رواية لحن الأصفاد الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم أسماء
البارت الثالث والعشرون (عرَّاب الأرواح!)
❞بين من حميتُهم بقلبي… وبين من صنعتُهم بعقلي؛ إكتشفتُ أنني لم أعِش!❝
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
فيغاس|فيلا الداركسان…
الثالثة مساءً
1
بعد الإختبار الأولي لمستوى زوجته الموسيقي، أمر دارك بمغادرة أوكاليبس غرفته، ليفيد روكسان بأول درس في تأليف ألحانها الخاصة، و حذره هامسًا من مغبة إثارة حزنها أو إنتقاد طريقتها في العزف تحت أي حجة أو ظرف، قبل أن ترنو نحوه روكسان بعينين تفيضان رحمة، و لسان يفطرُ شهدًا:
“أليست فكرة مناسبة أن تريحه من أعباء تعليمي اليوم؟!”.
نقلت بصرها إلى الٱستاذ تتأمله بشفقة، و أضافت ضاغطة على يد دارك تناشدُ أي رأفة داخله:
“أتصور أنه بحاجة ماسَّة للراحة و النوم!”.
كانت فكرة لعينة في نظره، و صمم على دحضها في حينه، لكن نظرة روكسان المشفقة… و لمستها الراجية هزمتاه، و جعلتا قسوته تتقهقر. إتسعت إبتسامتها حين رأته يوافق على مطلبها بهزة من رأسه، و يرفع يدًا كي يصرف الٱستاذ نحو غرفته!
النقم و الإشمئزاز فقط ما إعتمر بهما قلبه تجاه أوكاليبس مُذ سمعه ينعت زوجته بالعمياء العاجزة، لكنه إمتنَّ لوجوده آنذاك تحت سقفه، فبسبب ما أمر به توًّا، إرتفعت روكسان على رؤوس أصابعها، و قبلت خده شاكرة، لثمته برقة، كأنها تلثم وجنة طفل يشحذُ الحنان على قارعة الطريق! جعلته تلك القبلة يزهدُ في الحياة بأسرها، و جعلته أيضا… ينضبُ و يتضور جوعًا لقبلٌ ٱخرى من توقيع شفتيها… و يتسولُ سرًّا… طلبًا لأي شيء يحمل روحها و رائحتها!
سألته عن سبب جموده، فحرك رأسه نافيًا أي خطب به، و إزدرد ريقه باحثًا عن شيء يُقال، لم تكن تلك أول قبلة بينهما، كثيرًا ما إغتصب منها دارك قبلات عنيفة أدمت شفتيها، و أبكت عينيها النجلاوين، لكنها القبلة الٱولى التي تقدمها روكسان من تلقاء نفسها، و بملء رغبتها، دون أن يصاحبها ألم، أو تسقيها الدموع، أو تتمزق على إثرها الشفاه!
و رغم أنها طبعت تلك القبلة البريئة على خده، بعيدًا تماما عن حدود فمه، غير أنه شعر بشيء مختلف، يختبره لأول مرة بحياته، كأن روكسان بتلك الحركة… قد إقتحمته، و تفشَّت بأعماقه، و إحتلَّته حتى العظم!
بالكاد كان يستطيع نقل بصره الزائع من عينها هذه إلى الٱخرى، في غياب تام لصوته و أفكاره، و وسط دهشة عارمة من جانبها حياله، إلى أن إستوعبت ما أقدمت عليه في غمرة فرحها بإنتصاره الرحمة على القسوة داخله، أدركت ماذا يعني أن تقبله بتلك الحرارة و التلقائية، و بللت شفتيها مضطربة، تذبذبت متحاشية النظر إلى عينيه، لا ريب أنه لا يخلع بصره عنها، و لا ريب أن وجهها يتضرج بشدة الآن!
سحبت يدها و هربت بنظراتها بعيدًا، هل أخطأت؟ هل تسرعت؟ كلا! في النهاية هما متزوجان، و ما فعلته لا يعد خطيئة على إبنة كنيسة عفيفة مثلها! في مطلق الأحوال… هي مجرد فتاة متدينة، و لم تكن نيتها أن تسلك مسار الرهبنة أو ما شابه، و كان مقدرًا لها يوما ما أن يتقاطع طريقها مع طريق رجل ما، لتصبح له، و يصبح لها؛ لكن من كان ليتخيل أن طريقها يخفي لها لقاءً عنيفًا مع سفاح غامض الروح! رجلٌ تزوجها فقط لينتقم… و لتكون نهاية حياتها يوما ما على يديه!
قطع سيل أفكارها السوداء رنين هاتفه الخلوي، فتح دارك الخط حين قرأ إسم مايلس، و لم يكن ما سمعه سارًّا، فقد عقد حاجبيه، و أظلمت عيناه، كما لو أن الكون إكفهر فجأة!
قلقت لتغير ملامحه المفاجئ، و سألت شاعرةً أن كارثة ما ألمت بأحدهم:
“ماذا هناك؟”.
إرتخت يده و هو يبعد الهاتف عن أذنه صارفًا أسنانه، لم يوحِ صوته بغير البرود و البلادة، لكن عيناه ترجمتا حزن الدنيا أجمع و هو يجيبها:
“سيريا… في المستشفى… تصارع الموت!”.
بعد لحظات كانا في سيارته يشقان طريقهما نحو المستشفى التي ذكرها مايلس، لم يقل دارك الكثير عن تفاصيل تعرضها لطلق ناري، و روكسان بدورها لم ترهقه بالأسئلة، فقد لاحظت مدى تعلقه بسفاحي المنظمة، و مدى تعلقهم به، لا يخص ذلك سيريا وحدها؛ بل الكل، الواحد للجميع… و الجميع للواحد، هكذا هم، و هكذا هي حياتهم، كانوا عائلة واحدة، عائلة حقيقية يمكن لفرد منها الفناء من أجل البقية دون تردد، دون أن يرف له جفن، أو تهتز به شهرة، هكذا كانوا… عصبًا متينًا… يستعصى قطعه!
1
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
مقر الويد آنذاك|شيطان الخفاء
قطعت مارفل خلوة داجيو متنحنحة، فلعن حشريتها و شخر بإزدراء و هو يسقي نفسه بسكب آخر من النبيذ:
“ماذا تريدين الآن يا عاهرة الحاسوب؟”.
أقسمت مارفل في سرها أن تجعله يدفع ثمن كل لحظة أهانها فيها، لكنها في الظاهر أخفت ما خالجها من ضغينة، و أعلنت بصوت المساعدة العملي:
“ضيوفُكَ وصلوا، و ينتظرون إذن الدخول!”.
تذكر داجيو بحق أنه طلب حضور القضاة إلى المقر، فأردف داعكًا جبينه بأصابع متشنجة:
“عظيم، دعيهم يأتون، لكن قبل ذلك… ساعديني في الإنتقال إلى الأريكة، لن أمنح ٱولئك الأوغاد فرصة كي يشمتوا بي و أنا على هذا الكرسي المتحرك اللعين!”.
سندته مارفل حتى وصوله إلى الأريكة كاظمة غيظها، و لو فقدت أعصابها لنصف ثانية، لسحقت الأجزاء السليمة من جسده تحت حذائها، وقفت للحظات خلف الباب المغلق تعدل من هندامها و تصفيفتها، قبل أن تستعيد ملامح المساعدة النمطية، و تأذن للقضاة بالدخول.
“داجيو، من الرائع أنك هنا مجددًا، لكن… أرجحُ أن لهذه الدعوة سبب منطقي عدا عودتكَ للحياة!”.
خاطبه أحدهم بعدما جلس بإرتياح زائد، و مضى بأطراف أصابعه يقلب الجرائد الموضوعة على الطاولة الصغيرة التي تتوسط تلك الغرفة! إستهجن داجيو تصرفه و كلامه، و لم يتوقع أحد أنه سيقبض على ربطة عنقه و يسحبه نحو مزمجرًا:
“داجيو لم يمُت أيها الوغد!”.
“داجيو! ما… الذي… تفعله؟”.
إختنق القاضي في كلماته، و وثب زميلاه بنية إنقاذه، غير أن نظرة داجيو جعلتهما يتجمدان بمكانيهما، و يتبادلان نظرة فزعة و هما يسمعان ما أضافه زعيم الويد الأسبق:
“نزولي من مقعد العرش، لا يعني أنني خارج حدود قوتي!”.
كانا يعرفان تماما ماذا تعني قوة داجيو، إنها ليست حتما في جسده العائد من الغيبوبة، بل هي قوة المكر التي يتمتع بها عقله الخبيث، تذكرا المقولة التي كان يتداولها السائرون في الظلام خلال عقود مضت «تمكرُ بكَ الشياطين؛ خيرٌ من أن يفعل داجيو!»، و بسبب ما تذكراه إستسلما للحكمة، و أومآ بصمت، فأخلى داجيو سبيل زميلهما الذي تراجع ناجيًا بحياته و دخل في سعال طويل، ثم تابع كلامه هذه المرة بهدوء:
“السيادة تتطلب الدهاء، و أنتم تفتقرون إلى شيء كهذا، لذلك… من السهل إستبدالكم في الكونغرس السفلي! و من الأسهل تصفيتكم!”.
شحبت سحناتهم، و أخذوا أنفاسًا متوترة، بينما تابع داجيو بنفس الهدوء:
“بدل أن تضعوا خطة محكمة لإسقاط الزعيم الجديد دون أن تتجه أصابع الإتهام إليكم، إستأجرتم قناصًا فاشلاً ليقتل زوجته! و من تكون زوجته؟ موسومة محرمة! سليلة الوحوش! و إبنة الزعيم الأسبق؟! يا لها من عبقرية؟”.
“إخترنا أفضل قناص لتصفيتها، كان الحل الوحيد أن تموت فيخسر دارك صفة حمله للدم الرمادي!”.
سخر داجيو على رد القاضي الذي كان يخنقه للتو:
“لو أحضرتَ جيشًا بأكمله، لكان فاشلاً أمام سفاح لعين مثل ريغان!”.
4
تدخل قاضٍ آخر غير راضٍ بما يسمعه:
“على الأقل حاولنا التحرك ضده و حماية عهدك، أهذا جزاؤنا؟”.
زمجر داجيو مجددًا:
“إخرس! جعلتموه أقوى مما سبق و لا زلتم على قدر من الجرأة و الوقاحة كي تبرروا غباءكم أمامي! لا تخشَ من ذئب جريح، بل من ذئب جُرحت ٱنثاه! بعد فشلكم الذريع… ريغان سيقضي عليكم ببطء و تلذُّذ… واحدًا تلو الآخر!”.
2
إعترف أحد القضاة بتفوق دارك، و قال بينما يجزُّ أسنانه:
“الحق معك داجيو! لم تكن فكرة التخلص من زوجته صائبة!”.
حدجه زميلاه بحنق، فأضاف غير آبه لموقفهما:
“ماذا؟ هل أنا مخطئ؟ عليكما الإقرار بأننا لم نحرز أي شيء عقِبَ ما رسمناه، ريغان الآن قبض على رقابنا بتلك الحقيبة اللعينة… و هذه المرة لن ننجو!”.
إستفهم داجيو:
“أي حقيبة هذه؟”.
في غمرة صمت القضاة الثلاثة، فقد داجيو هدوء أعصابه، و صرخ لاعنًا عجزه عن الوقوف و كسر أضلعهم:
“إفتحوا أفواهكم القذرة و أخبروني ما الذي يفوتني هنا!”.
أجابه أحدهم أخيرًا:
“ريغان يملكُ مستندات خطيرة، إن حدث و بلغت الميغا… قد تقودنا إلى الجحيم!”.
فهم داجيو بعصبية ما قصده القاضي، الأمر يحدث، ما لم يقدم عليه جينيوس، أتى إبنه اللعين ليجعله واقعًا حتميًّا، لو كانت تلك الأسرار تعني القضاة بمفردهم، لكشفها بنفسه، لكنه أكبر متواطئ مع ٱولئك السفلة، و إن شمَّت البراتفا و الكامورا رائحة شيء كهذا، فلن يدفعوا وحدهم الضريبة، سيكون له دون شك… النصيب الأسوء!
المتعارف عليه في عالمهم السفلي، أن القضاة المذنبين و الخارجين عن القوانين السوداء تتم تصفيتهم على أيدي عشيرة الوحوش تماما كالسفاحين، لكن… إن خرج الوحوش أنفسهم عن تلك القوانين، فعقوبتهم أسوء من الموت، يُنفون إلى الويد كسفاحين مأمورين، يُجرَّدون من ألقابهم و دمائهم البيضاء، يسقطُ عنهم أي إنتماء لهم بالميغا، تُزال وشومهم التي تربطهم بعوائلهم، و إن كانوا متمردين أو على وشك كشف أسرار الميغا للشرطة و العامة… تُغسلُ أدمغتهم، و يتحولون إلى صفحة بيضاء، قبل أن ينتهي بهم المطاف في المصح العقلي!
و لو أن إدريك أبدى تمردًا عند نفيه و تجريده من هويته، أو كشف أي سر يخص عائلته، لكان الآن ضيفًا فارغًا في إحدى مصحات الولايات العقلية!
لكن ليس هذا فقط ما فكر فيه داجيو، مارفل اللعينة حضرت إجتماع دارك بالقضاة ليلة أمس، لكنها لم تنقل إليه أي شيء بخصوص الحقيبة!
لاحظ أنها دلفت إليه مجددًا و على لسانها مستجد ما، فصرف القضاة بحركة بطيئة من يده، نهض الرجال الثلاثة مغادرين، لكن الثالث تلكأ عند الباب ملتفتًا نحوه، و قال بقلق:
“أنتَ ستتصرف يا داجيو، صحيح؟”.
حافظ داجيو على صمته، لكن بريق عينيه الحاد منح القاضي الإجابة المرجوة، فإنصرف هذا الأخير واثقًا بدهاء الزعيم السابق، لو لم يكن داهية لما إحتكر زعامة الويد لعقود! لكن في النهاية زحزحه دارك، و نحَّاه عن مقعده الغالي بتلك البساطة!
نظر نحو مارفل، و سأل بنزق:
“أين إدريك الوغد؟ لماذا لم يأتِ لرؤيتي حتى الآن؟”.
جلست مارفل قبالته تضعُ ساقًا فوق الٱخرى بجرأة كأنها تتسيَّدُ المكان، و دخنت سيجارة بينما تجيبه ببرود:
“في المستشفى!”.
إستهجن سلوكها الفجّ أمامه، لكنه عاود السؤال بإمتعاض:
“لأي سبب لعين؟”.
تجوف خداها و هي تمتصُّ السيجارة بنهم، و بعدما نفثت الدخان، أجابت مجددًا بالبرود نفسه:
“سيريا ٱصيب برصاصة!”.
تلاعبت إبتسامة شامتة بشفتيه، و قهقه معلقًا:
“يبدو أن أحدهم أخذ بثأري بعد نصف سنة!”.
أردفت مارفل دون أن تشاركه الضحك:
“دعني ٱخيِّبُ أملك داجيو، من قام بهذا لا يعنيه ردُّ إعتبارك، إنما يكنُّ عداوة غامضة نحو إدريك شخصيًّا، و يبدو أنه يعرف أن إبنته هي نقطة ضعفه الوحيدة!”.
“أيًّا يكن من تجاسر على هذا، سلمت يداه!”.
3
إبتسمت مارفل متمتمة و هي تأخذ مجَّة ٱخرى من سيجارتها:
“أنت في مزاج جيد!”.
“ليس بعد!”.
أضاف مشيرًا عليها كي تعيده إلى الكرسي المتحرك:
“سأكون في مزاج جيد… حين أرى ريغان مكاني!”.
سحقت مارفل سيجارتها على المنفضة، و نقلته إلى كرسيه كما أملى، و لكن قبل أن تنجح في الإبتعاد عنه، كان داجيو قد قبض على عنقها بذراعه المثنية، و إجتهد في خنقها بكل قواه مزمجرًا:
“دعينا نتذكر اللحظات التي قضيتِها بين أحضاني!”.
“داجيو… توقف! صدري… يؤلمني!”.
“في المرة القادمة، سأجعل قفصكِ الصدري ينفجر و يتفتت قبل أن تدخني سيجارة أمامي!”.
عندما لاحظ إحمرار وجهها، و تأكد أنها على وشك الإغماء، أفلتها باصقًا، و أضاف مطلقًا سيلاً من الشتائم:
“و الآن يا عاهرتي المطيعة، لديكِ عملٌ تنجزينه، أولاً… إتصلي بمعالج فيزيائي جيد، ثانيًا… أعدِّي لي تقريرًا مفصَّلاً حول السيدة ريغان، أتحرقُ شوقًا لأعرف أي شخصية تملك إبنتي اللعينة!”.
3
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
مستشفى سامرلين|الوردة السوداء…
حين إلتقط إدريك سيريا من المقاعد الخلفية و هرع بها إلى مدخل المستشفى… أسرع نحوه فريقٌ من الممرضين المتمرسين يدفعون سرير العجلات الأبيض كي يضع عليه المصابة، غير أنه ركله بكل عنف و سخط رافضًا إفلاتها و لو للحظة، و زاد من وُسع خطواته و سرعتها متجهًا إلى غرفة العمليات!
إعترض طريقه عدد آخر من الممرضين و الأطباء يشهرون أذرعهم كي يستلموا الفتاة و ينقذوا حياتها، لكن إدريك إكتفى بنفسه منقذًا لها و صرخ:
“لا يجرؤنَّ أحدكم على لمسها!”.
إلتقط أنفاسه، و أضاف بحدة شاقًّا طريقه بينهم:
“إبتعدوا!”.
توقف مايلس عن ملاحقته، و على عتبة غرفة العمليات، طمأن الفريق الطبي بينما يلهث:
“دعوه يتصرف، إدريك جراح فذ، إنه الوحيد يستطيع إنقاذها!”.
الإيمان في صوت مايلس جعل الجميع يؤمنون بقدرة هذا الجراح الغامض على تولي الأمر، فامتنعوا عن التدخل، عدا شخص واحد، كان واحدًا من أهم أطباء المستشفى، و سبق له أن أنقذ حياة المئات.
سار في أعقاب إدريك، و راقبه يقتحم غرفة العمليات بثقة، و يمدد المصابة على السرير بحذر مدروس، ثم يأمر إحدى الممرضات أن تصلها بالأجهزة الطبية قبل أن يأمر ممرضة ٱخرى بأن تهيء من أجله العُدَّة المناسبة لنزع الرصاصة، و يداه في نفسه الوقت تجهزان قناع التخدير، فخمن أنه جراح يعمل لصالح مستشفى ٱخرى، أو ربما يملك عيادة في الجوار، و رغم الخبرة التي ترجمتها حركات إدريك و تعليماته الدقيقة للممرضتين، إلا أن الطبيب لم يتمالك نفسه، و تدخل قائلاً:
“عفوا! تخدير القناع خطير، ربما لا تتطلب إصابتها أكثر من تخدير موضعي، و في مطلق الأحوال… الجراحون هنا لا يقررون نوع التخدير و مقداره المناسب إلا بعد إستشارة طبيب المختص في ذلك!”.
قاطعه إدريك و هو يشير على الممرضة بجلب كمامة و مئزر ليباشر الجراحة:
“لا وقت معي لأنتظر حضور طبيب التخدير، و لا أريد أي طبيب مساعد في هذه العرفة، وجودي يكفي!”.
لم يجد الطبيب بُدًّا من التراجع و مغادرة الغرفة مكرهًا، في حين تبادلت الممرضتان نظرة مرتبكة، تعتقدان أنه سيصرفهما كذلك، لكن إدريك طمأنهما و هو يرتدي القفازات، و يحرك الكمامة بأنفاسه المتعاقبة:
“لا تتوقفا عن متابعة نبضها و مستوى الأوكسجين في دمها!”.
تخلصتا سريعًا من لحظة الإرتباك، و إنهمكتا في أداء واجبهما الإنساني، إحداهما تهتف تارة:
“دكتور إدريك، نبضها ضعيف جدا!”.
و الٱخرى تعقب من هناك بقلق:
“يا إلهي! نسبة الأوكسجين في دمها تنخفص، قد نخسرها!”.
نضجت حبيبات العرق على جبينه فخططت وجهه، و إحمرَّت عيناه بينما يتابع بنفسه خط الحياة الذي تعرضه الشاشة عن يمينه، و للحظة كادت يده ترتجف و تتوقف، غير أنه أغمض عينيه منصتًا لسيمفونية نبضها، مدركًا أنه لا يريد أن يصغي لها هناك بين الأجهزة الطبية، و هي على وشك الموت، بل سيكون من الرائع أن يتنعم بذلك النغم و هو يرخي رأسه فوق صدرها النابض بالحياة!
نجح في إستخراج الرصاصة بصعوبة، لكنه لم يبتسم، و لم يتنفس الصعداء كما فعلت الممرضتان، بل قرأ إحتمالاً أسودًا كان خفيًّا عليهما، و خشيَ أن تكون صغيرته سيريا سيئة الحظ إلى ذلك الحد، لكنه في اللحظة نفسها راوغ مخاوفه الطبية بأمل واهن، و سعى لإيقاف النزيف و خياطة الجرح مناشدًا القدر ببعض الرحمة!
بعد لحظات… غادر إدريك غرفة العمليات آمرًا الممرضتين بنقلها إلى غرفة العناية المشددة إنتظارا لميعاد إسعادتها الوعي، أرخى الكمامة قليلاً عن أنفه و فمه، و تأمل دمها الذي لطخ قفازاته و مئزه بعينين مصقولتان كالزجاج الذي صفعته الأمطار و الرعود لليالٍ متعاقبة، آنذاك… وصل دارك و روكسان يقلبان بصريهما بحثًا عن وجوه مألوفة، و ما إن لمحا إدريك حتى هرعا نحوه، أرخى دارك قبضته على كتف إدريك في البداية بصمت، ثم تمتم بحزن نجحت روكسان في الشعور به:
“كيف كانت العملية؟”.
هرب إدريك بعينيه، و حاول أن يجيب كأي طبيب آخر:
“إكلينيكيًّا ناجحة، لكنني لا أستطيع تعميم هذا النجاح على بقية الأصعدة إلى حين إستفاقتها!”.
3
علق دارك بثبات و يده لا تزال على كتف إدريك:
“أنا متأكد أنها ستكون بخير بفضلك، جميعنا نثق بكَ إدريك! ليست المرة الٱولى التي تسحبنا فيها من بين براثن الموت!”.
تذكر إدريك أنه كان عرَّاب الأرواح في المنظمة لسنوات طويلة، كان دائما صاحب الفضل في إنقاذ كل من ٱصيبوا من قبل خلال مهماتهم، دارك، مايلس، ليشا، مايڤا، سيفاك و غيرهم، جميعهم مدينون بحياتهم له، لكنه شعر في تلك اللحظة أنه مدين بالعالم كله… لسيريا وحدها! و لا توجد مواساة يمكن أن توقف تصدع قلبه، أو تسكن آلام روحه كلما إجترَّ صوتها و هي تشهق و تئن بين يديه و تردد كلمة ٱحبك!
و من جهتها… كانت روكسان تحضر المشهد بعيون دامعة و قلب مكلوم كأنها جزء أصيل من كل ما يجري، إستغربت ما الذي يلوِّعُ روحها إلى هذا الحد؟ هل هي مدفوعة بالرحمة إزاء الآخرين كما تعودت دوما؟ هل هذه دموع الشفقة فقط؟ إن كان هذا ما تعيشه هنا، فلماذا تشعر أن المأساة مأساتها؟ و لماذا يحزُّ في نفسها و أن ترى الإنكسار يطلُّ من عيني إدريك؟ لماذا يبدو مصابه الجلل مصابها أيضا؟ إسترسلت دموعها في الإنسياب مبللة وجهها الحزين، و دون أن تعي ما تفعله، تقدمت نحو إدريك محدقة بوجهه الجامد، إنتابتها مشاعر عجزت عن تفسيرها، و سيَّرتها تلك المشاعر الغامضة نحو حركة غير متوقعة، فقد إرتمت بين ذراعي إدريك و شدته نحوها في عناق قوي و مساند، أراحت ذقنها على كتفه، و أغمضت عينيها مطبطبة على ظهره بيديها الحانيتين! جعل ذلك العناق إدريك و دارك يتجمدان حرفيا، و يتبادلان نظرة لن يفهمها سواهما!
5
أما روكسان… فقد إستطاعت بعد مرور لحظات تمالك نفسها و الإعتذار من إدريك بصوت يكاد لا يُسمع، و بينما كانت تبتعد مفسحة له المجال كي يختفي من ذلك الرواق، عجزت عن مواجهة عيني زوجها، و فكرت جاهدة في تفسير منطقي لما أقدمت عليه أمامه، ترى… هل فعلت ما فعلته بدافع الإمتنان لأنه هو من أعاد إليها البصر؛ أم لأنها ملاك الكنيسة الطيب الذي يحتضن سائر البشر برحابة؟!
شعرت بدارك فجأة يمسك يدها، و يقودها في لطف إلى مقاعد الإنتظار، ثم إتجه صوب مايلس كي يعمل على تهدئته، لم يسبق أن رأى مايلس يبكي بحرقة، كانت دموعه تفيض دون هوادة على خديه، و تبلل ياقة قميصه، و يداه تجتهدان بمرارة في إزالتها كل فينة، يتقوقع كطفل في إحدى زوايا الرواق، و لا يشعر بنظرات المارة تجاهه، إلى أن تفاجأ بدارك يقرفص قبالته، و يشد على كتفيه دون كلمات، نظر مايلس إلى وجهه و تنفس بقوة، بحث عن صوته، أو عن الكلمات ربما، لكنه فشل في العثور على شيء ما يسعفه للتعبير عما يحتشد بأعماقه، كانت لحظة لا توصف، و ربما لن يفهم أحد وضعه، الفتاة التي إعتبرها توأمًا له تصارع الموت، و الفتاة التي بدأ يفكر جديا في الإرتباط بها تربت على يدي الوغد الذي أوصل سيريا إلى ذلك الصراع المرير، و الأدهى و الأمر، أنه قتله بيديه، و رغم ذلك لا يشعر بنشوة الأخذ بثأر عزيزته سيريا، بل يشعر أنه ليس سوى قاتل متوحش حرم روما شخصًا كان بمثابة والدها و مثلها الأعلى!
حاول دارك جهده كي يتجاذب مع مايلس أي حوار، و حين أدرك أنه لا يتجاوب معه، تركه لصمته، لعل تلك الدموع التي لم يرها على وجهه من قبل… تريحه!
عقِبَ لحظات… كان خبر إصابة سيريا قد إنتشر في الويد، و بلغ مسامع آل تايلور، و كانت باحة مستشفى سامرلين تعجُّ بسيارات السفاحين و النمور اللذين يعتبرون السفاحة أخلص شخص تعاملوا معه و إعتمدوا عليه في إنجاز المهام الخطيرة، لا سيما إيسميراي و زوي اللتان كانتا تحبان سيريا كأنها تنتمي لهما بحق، دون أن يعرف أحد آنذاك، أن من ترقد بعجز على السرير الأبيض تحت رحمة أجهزة الإنعاش… واحدة من النمور، و يجري في عروقها الدم الأبيض النبيل!
1
وحده إدريك كان يجترُّ تلك الحقيقة بينه و بين نفسه، يقف عند رأسها و هو لا يزال داخل بزة المستشفى الملطخة بدمائها النفيسة، يتوارى بألمه و فاجعة قلبه خلف قناع جراح المافيا البارد كي لا يطلع أحد على الأشواك المغروزة بروحه، عيناه المائجتان بالسواد و اللوعة لا تطلقان سراح جفنيها المسدلين، و أهدابها الكثيفة، و شعرها الأسود الطويل الذي ما إنفكَّ رغم جمع الممرضة له ينزلق على كسُدل من الحرير على حواف السرير، أراد أن يتمدد قربها و يحصي كم نفسًا في اللحظة تسحب إلى رئتيها، و يهمس لها قائلاً: «يا وردتي السوداء… يا منزلي الصغير… لا ترحلي! لا أريد النظر إلى هذا السواد الذي يحيطني من كل حدب و صوب… دون أن أتعثر بنظرتكِ الجريئة… دون أن يلمسني صوتكِ العابث!».
إقتربت مايڤا من دارك تسأله بإهتمام:
“أين سيريا الآن؟ هل أوضح إدريك أي شيء بخصوص مواعيد الزيارات؟”.
أجابها دارك و عيناه لا تخليان سبيل زوجته الشاردة:
“سياسة المشتشفى هي التي تحدد هذا، و لا أتصور أننا نستطيع زيارتها اليوم، نُقلت منذ قليل فقط لغرفة العناية المشددة!”.
أضاف و هو يتنهد ببطء:
“لكن ربما نستطيع النظر إليها من خلف الزجاج!”.
تدخلت ليشا التي دنت منهما للتو مدخنة سيجارة:
“ٱراهن أن إدريك يتأملها بحسرة الآن، و أفترضُ أنه يشعر بالسخط على نفسه، فرغم تحذيري، فشل في حمايتها! لا أتخيل نفسي مكانه!”.
إنضم سيفاك إلى رفاقه الثلاثة مفندًا فرضية ليشا:
“إدريك ليس أمام غرفة العناية المشددة، كنتُ هناك للتو، و علمت من الممرضات أن الجراح الوسيم تطوع لإجراء العمليات الحرجة في هذه المستشفى حتى الفجر التالي… دون راحة!”.
1
رفعت روكسان رأسها غير مصدقة، حاولت جاهدة فهم شخصية إدريك، في حين سألت ليشا و هي تمتصُّ سيجارتها بنهم:
“ماذا يحاول أن يفعل؟ هل يعاقبُ نفسه بهذه الطريقة؟”.
1
“كلا! إنه يبحث عن أي شيء يمنعه من التفكير في إحتمال خسارتها! إنه فقط يخشى النظر إليها و هي تصارع الموت!”.
لم يتصور أحدهم أن يرى إدريك خائفًا إلى هذا الحد، لكنه إلتزموا الصمت بعد ما قاله دارك، و إقتنعوا بتلك الإجابة، فكلاهما متشابهان، و يفكران بشكل متشابه حد اللعنة، يجلسان بين القبور حين تنقطع بهما السبل، أو يشقان طريقهما بمشرط صغير بين الأجساد و الدماء، أحدهما يُحيي؛ و الآخر يُميت!
دنا من ليشا أحد أعوان الأمن، و نبهها بصرامة عاقدًا حاجبيه:
“التدخين هنا ممنوع يا آنسة!”.
إستهجنت اللهجة الحادة التي حدثها بها، و فكرت في لكمه دون تردد، لكن سيفاك سحق سيجارتها معتذرا من العون، و سحبها معه نحو المصعد هامسًا:
“فيمَ كنتِ تفكرين يا مجنونة؟”.
“في تشويه وجهه مثلاً!”.
أردفت بعنف، فدفعها نحو عربة المصعد بسرعة، و أردف ضاغطًا على زر الطابق الأرض:
“كان الحق معه، ثم ألم تري كاميرات المراقبة المثبتة في كل زوايا المبنى؟!”.
تنفست ليشا بحدة، و قبل أن تنجح في إيجاد تعليق ساخر كما تفعل دوما، تابع سيفاك و هو يحذرها بنظراته القاتنة:
“لا تنسي القواعد يا ليشا… التهور خارج المهمات ممنوع!”.
أثناء ذلك… جلس دارك قرب زوجته التي لا تزال تحت تأثير الحيرة، تبادلا نظرات طويلة ملؤها الإستغراب و الغموض، إلى أن تشجعت روكسان، و تمتمت بهدوء:
“هل أنتَ غاضب؟”.
“و هل هناك ما يدفعني لذلك؟”.
أتت إجابته غامضة و باردة كالعادة، فإستأنفت روكسان بتأثر جلي:
“آسفة! أريدُ أن تفهم فقط أن ما حدث كان خارج سيطرتي على جسدي!”.
تقارب حاجباه فوق عينيه اللامعتين، و سمعته يسأل كأنه سقط للتو من العدم:
“ما الذي تحاولين قوله يا عذابي الجميل؟!”.
6
راق لها ما أطلقه عليها، و حركَّ أشياء كثيرة داخلها في لحظة واحدة، لكنها هزت رأسها مركزة على ما تود قوله، و أردفت بينما دموعها تسافر عبر خديها، و تنتهي على حجرها مبللة بنطال الجينز الذي ترتديه:
“آه دارك… لا تراوغ! أنتَ تعرف أنني أقصدُ ما فعلتُه قبل وقت قصير، صدقني… لا أفهم… ما الذي إنتابني في تلك اللحظة و أنا أنظر إلى عيني إدريك التائهتين… فجأة وجدتُني مدفوعة بقوة غريبة نحوه… كأنه كان على وشك السقوط من إرتفاع شاهق و كان علي إحتضانه… كأن الألم الذي يعيشه منسوخٌ بقلبي أيضا!”.
شهقت بخفوت مواصلة كلماتها المتذبذبة و هي تلمس صدرها بيد مرتعشة:
“شيءٌ ما… هنا… يجعلني مفطورة القلب مثله، هل تفهمني دارك؟ تلك الرصاصة لم تؤذِ سيريا و والدها وحدهما، أشعرُ أنها آذتني أيضا، أشعرُ بنيرانها هنا! أنا آسفة… آسفة حقا! لم أستطع منع نفسي! و عجزتُ أيضا عن فهمها!”.
وجد دارك نفسه محاصرًا، من جهة يود تفسير عدم غضبه بعد إحتضانها لوالدها البيولوجي، و من جهة ٱخرى لا يرى في ذلك التفسير الحكمة التي يتطلبها الوضع الراهن! أحاط دارك كتفيها بذراعه، و مضى يمسد شعرها بيده تاركًا إياها تنتحب لسبب تجهله على صدره! و كم تاق بشدة ليريح قلبها، و يزيل الغشاوة عن عينيها، لتدرك الحقيقة كم تستحق روحها النقية، لكنه لم يقوَ على ذلك، فقد وعد إدريك ألا يتدخل في هذا و يحترم رغبته، و دارك ريغان لم يتعود على خيانة وعوده! لذا تصرف بذكاء، و علق طابعًا قبلة على رأسها:
3
“تعرفين أنني كنتُ سأحول أي رجل يلمسكِ إلى كمية جيدة من اللحم المفروم، لكن ليس إدريك… ليس الرجل الذي أدينُ له بحياتي و بقوتي، لا أحد يفعل هذا بمن ربَّاه و صنع منه رجلاً حقيقيًّا!”.
تمكنت روكسان من رسم إبتسامة على وجهها الذابل، و ألصقت جبينها بعنقه محتمية أكثر بطوق ذراعه الأمين، كأن ذلك الحضن هو ما يجعلها إنسانة حقيقية، كأن دارك هو وحده من يمدها بالقوة… و يشحنها بالحياة و الهدوء!
“أعتقدُ أنكِ فقط مشوشة بسبب الهجوم الذي تعرضنا له أمس، و الآن… الأمر نفسه يتكرر مع إدريك و سيريا، لكن أعدكِ أنني سأسعى خلف الفاعل و أجعله يدفع الثمن!”.
سمع مايلس ذلك، و كان على وشك إعلام دارك يأنه قتل الفاعل فورًا كما يستحق، لكن شبح روما الذي خيم على أفكاره جعله يبقي فمه مطبقًا، و يتجه إلى غرفة العناية المشددة، أين وقف متأملاً عزيزته و توأمه الروحي خلف الزجاج!
أما في طابق العمليات، فقد كان إدريك يجاهد لإنقاذ ما إستطاع من أرواح، عرقه ينضح، و ألمه بدأ يخفت، كأن خوفه العميق لم يعد يستطيع التمرد عليه و الإستيقاظ مجددا، كأن سيطرته على الأوضاع هناك، يمكن أن يغطي فشله الذريع في حماية سيريا!
إستغرب الطاقم الذي عمل معه إستمرار هذا الرجل في الوقوف على ساقيه لساعات، لكنهم إستمدوا منه القوة و الجرأة كي يبحروا في عمليات ٱخرى و ٱخرى دون خوف من الموت أو ضيق الوقت و خطورة الحالات التي كانت تبلغهم!
إعتقدوا أنه مدفوع بالواجب الإنساني؛ لكنهم كانوا يجهلون أن ما دفع إدريك ليصبح حقا عرَّاب الأرواح في تلك المستشفى… هو أقوى بكثير من مجرد واجب أو إنسانية!
في تلك الأثناء، كانت سيريا الجاثمة فوق سريرها تخوض صراعها الأمر، حلمٌ خانقٌ يعصف بذهنها، ترى نفسها داخل حفرة مظلمة، الأفق بعيد موشحٌ بالعتمة و الوجوه الشاحبة المجردة من الملامح آخذة في الإنحسار أكثر، قلبها ملبد بظلمة الوحدة، و أطرافها متصلبة من البرد، فجأة… لمحت وجهًا واضحًا تبلله الدموع، إبتسمت لإدريك الذي إنحنى ملقيًا نظرة ميتة على الحفرة، لكن إبتسامتها تشققت حين شعرت بقسوة التراب وهو يسقط على وجهها، ثم أخذ التراب القاسي يختلط بالظلام، و تمزق وجه إدريك متلاشيًا، تقلصت أنفاسها تدريجياً، و إختفى صوت نبضها في ضوضاء السكون!
2
لمح مايلس خطًّا نبضها المنكسر يستقيم فجأة و يطلق طنينًا رتيبًا هزَّه هزًّا، فجمع الممرضات بسرعة و هو ينتحب و يصرخ بهستيريا، بلغت الجلبة التي أحدثها دارك و روكسان، فهرعا إليه يراقبان وضعها من خلف الزجاج دون حيلة، وضع مايلس رأسه بين يديه، و كممت روكسان فمها و قد سلما فعلاً بموتها المحتوم، في حين لم يستسلم دارك، و ظل يحدق بفريق الممرضات و هن ينعشن جسدها بالصدمات الكهربائية، حينها أدركت سيريا أنها تفقد الاتصال بالعالم، شعرت بالبرودة تتغلغل في جسدها، وأن الحياة تتسلل ببطء من بين أصابعها. لكن صوتًا بعيدًا ناشدها أن تتمسك بالحياة، أن تكافح لتبقى، أن تثبت كشجرة السرو في وجه الرياح العاتية، و إرتفع ذلك الصوت، و إتخذ نبرة إدريك و طريقته في الكلام مرددا:
«إبقي معي صغيرتي! طفلتي العزيزة… ٱنظري إلي! أنا هنا… دادي هنا! سأنقذكِ! ستعيشين! ٱصمدي! أعرفُ أنكِ قوية… لقد ربيتُ فتاةً يُعتمدُ عليها!»
7
للحظة… أغمض دارك عينيه هو الآخر مستسلما لمشيئة القدر، و فكر في الإتصال بإدريك كي ينقل إليه الفاجعة، لكن روكسان قبضت على يده تمنعه من ذلك، و تشير بوجهها الضاحك إلى نبض سيريا الذي عاد إلى حالة الإستقرار!
تنفس مايلس الصعداء، و أخفى دارك هاتفه شاعرًا لأول مرة بالإمتنان للقدر، و حين أمال رأسه نحو زوجته لاحظ شحوبها، فعرض عليها أن يحتسيا قهوة تعيد إليهما نشاطهما، وافقت على العرض الذي أتى بوقته، و سألت مايلس إن كان يريد كوب قهوة مثلهما، لكنه حرك رأسه يمينا و يسارًا رافضًا.
مر لحظات ٱخرى على مايلس و هو يلازم ذلك الزجاج… و كان دارك و روكسان قد إختفيا، إستخرج هاتفه، و قرر الإتصال بروما، في النهاية كان سيكشف لها هويته و عمله كسفاح، الآن ستكون ردة فعلها أسوء لأنه ليس مجرد سفاح فقط؛ بل هو السفاح الذي قتل مربيها العزيز يوري، لكن… عليه أن يعترف لها بما فعله… قبل أن تعرف بطريقة ٱخرى!
1
بدأت المخابرة بينهما، و كان للصمت و الأنفاس المتراوحة النصيب الأكبر منها، مايلس يجاهد كي يفضي بما في جعبته، و روما جامدة جاحظة العينين، تتحضر لجنازة مربيها غدا، و إلى جوارها شقيقها كيان الذي يعتقدُ أنه إتصال من إحدى صديقاتها في الحرم الجامعي!
“روما…”.
“نعم، روما تتحدث…”.
سحب مايلس نفسًا متقطعا، و عض أنامله لهنيهة، قبل أن يتشجع قائلاً:
“أريدُ أن نلتقي، أريدُ أن… تعرفي شيئًا مهمًّا!”.
أردفت روما دون أدنى إنفعال أو غضب:
“أخشى أن ذلك غير ممكن الآن! فيوري…”.
إرتجف ذقنها، فربت كيان على كتفها يبث فيها القوة كي تضيف متماسكة:
“… فارق الحياة!”.
شعر مايلس أن الأرض تميد به، و تذوب من تحت قدميه، إزدرد ريقه، و غضب من نفسه أكثر، لكن نظرة واحدة إلى سيريا أعادته إلى رشده، و دفعته للتعقيب بإصرار:
“متى ستقام الجنازة؟”.
“غدا! كما تعلم… هو آسيوي، و حضور عائلته و معارفه من هناك يأخذ وقتًا!”.
كانت سيريا تتحدث بصوت طبيعي، و بسيطرة عجيبة، كأنها لم تجد نظاراته بين يدي يوري، كأنها لم تسمعه بأذنيها و هو يخبرها بأن فتى السباق قاتل! ضربت معه الموعد غدا بكل هدوء، و بعدما أغلقت الخط، أجهشت بالبكاء فوق صدر شقيقها، و سألته بين شهقاتها:
3
“كيان، هل أنتَ مستعد لفعل أي شيء من أجل شقيقتك؟”.
“دون شك عزيزتي!”.
دفنت وجهها بين أحضانه تراجع القرار الذي سبق و إتخذته، و داخل جيب سترتها البنية، كانت تضغط بقسوة و ألم على نظارات مايلس!
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)