، و هتفت:
“هل تعرف ماذا يعني إسم هذه المخبزة؟”.
هز مايلس كتفيه بأسف يجيبها:
“لا أجيد اللغة الفرنسية!”.
إبتسمت متحاوزة جهله تلك اللغة، و قالت ما يثبت أنها تجيدها بطلاقة:
“إنه يعني: «الرائحة الأبدية»! ألا تجد هذا جميلاً؟”.
تمتم و هو يتأمل تحليق خصلاتها الذهبية حول رأسها… غير شاعر برنين هاتفه داخل الجيب:
“بلى! جميل… جميلٌ جدا!”.
لم تلاحظ نظراته، فقد إنصب إهتمامها على الصوت الذي إقتحم المشهد، و نبهته قائلة:
“هاتفكَ يرن!”.
أدرك مايلس أن المتصل ليس سوى إدريك، فأجاب و هو يشعر للمرة الأولى بحياته أنه شيطان بجسد ملاك:
“نعم إدريك!”.
“أين أنت بحق الجحيم؟”.
“أمام لودوغ إيتيرنال!”.
“ماذا؟ ماذا يعني هذا؟”.
أجاب مايلس و هو لا يزال أسير تأثير عالم روما:
“الرائحة الأبدية!”.
14
فرك إدريك أعلى أنفه منزعجًا من الصداع الذي لم يرحمه طوال ليلة أمس، و تساءل بإستغراب بينما يغادر سيارته و يلجُ منزله:
“لا بدَّ أنك أثقلت في الشرب حتى الفجر، و لا يهمني في أي بار سهرت… أو لِمَ! المهم هو أن أبلغك برسالة دارك، الليلة… عليك أن تكون في كنسية سانت مارونيت عند الساعة الثامنة! جميعنا سنجتمع هناك في ثياب أنيقة!”.
6
“حسنا، عُلِم، سأقدم حياتي له، لكن الآن علي الإهتمام بأمر ضروري، إذا كان هذا كل شيء فلا تشغلني أكثر إدريك، أخشى أن الخبز الفرنسي سيبرد!”.
أغلق مايلس الخط، و سار بمعية روما صوب عدة متاجر و أسواق خضر لتبتاع لمطبخها ما ينقصه، أما إدريك فقد ظل مترنح النظرات، جامد الجسد، يكرر بحيرة ثقيلة:
“الخبز الفرنسي… و مايلس؟!”.
1
كان ذلك أغرب ما سمعه حتى الآن، دفع باب المنزل ببطء يحاول في الوقت نفسه تمطيط كتفيه المتشنجين، اللعنة! لم يحصل على نوم مريح منذ أيام، و لا تزال آثار جلده بحزام اللحية البيضاء تومض ألما مع كل حركة، و لا يزال خوف خسارة سيريا يقض مضجعه و يقبض صدره قبضة الموت، ثم ها هي مغامرات دارك تقفز لمسرح الأحداث، الميغا تريد قتله هو و روكسان، و لا يمكنه الوقوف مكتوف اليدين ليشاهدهما ينتهيان أمامه، لا سيما روكسان، إن كان دارك يعني له الكثير، فهي تعني له أكثر مما يتصوره عقل بشر!
36
كان يخوض غمار شتات أفكاره حين لمح جسدًا يتحرك عند قمة السلالم، أضاء أنوار الردهة و الأروقة، ليكتشف أنها سيريا، لا تزال داخل ثياب أمس، و من الواضح أنها حظيت بليلة بيضاء مثله!
صعد بتؤدة مقتربا منها، و بنظرة خاطفة لعقدة ذراعيها المتشابكين أسفل صدرها، و إنطباق شفتيها المزمومتين و نظراتها الحادة، أيقن أنها على شفير الإنفجار! لم تمهله فرصة إلتقاط أنفاسه حتى، خاطبته بخشونة كما لو أنه متهم خلف القضبان:
“أين كنت طوال الليل؟”.
2
توقف إدريك أمامها على قمة السلالم، و أجابها ببروده المعتاد:
“أنا لستُ طفلكِ لتوجهي لي هذا السؤال… سيريا!”.
1
تجاوزها متجها إلى غرفة نومه، فلاحقته بلا هوادة مردفة:
“لقد وعدتني أن تخبرني الحقيقة… ثم تركتني على فضولي و قلقي لساعات و ساعات… لتعود الآن و تحرمني حق سؤالك أين كنت بهذه البساطة!”.
“لم أعدكِ بإخباركِ الحقيقة، وعدتُكِ بمناقشة حول طريقة دخولكِ حياتي! و ليس الآن بالطبع…”.
راقبته يلجُ غرفته و ينوي إغلاق الباب في وجهها، لكنها تجرأت و أقحمت نفسها داخل عالمه الحميم قبل أن يفعل، و حاصرته بعينيها الغاضبتين مردفة:
“ستخبرني الآن إدريك… يمكنكَ أن تلعن و تغضب… يمكنكَ أن تضربني و تخلف جحيما على جسدي… لكن كن واثقًا… لن يردعني أي مما ستفعله عن معرفة كل شيء حول ماضي… و من ثغركَ أنت بالذات!”.
أغمض عينيه للحظات راغبًا بنوم طويل، مدركًا أن هذه العنيدة أمامه لن تمنحه ذلك، لن تسمح له بأخذ قسط من الراحة بعد كل تلك الويلات التي قاساها مؤخرًا! بدأ يهز رأسه لاعنًا ذلك الوضع، و قال بعينين مظلمتين:
“أنتِ تعيشين هنا حياة فاخرة، تتناولين أفضل طعام، ترتدين أفخم الماركات، تضعين أرقى العطور، تجددين سياراتكِ كل سنة عدة مرات، سمحتُ لكِ بإستعمال بطاقاتي الإئتمانية و بركوب الدراجات النارية، منحتُكِ تأشيرة دخول الويد، و أقنعتُ دارك بتدريبكِ على كل شيء يجعلكِ سفاحة مثلي كما أردتِ، تغاظيتُ عن وضعكِ وشمًا سريًّا، و كل ما تطلبينه مني مُجاب على الفور، لماذا تهتمين بعائلتكِ اللعينة؟ لماذا تبحثين عن أي رابطة بماضيكِ؟ ماذا أفعل لتنسي ذلك و تقتنعي بأن حياتكِ هنا أفضل لكِ؟ اللعنة! ماذا تريدين أكثر مما قدمته لكِ؟”.
“أنت… أريدكَ أنت إدريك!”.
1
أوضحت له نظراتها الثابتة و لمعان عينيها أنها واثقة مما تقول، تريده بكل جوارحها، تريده أكثر مما تريد معرفته عن نفسها، رأته يزدرد ريقه بوضوح، و يبدو و كأنه على وشك السقوط، فأضافت و هي تخطو نحوه ببطء، و تقف بقدميها الحافيتين على مقدمتي حذائه لتغدو بمثل طوله، ثم تهمس له همسًا دافئا جعل شفتيه تهتزان حين تذوق أنفاسها:
“لكني أريد أيضا أن أعرف كيف بدأت قصتُكَ معي؟ كيف عثرت علي؟ و كيف وصلت لقرار التبني الأحمق الذي جعلني مجرد فتاة تحت سقفك محرمة عليك؟”.
مارست سيريا ضده سياسة خطيرة بحق، لم تكن تغريه بقدر ما كانت تستجدي عطفه الأبوي، إنه و رغم سفالته كسفاح… رجل حنون… و أبٌ عطوف حين يتعلق الأمر بها، جردته من سترته، و فعلت نفس الشيء بقميصه، و هو لا يزال على وقوفه المتخشب، لا يفعل شيئًا سوى إلتهام تفاصيلها بنظرات غير مقروءة!
2
فقدت توازنها حين ألقت القميص فوق السترة على الأرضية، فتمسكت بكتفيه العاريتين، و كان مفاجئا لها أن يكف عنفه هذه المرة، عكس محاولتها السابقة، هل يحدث هذا حقا أم أنها تحلم؟ هل يطوق خصرها بيديه القويتين لتثبت مكانها؟ شجعها ذلك أكثر على مواصلة ملاطفته و التنقيب داخله عن أي أثر لإدريك اللطيف، لكنه سبقها للكلام هذه المرة، و غرز أصابعه في بشرتها من فوق ثيابها معلقا:
“أنتِ لستِ مجرد فتاة تحت سقفي! ما يربطني بكِ أكبر من مجرد طفلة يتيمة و رجل يرغب بالتبني، سأخبركِ تفاصيل تلك الليلة قبل ثلاث و عشرين سنة لعينة يا سيريا، سأخبركِ أين وجدتكِ و كيف، لكن لا تسأليني لماذا، لا تسألي أكثر!”.
هزت سيريا رأسها موافقة، تريد فقط أن تملأ فراغ تساؤلاتها المتعفنة ببلسم الحقيقة، لكن الحقيقة التي واجهها بها إدريك لم تكن كلها بلسمًا شافيًا؛ و لم تكن كلها أيضا قاتلة! كان ما تفوه به و هو على وقوفه ذاك أجمل و أقسى ما سمعته طيلة حياتها!
“كنتُ إبنًا لجراح بارع… و مجرم حقير أيضا، لأجل عداواته المبجلة و مصالحه الثمينة، كان يتاجر بالأعضاء، و يُجري عمليات غير قانونية بأي مكان، مقابل المال، يمكنه أن يجرد طفلاً من قلبه وسط الشارع و جهرًا لو أخبروه أن ثروته ستزداد ملايينًا إضافية مقابل ذلك القلب، و بسبب عداوة قديمة بينه و بين عائلة النمور، قرر قتل وليدتهم الجديدة، و لأنني سبق و أفسدتُ عليه صفقة مشابهة منحني فرصة ٱخرى لٱثبت أنني رجل يعتمد عليه، أرسلني لخطف الرضيعة من مستشفى الولادة، لكنني رفضت رغم أنني كنت قد بدأت مشواري كسفاح في الويد، و رغم سلطته النافذة على سفاحي المنظمة، توعدني بحساب عسير، و أرسل خاطفين غيري ليقوموا بالمهمة، لم يكن الأمر يعنيني، لكن صوتا داخلي أجبرني على ملاحقتهم، رأيتهم يتجهون للمستشفى، ثم إلى مقبرة مهجورة، أين وضعوا لفة صغيرة بين القبور، و غادروا دون رجعة، و تحت المطر الغزير وجدتني أترك سيارتي و أتجه إلى هناك لأرى جثة الرضيعة، لكنني صدمت بها حية ترزق… تبكي… و تنظر إلي رغم المطر المتسلل لعينيها كما لو أنني كل شيء بالنسبة لها، حملتها و خبأتها بسترتي، ضممتها لصدري، فهدأت و مضت ترضع طرف قميصي لفرط جوعها، شعرت أنها تخصني منذ تلك اللحظة، و بين شعوري ذاك و لمعان عينيها و نهم فمها نما قرار تبنيها الأحمق!”.
7
ظلت سيريا للحظات طويلة مصعوقة، أرادت أن تضحك و تبكي و تغضب بالوقت نفسه، و لولا إشتداد قبضتيه حول خصرها، لهوت على الأرض من هول الصدمة، هزت رأسها يمينا فيسارا و حركت لسانها بصعوبة:
“هذا… مستحيل! أنا… إبنة… آل تايلور! لا بد أنك تمزح”.
1
حاولت أن تجد داخل عينيه السوداوين أي أثر للسخرية منها، لكن لا… هو لا يفعل! هو لا يمازحها البتة! إدريك لا يمزح عادة، إنه أكثر رجل جاد عرفته الأرض، لا سيما حين يتعلق الأمر بها، ثم إنها المرة الأولى التي يفتح فيها قلبه، و يتناول ماضيه، و يدلي بأسراره الغامضة، لكنها لم تتوقع أبدا أن يكون السر الذي سيكشفه من العيار الثقيل!
بدأت تستوعب فظاعة الواقع مكتشفة الدموع بعينيها، فتساءلت بمرارة:
“ماذا يعني هذا؟ هل كنتُ أعمل طوال الوقت تحت يد ذويَّ و أنفذ أوامرهم جاهلة علاقتي الحقيقية بهم؟ هل كنتُ سفاحة عائلتي دون أن أدري؟ و ماذا عنهم؟ هل يعرفون بشأني؟”.
“كلا! أنا الوحيد الذي يعرف بهذا الخصوص، إرتكبتُ خطيئة عظيمة في ماضيَّ جعلت الميغا تعاقبني بعدم الزواج طيلة حياتي، و ترهقني بمهمات قتل أكثر من بقية السفاحين، أمضيتُ عمري معاقبًا، كان حلمي أن أكون جراحًا عاديا يساعد البشر، لكن ٱجبرتُ على قتلهم لحماية أشخاص مهمين بالنسبة لي، بقيتُ على رضى بكل ذلك شرط أن يبقوا بخير، حتى ظهرتِ أنتِ، و بما أنني قررتُ إبقائكِ معي بأي شكل، أقنعتُ الجميع أن كوني محرومًا من الزواج، لا يعني أنني محروم من التبني، و ألفتُ قصة عثوري عليكِ في مكب النفايات! فلم يعارض أحد حصولي على إبنة مقابل أدائي لمهامي حتى الموت!”.
1
لم تعرف كيف تحملت كل ذلك، و كيف خرج صوتها مرتعشا و هي تسأله:
“و ماذا عن والدك؟ كيف تصرف إزاء ما فعلته؟ ألم يسألك من أين أتيت بإبنتك المتبناة؟”.
عاد إدريك بذاكرته إلى تلك اللحظة، و أجاب بصوت صقيعي:
“حين رآكِ بين يدي، جن جنونه، تعرف عليكِ، و هاجمني بعنف لينتزعكِ مني و يتأكد بنفسه أن إبنة أعدائه ميتة، أراد أخذكِ بالقوة، فأطلقت النار على قلبه، قبل أن يتمكن من لمسكِ حتى!”.
بللت الدموع وجهها، للحظات و لحظات و لحظات… لم تجد ما يقال إزاء ما يطرق أذنيها بصوته الأجش، في حين إستمر إدريك يتمتم غير نادم على فعلته:
“كانت طلقة عادلة في نظري، ضاعفت من سواد صورتي لدى الميغا، لكنها أبقتكِ بخير، كان أبي عدوكِ آنذاك، و أنا كنتِ أمانكِ الوحيد، لستُ نادمًا على قتله و التنكيل به، و لو عاد بنا الزمن إلى تلك الليلة، لكررتُ نفس الشيء!”.
3
إرتعدت فجأة متسائلة:
“ماذا فعلت به؟ أي تنكيل تتحدث عنه؟ ماذا فعلت بوالدكَ إدريك؟”.
أبعدها عنه، و جلس على حافة السرير دون أدنى رد، و حين جثت على ركبتيها أمامه و غطت يديه الخشنتين بخاصتيها هامسة:
“تكلم!”.
برحت شفتاه مجرد كلمات عنيفة أثقلت جو الغرفة ببرود قاتل:
“مزقته إربًا إربًا… و دفنتُ كل عضو منه في قبر مختلف… داخل نفس المقبرة حيث رماكِ!”.
2
نظرت إليه بذهول، فأضاف بحدة:
“كان لعينًا، و لا يستحق الموت و الدفن بسلام كغيره، كان يحب تمزيق الأجساد و سرقة أعضائها الثمينة، و أنا مزقته أيضا، لكنني تركتُ جثته دون معنى، و أعضاءه دون ثمن! كان يحب السخرية من الأموات و المقابر، و أنا جعلته سخريتهم الأبدية هناك، ستسمع كل قطعة منه صوت ميت مختلف يهزء به في كل قبر، تلك الجحيم هي كل ما يستحقه، فلا تنظري إلي الآن كما لو أنني رجل سافل وضع حدا لحياة والده و نكل بجثته!”.
لم تقل سيريا شيئًا، بل جلست على حجره و إرتمت عليه تضمه، إحتضنه بكل قوة فيها تسترسل في البكاء الصامت، رصَّت بشفتيها قبلة طويلة على عنقه، و همست بين شهقات خافتة:
“أحبك أيها الرجل السافل، ألا ترى أنني أحبك و لا أستطيع أن أنظر إليك سوى نظرة واحدة؟!”.
3
ظل إدريك يمسح على شعرها لثوانٍ قبل أن يدفعها عنه مرددا:
“السفلة لا يستحقون الحب، إنهم يدمرونه يا صغيرتي!”.
آه… كم تاقت لسماع ذلك النداء منه! مُذ بدأت تتفتح أنوثتها أمام ناظريه، و شقت طريقها من إبنته الطفلة إلى إبنته الفاتنة، توقف إدريك عن تسميتها بألقاب الإبنة المدللة، و بات يكتفي بإسمها فقط، لكن سيريا العنيدة، دفعت بنفسها مجددا لأحضانه و مررت أناملها على ندوب ظهره ضاربة بكلامه عرض الحائط!
“أفضل أن تدمرني على أن أدمر العالم كله إن لم أحصل عليك إدريك!”.
عاود إبعادها عن صدره مجددا، فرأى في عينيها بروده و لا مبالاته نفسهما، لكنها و اللعنة عدا ذلك لا تشبه من رباها، تستطيع أن تدمر كل شيء إن لم تنل مرادها، تستطيع أن تفنى في سبيل مشاعرها، بينما يستطيع هو أن يدفن نفسه في بقاع مشتتة فقط حتى لا تهتدي لقبر مشاعره و تنبش عن بقية الأسرار!
“ألم تسمعي ما قلته بوضوح منذ قليل؟ أنا معاقبٌ يا سيريا، حُكِمَ عليَّ بالبقاء سفاحًا أعزبًا يخدم الميغا إلى آخر نفس!”.
قفزت من نظراتها شرارة قاتمة و أردفت بسخط:
“سأحرق الميغا برمتها من أجلك!”.
3
لم تصدق أنه إبتسم لها بخفة و هو يعلق:
“لا يمكنكِ… لأنكِ تنتمين لهم! أنتِ و الميغا الشيء نفسه!”.
“لا! سأسعى ليتغير هذا، سأقنع التايغرز بأن أمرك يهمني، أنني مغرمة بك، أنك أماني، إذا كنت حقا أحمل الدم الأبيض فهذا يجيزُ لي الإرتباط بسفاح!”.
قاطعها على الفور:
“ذلك لن يجدي، الأبناء ليسوا من يسنون القوانين، بل كبار الميغا، ثم إن عشيرة الوحوش تجاهد لإستعادة ماء الوجه لعقود، و الآن وقوفهم في صف دارك المجنون سيكلفهم كل جهادهم… و سيضعهم في الخانة السوداء مجددا، لذا تكتمي عن الأمر في الوقت الراهن، و لا تزيدي الأمر سوءً!”.
لم تكن سيريا على علم بأي شيء يخص دارك و آخر تطورات مغامراته مع رهينته، لذا سألت بعدم فهم:
“كيف يعقل ذلك؟ قلتَ أنهم وقفوا بصف دارك؟ الوحوش تحالفوا مع ريغان ضد الميغا؟! أنتَ لست جادًا!”.
“بلى، الكونغرس في ذروة غليانه بعد الإجتماع الأخير أمس، و دارك بحاجة إلينا الليلة أكثر من أي وقت مضى، لكنني في هذه اللحظات بحاجة لبعض النوم، أنا…”.
تمهل قليلاً و هو يتمدد على فراشه كمن يستسلم للموت، و أضاف بصوت أثقله التعب:
“…أنا … لم أنم منذ ليالٍ كالبشر يا سيريا!”.
كان يتوقع أن يقنعها ذلك التصريح في الإنصراف عنه، لكن سيريا أدهشته بتمددها قربه، و قبل أن ينسحب إلى الطرف الآخر من السرير أو يلعنها بغضب قاسٍ ككل مرة تقربه، تمتمت و هي تحتضنه و تمسد كتفه بيد مداعبة:
“إسترخِ بعمق دادي! لا تثُر! إنه حضن تلك الرضيعة التي كانت نهمة جدا لأي شيء، و يبدو أنها أدمنتكَ منذ البدء! أغمض عينيك و لا تقلق! سأبتعد عنكَ حين أتأكد أنك غرقت في النوم!”.
لو لم يكن به كل ذلك العياء، لما ظل على حاله و هي بذلك القرب منه، لفعل أشياء لعينة بها تؤكد له و لها و للعالم أجمع بأنه أسوء من يتبنى و أمتع من يضاجع! لكنها و برغم كل شيء متاح في خياله… تبقى المحرمة بواقعه… و هو رجل واقع لا خيال! سرقه النوم تدريجيا، و قلبت الآية، و بات رجل الخيال رغم أنفه، و إنحسر واقعه بعيدا، و وجد سيريا تعانق أحلامه و تستعمرها، فيما وجدت هي طريقها خارج غرفته، و بكت ذلك الإكتشاف الذي شق صدرها بكل زاوية من المنزل، وقفت في الفناء تفكر أين كانت و أين أصبحت، تفكر في ما فعله إدريك ليحميها، و ما فعله ليبقيها تحت سقفه بأي طريقة، و ما فعله ليمنعها من حبه، تعمقت في التفكير أكثر مطاردة إكفهرار السماء بنظراتها الضيقة، لقد إنتبه لوشم الحرف الأول من إسمه أسفل حلمة صدرها حين مزق فستانها الأحمر غاضبا تلك الليلة، و لا ريب أنه كان يعي مشاعرها نحوه منذ زمن، و لم يعلق لقناعته بأنه أقل شأنا منها و لا يستحقها، لا ريب أنه يصر على فرض سيطرته فقط حتى تخشاه و تظل في دور إبنته، فقط حتى لا تغادر عالمه و تنضم لعائلتها الحقيقية، و على قدر وفائها للنمور كسفاحة، على قدر نفورها منهم الآن لأنهم سيقفون حاجزا بينها و بين الرجل الذي تحبه، لن تستطيع تركه، لا يمكنها تخيل الحياة دون عينيه و صوته و بروده اللعين، و لا يمكن لأي عقوبة أو قانون في العالم أن يشوه أحلامها بخصوصه مهما إضطرت لدفعه من ثمن!
1
هطل المطر فجأة، فلمع شيء ما برأسها، ملاحظة غفلت عنها خلال سرده لذلك الماضي الصادم، و ها هي تفيق لها الآن، لطالما عشق إدريك الجلوس بين القبور و إحتساء المشروب تحت مطر غزير كهذا، و لطالما تساءلت لم عساه يمارس تلك الهواية الحمقاء، الآن فقط أدركت السبب وراء ذلك، كانت هي! كانت داخله طوال الوقت، كانت هي هوسه، و ليس المطر أو المقبرة، كانت هي مفتاح كل شيء في تصرفاته الغريبة! حماقة إحتساء المشروب بين الموتى و تحت المطر، تشبه حماقة قرار التبني، حماقة جميلة و قاسية بشكل لعين، حماقة ستحبها و تنقم عليها لوقت طويل… طويل جدا!
1
فتحت ذراعيها و أخذت في الدوران و التمايل ضاحكة بجنون تحت تلك القطرات العذبة، و كل قطرة تسللت لفمها كان دت تحمل بطريقة ما عطر قبلته!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيلا الداركسان | ميثاق أسود و أبيض…
إنصبت عينا روكسان على هاتفه في الشاحن و تمتمت:
“يتصلون بك!”.
“لا تتحركي!”.
نبس دارك بذلك و هو يجرب طلي اللون الأبيض المتلألئ على أظافر يدها اليمنى، ثم أضاف حين أطاعته بصمت:
32
“يجب أن يكون مظهركِ مثاليا يا مصيبتي، لذا تحملي الجمود لثوانٍ ٱخرى و ننتهي!”.
“من الغريب حقا تمسككَ بأمر كهذا، أنا لم أضع هذه الأشياء على أظافري من قبل، ثم إن كان من الضروري وضعها الآن، فدع هذا لي، أستطيع وضعه بنفسي و…”.
“صه!”.
زجرها بلطف، و تابع يقول و هو يمضي بالطلاء الناعم ليدها اليسرى:
“ثرثرتكِ جميلة؛ لكن إعتراضكِ لا يروقني، يليق بحاملة إسمي الدلال الآن، و على الدلال أن يغرقَ كل إنش منكِ، ألا ترين أنكِ تملكين أظافر مثالية؟!”.
12
أذابتها الكلمات التي سمعتها، و ذهلت لما رأته على أظافرها، هذا السفاح البارد و البليد… فنان بما يفعله، أقسمت أنه جعل يديها تبدوان أجمل مما سبق، و أنه ينافس بالنتيجة تلك أمهر النساء في العناية بالأظافر! سألته بفضول:
“كيف فعلت هذا؟ دارك! أظافري… إنها… مذهلة!”.
علق دون تعابير واضحة متجاهلاً إتصالاً آخر:
“لأنني أفعله دائما!”.
5
حدقت به للحظات مستغربة، قبل أن تنفجر ضاحكة، جعله ذلك يتوقف عن عمله و يتأملها بجمود، و بينما كانت تجاهد لضبط أنفاسها و الإعتذار، كان هو يتمنى ألا تبلغ تلك الضحكة المتناغمة نهايتها!
تمالكت نفسها أخيرا قائلة:
“آسفة! لكنني لم ألاحظ أي طلاء على أظافركَ أيها السفاح الخطير!”.
3
حافظ على صمته لوقت قصير، قبل أن ينتقل لتجميل أظافر قدميها، ثم أجاب و على وجهه تعبير إفتخار طفيف:
“لم أقصد طلاء الأظافر، بل شيئًا آخر، أصابع يدي تجيد الكثير غير القتل يا روكسان، و ستكتشفين براعتها بنفسكِ!”.
9
نفخ بأنفاسه الحارة باتجاه أصابع قدميها الممشوقة ليجف الطلاء بسرعة، فأشعرها ذلك بكهرباء متراقصة في فم معدتها، و بحرارة طافحة تتفجر أسفل بطنها و تتصاعد على صدرها و تتفتح ورودًا ناضجة على خديها! ليضيف دارك همسة قاتلة و هو ينهض و يداهم مساحة تنفسها ببحة صوته و عطر معجون الأسنان و التبغ المحترق اللذين علقا بفمه:
“سيخبركِ جسدكِ قريبًا عن خبرة أصابعي في رسم حدودها الخاصة، أنا لا أرسم بالوشوم و الدماء فحسب، يمكنني الرسم حتى بأنفاسي، و لا يمكن لغيركِ أن تكون لوحة مثالية من توقيعي!”.
نهض عنها يبحث عن زجاجة طلاء أسود، أخذ منها القليل فقط، و مضى ينقش بها حرف إسمه الأول على أحد أظافر يديها، تحديدًا على ظفر الخنسر الأيسر، حيث ينبض وتينها و يتمدد من القلب و إليه، كأنه يتعمد أن يدنو من أعماقها بكل طريقة ممكنة و مستحيلة!
و خلال كل ذلك لم يهدأ هاتفه من الرنين و ومضات الرسائل، كررت روكسان تنبيهه بضرورة الرد، لعلها أخبار مهمة، لكنه تمسك بتجاهله لها، و علق و هو يقف متفقدًا منظر يديها و قدميها معا:
“أتعرفين ماذا؟ بياض الثلج خرافة… بياض الدم خاصتي أجمل!”.
5
خيم بنظراته فوقها طويلاً، فارتبكت و تحججت بدخولها الحمام كي تهرب من عينيه، بللت وجهها بمياه باردة، و تفحصت إحمرار خديها مستغربة، ما سر هذا الشعور الذي بات يطوقها كلما لمسها دارك أو غازلها بكلمات رقيقة، حسنا، غزله من نوع مختلف، و لا يأتي دائما في حزم لطيفة، و غالبا ما يكون غامضا و سوداويا، لكنها باتت تستعذب كل ما يتلفظ به، لا يفترض بها أن تشعر هكذا الآن، لا يجب أن تنجرف مع كل شيء، لقد رغبت بدراسة شخصيته و تقويم سلوكه أولا، لعلها تتمكن من تغيبره من سفاح بارد لرجل طبيعي، لكن على هذه الحال قد يغيرها هو، و تصبح إنعكاسا حقيقيا له، أيهما على خطأ، و أيهما على صواب؟ و من منهما يجب أن يجرف الآخر لعالمه هي لا تعرف! لكنها رغم كل الذعر و القلق المتجمعين داخلها مجبرة على الأخذ بيده للنور، ستحاول، سيكون من الجميل حقا أن يتغير دارك من رجل مظلم إلى أسود شفاف مثلها، سيكتبان معا ميثاق الأبيض و الأسود، سيدرك دارك يوما أنه لولا بياضها القاتم لما ظهر أسوده الشفاف و قُرِئ!
2
إلتقط دارك الهاتف و بدأ بقراءة الرسائل التي وصلته من أطراف مختلفة…
«لا تكابر! لا يزال الوقت باكرا لنعقد صفقة معا، تخلص من الفتاة التي باتت تعرف أسرارنا و ربما نعفو عنك في المقابل!» _أحد قضاة الكونغرس_
1
«أخبرني إدريك أنكَ بحاجة لنا الليلة، سأدعمكَ أخي دارك حتى آخر نفس!» _سيريا_
1
«الوحوش بصفك، موعدنا الثامنة!» _غولدينا_
1
«إلام تخطط الليلة؟ أنا قلق عليكما!» _إدريك_
2
«أمقتُ وجهكَ اللعين ريغان لأنكَ سفاح النمور المخلص، لكنكَ أعدت إلينا لقبنا المسلوب، و من أجل هذا… التنانين على إستعداد إضرام النار في القارة بأكملها لتكون أنت و فتاتك بأمان! سنأتي كما طلبت» _ڤيرينا_
1
«أنا جاهز للتضحية بروحي من أجل الأخ الأكبر، الثامنة ساعتي المفضلة» _مايلس_
1
«نفذتُ المهمة، و الحقيبة باتت معي! ماذا بعد؟» _مايڤا_
1
ركز دارك إهتمامه على الرسالة الأخيرة، عظيم! إنه فخور بمايڤا إلى حد بعيد، لم يسبق أن خذلته، و ها هي ذي اليوم تنفذ أكثر المهمات حساسية و خطورة، سيذكر نفسه بمكافأتها لاحقا على تفانيها و وفائها له، كتب لها في رسالة نصية التالي:
«إحتفظي بها في مكان آمن حتى الثامنة موعد التسليم!»
لم يكد دارك يضع هاتفه في مكانه، حتى بلغته رسالة ٱخرى قرأ فيها:
«كل شيء جاهز في الكنيسة!» _سيفاك_
2
ممتاز! كل شيء يسير كما خطط، و لم يبقَ سوى ذهابهما إلى هناك لينتهيا من الأمر، حرص هذه المرة أيضا على إخفاء شعرها تحت قلنسوة و عينيها خلف نظارات قاتمة و عريضة، ثم جعلها ترتدي ثيابه الواسعة ليحولها إلى رجل، كنوع من التنكر، غير أن مظهرها بدا مضحكا، أشبه بعصا داخل ثياب ذكورية، أراحه هذا بشكل ما، فتلك الملابس لا تشف فتنتها كٱنثى، لكنها تترك عليها بصمتها الخالدة بعد نزعها، و يعاني هو بقدر مبرح من بقايا عطرها و ذكريات جسدها التي لا تنتزع من ثيابه بتلك السهولة!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
كنيسة سانت مارونيت | الصلاة الأخيرة…
1
“هل حقا أتينا إلى سانت مارونيت؟”.
تمتمت حائرة و هي تترجل من السيارة و توشك على إنتزاع نظاراتها لتتأكد أنها لا تحلم، لولا منعه لذلك بكلمات وجيزة:
“لا تكشفي عن وجهكِ هنا، لا نضمن أن شخصًا ما يراقبنا! فلندخل!”.
أجل! هذه هي الكنيسة! الأجراس واضحة! الشموخ جلي! و الشعور بالطأنينة نفسه! لكن اليوم… ليس نفسه، و طريقة دخولها لم تكن نفسها كطريقتها في السابق، اليوم تلج الكنيسة إنسانة كاملة، واثقة، تغمد يدها بقبضة رجل بارد مغلف بالوشوم الغامضة و الثياب السوداء، و تستطيع رؤية أي شيء تريده، بينما بالأمس كانت تلجها ناقصة، شاحبة، و مترددة تستند على ذراع صديقتها كايت حتى لا تتعثر أو تخطئ المسار، و في يدها الٱخرى عصا المكفوفين! تذكرت ضياع تلك العصا في اللحظة التي إختطفها بها دارك، كانت مطوية و موضوعة على حجرها، و حين إمتد ذراعاه نحوها و حملها إلى سيارته سمعت صوت إرتطامها بالأرض و تدحرجها أسفل مقعد المحطة! آه لماذا تتذكر هذا الآن؟ هي لم تعد روكسان العمياء! تغير الكثير في حياتها، و عليها تقبل واقعها الجديد!
توقف دارك و روكسان وسط القاعة الرئيسية للكنيسة، يقابلهما تمثال المسيح و العذراء، و في الأسفل قليلاً وجه القس لوثر المندهش و وجها كايت و سيث المصعوقين من الصدمة، لقد توقع كلاهما موتها بعد تقرير الشرطة الأخير المخيب للآمال بشأن إستحالة العثور عليها، أما الأب لوثر فقد ظل لديه بصيص أمل برؤيتها من جديد!
“روكسي!”.
هرولت نحوها كايت كالمجانين، فترك دارك يدها، و ظل واقفا بمحله صامتا، ركضت روكسان بدورها لإحتضان صديقتها الوحيدة، و كل منهما تجهش بكاء على كتف الثانية!
“أين كنتِ؟ بحثتِ عنكِ مطولاً! عزيزتي… أصبحت نحيفة أكثر من ذي قبل!”.
“أنا…”.
“أوه لا! لا تتحدثي… دعيني أتأملكِ أولاً!”.
نظرت إليها و عيناها لا تستطيعان كبت الدموع المسترسلة، و ها هي تكمم فمها ذاهلة، و تتساءل:
“هل إزددتِ حُسنًا أيضا، أم أنه الشوق فقط يجعلني أراكِ حسناء العالم؟!”.
ضحكت روكسان مدركة أنها إشتاقت لتعليقات صديقتها الطريفة، ثم لمست شعرها مردفة من بين دموعها:
“أنا أيضا لم أتوقع أن تكوني على هذا القدر من الجمال! و لم أتخيلكِ أيضا بشعر عسلي، ظننتكِ شقراء للغاية!”.
“آه لا تبالغي! عن أي جمال تتحـ… مهلا! لحظة!”.
أدركت كايت أخيرًا ما سمعته، و تمتمت بلون مخطوف و موجة ٱخرى من البكاء:
“كيف… كيف تستطيعين رؤيتي؟ أنتِ! هل أنتِ…؟”.
تقدم القس و سيث نحوهما، فتقدم دارك بدوره كأنه يؤكد بذلك أحقيته فيها أكثر من الكل، بينما هزت روكسان رأسها إيجابا و أردفت:
“أجل! أراكِ بوضوح عزيزتي! كما أرى كل شيء من حولي!”.
نقلت بصرها إلى الآخرين مضيفة:
“أنا أراك يا سيث، و أراك أيضا يا أبتي! لقد رحمني الرب و أغدق علي بنعمته من جديد!”.
رفع الأب لوثر رأسه للسماء منتشيا برحمة الرب، و أومأ مبتسما دون أن يقول شيئا، كأنه إن تحدث و لو بحرف حينها… سيخرب لحظة عظيمة مم الصمت الجليل! سيث هو الآخر ظل هادئا و متعجبا مما يحدث، لكن السعادة ملأت قلبه كالعجب تماما، لطالما صلى من أجل تلك العازفة الملاك لتستعيد بصرها و ترى شيئا من هذا العالم قبل أن تذبل و ترحل، ثم وجد نفسه بعد فترة يصلي لتظهر من جديد بعد إختفائها المحير، و ها هي ذي صلواته تتحقق دفعة واحدة، يا للسموات! أهذه رحمة… أم معجزة؟! من يصدق أنها ظهرت مجددا… و ليس كفيفة كما كانت من قبل!
صافحت روكسان كلا من سيث و الأب لوثر، و خلفها كان دارك قد تحول لصخرة قاسية بسبب تلك الحركة البسيطة، رأى الدفء يسري بين أربعتهم، دفء ضايقه لأنه لم يشمله، فاستعجلها دون أن يمهلها وقتا لتشبع من رؤيتهم بعد كل ذلك الفراق!
1
“ألا يمكننا أن نبقى لوقت أطول؟”.
“لا وقت يكفي لذلك!”.
تدخلت كايت:
“من يكون؟ لماذا تستأذنينه بهذا الشكل روكسي؟ هل يتحكم بحياتكِ أم ماذا؟”.
رمقها دارك بحدة، إستيقظ رغبة القتل داخله، لكن روكسان بصوتها اللطيف وقفت بينهما، و وضعت يدها على صدره في إشارة تهدئة خاصة فهمها، فيما إلتفتت إلى كايت التي تجهل ما يجري، و أجابتها بلهجة شاعرية:
“إنه الملاك الذي أعاد إلي بصري!”.
11
دارك ريغان… ملاك؟ يا لها من عبارة غير متوازنة، فكر كذلك و روكسان تضيف مبقية تلك اليد على صدره كأنها تترجاه ألا يفقد أعصابه و يؤذي أصدقاءها:
1
“و هو أيضا الرجل الذي سأمضي معه ما تبقى من حياتي!”.
1
هذا أفضل، إنه مع الشق الثاني من العبارة، و كم راقت له الكلمات الأخيرة! هزت كايت رأسها عاجزة عن التصديق، كان صعبا حقا إستيعاب كل شيء دفعة واحدة، و الأصعب هو أن تخبرها روكسان بعدم إمكانية عودتها لإرتياد المعهد برفقتها، و للعزف في الكنيسة مع سيث، و للصلاة و الفضفضة مع الأب لوثر، من الصعب حقا و من القاسي جدا ترك كل ذلك، لكن على بعض الأشياء أن تتغير… و على أشياء ٱخرى أن تتلاشى نهائيا… و على الحياة أن تستمر أحيانا رغم فقداننا الكثير… ربما نجد ما يعوض… و ربما لا نجد… لكننا و دون أن نعي نكتشف في أعماقنا قدرة عجيبة على الإستمرار دون أحلامنا!
ترك دارك كل شيء، و لم يهتم بأحد سوى بها هي، ظل يراقب ردودها، و يتابع أبسط حركاتها ليحدد قيمة كل ذلك بالنسبة لها، و إحتفظ بما إستنتجه لنفسه، خاصة حين أمسكت يده ببراءة عذبة، و قادته إلى إحدى الزوايا، و أرته البيانو الذي إشتاقت للعزف عليه، لمست غطاءه و الدموع تتساقط من عينيها، رفعته بتقديس، و وقعت نقرتين مختلفتين على مفاتيحه، ثم عاودت غلقه، و إلتفتت صوب دارك مستسلمة لمشيئة القدر تداري القدر الكبير من مشاعرها الدفينة، لتهمس له بفم مرتجف يجاهد ليبتسم بشكل طبيعي:
“فلنذهب الآن!”.
ظنت أنهما سيتركان الكنيسة على الفور، لكنه قال برقة خشنة غريبة:
“أليست لديكِ أمنية مكتومة، صلاة مؤجلة، محادثة سرية مع الرب، سأنتظر من أجلك!”.
إنها تعرف أنه ليس بذلك الرجل المؤمن، و الكنيسة برمتها لا تعني له، و ما قاله للتو عظيم… عظيم جدا! بالنسبة لها! و بالنسبة لعالمه و تفكيره و نمط شخصيته… هو أعظم شيء قد يحدث! لا أحد غيرها سيفهم مدى جمالية حديث سفاح عن الأماني و الصلوات و الرب! هي فقط ستفهم هذا و تقدسه! إبتسمت له شاكرة، و مضت نحو المكان المخصص للصلاة و الإبتهال، ضمت يديها بصدق و عفوية، و بإيمان جازم بدأت تحدث الرب، لكن ليس عنها، ليس عن حياتها كما كانت تفعل سابقا، أغمضت عينيها تصلي من أجل دارك ريغان وحده، أنفقت الأمنية الوحيدة التي نالت للتو من أجله، تمنت أن يهديه الرب لطريق هادئ و سعيد يغمره السلام، أملت أن يتغير و يتطهر قلبه من دنس الضغينة و العنف، و أن يغفر له خطاياه السابقة، لأن داخله روح مختلفة عما يظهره، و بينما كانت هي تصلي من أجله، كان دارك يخوض محادثة جانبية مع القس لم يسمعها سوى الرب… تماما كأمنية روكسان!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس العلوية| شوارع تستفيق…
نفذت مايڤا تعليمات دارك بكل حذافيرها، و إلتفتت لتمتطي سيارتها و تجهز نفسها لموعد الليلة، غير أنها لمحت شبح شخص كان يقف خلف بعض أشجار الحديقة العامة القريبة و يسترق النظر إليها قبل أن يلوذ بالفرار و تفقد أثره!
«هكذا إذن! تتعقبني يا عبد المال!».
إستغرق منها الأمر لحظات فقط لتصل إلى أقرب هاتف عمومي و تجري إتصالا ضروريا بأحدهم! و أجابها صوت ثخين على الطرف الآخر:
“مرحبا!”.
“قابلني في الحديقة العامة حالاً!”.
أغلقت الخط بوجهه دون أن تكترث بكرهه لذلك التصرف بالذات، و جلست تنتظره في مكان ظليل بالحديقة، و سرعان ما أقبل كهل مرموق، يتهادى بخطواته الواثبة و هو يدير رأسه هنا و هناك باحثا عنها، حتى لمحها تجلس على أحد مقعدين متعاكسين، لم يرَ وجهها، لم يرَ سوى ظهرها النحيل و عنقها الطويلة و شعرها الأسود شديد القصر، و كان ذلك كافٍ لأي شخص كي يميز مايڤا، لا سيما هو!
“يا لها من دعوة مفاجئة!”.
جلس على المقعد الآخ و ظهره لها، فتمتمت بتضايق:
“ماذا تريد مني؟”.
رفع حاجبيه و شخر بحيرة:
“لستُ أنا من خطط لهذا اللقاء المستعجل!”.
“لكنك خططتَ لملاحقتي، صحيح؟”.
“غير صحيح!”.
نفى بشدة، و أضاف بإستياء:
“ليس لدي الوقت لذلك من الأساس!”.
“آه بالطبع! حضرة المحامي الشهير جون ڤاندرمان لا يملك الوقت سوى لقضاياه الثمينة، هل تظنني بلهاء؟ لن يصعب عليك إستئجار كلاب لتعقبي، لكن صدقني… من الصعب أن تتفوق علي في ميدان الذكاء!”.
كانت على حق، لهذا يفضل دارك أن يعتمد عليها أكثر من غيرها وسط سفاحي الويد، رغم جدارتهم جميعا، لكنهم و لو إجتمعوا معا… لن يكونوا في مثل فطنة مايرا ڤاندرمان أو مايڤا كما تحب أن تختصر إسمها!
تركت مقعدها لترحل، فإستوقفها المحامي بصوت مرتفع و وحه مشدود:
“لم أكن أنا، لم أرسل أي شخص لتعقبك!”.
توقفت خطواتها، و دون أن تلتفت إليه، حدست الصدق في صوته، تمهلت قليلاً حتى أضاف بقلقه الأبوي:
“ماذا تفعلين بنفسك عزيزتي؟ أرجوكِ! عودي مايرا القديمة! توقفي عن كل هذا! و عودي يا إبنتي! البيت لا يعني أي شيء دونكِ! الحياة برمتها باتت جحيما بالنسبة لي!”.
إستدارت إليه و سألته بإقتضاب و سخرية أليمة:
“هل تستطيع إعادة أمي للحياة؟”.
بهت، و إصفرت سحنته، و أضاع صوته، فسخرت أكثر و كل ما بأعماقها يتكسر:
“لا! صحيح؟”.
و كان أن رحلت عنه بعدها بثوانٍ، و ظل هو يترنح، و لا يعرف من أين بالضبط يبدأ بالسير عودة نحو مكتبه أو بيته أو نحو أي مكان يتسع للمرارة المنتشرة داخل روحه! لن تسامحه مايرا… لن تسامحه أبدا!
كانت مايرا ڤاندرمان صوت العدالة، ناصرة الحقوق، مؤدية الواحب بإستماتة، شرطية ظابط من صفوف اللامعين، مستوى تدريبها عالي، ثقافتها في مجال الأسلحة و الخطط الإستراتيجية للإيقاع بشبكات الإجرام واسعة، و حبها لعملها لا نظير لها، و كانت تشتهر بكرهها لرجال الفساد، تعتبرهم أسوء و أخبث من مجرم مكشوف و واضح، لأنهم ليسوا ملطخين بالدم، و لا مدججين بالمسدسات و الرصاص، بل يختبؤون بجبن داخل بدلاتهم الراقية، و سياراتهم الفارهة، و يمارسون أي لعنة في الخفاء، بينما يظنهم العامة ملائمة مقدسة، و حين إكتشفت أن والدها المحامي الشهير و المرموق واحد من كبار الفاسدين في البلاد، و تسبب في موت والدتها و تحطم حياتها، توعدته بإسقاطه من عليائه، و لأن رجال الشرطة كانوا يخافونه و يمجدون رغم علمهم بحقيقته، إزدرتهم أيضا، خاب أملها بترهات القانون و الحق و الشرف التي ليست سوى شعارات يرددونها دون أن يعوا قيمتها، و هكذا إنضمت للعالم السفلي، لسفاحي الويد، لتصبح مجرمة من نوع خاص، يسرها أن تقضي على شخصيات تهدد مصالح الميغا و لها صلة بوالدها، يسرها بشدة القتل حين تتذمر ما خل بوالدتها، و تفعل المستحيل لتنظف البلاد من أمثاله، ليس لأي شيء سوى ليأتي يوم يحين فيه دور جون ڤاندرمان فيدفع ثمن دم والدتها البريئة!
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
سانت مارونيت| أنظار على الصليب…
الثامنة ليلاً…
كان كافة أفراد العشيرتين و قضاة الكونغرس قد وصلوا إلى مكان اللقاء، ركنوا سياراتهم الفارهة، و دلفوا ينتظرون ظهور دارك، الكابو أيضا كان هناك، و حضر معه أبرز أفراد عشيرة الكامورا، أما إيسميراي فكانت النقص الوحيد! فكر سيباستيان أنها خشيت تعرضها لأذى بسبب دعمها الجريء لريغان، و سخر منها بأعماقه، يا للخسارة! لقد مجدوا في وصف شجاعتها حتى ظنها امرأة شرسة كما يشاع عنها، لكنها خيبت ظنه!
1
فتح باب يخرج منه القس عادة، لكن من خرج كان الرجل المنتظر، الشخص الذي جمعهم بنية إعلان شيء مهم يحرم قتله للأبد، و هو في أبلغ أناقته، داخل بدلة سوداء جعلته ينافس كبار العشائر رفعة و ذوقا، حسنا، فليعلن ما يريد، سيغيرون هم القواعد، و يتخلصون منه و من فتاته كيفما بدا لهم! هكذا فكر البعض!
إعتلى دارك منصة القس كأن الكنيسة ملكه، تبادل نظرة غامضة مع إدريك، الذي سأله بعينيه ما اللعنة التي تفعلها بالضبط؟ و بدأ يخطب عليهم كما لو كانوا خداما له:
1
“سبق و أعلنتُ أمس أنني أصبحتُ السفاح الأول و الأقوى في التاريخ! و لستُم هنا الليلة لنكرر ما قيل من قبل، بل لتسمعوا ما هو أهم و أحدث!”.
أرادوا أن يتصرفوا بضجر، لكنهم إنجذبوا دون إستثناء لكلامه، و تعطشوا لمعرفة ما سيعلنه، أما الكابو، ففكر هو و عشيرته أن دارك لن يأتي بالجديد، لكنه فاجأهم حين قال و بكل وضوح و ثقة:
“ستكونون شاهدين على زواجي هنا… الليلة!”.
12
جحظ إدريك مستوعبا هوية العروس، و إبتسمت مايڤا في مكانها مستغربة تغير زميلها الصاعق، من شراء فُوَط صحية لها إلى منحها إسمه؟! فيما ضحك أحد رجال الكامورا معلقا:
“حسنا، نتمنى لك زواجا لك سعيدًا، إبدأ أنت… و دع الختام لنا، يحب الإيطاليون تقديم هدايا و مباركات ثمينة!”.
ثم إنحنى يهمس في أذن الكابو بإيطالية ساخرة:
“رصاصتان على عتبة الكنيسة تحلان المشكلة، لا تقلق أيها الكابو… فلنستمتع أولا بهذه المهزلة… ثم دع الأمر لي!”.
1
تجاهل دارك ما دار بينهما من همس مقروء، و أشار للقس كي يبدأ بترتيل عباراته المقدسة، ثم أخبره الأب لوثر أن يدير ظهره للباب قبل أن تصل عروسه، لكن العريس تصرف كأصم، و أبقى بصره ملتصقا بمدخل القاعة، ينتظر لحظة وصولها بفارغ الصبر، ليس وحده فقط، الجميع كان بإنتظار فتاة ريغان لرؤيتها، حتى غولدينا الحكيمة، أصابها الفضول، و رغبت بالتطلع في وجه المرأة التي إستطاعت إقناع مسخ مثل ريغان بالزواج… و في الكنيسة!!
كان شرطي المرور وسط تقاطع طرق معروف في فيغاس مستغربا ما يراه، موكب سيارات لومبورغيني مهيب يغلق الشوارع بأتم معنى الكلمة، و يسبب أزمة في الحركة لوقت طويل!
الكثيرون إستخرجوا هواتفهم ليخلدوا اللحظة و ينشروها على مواقع التواصل الإجتماعي… متسائلين لمن تلك الزيجة، و من هي سعيدة الحظ التي تحرك من أجلها موكب بهذا العدد و هذه الفخامة، الحيرة، الدهشة، الحسد، و الضيق، مشاعر جمة متباينة إمتلأت بها صدور الناس في قلب فيغاس تلك الأمسية، دون أن يعي أحد ما الذي يجري، حتى الشرطة لم يحصلوا على أي معلومة أو تفسير!
بلغ الخبر رجال الصحافة، جهزوا أدوات فضولهم، و لاحقوا الموكب دون جدوى، فكل السيارات كانت داكنة الزجاج، و لا تشف هوية من بداخلها، إتجهت الأصابع كلها نحو سيدة واحدة يمكنها إمتلاك هذا العديد الهائل من اللومبورغيني، إيسميراي تايلور، لكنهم لم يحددوا سببا معقولا لذلك الموكب، مقابض أبواب السيارات مزينة بأشركة بيضاء و زهور صغيرة، مما يؤكد للجميع أنه موكب زفاف، لكن زفاف من؟ إيسميراي نفسها؟ مستحيل! إنها شخصية شهيرة تحب التباهي! و تنشر على صفحة الإنستغرام خاصتها أبسط جديد بحياتها، و لن تغفل ذكر مناسبة ضخمة كزواجها و مشاركة جمهور معجبيها فرحة كهذه! لا ريب أنها أهدت هذا الموكب لعروس ٱخرى عزيزة عليها!
ظل الغموض على حاله حول الزفاف، توقف الموكب المذهل حول كنيسة سانت مارونيت الأكبر و الأشهر بالمدينة، فهرع الصحفيون للتلصص و لمح العروس التي ستنزل من أول سيارة، غير أن كل ما لمحوه كان فستانًا أبيضًا منتشر الأطراف كفساتين أميرات الزمن الغابر، و طرحة تغطي ملامحها، ثم إن سربا من الحراس الضخام أحاطوها من كل حدب و صوب، و منعوا الرؤية تماما إلى أن دلفت الكنيسة و بمعيتها إيسميراي تايلور شخصيا!
إستدارت الرؤوس لدى وصول إيسميراي المثير للصخب و الإعجاب دائما، حدجت الكابو الساخر بنظرة متعالية مصرة على تحديه، و إتخذت مكانها قرب أفراد عائلتها مفسحة المجال للعروس الغامضة كي تتقدم ببطء!
كانت روكسان تسير بإرتجاف مميت خلف الطرحة، تقلب عينيها يمينا و يسارا دون أن تحرك رأسها بسبب ثقل التاج الذي وضعه دارك على رأسها و هو يجهزها قبل ساعة؟ كان قد تركها تحت طرحتها بين يدي إيسميراي و حراسها الأكفاء، مانعا عليهم أيضا رؤيتها قبل المراسيم لأي سبب كان! و سبقها إلى الكنيسة، لكن أليس هذا زفافًا؟ لماذا كل من حولها يبدون جامدي الوجوه؟ لماذا يرتدون الأسود كأنه مأتم؟ و لماذا دارك لا يدير لها ظهره كما يحدث في أي زواج طبيعي؟ إتسعت نظراتها و قفز قلبها بعنف حين تحرك من مكانه عكس ما تشير إليه الأعراف و الطقوس، و لم ينتظر أن تصل إليه، بل إختصر المسافة نحوها، و دون أدنى كلمات و نكاية في كل من كان يضمر له نية خبيثة هناك، طبع قبلة سطحية على شفتيها من فوق الطرحة، ثم أبعد رأسه عنها، و لم يستطع أن يتحرى شعورها الواضح بسبب الحاجز الأبيض بين وجهيهما، كما لم يستطع أحد غيره من الفضوليين تمييز ملامحها بجلاء، لم يحددوا حتى ما إن كانت جميلة كفاية لتسحر رجلاً باردًا مثل سفاحهم اللعين أم لا!
“سيد ريغان، هذا غير لائق و لا يتماشى مع الطقوس!”.
3
إعترض الأب لوثر بإستياء، فأردف دارك و هو يطوي ذراعه ليتأبط يدها و يسيرا معا نحو المذبح:
“أنا لوحدي أعرف ما اللائق بي، و كل تفصيل فيها يليق بعيني أن تراه و ترسخه!”.
2
صمت الأب لوثر، و لم يعلق بعد ذلك عن أي مخالفة يرتكبها دارك في حق الطقوس المقدسة، ليس خوفا منه، بل لأنه حدس تعلقه بروكسان، و ٱعجب بثقة رجل مثله في قوة الرباط الذي سيجمعهما رغم إختلافهما الصارخ! أيا كانت طريقة التأدية، الأهم من كل ذلك هو وجود الصدق و الثقة بين الزوجين! هل هناك ما هو أكثر قدسية؟!
1
وقفا جنبا إلى جنب قبالته، لكن دارك مرة ٱخرى إبتكر طقسًا جديدًا يخصهما، و إستخرج من جيبه قلادة الصليب، أشار لسيفاك كي يقترب و يسخنها بشدة، ثم فتح الأزرار العلوية لقميصه الأبيض، و جعل يدها هي التي تكوي صدره كما فعل بها من قبل، شهقت تحاول سحب يدها رافضة أذيته، لكنه إنتصر، و كبد نفسه حرقا يشبه ذاك الذي كان بين نهديها و غطاه بوشم المرايا، كانت تعرف أنه يستحق ذلك، كانت تعرف أنها عدالة لا تشوبها شائبة، لكنها فوجئت بدموعها تسقط و بلسانها يهمس:
“لماذا تفعل هذا الآن؟”.
أجاب بثبات:
“لأنه أنسب مكان للإعتراف بالخطايا و إلتماس المغفرة، قلتِ أن الوقت هو الكفيل بكل شيء، و أن بعض الجروح تستغرق زمنا لتشفى، لهذا قررتُ أن نتشارك منذ بداية زواجنا نفس التجارب و الآلام، قبل أن نتذوق الشفاء معا!”.
12
نظر بإتجاه الحاضرين الحائرين، ثم رنا إليها مجددًا بنظرة دافئة غريبة عنه، و أضاف بغرور يعجبها حين يصدر عنه وحده:
“أنا لا أملك الزمن يا روكسان، لكنني أملك كل الطرق التي تجعله طويلا أو قصيرا أو بلا معنى!”.
حسنا، إنه يملك إنبهارها الآن! لم تتوقع أبدا أن يكوي نفسه أمام الرب، و على مرأى الجميع ليتذوق نفس الألم، ألا يقولون أن الزواج في السراء و الضراء، و هذه هي الضراء التي تشاركاها للتو! لم يفهم الأب لوثر قصة حرق الصليب تلك، لكن حيرة عنيفة هدأت بأعماقها و هو يتابع أمارات روكسان، تأكد أنه يزوجها للرجل المناسب، فعجل أكثر بإتمام المراسيم، و ما هي إلا لحظات حتى بلغ أهم جزء، و سأله:
“دارك ريغان… هل تقبل بروكسان فارغاس زوجة لك في السراء و الضراء؟”.
سمع الجميع جواب دارك المتزن و الواثق و رددته أرجاء القاعة طويلاً:
“أجل أقبل!”.
“روكسان فارغاس… هل تقبلين بدارك ريغان زوجا لكِ في السراء و الضراء!”.
تذكرت وعدها له هذا الصباح بأن تبقى بعالمه، و تتمسك به، تذكرت صلاتها من أجله في نفس المكان منذ ساعات فقط، و جهرت بسكينة عجيبة، دون خوف أو إرتعاش:
“أجل أقبل!”.
2
صدح صوت القس كأنه ترتيلة مقدسة:
“مبارك لكما يا ولدي، ٱعلنكما بسلطتي المخولة و أمام الرب… زوجًا و زوجة، يمكنكَ أن تقبل عروسك سيد ريغان!”.
12
إمتلأ صدر دارك بهواء كاد يفجر رئتيه، ألبسها خاتما من الماس بنفس الإصبع التي وشم على ظفرها حرفه الأول، و رفع الطرحة منبهرًا بوجه كأنه من الغيم المتألق، و دون أن يتريث للحظة، إلتقط فكيها بأصابعه، و أغرق فمها المكتنز بقبلة تكفي لتدير رأسها حتى الغد، قبلة لم تشهد أي زيجة سابقة مثلها، أرادها دارك بذلك الطول و بتلك الحرارة عمدًا، لتخلف الأثر المطلوب؛ ليس على وجوه الميغا و الكونغرس فحسب؛ بل بأعماق روكسان زوجته أيضا!
أبعد رأسه يسمح لها أخيرا بالتنفس، و إلتفت كلاهما إلى الجمع الغفير لتلقي المباركات، كان دارك يعلم ما سيعقب فصل الزواج و رفع الطرحة لكشف وجه العروس، لكن روكسان لم تفهم سبب نظرات بعضهم المصعوقة، بدأ الأمر بقلادة الصليب النادرة، و التي كانت فيما سبق لسيدة عائلة التايغرز الأقوى، ثم سمعوا لقب فارغاس و هو نفسه اللقب الذي يستعمله الزعيم الراقد في غيبوبته داجيو، أقوى زعماء الويد حتى الآن! و الآن فوجئوا بأنفسهم يتأملون فتاة تشبه تلك السيدة إلى حد مخيف، الشعر نفسه، عيون الريم النجلاء، الحواجب الحادة، النحافة عينها، و حتى الشفاه و الذقن! كأنهم ينظرون لحفيدة السيدة الراحلة ماجاديلا تايلور، أجمل و أقوى نمرة عرفتها عائلة التايغرز، بل إنها و بشهادة الكل… أقوى امرأة سيرت عشيرة الوحوش بأكملها قبل عقود طويلة!
7
بدأت الرؤوس تدور هنا و هناك، و قال دارك ما أكد شكوكهم، و ما جعل روكسان تود لو تسقط في قعر عميق إلي غير رجعة:
“هذه لم تكن ليلة زواجنا فقط، بل كانت ليلة نهاية العهد القديم و بداية عهد جديد، يحكم فيها دارك ريغان و روكسان ليوني أقوى منظمة في العالم السفلي، إنها ليلة قيامة الداركسان! و إختلاط الدم الأبيض لسليلة عائلتي التايغرز و الليونز بدم السفاح الأسود! الأبيض كان بركة لنا و الأسود كان عزاء لكم، أما الرمادي فهو و منذ الليلة رمز خلودنا!”.
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)