رواية روح الفصل الأول 1 بقلم نور الشامي
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية روح الفصل الأول 1 بقلم نور الشامي
البارت الأول
الفصل الأول
روح
كانت تقف على السلالم الباردة بملابس البيت التي لم تكن تليق لا بالشارع ولا بالموقف. قدماها الحافيتان ترتجفان من صدمة اللحظة، ودموعها تنهمر في صمتٍ مخنوق، كأن قلبها يلفظ أنفاسه الأخيرة وخلفها باب الشقة مفتوح على اتساعه، وزوجها يقف كالصخرة عند العتبة، لا تزلزل مشاعره صرخات البنات الصغيرات اللاتي تعلقن بأطراف ثوب أمهن وهن يبكين:
ماماااا… ماماا
صرخت الصغيرة ووجهها مغمور بالدموع، وذراعاها تلتفان حول ساق أمها المرتعشة، بينما الأخرى تمد يدها نحو الأب وتقول:
خليها تجعد معانا..بالله عليك يا بابا
لكن الأب لم يتحرك، عيناه كانتا جمرة مشتعلة من الغضب، وصوته خرج حادّا، جارحا، كالسكين:
ابعدي من اهنيه … انتي لا ليكي ولاد، ولا ليكي بيت! دول ولادي أنا… مش ولادك
شهقت روح وكأن صدرها قد طعن بطعنة لم تكن تتوقعها حتى في أسوأ كوابيسها وهتفت:
ليه؟ أنا عملتلك إي؟! ده أنا اتجوزتك من غير رضا أهلي! ضحيت بكل حاجة علشانك، حتى كرامتي نسيتها… جولي عملتلك إي انا كنت بموت نفسي علشان أرضيك… اي ذنبي
نظر إليها باحتقار بصوته المليء بالكره:
انزلي بكرامتك قبل ما أطلعك مرمية في الشارع.. وجولتلك ملكيش عندي بنات
في تلك اللحظة خرجت فتاة شابة من الشقة، كانت بشعرها المنسدل ونظرتها الماكرة تحمل شرا لا يخفى ووضعت يدها برقة مصطنعة على كتف الرجل وقالت بابتسامة خفيفة:
يلا يا حبيبي بجا… خلينا نرتاح… وبعدين هو انت مجولتلهاش ولا اي عاد
ثم نظرت إلى روح نظرة انتصار وأردفت:
هو معرفكيش إنه مطلجك
شهقة أخرى انفجرت من صدر روح وركبتيها كادتا أن تخوناها من الهول فـ نظرت إليه، وعيناها ترجوانه أن ينفي، أن يكذب، أن ينقذها من هذا الغرق لكنه لم يفعل بل اقترب منها فجأة، ومد يده إلى شعرها، وسحبها بعنف، حتى تعثرت في عتبة الباب والدمعة الأخيرة سقطت على خده الصغير الذي كان يمد ذراعيه نحوها:
ماماا
صرخة الطفلة شقت قلبها بينما هو يزج بها خارج البيت، ويغلق الباب بقوة خلفها، ويتركها وحدها… على السلالم… عارية من كل شيء… حتى من لقب أم
وفي مكان اخر في قصر كبير…كان هذا الشاب نائما على سريره العريض عاري الصدر، غارقا في ظلام الغرفة إلا من خيط ضوء خافت يتسلل من فتحة الستائر الثقيلة. وانفاسه كانت هادئة، لكن وجهه لم يعرف السكون، وكأن حتى في نومه يحمل معركة وبجواره، جلست ميرا على طرف السرير، تراقبه بعينين ممتلئتين بالضعف والرغبة حتي مدت يدها ببطء، تلامس بها صدره، ثم وجهه، وابتسامة صغيرة بدأت ترتسم على ملامحها…وقبل أن تقترب أكثر، فتحت عيناه فجأة واعتدل في جلسته بسرعة، وصوته خرج خشنا حادا:
انتي بتعملي إي اهنيه
ارتبكت ميرا وسحبت يدها بسرعة وهي تقول:
كنت… جاية أطمن عليك… بس لاجيت الباب مفتوح
نهض ركان واقفا، وصرخ في وجهها مرددا:
مش أنا حذرتك مليون مرة متدخليش أوضتي؟! خصوصا وإنتي عارفة إني نايم
خفضت نظرها، وبان الحزن في عينيها، لكنها لم ترد.وفجأة، انفتح باب الغرفة ودخل الحارس مسرعا، يتنفس بقوة وهتف بلهفه:
يا باشا… عرفنا مكان بنت عم حضرتك
جمدت ملامح ركان ثم اتسعت عيناه، أما ميرا فشهقت بصوت مخنوق:
عرفتوا مكان روح.. ليه وازاي
ثم نظرت الي ركان بعينين تمتلئان بالغيرة والوجع، وقالت بمرارة:
إنت عايز منها اي… هي خلاص هربت وسابتنا… وعمي الله يرحمه مات من قهرته عليها ولا ناسي
استدار نحوها بغضب وقال بحدة:
اسكتي يا ميرا
ثم التفت إلى الحارس، وصوته جاء صارما لا يقبل التردد:
هي فين؟ هاتوها… هاتوها حالا
أومأ الحارس برأسه وردد:
حاضر يا باشا… بعد اذنك
وغادر بسرعة، تاركا خلفه غليانا في العيون… وسكونا في القلب لا يشبه السكون وفي غرفة صغيرة بالكاد تتسع لسريرين أطفال وخزانة متهالكة، كان كل شيء يئن من الحزن…الصمت لم يكن صمتا حقيقيا، بل كان محشوا بالبكاء… وأنين خافت كأنه يستغيث وجلست ليان على طرف السرير، عيناها مغرورقتان بالدموع، ويديها ترتجف وهي تهز جسد أختها:
جومي يا ميرا … جومي بالله عليكي، ماما مش اهنيه… جومي خدي علاجك انا بدور عليع
لكن ميرا الصغيرة ذات الخمس سنوات، كانت تتنفس بصعوبة، صدرها يرتفع ويهبط كأن الهواء أصبح ثقيلاً، ووجهها بدأ يفقد لونه الوردي فـ ركضت ليان نحو الدولاب القديم، وفتحته بعنف، تقلب بين الملابس والعلب الفارغة:
فين الدوا؟! كان اهنيه… أنا متأكدة إنه كان اهنيه
بحثت تحت السرير، خلف المخدة، حتى رفعت الغطاء بيدين مذعورتين وهي تبكي بحرقة طفلة لا تعرف كيف تنقذ أختها مردده:
يارب… يارب ساعدني
وفجأة… انفتح باب الغرفة، ودخلت امرأة بثياب أنيقة، وعينين لا تحملان أي ذرة حنان كانت رانيا، زوجة الأب. التي وقفت عند الباب تنظر للبنتين كأنهما ليستا من لحم ودم، بينما ليان ركضت نحوها، تمسك بيدها، وتقول برجاء:
طنط رانيا… ميرا تعبانة جوي… مش جادرة تتنفس… لازم تاخد الدوا بتاعها… بالله عليكي
نظرت رانيا حولها ببرود، إلى أن وقع بصرها على عبوة الدواء قرب النافذة، فذهبت إليها وحملتها في يدها، ثم التفتت نحو ليان وقالت بلهجة باردة:
جدامكم ساعة… لو دخلت ولاجيت لسه في عياط…هيبجي مفيش علاج
شهقت ليان بدهشة وقالت وهي تحاول أخذ الدواء منها:
بس دي تعبانة جوي… دي هتموت
رانيا ببرود:
لما تبطلوا عياط، تبجى تاخد دواها
ودفعتها بقسوة، فسقطت ليان على الأرض، وظلت تبكي، وركضت نحو أختها تمسك وجهها وتهمس:
استحملي يا ميرا … بالله عليكي، استحملي… ماما اكيد هتيجي وتاخدنا من اهنيه
خرجت رانيا وأغلقت الباب خلفها بقوة، بينما بقيت الطفلتان في الداخل وحدهما….ميرا التي لم تكن قادرة على التنفس، وكل ثانية تمر كانت تختنق أكثر وليان التي بدأت تصرخ، تنادي:
ماما… ماما تعالجي بجا بالله عليكي
ثم تجمدت ملامحها وهي ترى أختها تسقط فجأة من فوق السرير… ترتجف للحظة… ثم تسكن فصرخت بصوت يخترق جدران البيت
وفي مكان اخر بالتحديد في احدي الشوارع كانت روح تسير في شارع شبه خالي وقدماها تجرانها جرّا، ملابسها مبعثرة، وعيناها لا تتوقفان عن البكاء….. كان الهواء باردا والسماء ملبدة… كأن الكون كله يعكس داخلها حتي تمتمت لنفسها وهي تمشي:
كان عندك حق يا ابوي… مكانش ينفع… كنت شايف ال عمري ما جدرت اشوفه
وتعلو في أذنيها أصداء صوته القديم، تلك الليلة التي سمعت فيها رفضه القاطع لزواجها، محفورا في ذاكرتها كنقش لا يمحي مرددا:
هتندمي يا روح… الولد دا مش ليكي، ولا لينا… ولا هو من طينتنا…ابعدي عنه وكفايه اكده بجا
كانت كلماته آنذاك كخناجر تتطاير حولها، لكنها تجاهلتها… دفنتها تحت عنادها، تحت حبها الذي ظنته خالدا وشددت الغطاء على جسدها المرتجف، والدموع تبلل وجنتيها دون توقف وشهقت بأنفاس مكسورة، وهمست بصوت بالكاد يسمع:
مكنتش عايزة أصدجك… بس فعلا… كل حاجة راحت… حتى بناتي راحوا مني
وفي لحظة انكسار كاملة، وقفت في منتصف الطريق، دون أن تعي اتجاها أو وجهة. كانت تحتضن نفسها، كأنما تبحث عن دفءٍ فقدته للأبد، وانفجرت في نحيب موجع لكن الهدوء لم يدم وفجأة، ظهرت سيارة سوداء، بلا لوحات، كأنها خرجت من ظلام متربص وتوقفت بجوارها بعنف، وكاد الهواء أن يسحب معها وقبل أن تدرك ما يحدث، انفتح الباب الخلفي، واندفع رجلان ملثمان نحوها فـ صرخت بأعلى صوتها، ورعبها جمد الدم في عروقها وهي تهتف :
انتوا مين؟! إبعدوا عني.. عايزين مني اي عاد
حاولت روح الفرار، لكن يدا خشنة جذبتها من ذراعها بعنف، وسدل على وجهها غطاء أسود، لا يظهر شيئا سوى العتمة وعلت أنفاسها المرتجفة وسط صمت موحش، ودوى صوت محرك السيارة وهي تنطلق بسرعة جنونية…واختفت روح وفي زاوية غرفه الصغار كانت ميرا مُمددة على السرير ووجهها شاحب وعيناها مغلقتان كمن غادر الحياة في صمت فـوقف والدها بجوار الجدار، ذراعه مضمومة على صدره، وصوته خالي من القلق و من الحب و الأبوة وهتف:
ها يا حكيم، هتفوق إمتى؟… إحنا بس نسينا نديها العلاج، يعني مش حاجة كبيرة…”
رفع الطبيب رأسه من فوق جسد الطفلة ونظراته حادة، مشتعلة بضيق لم يحاول إخفاءه. ثم بصمت ثقيل، غطى وجه الصغيرة بالملاءة البيضاء واستدار نحو الرجل وقال بصوتٍ خافت:
البقاء لله و
توقعاتكم ورايكم ولو لاقيت تفاعل هكمل ان شاء الله.. اكمل ولا لا؟
يُتبع
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية روح)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)