روايات كاملة

رواية جمر الجليد كاملة – من الفصل 15 إلى نهايتها جميع الفصول في مكان واحد | بقلم شروق مصطفى

رواية اسيرة القاسي الفصل الخامس عشر

جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها: “حيوان” فاكرني هخاف منه!
لفت نظرها السوار الملفوف حول معصمها، وظلت تحدق فيه باستغراب، تتساءل بصوت خافت:
“إيه ده؟ بتاع مين؟ مين اللي لبسهالي؟”
رغماً عنها، غلبها الإرهاق فأغمضت عينيها وغرقت في نوم متقطع. لم يمر سوى نصف ساعة حتى دخلت الدادة فاطمة لتطمئن عليها، لكنها فوجئت بحرارتها المرتفعة وبالكلمات المتقطعة التي تهلوس بها بصوت مبحوح وغير مفهوم.
على الفور، تركت الغرفة مسرعة لتبلغ عاصم بالأمر. وقف بجدية وهو يستمع، ثم قال بحزم:
“اعملي لها كمادات مبللة أولاً، وبعدين ندّيها الحقنة.”
نفذت الدادة التعليمات، بينما ظل هو جالساً بجانبها يراقبها عن كثب. كانت شفتاها تهمسان بأشياء مبهمة، اختلط فيها الغضب بالوجع:
“بكرهك… ابعد عني… بكرهك… ابعد عن طريقي… رودي… لا… ليه؟ بكرهكم…”
ظلت الدادة منهمكة في عمل الكمادات، بينما وقف عاصم متصلباً ينظر إليها بشرود. ما إن انتهت حتى أشار إليها قائلاً:
“خلصي الكمادات، وناديني أول ما تنزل الحرارة.”
ترك الغرفة وخرج إلى الفناء، حيث استقبله الهواء البارد بصفعات منعشة. أخرج سيجارة من جيبه، وأشعلها بحركة آلية. ظل يدخن، واحدة تلو الأخرى، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء. فجأة، قطعت الدادة شروده بندائها:
“يا بيه، الحرارة نزلت.”
دهس السيجارة الأخيرة أسفل حذائه، وأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعبر عتبة المنزل مرة أخرى. دخل الغرفة بخطوات ثابتة، أعطاها الحقنة بهدوء ثم دثرها جيداً باللحاف، وأغلق الأنوار. همس للدادة وهو يخرج:
“خلي بالك منها.”
توجه بعدها إلى مكتبه. جلس خلف الطاولة، وبين يديه الملفات والأوراق. حاول أن يغرق في عمله، لكن عقله كان يتسلل بين الحين والآخر إلى الغرفة المجاورة. أجرى بعض المكالمات، يتابع مستجدات القضية التي كانت تؤرقه منذ أيام. الوقت يمضي، لكنه ظل عالقاً بين عمله وهمومه، وبين الغموض الذي يحيط بها وبحالها المتدهور.
على الجهة الأخرى، كان معتز في مكتبه، يمشي جيئة وذهاباً وقد تملّكه الغضب. قبض بيده على هاتفه بقوة، ملامح وجهه توحي بأنه على وشك الانفجار. توقف فجأة، ونظر إلى إحدى الملفات أمامه ثم أزاحها بعصبية، قبل أن يتمتم بحدة:
“إزاي ترفض تقابلني؟!”
أخذ نفساً عميقاً ليهدئ غضبه، لكنه فشل. جمع أوراقه بعشوائية، ثم أمسك بمفاتيح سيارته وخرج من المكتب بخطوات ثقيلة وحازمة. فور جلوسه خلف عجلة القيادة، أجرى مكالمة قصيرة بصوت متهدج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه شيئاً فشيئاً.

أنهى المكالمة بابتسامة واسعة، خبيثة، تشي بنصر داخلي. تمتم بصوت منخفض، وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود:
“لما أشوف بقى هتنزلي الشغل تاني إزاي.”
أدار محرك السيارة، وبدأ بالتحرك بسرعة ملحوظة، متجهاً إلى منزله. عقله مشغول بخطته القادمة، وقلبه ينبض بنشوة الانتقام.
وليد جلس في غرفته، يتأمل السقف بصمت. كان أمرًا يشغل باله منذ فترة طويلة، لكنه ظل يؤجل مواجهته مرارًا وتكرارًا. شعر أن اللحظة قد حانت الآن، فمد يده إلى هاتفه وتردد قليلاً قبل أن يطلب الرقم.
رنّ الهاتف للحظات حتى جاءه صوت أخيه من الجهة الأخرى، هادئًا ومطمئنًا كعادته. بدأ وليد الحديث بتردد، لكن سرعان ما انساب الكلام منه كما لو كان سدًا انفتح فجأة. أخبر أخاه بكل ما يدور في ذهنه، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي أبقته مستيقظًا ليالٍ طويلة.
كان أخوه يستمع بصبر، ولم يقاطعه إلا بين الحين والآخر ببعض الكلمات المشجعة التي جعلت وليد يشعر براحة لم يعهدها منذ وقت طويل. انتهت المكالمة أخيرًا، وابتسامة ارتسمت على شفتيه، مزيج من الارتياح والثقة.
وضع الهاتف جانبًا، ونهض من مكانه. نظر حوله في الغرفة بعينين حازمتين، ثم بدأ بترتيب أولوياته. الآن وقد أزال هذا الحمل عن كاهله، بات مستعدًا للمضي قدمًا، بخطوات واثقة نحو ما ينتظره.
في منزل رودينا بالغردقة، كانت الحياة تمضي وسط ضحكات الأطفال وضجيجهم المعتاد. جلست رودينا على الأرض بين توأميها، كنزي وكرما، بينما الصغيرة كرما تطالبها بوجبتها المفضلة بطريقة طفولية:
“ماما جوعانة… بشاميلو!”
ضحكت رودينا بمرح وهي ترد:
“بشاميلو مرة واحدة؟ حاضر يا عيون ماما، خليكي هنا وأنا هقوم أعمل الأكل.”
هزت كرما رأسها ببراءة وجلست مكانها، لكن عقل رودينا كان في مكان آخر. همست لنفسها وهي تدير رأسها بحثاً:
“فين كنزي؟ البت دي هتجنني! مش سامعة لها حس… آه ياني، شكلها بتعمل كارثة!”
نادت بصوت عالٍ:

“كوكي! يا كوكي! بتعملي إيه؟”
جاء الرد من كنزي، بصوت بريء وهي تهمهم:
“مم… مم…”
دخلت رودينا المطبخ على عجل لتتفاجأ بالكوارث المنتشرة أمامها. البيض موزع في كل مكان، وكنزي تقف أمام الثلاجة مفتوحة، تحمل شيئاً بيدها. صرخت رودينا بدهشة وهي تقترب منها:
“والله زي ما انتي! أوعي تتحركي! بتعملي إيه يا قلب ماما؟”
ردت كنزي بابتسامة عريضة:
“ماما… مم!”
شهقت رودينا وهي ترى البيض المكسور والأرضية الملطخة:
“مم! وفتحتي الثلاجة وتقوليلي مم! طب والبيض ده؟ موزعاه كده؟ آه ياني! تعالي هنا يا حبيبتي، تعالي أعملك مم… لا، تعالي أحميكي الأول!”
أخذتها إلى الحمام، وهي تحدث نفسها بصوت مسموع:
“أول إيه؟ ده ثالث ولا رابع مرة! أنا اتجننت… بكلم نفسي بجد!”
بعدما انتهت من تنظيفها، أجلستها بجانب أختها كرما. وفي اللحظة ذاتها، سُمع صوت مفاتيح الباب. قفزت الفتاتان بحماس نحو الباب، وركضتا ليحتضنا والدهما.
“بابا! تيت؟” سألت كنزي بحماس.
ضحك عامر وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة:
“لا يا ملاكي، لسه متتش!”
ثم ضحك أكثر عندما سألته كرما ببراءة:
“بابا تيفونك؟”
رد عليها بابتسامة واسعة:

“كل يوم تثبتوني اتفضلي يا ست البنات، خدي التليفون وفرجي أختك معاكي.”
أخذت كرما الهاتف وركضت مع كنزي للجلوس معاً، تتابعان مقاطع يوتيوب. أما رودينا، فقد دخلت لتقابل عامر بنبرة عتاب:
“اتأخرت ليه كده؟”
أجابها بإرهاق ظاهر:
“شغل كتير، والله لسه مخلص وهلكان. هموت وأنام.”
ردت بابتسامة:
“طيب، غير هدومك، الأكل جاهز.”
اجتمعوا جميعاً على السفرة، وكانت الأجواء مليئة بالضحك والحديث العائلي. فجأة، سألت رودينا بحماس:
“هنآخد إجازة إمتى؟ وحشوني أوي نفسي أشوف إخواتي!”
ابتسم عامر وقال:
“هانت، قريب أوي هنزل. وليد كلمني النهارده… وعاوز يخطب!”
ابتسمت رودينا بفرحة:
“بجد؟ الله! أخيراً، مين بقى اللي شقلبته كده؟”
قهقه عامر:
“من ناحية شقلبته، فهي شقلبته فعلاً. مش عارف ياخد منها حق ولا باطل، بس هيحدد مع والدها الأول، وبعدها نروح نطلبها منه.”
فرحت رودينا:
“يا رب… عقبال ما نفرح بيهم كلهم!”
في هذه الأثناء، كانت كارما تحاول لفت انتباه والدتها:
“ماما… بعت!”

نظرت رودينا إليها وضحكت:
“لا، كلي يا كوكو. دي طيب!”
لكن كارما ردت بإصرار طفولي:
“توتو نو!”
تدخلت كنزي، وهي تقول ببراءة:
“ماما، توتو أنا!”
ضحكت رودينا وقالت:
“اللي هاكل الكوكو كله، عندي له مفاجأة!”
وبين ضحك ولعب الطفلتين، تابعت رودينا حديثها مع عامر حول الهاتف المحمول، مشيرة إلى مخاطر جلوس كارما الطويل على اليوتيوب. وافقها عامر الرأي، وأقترح عليها البحث عن حلول على الإنترنت.
أنهى عامر حديثه قائلاً:
“ما عندناش أغلى منهم. أنا معاكي في أي خطوة تاخديها.”
ابتسمت رودينا وقالت:
“طيب، ادخل نام شوية وأنا هخلص شغل البيت وأنيم البنات.”
ـــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، دخلت مي مبنى الجريدة بخطوات متوترة، شعور بالقلق يسيطر عليها منذ استدعائها إلى مكتب المدير. بالكاد ألقى عليها أحد الموظفين التحية حتى قيل لها:
“الأستاذ عاوزك فورًا.”
طرقت الباب برفق ودخلت. كانت عينا المدير حادة وهو ينظر إليها مباشرة. بادرها بالسؤال بلهجة صارمة:

“قوليلي يا مي… عملتي إيه في مشوار امبارح؟”
ارتبكت مي، وبدأ صوتها يتلعثم:
“أ… أ… أصل أنا… ت…”
قاطعت كلماتها المتقطعة نبرة المدير الغاضبة:
“بلاش شغل العيال ده يا مي! احنا مش فاتحين الجريدة عشان نلعب. لما أبعِت حد لمهمة، المفروض يرجع بنتائج. ولو مش قد الشغل، كنتِ تقولي، ونبعت حد غيرك.”
حاولت مي تبرير موقفها:
“أنا… أنا آسفة، بس أنا…”
لكن المدير لم يمهلها وقتًا:
“مفيش بس. اللي حصل إمبارح خلا اسم الجريدة يتضرر جدًا مع واحدة من أكبر الشركات العالمية. عارفة ده معناه إيه؟ معناه إني مضطر آسف أنهي شغلك معانا. استلمي ملفك النهاردة، وآخر يوم ليكي عندنا. عدي على أستاذ شوقي في قسم الحسابات وخدي باقي مرتبك.”
شحب وجه مي، وحاولت الدفاع عن نفسها بصوت مكسور:
“بس… يا فندم، دي أول غلطة أغلطها. وأنا شغالة هنا بقالى أكتر من ثلاث سنين!”
نظر المدير إليها بعينين جامدتين وأردف:
“للأسف، ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
اغرورقت عينا مي بالدموع، لكنها لم تستطع قول المزيد. أومأت برأسها بخضوع وهمست:
“تمام يا فندم… بعد إذنك.”
خرجت من المكتب، وكأنها تحمل على كتفيها جبلًا من الحزن والخذلان. كانت خطواتها ثقيلة، والدموع تغطي وجهها.
في الخارج، بينما كانت تحاول استيعاب الصدمة، لم تلحظ السيارة السوداء المتوقفة على بعد أمتار منها. جلس داخلها معتز، يراقبها بابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه. تمتم بسخرية:

” ولسه! انتي لسه ما شفتيش حاجة. هكسّرك كمان.”
ارتدى نظارته الشمسية، وأدار محرك سيارته، ثم انطلق مبتعدًا، تاركًا وراءه مي غارقة في حزنها.
استقلت مي سيارة أجرة، متجهة إلى منزل صديقتها همسة. ما إن فتحت همسة الباب حتى ألقت مي بنفسها في أحضانها، تشهق بالبكاء:
“شفتي… شفتي اللي حصل؟”
احتضنتها همسة وهي تحاول تهدئتها:
“اهدي… اهدي يا مي، مالك؟ تعالي دخلي جوا واحكيلي.”
جلست مي على الأريكة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي بحرقة:
“اترفدت! أنا اترفدت! وهو السبب… هو اللي عمل كده فيا. ليه؟ ليه يعمل كده؟! أنا مش مصدقة لحد دلوقتي. المدير قال إن ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
ربتت همسة على كتفها:
“طيب، طيب، اهدي… ده واصل قوي على كده؟”
هزت مي رأسها وقالت بغضب:
“أكيد، ما هو أخو ضابط، وعندهم ناس تقيلة. لكن ليه؟ ليه يعملوا كده فيا؟”
صمتت همسة قليلاً، ثم حاولت تهدئتها:
“بصي، فكك يا مي. اللي خلق الجريدة دي خلق غيرها. الدنيا مش هتقف على كده. شوفي جريدة تانية تشتغلي فيها. استني، أنا هعملك عصير ليمون يروق دمك.”
مسحت مي دموعها ونهضت من مكانها بتصميم:
“صح! أنا مش هستسلم. هشوف جريدة تانية، ومش هسيبه يفرح فيا.”
حذرتها همسة وهي تنظر إليها بجدية:
“مي، ابعدي عنه. طالما هو غبي بالشكل ده وقطع رزقك، خليكي بعيدة أحسن.”

أجابت مي بحزم:
“طيب، أنا همشي دلوقتي. يلا، سلام.”
نادت عليها همسة:
“استني! اهدي الأول، وأنا هعملك ليمون.”
لكن مي هزت رأسها واعتذرت:
“لا، مش قادرة. أنا تعبانة، وعاوزة أنام.”
ربتت همسة على ظهرها وهي تودعها:
“خلي بالك من نفسك… مع السلامة.”
غادرت مي منزل همسة وعادت إلى منزلها، ترتمي على سريرها، محاولة لملمة شتات نفسها والاستعداد لبداية جديدة.
… ..
بعد مرور يومين…
بدأت سيلا تستعيد عافيتها تدريجيًا، لكنها اختارت تجنب أي مواجهة مباشرة مع عاصم. كانت تقضي وقتها في استعارته للكتب من مكتبه، تقرأها، ثم تعيدها دون أن تثير انتباهه.
في إحدى المرات، أثناء استعارته كتابًا، لاحظت شيئًا غريبًا مخفيًا خلف الكرسي. حاولت التظاهر بالهدوء والخروج كالمعتاد، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات. عادت إلى غرفتها وظلت تفكر كيف يمكنها الحصول على هذا الشيء دون أن يُمسك بها.
انتظرت بصبر حتى سمعت صوت سيارته يغادر المنزل. نزلت مسرعة إلى مكتبه، متظاهرة بأنها تبحث عن كتاب آخر. التقطت أحد الكتب لتغطي تحركاتها، واستغلّت معرفتها بمواقع الكاميرات داخل الغرفة.
عند مرورها قرب الكرسي، تظاهرت بالتعثّر، ووقعت على الأرضية بطريقة طبيعية. مدّت يدها بخفة والتقطت الشيء المخفي خلف الكرسي، دون أن تُظهر الكاميرات أي شيء مريب. استقامت بسرعة وخرجت إلى غرفتها، وقلبها ينبض من فرط الإثارة. أخيرًا، حصلت على ما تبحث عنه.


في يوم المسابقة…
أنهت همسة تجهيز لوحاتها وسلمتها للمعرض قبل يوم واحد من المسابقة. وفي صباح يوم الحدث، كانت العائلة تستعد للذهاب. والدها، محسن، ووالدتها، نرمين، انشغلا بالتجهيز، بينما همسة قالت بلهفة:
“بابا، ممكن نعدي على مي ونأخذها معانا في الطريق؟”
ابتسم محسن وهو يرتدي معطفه:
“حاضر يا ست الكل.”
نرمين من غرفة أخرى:
“أنا جاهزة يا همسة، إنتِ مستعدة؟”
همسة تنهدت بحزن:
“كان نفسي سيلا تكون معانا النهارده.”
ربت محسن على كتفها مطمئنًا:
“قربت ترجع لنا، خلاص القضية قربت تخلص، ومش هيطولوا لحد ما يمسكوهم.”
نرمين بتفاؤل:
“يارب يا حبيبي، إن شاء الله.”
أسرعوا للخروج، مروا على مي واصطحبوها معهم إلى المعرض.
في قاعة المسابقة…
قدمت همسة لوحاتها وسط توتر وحماس، وبنهاية اليوم حازت على المركز الثالث. فرحتها لم تكن مكتملة بسبب غياب سيلا، لكنها شعرت بالفخر بما حققته.
وبينما كانت تتلقى التهاني، تفاجأت بحضور وليد. شعرت بالتوتر فور أن رأته يتقدم نحوهم مبتسمًا، وقال:

“أهلاً يا عمي، عامل إيه؟ الصدفة الجميلة دي!”
نظر إليه محسن محاولًا تذكره:
“أهلاً وسهلاً، إحنا اتقابلنا قبل كده؟”
رد وليد بابتسامة:
“آه، اتقابلنا لما اتبدل تلفوني بتليفون بنت حضرتك.”
تذكر محسن الموقف وابتسم:
“آه، فعلاً. أهلاً يا بني.”
نظر وليد إلى همسة مباشرة، وقال بصوت عميق:
“مبروك.”
توترت همسة وردت بخجل:
“الله يبارك فيك.”
لاحظ محسن نظرات وليد، فسأله ليقطع الصمت:
“إنت مشترك في المسابقة ولا جاي مع حد؟”
انتبه وليد للسؤال بسرعة وأجاب:
“ها… لا، أنا جاي مع صديق مشترك في المسابقة.”
ثم أضاف:
“طيب، بعد إذنك، أروح أشوفه.”
أومأ محسن برأسه:
“تفضل.”

ابتعد وليد قليلاً عن المجموعة، لكنه ظل يراقبهم من بعيد. انتظر حتى وجد همسة تنسحب من وسطهم متوجهة إلى زاوية هادئة. انتهز الفرصة وتقدم نحوها بخطوات واثقة…

بعد دخول الحمام…
كانت سيلا تعلم أن الحمام هو المكان الوحيد في المنزل الذي يخلو من الكاميرات. دخلت بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها بإحكام. أخرجت حقيبتها الصغيرة من تحت معطفها، واحتضنتها لثوانٍ كما لو كانت تحمل كنزًا لا يُقدر بثمن. فتحت الحقيبة بسرعة وأخرجت منها جهاز لابتوب صغيرًا كان مخفيًا بعناية.
وضعت الجهاز على الأرضية، ثم أخرجت شاحنه ووصلته بالكهرباء. جلست بجانبه للحظات، تراقب ضوء الشحن وهو يضيء. كان قلبها ينبض بشدة؛ شعور من الخوف والحماس يملأ صدرها.
همست لنفسها بصوت خافت:
“لسّه بدري… لازم كل حاجة تكون في الوقت المناسب.”
قررت أن تترك الجهاز داخل الحمام لبعض الوقت حتى يكتمل شحنه. خرجت من الحمام وكأن شيئًا لم يكن، واتجهت إلى غرفتها. هناك، فتحت النافذة بهدوء وأخذت تراقب الخارج بعينين حذرتين. عندما رأت السيارة تدخل إلى ساحة المنزل، أسرعت عائدة إلى الحمام.
التقطت الجهاز المشحون وأخفته بعناية بين أغراضها. عادت إلى غرفتها بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها. وضعت اللابتوب في مكان آمن وابتسمت بشعور من الانتصار.
همست مجددًا:
“كل حاجة بوقتها… وهعرف أتصرف.”
جلست على سريرها تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها لم تستطع أن تهدئ من تسارع دقات قلبها. كانت تعلم أن ما ستفعله قد يكون مخاطرة كبيرة، لكنها لم تكن على استعداد للتراجع الآن.
ـــــــــــــــــــــــــ

بعد انتهاء المسابقة…
بعد أن انتهى الحفل وكرّمت همسة لحصولها على المركز الثالث، تقدم وليد إلى محسن بطلب مهذب:
“لو سمحت يا عمي، ممكن أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟”
ابتسم محسن بترحيب:
“اتفضل، قول اللي عندك يا بني.”
وليد أشار إلى الخارج قائلاً:
“طيب ممكن نطلع برا شوية؟ الجو هنا دوشة وازدحام.”
هزّ محسن رأسه بالموافقة:
“ماشي، اتفضل.”
خرج الاثنان إلى ساحة المعرض بعيدًا عن الضوضاء، وهناك تحدث وليد بنبرة جادة:
“بصراحة يا عمي، أنا عارف إن الوقت ممكن ميكونش مناسب، بس أنا جاي أطلب إيد بنت حضرتك. شوف الوقت المناسب ليكم إمتى، وأنا هاجيب أخويا وابن عمي ونتقدم رسمي.”
تفاجأ محسن قليلاً لكنه رد بتروي:
“والله يا بني، الموضوع كبير وبيتطلب تفكير. البيت عندنا مش مهيأ للحاجة دي دلوقتي، وبنتي سيلا مش معانا…”
قاطعه وليد بسرعة وبحزم:
“أنا فاهم، وأنا مش مستعجل على حاجة. اللي بفكر فيه دلوقتي مجرد تعارف. لو حصل قبول ونصيب، مش هنتمم أي خطوة إلا لما بنتكم تكون موجودة ومعانا، وكمان في حضور عاصم، لأنه أخويا ومش بس ابن عمي. فحضرتك فكر براحتك وخد وقتك.”
أجاب محسن بتأنٍ:
“طيب، خليني أرجع البيت وأشاورهم الأول، وكمان أتكلم مع البنت. وبعد كده هرد عليك إن شاء الله.”

وليد رد بابتسامة ممتنة:
“تمام، مفيش مشكلة. ممكن أخد رقم حضرتك عشان أتابع معاك؟”
تبادل الاثنان أرقام الهواتف، واتفقا على أن يتم الرد خلال الأيام المقبلة. استأذن وليد بعد ذلك بالانصراف، بينما عاد محسن إلى الداخل حيث انتهت همسة من تسلم جائزتها.

في طريق العودة…
استقلوا السيارة، وأعادوا مي إلى منزلها قبل التوجه إلى بيتهم. طوال الطريق، بدا محسن شارد الذهن، مما دفع نرمين إلى سؤاله:
“مالك يا محسن؟ شكلك سرحان كده!”
ابتسم محسن بخفة وقال:
“لا مفيش حاجة، بس كنت بفكر في اللي حصل النهارده. على فكرة، وليد طلب إيد همسة.”
نظرت نرمين إليه بدهشة، بينما همسة شعرت بتوتر شديد وهي تسأل:
“طلب إيدي؟ إمتى ده؟ وإزاي؟”
حكى محسن بإيجاز عن الحديث الذي دار بينه وبين وليد، ثم أضاف:
“بس قلتله هفكر وأشاوركم الأول، ومش هيتم أي حاجة إلا لما نكون كلنا مستعدين.”
نرمين تحدثت:
“ربنا يكتب اللي فيه الخير، بس لازم نسأل البنت رأيها الأول.”
همسة، التي لم تتوقع الموقف، قالت بتوتر:
“أنا محتاجة وقت أفكر، ده موضوع كبير.”
محسن ابتسم وقال:

“خدي وقتك يا بنتي، أهم حاجة تكوني مرتاحة.”
عادوا إلى المنزل، وكل منهم يحمل في ذهنه أفكارًا مختلفة حول ما سيأتي لاحقًا.
داخل المكتب المظلم…
جلس الرجل الثائر على مكتبه، يتحدث إلى رجاله بصوت صارم:
“سننفذ بعد الغد. لا أريد أي تأخير أو أخطاء. سأتي أنا ورجالي، قم بتجهيز السيارات وكل ما يلزم.”
رد الرجل الآخر باحترام:
“تم تجهيز كل شيء يا سيدي، لا تقلق. الأمور تحت السيطرة.”

في منزل عاصم…
بدأ الجرح في ذراع سيلا يلتئم قليلاً، لكنها ما زالت متوترة من برودة أعصابه وتقلبات شخصيته. أحيانًا يبتسم ببرود كأن شيئًا لم يكن، وأحيانًا تتحول ملامحه إلى غضب ثائر دون سابق إنذار. بينما هي في غرفتها، همست لنفسها بغضب:
“مجنون… بارد… وغبي. يض،ربني بالنار ويقول قرصة ودن! المرة الجاية هيم.وتني، مريض متخلف!”
كلما حاولت نزع السوار حول معصمها، تفشل. قررت أن تواجهه، وذهبت إلى مكتبه وهي تغلي من الغضب. دفعت الباب دون استئذان وصرخت:
“أنت! أنا مش عايزة البتاعه دي. واجعة إيدي. فكها زي ما ركبتها!”
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه دون أن ينبس بكلمة، كأنه لم يسمعها.
اشتعلت غضبًا وضربت الأرض بقدميها:
“أنت بارد كدة ليه! أنا مش طفلة عشان تلبسني دي كأني هضيع!”
توقف عن الكتابة، ورفع رأسه فجأة بغضب حاد. لكنها لم تمنحه الفرصة للرد، تركت المكتب وخرجت بقوة، وأغلقت الباب خلفها بصوت عالٍ.
عادت إلى غرفتها تتمتم:

“بارد! لوح ثلج مستفز… صبرني يا رب. والله ما أنا سايباك كده!”

داخل غرفتها…
جلست سيلا بغضب، ثم استجمعت أفكارها. فتحت حقيبتها وأخرجت الحاسوب المحمول الذي خبأته بعناية. دخلت الحمام لتجنب كاميرات المراقبة، وجلست لتبدأ خطتها.
فتحت صفحتها على الإنترنت، وبدأت بنشر صور ومعلومات عن الشركات التي يملكها، خاصة الشركة الجديدة في الغردقة. كتبت:
“كيف يمكن لرجل ثلاثيني أن يمتلك عشر شركات بهذا الحجم في وقت قصير؟ أموال هذه الشركات مشبوهة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بغسيل أموال تابع للماف.يا. تابعوا هذه القضية للتأكد من مصداقية هذه الادعاءات.”
نشرت المقال على أكثر من موقع كبير، وأضافت صورًا ومستندات تعزز شكوكها. عندما انتهت، رسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وأغلقت الحاسوب.
خرجت من الحمام وهي تهمس:
“دلوقتي تعرف إني مش سهلة.”
لكنها تفاجأت عندما فتحت الباب، لتجد عاصم يقف أمامها مباشرة، ملامحه جامدة ونظراته تخترقها. في يده كان يحمل هاتفًا يظهر إشعارًا بالمقال الذي نشرته، وصوته الهادئ والمخيف قال:
“كنتي فاكرة إنك هتلعبي عليا؟”
شعرت سيلا برعب يتسلل إلى قلبها، لكنها حاولت التماسك، متسائلة في داخلها: كيف عرف؟!

يتبع….

رواية اسيرة القاسي الفصل السادس عشر

في منزل محسن، نرمين توقفت أمام محسن وهي تقوم بتعديل الكرافت له، وقالت:
“متأكد يا محسن من الخطوة دي؟ مش كنا استنينا حضور سيلا؟ أحسن تكون وسطينا على الأقل.”
رد محسن بابتسامة مطمئنة:
“يا حبيبتي، هما جايين تعارف مش أكتر، ومش هنعمل أي حاجة إلا بحضور سيلا طبعًا.”
نرمين أيدت كلامه قائلة:
“اللي تشوفه. هروح أشوفها خلصت ولا لسه.”
ثم وجهت نرمين كلامها لمي وهمسة:
“ها يا بنات، جهزتوا؟”
ردت مي بثقة:
“أيوه يا طنط، خلاص، فاضل حاجات بسيطة بس.”
أما همسة فقالت بخجل:
“إيه رأيك يا ماما؟”
ابتسمت الأم بفخر وقالت:
“قمر يا حبيبتي ما شاء الله.”
رن جرس الباب، فالتفتت نرمين قائلة:
“أنا طالعة أستقبلهم. خليكوا لحد ما أنادي عليكم.”
هزّ البنات رؤوسهن بالموافقة، لكن همسة سألت بقلق:
“شكلي حلو؟”
ردت مي مؤكدة:
“والله قمر!”
لكن همسة أضافت بتوتر:
“أنا هستناكي هنا، مش هحضر معاكو بره.”
رفضت مي بشدة:
“لا طبعًا، إنتي هتقعدي معانا! إنتي مش شايفاني عاملة إزاي؟ لا لا.”

مي قالت بقلق:
“أنا خايفة يجيب الزفت ده معاه. ولو شفته مش عارفة ممكن أعمل إيه بجد.”
ردت همسة بحزن:
“هتسبني يعني لوحدي معاهم بره؟”
تنهدت مي قائلة:
“فين لوحدك بس!”
لكن همسة أصرت:
“لا لا لا، مش هينفع بجد، خلاص مش هطلع أنا كمان.”
استسلمت مي:
“خلاص، أمري لله.”
في الخارج
استقبلت نرمين ومحسن الضيوف؛ وليد، وأخوه عامر، وزوجته، وأولاده التوأم كرما وكنزي، وابن عمه معتز.
كانت رودينا متفاجئة عند دخولها المنزل، إذ ظنت أنه منزل صديقتها سيلا، وامتلأت بالحماس لرؤيتها.
قال محسن مرحبًا:
“أهلًا بيكم، اتفضلوا.”
دخل الجميع وسلموا على نرمين، واتجهوا للصالون.
بدأ وليد بالتعريف عن عائلته:
“ده عامر، أخويا الكبير، ودي بنت عمي رودينا ومراته، ودول التوأم كرما وكنزي، وده معتز ابن عمي.”
ثم أضاف:

“وعاصم في مأمورية، لكنه على علم بكل شيء، وأول ما ينزل هنتقابل تاني بإذن الله.”
رحب محسن وزوجته بهم بحرارة:
“أهلًا بيكم، منورين والله. وكتاكيت صغيرين حلوين ما شاء الله.”
ابتسمت رودينا وسألت:
“طنط، مش فاكراني؟”
نظرت لها نرمين وقالت بتردد:
“والله بشبه عليكي فعلًا.”
قالت رودينا بحماس:
“أنا وسيلا كنا زمايل في الجامعة، ومي كمان.”
تذكرتها نرمين وقالت:
“آه، فعلًا! اختفيتي فجأة مرة واحدة. سيلا لو شافتك هتفرح بيكي جدًا، ومي كمان. دي مي حتى جوة، هتفرح أوي لما تشوفك.”
حين سمع معتز اسم مي، لمعت عيناه ببريق غريب؛ فقد كان ينتظر رؤيتها بفارغ الصبر بعد أن قطع عليها عملها ومنع الصحف من توظيفها.
قالت رودينا بحماس:
“بجد هنا؟ طيب ممكن أدخل لهم؟”
ردت نرمين بترحاب:
“آه طبعًا، تعالي معايا.”
في غرفة البنات
طرقت نرمين الباب، ففتحت مي ووجدت رودينا أمامها. ما إن رأتها حتى قفزت من الفرحة:
“آآآآه دودو!”

ركضت مي نحوها واحتضنتها قائلة:
“وحشتيني يا جزمة! كل دي غيبة؟”
ردت رودينا:
“وانتي كمان وحشتيني، وسيلا كمان، غصب عني. إخواتي طبعهم صعب جدًا.”
بحثت رودينا بعينيها وسألت:
“أمال هي فين؟”
حاولت مي تغيير الموضوع قائلة:
“أحم، ودي عروستنا. إيه رأيك؟”
ابتسمت رودينا وقالت:
“همسة حبيبتي، إزايك؟”
ردت همسة بتوتر:
“الحمد لله، انتي عاملة إيه؟”
سألت مي بمزاح:
“اتجوزتي يا بت؟”
ضحكت رودينا:
“أيوه، ومعايا كرما وكنزي كمان.”
قالت مي بسعادة:
“الله! ماجبتيهمش نلعب بيهم ليه؟”
ردت رودينا ساخرة:

“مين هيلعب بمين؟ هما اللي هيلعبوا بيكو! هما بره مع باباهم.”
ثم أضافت بحماس:
“خلينا نركز مع عروستنا. أنا فرحانة أوي إنك هتبقي سلفتي بجد.”
احتضنت رودينا همسة وأضافت بمزاح:
“وليد عرف يختار بقى!”
ضحكت مي وقالت:
“يا بنت، خفي عليها شوية. مش شايفة قلبت ألوان إزاي؟”
ردت همسة:
“والله انتو رخمين أوي!”
قاطعتهم نرمين وهي تفتح الباب:
“يلا يا بنات، تعالوا اقعدوا وسطينا بقى.”
في الصالون كان معتز جالسًا أمام الباب، منتظرًا لحظة ظهور مي بشغف.
تقدمت نرمين بجانب همسة، بينما كانت رودينا تمسك بيدها. لاحظ عامر ذلك وعلّق بابتسامة على زوجته:
“أنا شايف إنهم أخدوا على بعض أوي.”
ردت رودينا بحماس:
“طبعًا! همسة دي أختي أصلاً. بجد يا وليد عرفت تختار.” ثم جلست بجانب زوجها.
سلمت همسة على الجميع بتوتر، وقدمت المشروبات، ثم جلست بجانب والدها، وظلت تنظر إلى الأرض دون أن تتحدث كثيرًا.
تأخرت مي عن الانضمام إليهم قليلاً. وعندما جاءت، قدمتها نرمين قائلة:
“دي مي، صديقة العيلة.”

رحبت مي بابتسامة جذابة ورقيقة:
“أهلًا بيكم.” ثم جلست بجانب همسة وأمسكت بيدها، محاولة تخفيف حدة التوتر عنهما معًا، ولم تنظر أو تعره أي انتباه.
بدأ الجميع في الحديث وتبادل الأحاديث العامة، إلى أن تحدث عامر بجدية قائلًا:
“إحنا يا عمي جايين النهارده قعدة تعارف، وإن شاء الله يكون فيه قبول بينا. إحنا طالبين إيد بنتك همسة لأخويا وليد.
أنا ووليد ملناش غير بعض، وولاد عمنا قريبين من بعض جدًا. جايين نتعارف النهارده، لأن في فرد من العيلة غايب، سواء عندكم أو عندنا.”
رد محسن بابتسامة ترحيب:
“ده شيء يشرفني طبعًا، وأنا اتشرفت بمعرفتكم بجد. خصوصًا لما وليد كلمني، وقلتله مفيش حاجة تتم إلا بحضور بنتي. هو كمان أكدلي إنه مش هيتم أي شيء إلا بحضور الكل.”
قال عامر:
“على بركة الله.”
ثم استأذن وليد قائلًا:
“عمي، ممكن أتكلم معاها شوية؟”
رد محسن موافقًا:
“طبعًا، تعالوا اقعدوا في الفرندة هناك.”
وأشار لهم إلى مكان جانبي في نفس الغرفة (الصالون).
وقفت همسة بتردد، ووقف وليد بجانبها، ثم ذهبا معًا للتحدث.
بعد ذلك، استأذنت مي قائلة:
“بعد إذنكم، هقوم شوية.”
وبعدها مباشرة، استأذن معتز قائلاً:

“ممكن أدخل الحمام؟”
رد محسن بابتسامة:
“أيوة طبعًا، اتفضل.”
لكن دخول الحمام كان مجرد حجة من معتز لـ…
عند وليد ينظر إلى همسة بحاجب مرفوع:
“إيه بقى؟ ينفع كده مترديش عليا؟ أهون عليكِ؟”
ردت همسة بخجل ممزوج بالصراحة:
“الصراحة… آه.
وليد بدهشة وابتسامة ساخرة:
“والله؟”
همسة، محاوِلة توضيح موقفها:
“يعني أنا مش بكلم حد ما أعرفهوش، ومش ممكن أخون ثقة أهلي. بس كده.”
ابتسم وليد وقال بنبرة هادئة:
“وعشان كده أنا جيت النهارده، علشان أتعرف عليكِ. مش كده أحسن؟”
همسة بخجل شديد:
“أكيد.”
بدأ الاثنان يتحدثان بهدوء للتعرف أكثر على بعضهما، وظهر القبول على ملامحهما، وكأنهما بدآ يشعران بالراحة تدريجيًا.

في الداخل – ترك محسن معتز عند باب الحمام وعاد إلى باقي الضيوف. لكن معتز لمح مي واقفة في المطبخ، فتأكد أن الجميع منشغل، وذهب إليها.

توقف معتز عند باب المطبخ، وربع يديه بنبرة استفزازية:
“حلوة القعدة في البيت، مش كده؟”
انتفضت مي من أثر صوته، ثم التفتت إليه بنظرة ممتلئة بالاشمئزاز:
“تصدق إنك بجح؟ وليك عين تتكلم كمان؟ اتفضل اخرج برا.”
معتز ببرود:
“أنا أقف في المكان اللي يعجبني!”
مي، وقد بدأت تفقد أعصابها:
“إنت بني آدم متكبر ومستفز جدًا! مش كفاية اللي عملته؟ جاي تشمت كمان؟ أنا لو أقدر كنت قتلتك بجد!”
ضحك معتز بقهقهة مستفزة:
“بجد؟ ضحكتيني.”
مي وهي تحدق فيه بغضب:
“يخرب بيت برودك. إيه كمية الغل والسواد اللي جواك دي؟ روح عالج نفسك الأول، إنت مريض بجد!”
معتز بغضب مكتوم:
“بنت! احترمي نفسك واعرفي إنتِ بتكلمي مين.”
مي بسخرية:
“هه، وهكلم مين يعني؟ واحد مغرور وشايف نفسه. ولزق كده… مش عارفة على إيه.”
ثم نظرت إليه بنظرة مليئة بالاشمئزاز:
“ملزق! يا بيئة إنت. هو إنت تطول تكلم واحدة زيي أصلاً؟”
معتز، وقد فقد صبره:

“وأنا أصلاً مين قالك إنك تعنيلي حاجة؟ أنا…!”
قاطعت مي بحدة:
“ومين قالك إني عايزة أكلمك؟ ولا هموت عليك أصلاً؟! ومبسوطه إني قعدت في البيت… كنت محتاجة أريح نفسي من كل ده.”
ثم تركته دون أن تنتظر رده، وخرجت من المطبخ بعد أن أنهت عملها.
خرجت مي من المطبخ، ولم تكن ترغب في العودة للجلوس مع الباقين. وبينما كانت في طريقها للدخول إلى غرفتها، نادت عليها رودينا قائلة:
“مي!”
التفتت مي إليها بقلة حيلة، ثم جلست بجانبها. سألتها رودينا بابتسامة:
“كنتي فين؟”
ردت مي:
“كنت في المطبخ، بعمل حاجة.”
رودينا بغمزة ماكرة:
“طيب، مفيش أخبار جديدة كده ولا كده؟”
ضحكت مي محاولة التهرب:
“يعني!”
رودينا:
“يعني إيه؟ مش فاهمة!”
في هذه اللحظة، كان معتز جالسًا قريبًا منهما، وبدأ يشعر بغضب غريب دون أن يفهم سببه، خاصة بعدما سمع حوارهما.

بينما كان عامر يتحدث مع محسن ونرمين عن طبيعة شغلهم ومشاريعهم، كان هناك اتفاق على التعاون المستقبلي بين العائلتين في مجال الحراسة، إذ إن عامر يملك شركات مختصة في هذا المجال.

مي، في الجهة الأخرى، ضحكت بصوت عالٍ وهي تحاول كتمه، لكنها لم تستطع. أمسكت بفمها وقالت:
“بصي، يعني هو زميلي في الجريدة، وناوي يتقدم قريب!”
رودينا بفرحة:
“بجد يا حبيبتي؟ ربنا يتمم لكِ على خير يا رب!”
ثم سألت رودينا:
“وإيه أخبار سيلا؟”
ردت مي بنبرة حزينة:
“للأسف، سيلا حكايتها حكاية… هي رافضة فكرة الزواج من زمان. وكل مرة حد يتقدم، بترفض.”
رودينا باستغراب:
“ليه كده؟
مي بحزن: “من وقت الحادثة اللي حصلت زمان، وهي اتعقدت من الموضوع كله.”
رودينا بتعاطف:
“يااه، معقولة؟ ربنا يهديها ويطمن قلبها يا رب.”
مي:
“يا رب.”
في هذه اللحظة، جاءت ابنة رودينا الصغيرة تقول:
“ماما، عايزة أشيب!”
ضحكت مي وقالت مازحة:
“ترجمي يا دودو، هي عايزة إيه؟”

رودينا بضحك:
“عايزة تشرب.”
مي بابتسامة عريضة:
“بقت أشيب دلوقتي؟ أيامنا كان أمبو! إحنا اتطورنا خالص.”
رودينا:
“أكيد يا بنتي!”

انتهى اللقاء بعد حديث ممتع، وتم الاتفاق على لقاء جديد في حضور الأخ الأكبر الغائب. غادر الجميع المنزل، وكل شخص كان يحمل أفكارًا ومشاعر مختلفة عما حدث في هذا اليوم.
.
كان جالسًا في مكتبه، محاطًا بأوراقه وملفاته، بينما الحاسوب أمامه يعرض مجموعة من البيانات. فجأة، صدر صوت إشعار أزعجه. رفع نظره إلى الشاشة بدافع الفضول، لكن ما رآه جمد الدم في عروقه. محتوى الرسالة كشف شيئًا لم يكن يتوقعه أبدًا.
تجمد للحظة، ثم تبدلت ملامحه بالكامل إلى الغضب الشديد. أسقط القلم من يده، ونهض بسرعة، متجهًا بخطوات غاضبة نحو غرفتها.
فتح الباب بقوة، ليجدها تخرج لتوها من الحمام، تمسك المنشفة لتجفف شعرها. التقت عيناها بعينيه، وشعرت وكأنها أمام بركان على وشك الانفجار. لم تتوقع أن يكتشف الأمر بهذه السرعة، خاصة أنها لم تذكر أي أسماء.
قالت بتوتر وهي تحاول السيطرة على الموقف:
“إيه… إيه مالك؟ داخل كده ليه؟”
وبسرعة حاولت أن تخفي الحاسوب المحمول خلف ظهرها، محاولة حماية ما عليه.
لكن عاصم لم يكن مستعدًا لسماع أي أعذار. بخطوة واحدة، اقترب منها، وجذبها بقوة نحوه. أمسك الحاسوب من يدها، وسحبه بعنف وألقاه على أقرب مقعد.

أمسك يدها بقسوة وقال بصوت مليء بالغضب:
“تعالي! أنا هوريكي شغل المافيا الحقيقي! وهعلمك غسيل الأموال بيتعمل إزاي مع اللي زيك!”
حاولت التملص منه وهي تصرخ:
“سيبني! موديني فين؟! سيبني بقى!”
لكنه لم يستجب، بل زاد من قبضته عليها وسحبها بعنف إلى الخارج. نزل بها السلالم بخطوات متسارعة، متجهًا إلى الطابق السفلي حيث القبو.
فتح بابًا خشبيًا قديمًا يؤدي إلى غرفة معتمة، ودفعها للداخل بقوة. أغلقت الباب خلفها بصوت صاخب.
نظرت سيلا حولها، لتجد نفسها في غرفة باردة مظلمة، أرضيتها خرسانية، والهواء يكاد لا يدخل إلا من نافذة صغيرة جدًا في الأعلى. كل شيء فيها يوحي بالخوف.
تراجعت للخلف بخوف، وقالت بصوت مرتعش:
“إحنا فين؟ إنت عايز تعمل إيه؟ أبعد عني!”
لكن لم يتراجع. تقدم نحوها بخطوات ثقيلة وصوت غاضب هز المكان:
“أبعد؟ أيوة؟ بعد ما تخرجي وتطلعي أسوأ ما فيا! هااااااه؟!”
كانت تحاول الحفاظ على شجاعتها، بدأت تشعر بالخوف الحقيقي. قالت محاولة تهدئته
“عاصم… إهدى شويه أنا مش قصدي حاجة! كنت… كنت بس بحاول أفهم أكثر!”
لكنه لم يهدأ. كان واضحًا أن غضبه قد تجاوز كل الحدود، وعيناه تلتهبان كالنار مما جعل سيلا تدرك أن هذه المواجهة لن تمر بسهولة.
عاصم كان في حالة غضب أعمت بصيرته، عيناه اشتعلتا بسواد لا يرحم. أمسك سيلا من شعرها القصير بقسوة، وجذب رأسها للخلف بشدة، صرخ بصوت غاضب ومتهدج:
“عاوزة تشوفي شغل المافيا؟ هوريكي العصابات بجد!”
اندفع جنونه إلى أقصى درجاته، وفقد كل سيطرة على نفسه. بقبضة مشحونة بالغضب، وجه ضربة قوية إلى معدتها، متناسيًا أنها فتاة، متناسيًا كل معايير الإنسانية.
صرخت سيلا بصوت مملوء بالألم:

“آه أبعد!” أمسكت مكان الضربة في معدتها، وهي تتألم بشدة، تحاول جاهدة أن تلتقط أنفاسها. لكن لم يمهلها لحظة لتهدأ، فقد اقترب منها مجددًا، وأمسك بشعرها بعنف، وجذبها للأعلى حتى اضطرت للوقوف. كان غضبه عارمًا، يشعل فيه ثورة لا يعرف كيف يوقفها. بدأ يهزها بعنف، وصوته يرتفع في كل لحظة
“إيه اللي إنت عملتيه ده؟ تعرفي إيه عشان تكتبي كده؟ عاوزة تشوهي أي حد قدامك ؟ عشان سبق صحفي ؟ انطقي!”
كان يصرخ بكلمات مليئة بالغضب وكأنها لا تملك حق في الاختيار ، وهي تكافح لتلتقط أنفاسها وسط آلام موجعة، ردت بصعوبة وعينان تملؤهما الدموع وتحدِ:
“وإنت… تعرف إيه عني عشان تبعدني عن أقرب ناس لي زمان؟” قالتها بصوت متوتر، حاولت التملص من قبضته. “مين أعطاك الحق تسيطر عليّ؟ مين سمحلك تضربني كأني مش إنسانة؟! كان المفروض تحميني وأنا وسط أهلي… مش تجيبني هنا… سيبني بقى!”
لكن صوته كان أقوى منها، حيث صرخ بها بغضب مكتوم، وكان صوته مليئًا بالتهديد:
“عشان أنتي غبية… وما زالتِ… وأنانية! ما بتفكريش في غير نفسك، وطز في أي حد حواليك، وطز فيهم لو اتأذوا بسبب تهورك! ولا حتى بتتعلمي من غلطاتك!”
ثم انفجر بصوت عالٍ، كالرعد الذي يهز المكان، فيما وجهها يتلقى موجات من صراخه:
“لكن معايا أنا؟ لا! عندي أنا خط أحمر! فاااااهمه؟ خط أحمر ما ينفعش حد يتعداه!”
ض،ربها مرة أخرى في معدتها بقوة، مما جعلها تفقد توازنها وتسقط على الأرض، متكورة من شدة الألم. وقف للحظة، عينيه خالية من أي رحمة أو تعاطف، ثم استدار بسرعة، فتح الباب بقوة، وخرج بخطوات عنيفة، دون أن يلتفت خلفه. أغلق الباب بعنف، مما جعل المكان يهتز، تاركًا إياها وحيدة في الظلام، تكافح بين ألمها ودموعها.
فاطمة، التي كانت قريبة، ركضت نحوه عندما رأته وهو يسحبها للأسفل بسرعة، وقالت بتوتر: “يا بني، دي لسه متصابة، خليها ترتاح شويه.”
عاصم نظر إليها بنظرة قاسية لا تقبل النقاش، وقال بصرامة: “كلمة واحدة، أوعي تفتحي لها الباب، ولا تدخليها أكل ولا شرب، سيبيها زي الكلبة جوه كده فاهمة؟”
قالت بتنهيدة دون حيلة منها: “حاضر يا بني.”
وتركت المكان، عائده إلى عملها في صمت.
لم تهدأ ثورته بعد، توجه إلى غرفتها، سحب جهاز اللاب توب، وحاول مسح ما نشرته، لكن لم يتمكن من مسح جميع المشاركات الأخرى التي نشرها الآخرون. زفر بغضب وأجرى بعض المكالمات، ثم خرج من المنزل متوجهًا إلى صالة الألعاب ليخرج غضبه.
هو بارد كالجليد، لكن عندما يغضب، لا أحد يجرؤ على مواجهته. عائلته بالنسبة له خط أحمر، ولا أحد يستطيع الاقتراب منهم.

ظلَّت سيلا تسعل بشدة وتتلوى بألم في معدتها حتى غفت في حالتها المزرية.
مرَّ يوم كامل دون أن يسمع عنها شيئًا.

في اليوم التالي، دخل عاصم إلى غرفتها ليجدها ما زالت متكورة على الأرضية، وقد لاحظ تجمعًا دمويًا خارج فمها. توقف مندهشًا، نظر إلى جرحها فوجد أنه كما هو، لم يتغير. حاول إفاقتها، نادى على فاطمة ليحضر شيء مسكر بسرعة.
فاطمة جاءت بماء وسكر، لكن رغم محاولاته لم تستجب. فاستدعى الطبيب الخاص به ليأتي على وجه السرعة. عندما وصل الطبيب، قام بمحاولة إفاقتها، لكن ما قاله له الطبيب صدمه بشكل كبير، وأقفل فمه عن الكلام، تاركًا الطبيب يذهب وهو في حالة من الصدمة.
عاصم استعاد وعيه بعد فترة، نظر إليها بعينين محملتين بالهموم، فوجدها قد أغمضت عينيها مجددًا. لم ترغب في رؤيته، فتركها وخرج من الغرفة.
في المساء، استفاقت سيلا وطلب منها عاصم أن تستدعيها إلى مكتبه. فاطمة صعدت لإخبارها، لكن سيلا ردت بنفاذ صبر: “مش عاوزة أقابل حد، من فضلك قولي له إني هفضل هنا لحد ما نتكرم ونمشي من هنا خالص.”
فاطمة نزلت وأخبرت عاصم، فطلب منها أن تعطي سيلا الهاتف لكي تتصل بأهلها، ثم تعيده مرة أخرى.
عادت فاطمة وأعطت سيلا الهاتف، فقالت سيلا بسخرية: “يا لكرم أخلاقه”، ثم أمسكته وأخذت تنتظر الرد بشغف.
يتبع لو تفاعلت بعشر كومنتات ولايك هعرف انها عجبتك هكملها اسرع

يتبع….

رواية اسيرة القاسي الفصل السابع عشر

أمسكت الهاتف وانتظرت حتى جاءها الرد، فردّت بلهفة:
“بابا…” ثم بدأت في البكاء.
محسن، بقلق:
“مالك يا قلب أبوك؟ فيكِ إيه؟”
سيلا، بصوت متقطع من البكاء:
“نفسي أشوفك أوي يا بابا. عاوزة أرجع لكم. مش عايزة أقعد هنا. تعالَ خدني بقى.”
محسن، محاولًا تهدئتها:
“اهدي يا حبيبتي، اهدي. خلاص، كلها أيام وهتكوني وسطنا. عارفة؟ همسة جالها عريس وقعد معانا واتعرفنا عليه. ومستنينك تيجي عشان نعمل الخطوبة.”
سيلا مسحت دموعها، وقالت بفرحة مختلطة بالحزن:
“بجد؟ مبروك! فرحتلها أوي. هي فين عشان أبارك لها؟”
محسن:
“معاكي هي. اتفضلي كلميها.”
تحدثت همسة بحماس:
“حبيبتي يا سيلا! وحشتيني أوي!”
سيلا:
“وانتي أكتر يا قلبي. مبروك يا حبيبتي! فرحتلك أوي أوي. هتعملوا الخطوبة إمتى؟”
همسة:
“لما ترجعي إن شاء الله. بابا قالي إنك هترجعي الأسبوع ده. تجي بسلامة يا رب.”
ثم تدخلت نرمين، وخطفت الهاتف قائلة بحنان:
“عاملة إيه يا حبيبتي؟ بتاكلي كويس؟ خلي بالك الجو بارد عندك. ادفي كويس يا عمري.”
سيلا:
“حاضر يا ماما. وحشني حضنك أوي. نفسي أترمي في حضنك أوي.”
نرمين، بقلق:
“مالك يا قلبي؟ بتعيطي ليه؟ قلبي وجعني عليكي. طمنيني، فيكِ حاجة؟ خلاص، استحملي اليومين دول بس.”

سيلا تنهدت، محاولة طمأنتها:
“أنا كويسة، متقلقيش عليا. بس أنتم وحشتوني أوي.”
لم تستطع متابعة المكالمة بسبب اختناقها بالبكاء، فقالت بصعوبة:
“معلش، مضطرة أقفل. عايزين التليفون. مع السلامة.”
أغلقت الخط وأعطت الهاتف لفاطمة، ثم ارتمت على الفراش تبكي. لكن فجأة بدأت تسعل بشدة، وأحست بوجع في معدتها. لاحظت بقعًا من الدم، مسحتها بسرعة، ثم غفت بالنوم من شدة تعبها.
شروق مصطفى
فاطمة أخذت الهاتف وذهبت لإنهاء عملها، بينما ظل محسن في مكتبه قليلاً قبل أن يذهب إلى النوم.
……
صباح اليوم التالي اندلعت معركة بالصحراء بين الشرطة والعصابة التي كانت مختبئة في أوكارها. وبعد مواجهة مسلحة وإطلاق ن.ار، تمكنت الشرطة من السيطرة على الوضع وإلقاء القبض على أفراد العصابة بالكامل، رغم إصابة بعض رجالها. أثناء التفتيش، عُثر على شاحنة كبيرة مليئة بالأطفال المختط.فين، وأخرى تضم فتيات قاصرات في حالة تخدير تام.
بعد انتهاء المهمة، أجرى اللواء اتصالًا بعاصم ليبلغه بالنجاح ويطلب منه الاستعداد للعودة في أقرب وقت.
أغلق عاصم الهاتف وتنهد بارتياح قائلاً:
“وأخيرًا المهمة دي خلصت.”
ظل جالسًا للحظات، مسترجعًا ما حدث، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى ليجري مكالمة مع طبيب مختص بحالة سيلا. استفسر عن خطة العلاج الأنسب، خصوصًا أن الإمكانيات الطبية في هذا البلد متطورة بشكل أفضل مما كان متاحًا في موطنهم.
بعد المكالمة، قرر مواجهة سيلا بما علمه، ليترك لها القرار بشأن خطواتها القادمة. طلب من فاطمة أن تحضرها إليه، لكنها عادت تقول بأسف:
“للأسف، مش راضية تخرج.”

أغمض عاصم عينيه لبرهة، ثم قال بحزم:
“قولي لها لو ما نزلتش، أنا هطلع لها بنفسي.”
نقلت فاطمة كلامه، فجاء رد سيلا غاضبًا:
“مش هقابله! مش طايقة أشوفه ولا أسمع صوته. لحد أرجع.”
عندما علم عاصم بردها، لم ينتظر طويلًا. صعد إلى غرفتها ودخل فجأة، وقال بصوت حازم:
“مش هينفع كده يا سيلا. عايز أتكلم معاكي، تعالي على المكتب حالًا.”
وقفت سيلا، وهي تنظر إليه بغضب، ثم تقدمت خلفه متذمرة، تضرب الأرض بقدميها. دخلت المكتب وجلست على الكرسي أمامه بوجه متجهم، وقالت بحدة:
“اتفضل، خير؟”
جلس عاصم أمامها ونظر إليها بجدية، ثم قال:
“خير إن شاء الله. العصابة أتقبض عليها، ولو عاوزة نمشي من هنا هنمشي حالا بس…”
الفرحة اجتاحت قلبها للحظة، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها الشاحب. عينيها تلألأت بالسعادة وهي تقول:
“بجد؟ بجد أخيرًا؟ الحمد لله!”
ثم تابعت بحماس:
“طبعًا عايزة أمشي، ومن غير أي سؤال. ودلوقتي حالًا! أخيرًا الكابوس ده خلص.”
أنهت كلماتها بنظرة غاضبة لعاصم، وكأنها تلومه على كل ما حدث.
نظر إليها بهدوء، محاولًا كتم توتره، وقال:
” بس في حاجة محتاجين نفكر فيها قبل ما ننزل. وده قرار يرجعلك في النهاية.”
سيلا، بوجه متجهم وقد بدت عليها الدهشة:
“حاجة؟ حاجة إيه دي؟ إحنا مش خلصنا خلاص؟ العصابة واتقبض عليها وكل حاجة انتهت!”

عاصم تنهد طويلًا، محاولًا جمع شتات كلماته، وقال:
“أحم… بصي. يوم ما حبستك، تاني يوم لما الدكتور وصل وكشف عليكي، بلغني بـ…”
توقف للحظة، ثم أكمل وهو يشرح حالتها الصحية بتفاصيل دقيقة، محاولًا تهدئة وقع الصدمة عليها.
“أنا شايف إن الإمكانيات هنا متطورة أكتر، ولو مددتي الفترة دي شوية، هتتحسني بشكل أسرع. الموضوع في بدايته سهل، يعني مش هياخد وقت طويل.”
صدمتها كلماته، ولم تستوعب ما تسمعه. شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. نعم، كانت تشكو من آلام في معدتها، لكنها لم تتخيل أن الأمر بهذا الجدية.
ابتسمت ابتسامة باردة تخفي وراءها خليطًا من الغضب والإنكار، وقالت:
“شكرًا… شكرًا إنك نبهتني. أنا هعرف آخذ بالي من نفسي. ومن صحتي. شكرًا لحد هنا.”
ثم أضافت بحدة:
“وأنا طالعة أجهز نفسي للسفر بعد إذنك.”
لم يدعها تغادر قبل أن يرد بسرعة:
“بلاش العناد في الموضوع ده. لو عايزة، ممكن أبعت حد من أهلك هنا، أو أجيبهم كلهم لو تحبي.”
استدارت قليلاً دون أن تنظر إليه، وقالت بنبرة حازمة وباردة:
“لا. وياريت متجبش سيرة لحد. مهمتك وانتهت هنا. وابعد عن طريقي.”
غادرت المكتب بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها دون أن تترك له مجالًا للحديث.
جلس في مكانه لبضع ثوانٍ، يحاول استيعاب ما حدث. غضبه كان واضحًا، فنهض فجأة وضرب بيده على المكتب عدة مرات وهو يتمتم:
“غبية! عنادك ملوش لازمة.”
ثم أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بابن عمه قائلاً بحزم:
“جهز كل حاجة. أنا جاي الصبح.”
… .

نرمين بفرحة غامرة قالت:
“بجد يا محسن؟ قبضوا عليهم؟ الحمد لله يا رب! أخيرًا الكابوس ده خلص! فاكر إننا كنا نادرين لما ترجع بالسلامة نطلع نعمل عمرة؟ ولا نسيت؟”
ابتسم محاولًا إخفاء إرهاقه، وقال:
“ما نستش طبعًا، بس الواد مستعجل يا ستي. نستنى نكتب كتابهم الأول، وبعدها نطلع عمرة. لما نرجع، يكونوا خلصوا تجهيزاتهم على مهلهم للشهرين دول.”
بتردد قالت:
“بس مش حاسس إننا استعجلنا؟ مش كانوا محتاجين وقت أطول عشان يتعرفوا على بعض؟”
نظر إليها بثقة وقال:
“لو كنت شايف إنه ما يستهلهاش، مكنتش وافقت. أنا اختبرت الولد، وهو قد المسؤولية. وكل شيء معمول بحساب.”
بحنان اقتربت منه، وأمسكت وجهه بيديها، وقالت بابتسامة:
“وأنا واثقة فيك وفي كل قراراتك يا حبيبي. نفسي أفرح بهم أوي، وسيلا كمان.”
ربت على يدها بحب وقال:
“سيبيها، كل حاجة ليها وقتها. والأيام الحلوة جاية.”
قطع حديثهما صوت همسة وهي تدخل بابتسامة عريضة
“الله الله الله! الأحضان كده من غيري؟ خيانة واضحة، وأنا ماليش نصيب ولا إيه؟”
ضحكا بصوت عالٍ، وفتحا أذرعهما لها، وقالا:
“تعالي يا أجمل عروسة!”
دخلت همسة وسطهما، واحتضنتهما بسعادة كبيرة، ثم رفعت رأسها وقالت بابتسامة:
“مبسوطة أوي إن سيلا هترجع بكرة. مش قادرة أستنى أشوفها.”
ركضت بعدها إلى غرفتها، تتوق لإخبار حبيبها بالخبر السعيد.

عندما استقبل مكالمتها وأخبرته بكل شيء، امتلأ قلبه بالفرحة. اتصل بأخيه عامر وقال:
“عامر، كنت لسه هكلمك! عاصم بلغني إن كل حاجة تمام. حضّر نفسك، هنقرأ الفاتحة قريب، ونعمل تلبيس دبل. وبعد ثلاث شهور نكتب الكتاب.”
بصوت مليء بالسعادة رد قائلاً:
“إن شاء الله، يا وليد.”
….
دخل غرفته يحضر حقيبته، ثم توجه إلى الدادة فاطمة قائلاً:
“جهزي حاجتك وبلّغي سيلا إننا هنتحرك على الفجر.”
هزّت رأسها موافقة، وبدأت تجهيز احتياجاتها، ثم صعدت لتبلغ سيلا، بينما ظل عاصم في مكتبه، مستغرقًا في أفكاره. جلس ممسكًا سيجاره الذي أشعله ببطء. فكر في حالة سيلا الصحية، وكيف أنها رفضت أن يخبر أحدًا بما تعانيه. كان يعلم أن علاجها يجب أن يبدأ فورًا، لكن عنادها أربكه. زفر بحدة وقال بصوت منخفض:
“أنا مالي ومالها؟ تتعالج أو متتعالجش، مش مشكلتي.”
ثم نفض أفكاره بقوة ووقف أمام النافذة. شرد قليلاً، يحاول تجاهل قلقه غير المفهوم. فجأة، سمع صوتًا ما عبر سماعة الأذن. تنهد وابتسم بخفة، وكأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه.
كانت سيلا تجلس على السرير تدندن بسعادة، تغني لنفسها وكأنها تطمئن قلبها:
“وحشتوني وحشتوني وحشتوني! أهلًا ترارارا، أهلًا ترا رارا! أهلًا أهلًا بأعز الحبايب!”
ثم توقفت فجأة لتتكلم مع نفسها بسخرية:
“أخيرًا! هخلص منه جبل الجليد كابوس. يبااااي! دمه تقيل بشكل!”
استلقت على السرير بتعب، تذكرت أنها لم تحضر معها سوى حقيبة صغيرة. أغمضت عينيها وغفت بسرعة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة خفيفة.
صعدت لتوقظ سيلا وتبلغها بالتحرك بعد قليل. عندما دخلت الغرفة، وجدتها نائمة بعمق خرجت تبلغ عاصم، كان مستندًا على حافة المكتب، وملامحه متحفظة، لكنه أومأ برأسه قائلاً:

“خليها. كمان شوية نتحرك.”
مرور أسبوع على عودتهم
عاد عاصم إلى حياته المعتادة بعد عودتهم، يوازن بين إدارة أعماله في الشركات وأعماله السرية. كان يومه مزدحمًا بالاجتماعات والتخطيط، لكنه لم يغفل عن التنسيق مع عامر ووليد لترتيب زيارة عائلية بنهاية الأسبوع. الهدف كان واضحًا: قراءة الفاتحة والإعداد لمراسم الخطوبة.
أما سيلا، فكانت قصتها مختلفة تمامًا. طوال الأسبوع، ظلت حبيسة المنزل. لم تغادر غرفتها سوى للحظات قليلة، ولم تذهب حتى للجريدة التي كانت تحب عملها فيها. انعزلت عن الجميع، وخسرت الكثير من وزنها بسبب فقدان الشهية. كل ما تأكله كان يسبب لها الألم أو ينتهي به الأمر إلى التقيؤ.
كانت غارقة في التفكير والصدمة، تعيد في ذهنها ما قاله لها الطبيب، وتحاول استيعاب الأمر. قررت ألا تخبر أحدًا عن حالتها، لا تريد أن تعكر فرحة عائلتها بزواج همسة أو سفرهم للعمرة. أجلت فكرة الحديث عن مرضها أو العلاج لما بعد انتهاء هذه الأحداث السعيدة.
قبل نهاية الأسبوع بيوم قررت الخروج أخيرًا، بحجة شراء شيء مناسب لمناسبة الخطوبة. رفضت أن يصاحبها أحد، فقد كانت لديها نية أخرى. ذهبت مباشرة إلى المستشفى، لتزور الطبيب المختص بالأورام. كشف الطبيب عليها واكتشف وجود كتلة في منطقة المعدة، وأكد ضرورة إجراء أشعة متخصصة لمعرفة طبيعة الكتلة، سواء كانت حميدة أو خبيثة، وكذلك لتحديد حجمها بدقة.
شعرت بصدمة جديدة لكنها تماسكت. خرجت من المستشفى وتوجهت إلى مركز الأشعة لإجراء الفحص المطلوب. تناولت المحلول الذي طُلب منها قبل الفحص، وأخبرها الطبيب أن النتائج ستظهر في اليوم التالي.
بعد ذلك، حاولت أن تخفف عن نفسها قليلاً، فدخلت متجرًا وابتاعت شيئًا بشكل عشوائي دون تفكير. كان فستانًا بسيطًا بلون سماوي جذب انتباهها. لم تقسه حتى، فقط اشترته وغادرت.
عند وصولها، وجدت الجميع يغنون ويرقصون بفرحة. الأجواء كانت مليئة بالسعادة، فابتسمت سيلا بصعوبة ودخلت بينهم تحاول مشاركتهم. همسة كانت أول من لاحظ الفستان، فأخرجته من الكيس بحماس:
“الله! جميل جدًا يا سيلا، هيبقى تحفة عليكي!”
وضعت همسة الفستان عليها وهي تصفر بإعجاب:

“واو، واو! تحفة بجد، عقبالك يا رب.”
احتضنتها بحرارة، بينما نرمين ابتسمت وقالت بحنان:
“رقيق أوي يا حبيبتي، مبروك عليكي.”
كانت مي، التي حضرت قبلها بيوم للتجهيز مع العائلة، تقفز بمرح. فجأة قرصت همسة مما جعل الأخيرة تصرخ:
“آآآه! إيه يا بت؟”
ضحكت مي بشدة وهي تقول:
“عشان أحصلك في جمعتك، يلا يا سيلا، اقرصيها انتي كمان!”
لكن همسة ركضت مبتعدة وهي تضحك:
” اللي يقدر يمسكني!”
استمرت الأجواء المرحة، وضحك الجميع على همسة، حتى انضم محسن وقال بابتسامة كبيرة:
“عقبالكم يا بنات!”
ردت مي بفرحة:
“الله يبارك فيك يا عمو!”
سيلا في عالم آخر كانت تحاول أن تشاركهم الابتسامات والضحكات، لكنها كانت غارقة في عالم آخر. شعور الوحدة والخوف كان يسيطر عليها. لم ترد أن تعكر صفو فرحتهم، فانسحبت بهدوء ودخلت الحمام.
كانت ما تزال تمسك بالفستان السماوي، ووقفت أمام المرآة تتأمله. لم يكن اختيارها له عن قصد، لكنها شعرت بأنه يناسبها بطريقة ما. نظرت لنفسها في المرآة، وحاولت أن تبتسم، لكنها كانت ابتسامة مليئة بالوجع والقلق الوقت يمر… والصمت يثقل على قلبها.
وجاء اليوم جلس الجميع الأب مع عاصم وأخيه عامر و وليد .
وتم تحديد بعد ثلاث اشهر خطوبه و كتب الكتاب مع بعض و بعد رجوعه من العمرة سيكملون الزواج.

داخل غرفة البنات همسه وضعت اخر اللمسات و كانت هاديه ورقيقه بفستانها الكشمير و شعرها المائل للعسلي الغامق الذي رفعته لأعلي بطريقه جذابه و انزلت بعض الخصل للأمام مع القليل من مستحضرات التجميل
و ايضا وضعت سيلا بعض مستحضرات التجميل لاخفاء شحوب وجهها ولبست طقم آخر بعد الكثير من المجادلة منهم أن تلبس هذا الفستان الا انها رفضت و تركته ليوم الخطبة.
و حضرت ايضا مي التي لاحظت تغير في صديقتها لكنها لم تريد ان تتكلم فالوقت غير مناسب.
فور وصول رودينا إلى المنزل، أسرعت إلى الداخل تحمل طفليها النائمين، لتضعهما بلطف على الفراش وتتركهما يكملان نومهما. اتجهت مباشرة إلى سيلا، واحتضنتها بحرارة، وكأنها تحاول تعويض سنوات الغياب الطويلة. بعيون دامعة وقلب مليء بالفرح، قالت رودينا:
“مش مصدقة نفسي بجد… بعد كل السنين دي رجعنا تاني لبعض، وكمان بقينا نسايب!”
ردت سيلا بابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة داخلها:
“أهو النصيب بقى…”
لكن رودينا، وقد شعرت بالذنب، أضافت بصوت منخفض:
“متزعليش مني، والله كان غصب عني. إخواتي كان طبعهم صعب جدًا، وحاصروني بشكل ما كنتش أقدر أتصرف فيه.”
في داخلها، همست سيلا لنفسها: “أنتي هتقوليلي؟ أنا عشت الطبع ده بكل قسوته… ضربني، حبسني في بدروم وسط الثلج.”
ولكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، بل أفاقت من ذكرياتها حين شعرت بضغط رودينا على كتفها، تبكي وتطلب السماح.
ربتت سيلا عليها بحنان وقالت:
“مش زعلانة منك يا حبيبتي، والله. اللي فات مات، انسي بقى. متعيطيش.”
بعد أن هدأت رودينا، قالت سيلا مازحة وهي تشير إلى طفليها:
“طب يلا صحيهم، يلعبوا معانا.”
تراقب الطفلين بملامح محبة:

“دول شكلهم كيوت أوي.”
رودينا ضحكت وقالت:
“كيوت إيه! دول مطلعين عيني طول النهار. أقعد أقول لهم: بس اسكتي، كفاية دوشة! لكن لما بيناموا، أحس بزهق رهيب وأفضل أقول: اصحوا، كفاية نوم!”
ضحكت سيلا ومي وهمسة معًا على وصفها، بينما خفضت رودينا صوتها وهي تضحك أيضًا:
“بس هس… خليهم نايمين دلوقتي عشان نقعد شوية برا بدل ما يطلعوا روحنا.”
نادت نرمين على الجميع استعدادًا لقراءة الفاتحة وتلبيس الخواتم. خرجوا جميعًا إلى الصالة حيث تجمع الأهل في جو عائلي دافئ ومليء بالحب. كانت همسة في كامل أناقتها تجلس بجانب وليد، الذي لم يستطع أن يُخفي نظراته العاشقة لها، تلك النظرات التي عبّرت عن إعجابه بها منذ اللحظة الأولى.
سيلا، بابتسامتها الهادئة، توجهت إليه وقالت:
“ألف ألف مبروك.”
رد وليد بابتسامة مماثلة:
“الله يبارك فيكِ، وعقبالك إن شاء الله.”
ردت سيلا بامتنان بسيط:
“ميرسي.”
جلست مي في مواجهة معتز، الذي لم يكن قادرًا على فهم مشاعره المتضاربة تجاهها. كان مضطربًا، بينما هي اختارت تجاهله تمامًا وكأنه غير موجود.
قرأ الجميع الفاتحة معًا في لحظة مباركة، ثم قام وليد بإلباس همسة الخاتم وسط تصفيق وفرح العائلة. كان الأب والأم ينظران بسعادة إلى ابنتهما، بينما لم يتوقفا عن الدعاء في سرّهما أن يمنح الله السعادة لسيلا أيضًا، وأن تجد نصيبها قريبًا.
رودينا جلست بجانب زوجها، تنظر إلى المشهد بابتسامة، وهي تفكر في حظوظ القدر التي جمعتها مجددًا بسيلا بعد كل تلك السنين.
ظل عاصم يراقب سيلا بعينيه، ولاحظ الشحوب الذي بدا على وجهها رغم محاولتها إخفاء ذلك باستخدام مستحضرات التجميل. هي أيضًا انتبهت لنظراته وفهمت ما يعكسه، فبادلت نظرته بنظرات تحذيرية، دون أن تنطق بكلمة واحدة.
استأذن عاصم ليشعل سيجارة إلى الشرفة، ورافقه الأب، حيث تبادلا بعض الكلمات في لحظات هادئة قبل أن يعودا إلى الداخل. أضاء عاصم سيجارته، وظل يدخن في صمت لفترة، حتى أدرك أن سيلا اقتربت منه. سعلت بشدة جراء كثافة الدخان الذي يملأ المكان، فتوجهت إليه بغضب:

يتبع….

رواية اسيرة القاسي الفصل الثامن عشر

“جايبني ليه؟ خليت بابا يناديني ليه؟ طفي الزفتة دي! مش قادرة!”
بعد لحظات من السعال، هدأت وقالت بحدة:
“أخبار قضية أية؟اللي عايز تتكلم فيها؟ مش هي انتهت خلاص؟”
أطفأ عاصم سيجارته، ونظر إليها بنظرة مرعبة، وقال بصوت حازم:
“صوتك ميعلاش فاهمة؟”
حاولت التوجه للداخل، لكن عاصم أمسك بذراعها بقوة قائلاً:
“استني هنا، مخلصتش كلام عشان تمشي.”
فجأة، ترك يدها، فرفعت يدها بتعب وقلة حيلة، وقالت:
“اتفضل اتكلم.”
عاصم، وهو ينظر في عينيها مباشرة، قال:
“ليه مقولتيش لحد عن حالتك؟”
ابتسمت سيلا ابتسامة ساخرة وقالت:
“إيه ده، خايف عليا؟ معقول؟ اللي أنا أعرفه إنك مش بتحس ولا بيفرق معاك. بتضرب بدم بارد زي ما ضربتني قبل كده،” وأشارت إلى كتفها.
عاصم، بنفاد صبره، قال:
“ما ترديش سؤال بسؤال. مش خوف عليكي، بسأل من ناحية الواجب. أنا اللي اكتشفت مرضك في الأول، مش أكتر. وبالنسبة للإحساس ده، مايخصكش في حاجة. ودم بارد لأنك تستاهلي.”
سيلا، وهي تنظر إليه بدهشة ثم تفكر في كلامه قليلاً، قالت:
“طيب، واجبك… وهو وصل. متشكرين. خلي ضميرك يرتاح. لو مت، مش هتكون السبب. ومتدخلش في حياتي تاني.”
غضب عاصم، وقال بعنف:
“أنتِ مجنونة! بتعاندي في دي كمان؟ اعقلي شوية! لو مقولتيش لحد، أنا اللي هبلغهم بنفسي.”
سيلا، وقد نفد صبرها، ردت بصرامة:
“أظن إن مهمتك انتهت. ملكش صفة ولا مكانة إنك تتكلم أصلاً. أنا هبلغهم في الوقت المناسب، مش هعكر عليهم فرحتهم، مش هخليهم يتلهوا فيا وهم فرحانين. بعد كتب الكتاب، إن شاء الله، هبلغهم بنفسي وأبدأ العلاج. ياريت ترتاح وتبعد.”
عاصم، وهو يحذرها، قال:

“خلي بالك، لو منفذتيش اللي قولتي ده، أنا اللي هتصرف بطريقتي. مفهومة؟ وعندي طرقي، وأنتِ جربتيها بنفسك.”
سيلا، بحزم شديد، قالت:
“لحد كده وكفاية! ملكش دعوة بيا بقى.”
عاصم، محاولًا تهديدها، قال:
“هسيبك لحد كتب الكتاب، لكن لو مابدأتيش أي خطوة، هبلغ والدك بضرورة سفرك لأمور تخص القضية، وهسفرك غصب عنك. مفهومة؟”
سيلا نظرت إليه قليلاً، لم تعرف كيف ترد، وكان واضحًا أنه لا يفهم أن تدخله في حياتها بهذا الشكل ليس له أي مكان. فأجابت:
“وأنا مش موافقة على جنانك ده.”
تركت عاصم ودخلت مجددًا إلى الداخل، حيث جلسوا جميعًا. كانت سيلا تحاول أن تتغاضى عن كل هذا الصراع الداخلي الذي تعيشه.
في جو عائلي محير ورغم التوتر الذي عاشته مع عاصم، لم تخلو الجلسة من أجواء عائلية دافئة. كانت نظرات معتز تحمل نوعًا من التوعد، لكن الأسباب التي جعلته يحدق فيها بهذه الطريقة كانت لا تزال غير واضحة بالنسبة له. وفي المقابل، كانت بين همسة ووليد نظرات مليئة بالحب والشوق، لكن نظرات أخرى بين الحضور كانت باردة كالجليد، لا تحمل أي نوع من المشاعر. إلى أن انتهت المقابلة، تاركة الجميع مع مشاعرهم التي ما زالت معلقة.
دخلت سيلا غرفتها بعد قليل، لتجد صديقتها مي قد غيّرت ملابسها وهي في انتظارها. استأذنت مي من أخيها ووالدتها بالمبيت لديها.
مي: “كان يوم جميل أوي، عقبالنا يا رب.”
ابتسمت سيلا ابتسامة مكسورة، وقالت: “عقبالك إنتِ يا حبيبتي.”
دخلت همسة بعد أن بدلت ملابسها، وانضمت إليهما.
مي (بحب): “مبروك يا عروسة، كنتي قمراية.”
همسة: “حبيبتي، عقبالك إنتِ وسيلا، يا رب تفرحوا قريب. بصوا بقى، أنا هلكانة أوي، وجعانة ونوم. هسيبكم ترغوا بس، وطوا صوتكم، ماشي؟”
مي (بضحك): “ماشي يا حب.”
ثم رجعت مي إلى سيلا التي ما زالت تائهة، سرحانة في أفكارها، وقالت لها:

مي: “مالك يا سيلا؟ حساكي مش طبيعية خالص، وبتسرحي كتير، ووشك غريب. فيكي إيه يا حبيبتي؟”
حاولت سيلا أن تهرب من أسئلتها وقالت: “لا يا بنتي، مفيش. شوية إرهاق بس من الأحداث الأسبوع وقلة النوم. يلا ننام بقى، لأني تعبانه بجد.”
لكن مي كانت تشعر بعدم ارتياح، لأن سيلا لم تحكي لها عن ما حدث لها أثناء السفر، وكلما حاولت أن تسألها، كانت تهرب من الإجابة.
هتفت مي بشك: “طيب يا سيلا، هسيبك دلوقتي، بس لما تحبي تتكلمي، أنا موجودة.”
في صباح اليوم التالي، خرجت سيلا لتستلم نتيجة الأشعة. ذهبت مباشرة إلى الطبيب، الذي نظر في الأشعة لفترة من الزمن، محاطًا بالصمت. لكن سيلا كانت تشعر بتوتر كبير يملأها، وهي تنتظر الإجابة.
ثم جاء الرد الذي كانت تخشاه: ” “الورم موجود في أعلى بطانة المعدة، وحجمه صغير وواضح في الأشعة. الحمد لله إنك اكتشفتيه بدري، لإن في حالات كتير الورم مش بيبان في البداية وبيبقى انتشر في أماكن تانية. لازم تعملي عملية عشان تستأصلي الورم ده.”
سيلا: “ممكن يا دكتور أأجل العملية شوية؟ عندي ظروف خاصة كده محتاجة وقت.”
الطبيب: “المفروض إننا نستعجل في العملية دلوقتي بما إن الورم في بدايته، بس ممكن أديكي أدوية تقلل حجمه شوية، وجربيها أسبوعين. بعدين تعالي علشان نتابع الوضع. لو الأدوية ما نفعتش، هنبقى نغير العلاج، بس لازم تعرفي إن مفيش بديل عن الجراحة في الآخر.”
أخذت سيلا الروشتة وقرأت تعليمات النظام الغذائي بعناية، ثم شكرت الطبيب وخرجت.
فور مغادرتها العيادة، ألقت بصور الأشعة في سلة المهملات حتى لا يلاحظها أحد. بعدها، توجهت لشراء الأدوية المؤقتة، وأخفتها داخل حقيبتها قبل أن تعود إلى منزلها مباشرة. كانت تشعر بتعب شديد، فلم تعد قادرة على القيام بأي مجهود. رفضت العودة للعمل ووافقت دون نقاش على طلب والدها بترك عملها أو التحول إلى تخصص آخر.
ثم توقفت لحظة، تتذكر كيف كان الوضع قبل أن تصبح كل هذه الأحداث جزءًا من حياتها…
في اليوم الثاني بعد رجوع سيلا من السفر، دخل محسن غرفتها وقال: “ممكن أقعد معاك يا سيلا؟”
سيلا ابتسمت وقالت: “طبعًا يا بابا، اتفضل.”
عدلت من وضعها شويه، وقعد جنبها، وقال: “إيه الحلو زعلان ليه بقى؟”

سيلا ردت بصوت هادي: “مفيش يا بابا، مش زعلانه.”
يعلم جيدًا عناد ابنته، فاختار أن يتحدث معها من زاوية أخرى، قائلاً:
“طيب يا بنتي، أنا مليش غيركوا في الدنيا أنتي وأختك، وبخاف عليكو من الهوا الطاير، ومش هابقى مبسوط أبدًا وأنتي بتضيعي وأنا واقف بتفرج عليكي.”
صمت شوية، ثم أخذ نفس عميق وقال: “بصي، أنا مش همنعك من شغلك اللي بتحبيه، المرة دي الحمد لله لحِقنا نفسنا، لكن ما أعرفش المرة الجاية ممكن يحصل إيه. الشغل ده، التحقيقات والجري وراء الحقيقة، ده ليه ناس متدربة على أعلى المستويات ومختصين، فأنا هخليكي تختاري: يا تمسكي تخصص تاني خالص، أو تسيبي المجال ده كله.”
فهمت سيلا تمامًا مشاعر والدها وخوفه العميق عليها، لكنها كانت في حالة إرهاق شديدة، جسديًا وعقليًا، لا سيما بعد اكتشاف مرضها. لم تعد قادرة على بذل أي مجهود، وكانت تدرك تمامًا أن كل شيء أصبح فوق طاقتها. كما أن صديقتها مي توقفت عن العمل معها، مما جعلها تشعر بأنها في حاجة ماسة للراحة. باتت عاجزة عن مواجهة العمل في هذه الفترة، وأصبحت مقتنعة بأنها بحاجة إلى فترة من السكون والتعافي بعيدًا عن الضغوطات التي كانت تلاحقها.
فجأة، اندفعت سيلا إلى أحضان والدها، وكأنها تبحث عن مأوى في حضنه الدافئ، تحس بريحته التي تحمل في طياتها الأمان والحنان. في تلك اللحظة، غمرتها مشاعر غريبة، شعرت وكأنها على حافة الفراق منهم، كأن الزمن يهرب منها بسرعة. كانت تحاول بكل ما فيها أن تقتنص أي لحظة لتبقى بالقرب منهم، تخشى أن تفوتها، وتهيم في شعور غريب من القلق والحنين.
محسن لاحظ سكوتها، وقال: ” ها، قولتي إيه؟”
أخيرًا تكلمت، وقالت: “هختار الاختيار التاني. أنا تعبت من الشغل، فعلاً محتاجة أريح شوية. وكمان مي مش هينفع أسيبها، مش هينفع أشتغل لوحدي.”
حاولت سيلا أن تبتسم بصعوبة، وقالت: “مش بحب أعمل حاجة من غيرها، إنت عارف.”
قهقه محسن وهو ما زال يحتضنها، وقال: “ربنا يخليكم لبعض.”
نظرت سيلا إليه بابتسامة دافئة، ثم أمسكت بيده برفق وقالت: “ويخليك لينا يا رب.”
لكن حديثهم قُطع فجأة بدخول شخص آخر…
قالت بصوت متهكم: “لا لا لا! كل يوم ألاقيك في حضن واحدة تانية، وأنا الغلبانة مفيش حد يضمّني.”

ضحك محسن وقال: “تعالي تعالي، دايمًا بتيجي في أهم لحظة.”
ودخلت وسطهم، مما أضاف جوًا من المرح تلك اللحظة.
في أحد الأيام، كان في مكتبه مشغولًا بأعماله، لكنه سرح قليلاً وهو يتذكر ما سمعه عن تلك التقنية الحديثة التي زرعها لها. كان السوار الذي وضعه في يدها يحتوي على تقنيات متطورة للغاية، يتم استخدامها في بعض العمليات السرية والحساسة فقط. تركه في يدها دون أن يزيله، رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، ليظل السوار على معصمها مع ميزات قد تبدو بسيطة في الظاهر لكنها معقدة في الحقيقة.
الطريف في الأمر أنه لم يكن مجرد جهاز تتبع عادي، بل كان يحتوي أيضًا على سماعة صغيرة للغاية مدمجة، تقوم بتسجيل الأصوات من حولها. الطرف الآخر يستطيع الاستماع لكل ما يحدث عبر سماعة دقيقة للغاية زرعها في أذنه. تلك السماعة كانت غير مرئية تقريبًا، ما يجعلها مستحيلة الملاحظة من أي شخص آخر. كما أن هذه التقنية لم تكن مقتصرة على المسافات القريبة فقط، بل تم تصميمها خصيصًا لتغطية مسافات بعيدة أيضًا، مما يجعلها أداة قوية وفعالة في مراقبتها دون أن تشعر بذلك.
بينما كانت همسة في غرفتها الصغيرة التي خصصتها للعمل على رسم لوحاتها، كانت مشغولة تمامًا في رسم لوحة جديدة بعناية، تخطط للخطوط بالرصاص، شاردة في خيالها الذي ينسج تفاصيل اللوحة. في لحظة من التركيز التام، فاجأها رنين هاتفها، وكانت النغمة الخاصة به تعلن عن وجود رسالة من وليد، الذي أضاءت الشاشة باسم “حبيبي”. ردت على الاتصال بخجل.
قال وليد: “حياتي كلها، عاملة إيه؟ وحشتيني.” همسة أجابت برقة: “الحمد لله.”
ثم أضاف وليد: “عارف إنك زعلانة مني، المفروض أخرجك النهاردة، بس جالي سفرية فجأة وهرجع بالليل، بس بكرة إن شاء الله ننزل سوا وهعوضك.”
همسة طمأنته: “لا مش زعلانه والله.”
وليستمر وليد: “يعني مش نفسك تشوفيني؟”
همسة ضحكت: “لا.”
رد وليد: “ال ال ال بقا كده أنا زعلت بجد.”
فأجابته همسة: “أقصد إني شيفاك قدامي، أصلي برسمك.”

فوجئ وليد بفرحة: “الله بجد؟ طيب ينفع ترسمني كده وأنا مش قدامك؟”
همسة: “منا بتخيلك وبرسمك.”
ضحك وليد قائلاً: “ربنا يستر، ربنا يستر.”
همسة: “كده برده زعلت أنا.”
قال وليد ضاحكًا: “لا لا لا، بهزر والله. لازم أشوفها بعد ما تخلصيها.”
همسة: “أكيد.”
وليد: “طيب اسيبك تكملي الصورة وأنا خلص، وهكلمك تاني.”
همسة: “أوكي، مع السلامة.”
ثم تابعت همسة العمل على لوحتها، بينما كان صوت وليد في قلب حديثها، يعزز من إلهامها في رسمته الخاصة.
داخل السجن، كان الرجل يتكلم مع آخر، وعيناه مليئتان بالغضب والتهديد. قال بنبرة مليئة بالتحذير: “لم أترك هذه المهزلة تمر بسلام. لم تعرفوا مع من وقعتم، لكن قريبًا ستعرفون.”
ثم أخذ الهاتف المخبأ وتحدث مع شخص آخر قائلاً: “حضّر لي ما قلت لك، سننفذ الخطة قريبا. جهّز الرجال ليعرفوا تحركاتها!”
وأضاف بلهجة حادة: “لا أريد أي خطأ. سضيع رقبتك، مفهوم؟”
أجاب الطرف الآخر بصوت خافت: “مفهوم سيدي، لا تقلق. إنها رجعت، ورجالتي لم يفارقوها.”
أغلق الرجل الهاتف في وجهه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة شيطانية مليئة بالشر. “هاهاهاها، قريبًا سوف ألتقي بكِ، ملاكي.”
بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحت علاقة همسة ووليد أقوى بكثير، وكانت الأمور بينهما تسير بشكل جيد، بينما كان الوضع غير مستقر بالنسبة لمي فقد قطعت علاقتها بزميلها، حيث اختفى فجأة ولم يعد يرد على اتصالاتها. وصل إليها عن طريق أخته أنه ترك العمل بالجريدة وسافر.
أما معتز، لم يعرف سببًا لتلك الأفعال، لكن كل ما كان يريده هو أن يكسرها ويبعدها عن حبيبها. قام بتهديده في محاولات يائسة، لكنه لا يزال يتربص لها في الخفاء.
وفي مكان آخر، كان عاصم قد ذهب في مهمة سرية أخرى، حيث غاب لمدة شهرين ونصف. عاد في الوقت المناسب ليحضر كتاب كتاب ابن عمه.

أما سيلا، فكانت ما زالت مستمرة في علاجها، تتناول المسكنات وتزور الطبيب بشكل دوري. قامت بإجراء أشعة أخرى، وأخبرها الطبيب أنه من الضروري أن تخضع لعملية جراحية بأسرع وقت خوفًا من أن ينتشر الورم، الذي كبر بمقدار بعض السنتيمترات. على الرغم من ذلك، طمأنته بأنها ستبدأ العلاج قريبًا جدًا.
وفي يوم الخطبة المنتظر، جاء الحدث المفاجئ…
في صباح يوم الخطبة وكتب الكتاب، توجهت همسة، سيلا، مي، ورودينا إلى القاعة التي كانت قد حُجزت خصيصًا لهذا اليوم المميز. هناك، استلموا العروس، وبدأ الجميع بالتحضير، حيث تم تخصيص مكان خاص للتجميل لكل منهن.
بينما كانت سيلا تحاول التماسك، بدأ الإرهاق يظهر على وجهها، إلا أنها كانت حريصة على أن لا تظهر شيئًا من تعبها أمامهن حتى يمر اليوم بكل تفاصيله كما هو مخطط له.
مرت ساعات، وانتهت الفتيات من ارتداء فساتينهن الخاصة، وكل واحدة منهن أظهرت جمالها بطرق مميزة وفريدة.
كانت همسة في غاية الرقة والبساطة، فستانها النبيتي الذي كان ضيقًا من أعلى الصدر حتى الوسط بتطريزات بسيطة ورقيقة، ينزل بوسع حتى أسفل القدمين، مما أضفى على مظهرها سحرًا خاصًا. رفعت شعرها بطريقة مبهره ووضعَت تاجًا رقيقًا فوقه، ليزيد من جمال إطلالتها.
أما سيلا، فقد اختارت فستانًا سماويًا بسيطًا، فوقه طبقة من التل الذي كان نفس لون الفستان، والمجسم حتى الركبة، بينما كان ينزل بحرية واتساع من أسفل الركبة. وضعت مستحضرات تجميلية خفيفة لإخفاء شحوب وجهها والهالات السوداء تحت عينيها، بينما تركت شعرها القصير كما هو، مما أضفى على مظهرها طابعًا ناعمًا.
أما مي، فقد ارتدت فستانًا من اللون الجنزاري، في حين اختارت رودينا فستانًا ذهبيًا هادئًا، مع حجاب منير على وجهها، حيث أضاء ملامحها بشكل رائع. كانت بنات رودينا يرتدين فساتين بنفس لون فستانها، ليكنّ جميعًا مثل الأميرات، يسرن بخفة وأناقة في ذلك اليوم المميز.
أنهين الفتيات آخر اللمسات، وكل واحدة منهن كانت جاهزة للظهور. في تلك الأثناء، وصل وليد وكان في انتظار أن يُفتح له الباب ليتمكن من دخول القاعة. لكن، سارعَت مي ورودينا نحو الباب، وتوقّفن خلفه مانعاتٍ إياه من الدخول، ضاحكتين بمرح: “لا، مش فاتحين!”
قال وليد مازحًا وهو يقف أمام الباب: “بطلي رخامه يا رودينا، هقول لعامر.”
ضحكت رودينا ردًا عليه: “مش فاتحين.”
أما مي، فحاولت أن تكتم ضحكتها، وقالت: “طيب، ادفع كم، وافتحلّك أنا.”

فأجاب وليد، مستنكرًا: “حتى أنتي كمان؟”
وعندما سمعت سيلا، اقتربت منهم وقالت بلطف: “خليه يدخل بقى، كفاياكم كده، حرام عليكم.” ثم فتحت الباب ليدخل وليد.
أشارت سيلا إلى البنات وقالت: “يلا بينا، إحنا نستناهم بره. يلا، يلا منك ليها أنتي كمان.”
بينما كان وليد يدخل، ضحك وقال لها بغضب: “والله لسلّط علىكي عامر يا زفتة أنتي.”
خرجوا جميعًا، تاركين وليد مع همسة التي كانت لا تزال متوترة وخجولة، لكنه اقترب منها وأمسك يدها بحنان، محاولًا أن يطمئنها: “اهدي، أنا جنبك، مفيش داعي للتوتر ده كله.”
ثم نظر في عينيها وقال: “لا لا، مش هينفع كده، مش هينفع تخرجي كده كمان.”
همسة، ببساطة وبراءة، سألته: “ليه بس؟”
أجاب وليد بجدية: “أنا عاوز أخبّيك عن عيون الناس كلها.”
ابتسمت همسة بخجل، ولم ترد عليه، فاستمر هو في حديثه، واقترب منها أكثر، همس في أذنها بكلمات عاشقة جعلت وجهها يحمر خجلًا. حاولت أن تبتعد عنه، وقالت بسرعة: “أأ، بينادوا عليك بره.”
دفعته بلطف ليخرج، لكنه ظل يحدق فيها بتوهان، وفي عينيه كان هناك لمعة خاصة، وقال بمرح: “أحم، أنا شكلي بنطرد كده ولا إيه؟ دا أنا حتى النهاردة هتتكتبي باسمي، واسمك هيرتبط بيا لأخر العمر، ولا إيه؟”
تحدث وهو متجه نحو الباب، لكنه توقف فجأة، وأمسك بالباب بيده، ثم دخل برأسه مجددًا ليغمز لها قائلاً: “طيب، مفيش حاجة علينا.”
همسة، بخجل، قالت: “لا، وامشي بقا يلا.”
لكن وليد، ضاحكًا، أخرج رأسه مرة أخرى وقال: “طيب، تصبيره صغيرة قد كده، انتي مراتي والله.”
تحركت همسة لتغلق الباب، وقالت بصوت خافت: “هس، عيب كده.” ثم أغلقته وأخذت خطوة للأمام، لكن ما إن تقدمت، حتى فُتح الباب مرة أخرى، لتتفاجأ به أمامها، ممسكًا بيدها بقوة، وعينيه تتأملان عينيها العسليتين.
سألت، متلعثمة: “أ، ايه في ايه؟ مالك جيت تاني؟ ليه الناس بره؟”

لكن لم ينتبه وليد لما قالته، فقد كانت شفتاها تتكلمان بما لا يستطيع مقاومته، فاقتنص فرصة حديثها واختطف شفتاها في قبلة طويلة لم يتركها إلا ليأخذ أنفاسهما. ثم، وهمس بتحذير: “بلاش الروج ده تاني، مطمنش، ممكن أعمل إيه بره؟”
ابتسم، وأغلق الباب وراءه.
همسة هرولت بسرعة لتغلقه، وقلبها يدق بسرعة كطبول الحرب، بينما كانت تمسك طرف شفتها بأصابعها، هامسة في نفسها: “مجنون! أنا هتجوز مجنون.”
لكن فجأة، بدأ الخبط على الباب، وظهر والدها، الذي أخذ يدها برفق، ثم تبعته جميع الفتيات، ليصعدوا بها إلى السلالم.
وعندما وصلوا إلى الأسفل، قام والدها بتسليمها إلى عريسها الذي أمسك بها برفق، وهمس في أذنها قائلاً: “شطورة، سمعتِ الكلام.”
ضحكت همسة وقالت له، بخجل: “مجنون.”
رد وليد بتلقائية: “بيكي.”
جلس الجميع في المكان المخصص لهم، وسط أجواء من البهجة والفرح التي أضفها الأهل والأصدقاء بمباركتهم للعروسين. كانت سيلا تقف بعيدًا عن الجمع، محاولًة أن تخفي تعبها، تمسك معدتها بين الحين والآخر، رغم ابتسامتها التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى.
لكن لم يكن عاصم بعيدًا عن ملاحظتها. وصل إلى القاعة للتو، وكان يضع هاتفه في جيبه بعد إنهاء مكالمة كانت قد قلبت جميع الموازين. زفر بضيق، فقد شعر أن المكالمة لم تكن مطمئنة أبدًا. نظر إلى سيلا بتأمل، فوجدها منزوًية في أحد الأركان، وقد تجنبته هي بعناية. كان عينيه تتابعان حركاتها بتوجس، لا يريد أن تفلت من نظره، فذهب إلى ابن عمه ليبارك له، ولكنه كان مشغولًا بالتركيز على سيلا.
أما مي، فقد كانت تبحث عنها بين الحضور حتى وجدتها، فذهبت إليها مسرعة: “مالك واقفة بعيد ليه كده؟ تعالي اقفي وسطنا شوية، ماما وهيثم بيسألوا عليك، تعالي سلمي عليهم.”
استجابت سيلا لها، وسارت معها نحو العائلة، حيث وقفت وسلمت على والدتها التي احتضنتها بحب وابتسامة، ثم توجهت لتحيي هيثم. كان هيثم قد أمسكت يده بكف يدها، ولم يتركها بسهولة. كانت عيناه شاردتين بها منذ أن وقع نظره عليها لأول مرة.
قال لها بابتسامة هادئة: “إزايك يا سيلا؟ عاملة إيه؟”
تحدثت سيلا بابتسامة خفيفة، حاولت أن تبدو طبيعية، وقالت: “الحمد لله، أنت أخبارك إيه؟”.

ثم تعالت أصوات الموسيقى، وبدأ منسق الحفل في إعلان بداية أول رقصة سلو، داعيًا جميع الأزواج للتقدم. بدأت الرقصة الأولى، وامتزجت الأضواء بالأنغام، لحين وصول المأذون.
اقترب هيثم من سيلا، وقال: “تسمحيلي بالرقصة دي؟”. كانت سيلا على وشك الرفض، لكن هيثم لم يمنحها الفرصة، فانتزع يدها من بين الحضور وسحبها إلى الاستيدج، ووضع يدها على كتفه، بينما أمسك خصرها بكلتا يديه. ثم بدأ يتحدث، في انغماس تام في اللحظة، قائلاً: “أنا مبسوط أوي يا سيلا النهارده، عارفة ليه؟”.
نظرت سيلا إليه بدهشة، مستفسرة عن سبب سعادته. فأجاب هيثم، وهو يغرق في أفكاره: “حياتي متوقفة من غيرك، عارفة كده؟”.
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة، وقالت بصوت هادئ: “ليه كده يا هيثم؟ قدامك فرص كتير قوي. حاول تمسكها، بص حواليك هتلاقي الحب الحقيقي قدام عيونك، وانت مش واخد بالك. صدقني، أنا بعتبرك زي أخويا كان نفسي يبقى لي أخ”.
في الجهة الأخرى، كانت مي واقفة، تغرق في تفكيرها، تتمايل برفق مع الكابلز الذين كانوا يرقصون. من بينهم همسة ووليد، ورودينا وعامر. كانت تتمنى لهم الخير، خصوصًا بعد أن رأتهم مندمجين في رقصة سلو، حتى أوقفها شخصٌ ما، أحد أصدقاء العريس، الذي لاحظ وقوفها وحيدة.
مدَّ يده قائلاً: “ممكن يا آنسة بالرقصة دي؟”. ترددت مي للحظة، وكانت سترفض، ولكن نظرات الأخير، التي كانت تحمل شيئًا من التحذير، جعلتها توافق أخيرًا. نزلت يدها في يده، وانضمت إلى بقية الثنائيين على الحلبة.
ثم بدأت الحرب تنفجر في مكان آخر.
معتز، الذي كان يقف بعيدًا، كانت نظراته تتفجر من الغضب وهو يرى تلامس خصر مي مع ذلك الشخص. لو بقيت الأمور كما هي لدقيقة أخرى، لكان قد أحرقهم بنظراته. أطلق زفرة حارقة، ثم ترك القاعة بأكملها. خرج في عجلة، يدخن سيجارة تلو الأخرى، يلهث من الغضب، حتى لمح عاصم يجري بسرعة كبيرة. استغرب من حالته، فألقى بعقب السيجارة على الأرض، وركض وراءه ليلحقه.
“في إيه؟ حد جرى له حاجة؟” سأل معتز بلهفة، لكن لم يكن هناك رد.

يتبع….

رواية اسيرة القاسي الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر من رواية جمر الجليد لا يزال قيد الكتابة، لو حابب تقرأ الفصل كامل بمجرد نشره أنضم لقناتنا على تليجرام واكتب تعليق على الصفحة دي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى