رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم ياسمين عادل
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم ياسمين عادل
البارت التاسع والعشرون
^^ليلة في منزل طير جارح^^
الفصل التاسع والعشرون :-
“الإنتقام سكين له شفرتين، طرف مُوجع وطرف يُوجع.”
____________________________________
لم تنتبه “جليلة” لهذا القرع المدوي بالخارج رغم إنه قوي وعنيف، بعدما وصل لمسامع “هاشم” صوت “جليلة” وصراخها المستغيث. أخيرًا سمعتهُ، وهمّت بالركض وهي تتنفس بصعوبة بالغة، لكي تفتح الباب للمنقذ الذي أتى في الوقت المناسب بالضبط، بعدما فشلت هي في حملها أو إسنادها، حيث فقدت الوعي تمامًا وتضاعف وزنها لتصبح أثقل من قدرة والدتها على مساعدتها.
فتحت الباب غير مدركة من الطارق، فإذا بها تصتدم بـ “هاشم” أمامها، فـ استغاثت به مجبرة، بدون أن تفكر في أي شئ آخر سوى إنقاذ ابنتها :
– ألحقنا يابني.. رحيل جوا مرمية على الأرض معرفش إيه اللي حصلها ألحقها أبوس إيدك.
هرع “هاشم” وعيناه المرتاعة تبحث في الرواق، غرفة أثنين وحتى ثلاثة وهي غير متواجدة، إلى أن أشارت إليه “جليلة” وهي تصيح لمقر غرفتها البعيدة عن الرواق، فدخل متعجلًا ليرى ذلك المشهد الذي روّع قلبه، انحنى عليها ووضع أصبعيه يفحص نبضها، كان ضعيفًا يصل إليه بصعوبة، وأنفاسها تكاد تكون مختفية، لم يتحمل صبرًا وحملها بين ذراعيهِ وقد بدأ وجهه في الإصفرار والبهتان. كل ذلك و “مراد” مشدوهًا متأثرًا بوقع المفاجأة، يسير من خلفه وهو لا يفهم ولا يشعر ما الذي دفع
الأمور لتلك النقطة، لماذا تعرضت لهذه الأزمة الصحية المفاجئة لا يفهم.
فتحت “جليلة” باب المصعد لكي يخرج منه “هاشم” وهو يحملها، بينما كان “مراد” قد سبقه ليفتح باب السيارة ويستعد للمغادرة. وضعها “هاشم” برفق في الأريكة الخلفية وجلس لجوارها، ثم أغلق باب السيارة متعمدًا بينما “جليلة” واقفة هكذا، أتنتظر أم تجاور ابنتها في الجلوس؟ ؛ لكن فعلة “هاشم” كانت مفاجئة إلى حدٍ ما، فوجدت نفسها تفتح الباب الأمامي وتستقر بجوار “مراد”، ثم هتفت بصوت متحشرج :
– أطلع يابني على مستشفى الروضة اللي في آخر الشارع.. هنلاقي هناك الدكتور اللي متابعين معاه.
تجاهل “مراد” حديث “جليلة” تمامًا، ونظر لابن عمه في المرآة وهو يسأله بغموض :
– دكتور فتحي؟؟.
فكان جواب الآخر :
– بسرعة على هناك.
نقلت أنظارها المستنكرة بينهما وهي تصيح بإنفعال :
– هو انتوا هتمشونا على كيفكم!..مفيش وقت نروح لحد تاني ما الدكتور جمبنا أهو.
كان “مراد” قد بدأ في قيادة السيارة بالفعل، والصمت سائدًا لا أحد فيهم يتكلم أو يجيب عليها، فـ أصرّت الصمت هي الأخرى، بينما صدرها يعجّ بالنيران، منها الخوف الشديد، ومنها الذعر من وجودهم بين يدي “هاشم” من جديد، لا سيما إنها في أكثر حالاتها وهنًا وضعفًا.
التفتت “جليلة” تنظر لوحيدتها في قلقٍ، فكانت رأسها على فخذ “هاشم”، يرنو إليها بنظراتٍ لا تستطيع تحديد ماهيتها، هل هي شفقة أم اشتياق، حقد أم حنين، غضب أم سكينة.. نظرات دفعت “جليلة” لتتسائل في نفسها هل عليها أن تخشاه أم تطمئن لأنه أتى في الوقت السليم؟!.
**************************************
كانت تجلس وسط أهل الدار، مستأنسين ببعضهم البعض، يحتفلون بإمتلاك الدكاكين والمتاجر التي باعتها “رحيل” لعائلة حبش، حينما هبط “حمدي” على مجلسهم گالغراب ذا الفأل السئ.
أدخل الخادم “حمدي” عليهم بعدما وافقت “صباح” على دخوله، وعلى فمها ابتسامة النصر طاغية، وهي تدعوه للإنضمام إلى مجلسهم :
– ياألف أهلًا وسهلًا، أتفضل ياحج حمدي، لسه كنّا في سيرتك.
شمل “حمدي” الجميع بنظراتٍ مستهجنة وهو يقول :
– لسه مفيكوش راجل يا عيلة حبش عشان أكلمه!؟.. بدل ما انا كلامي مع النسـوان!.
قال كلمته الأخيرة وهو ينظر إليها متعمدًا، فقابلت سخريته وإنتقاصهِ منها بإبتسامة مثيرة لإزعاجهِ :
– مش هنرد عليك، أنت برضو راچل مصدوم واحنا هنقدر ده.
نهضت “صباح” عن جلستها فتبعها عدد من الرجال، حتى أصبح العدد غفيرًا بالنسبة لغرفة لم تكن كبيرة في مساحتها، ثم وقفت على بُعد مترين منه وهي تسأله بإستهزاء :
– شور عليا يا حمدي ياطحان، نعمل إيه في الدكاكين الچديدة؟!.. أنا قولت نهدّهم ونطلع بأبراچ فخمة كده، بس الرچالة
عايزين نشغلهم في التچارة، ما تشور علينا!.. انت برضو خبرة وفي يوم كان الملك ده ملكك.
لم يهتم “حمدي” بكل ما قالته، وعرض عليها عرضه الأخير :
– هديكي اللي دفعتيه وأكتر ياصباح، بس تسيبي الدكاكين وتفرّي.
منعت “صباح” ضحكة رقيعة كادت تخرج من بين شفتيها، واكتفت بضحكة هازئة :
– لو دفعتلي مال قارون كله، ميساويس الدكاكين دي.. خلاص مبقتش مقسومالك.. أنساها احسن.
دنى “حمدي” خطوة، فـ تجمع الرجال حول منه وقد قال واحد منهم :
– أديك خدت الرد ياحچ، ما تفارقنا بقى عشان السهرة صباحي ومش طالباك خالص!.
تجاهله “حمدي” وظلت عيناه نحو “صباح” وهو يهدر بـ :
– خدي فلوسك وفارقي يا بت الناس بدل ما تخسري كل حاچه، أنا مش هسيب ملكي مهما حصل!.
– كـان ملكك ياحمدي.. قصدي كان مِلك بت أخوك، وهي خلاص بـاعت، باعت المِلك وباعتك وباعت الاهل والأرض.. يلا مشّي ياحمدي، طلبك مش عندي، روح دور في حته تانيه.
وأشارت لأحد صبيانها الصغار :
– وصلوا الحچ ياولاد.. يلا عشان العشا زمانه خلص.
والتفتت مولياه ظهرها في تجاهلٍ متعمد، ليحس “حمدي” بإهانة مباشرة موجهه إليه، وكل ذلك يعود لـ “رحيل”، تلك النبتة السوداء التي عجز عن السيطرة عليها، فـ أقحمته وأهله في كل ما هو فيه الآن. تضاعفت الكراهيه في نفسه، وأحس إنه يريد الإنقضاض عليها، تهشيم عظامها وسفك دمائها جزاءًا لفعلتها، لم تكتفي بالتمرد عليه فحسب، بل إنها شاركت في الإنتقام منه بأسوأ الطرق – حسب ما يظن -.
**************************************
كانت عيناه تأتي وتذهب عليها، وهي جالسة غير شاعرة بمراقبته لها، وكل ما يشغل بالها هو ابنتها الراقدة بالداخل، أما هو فكان كتلة من السعير على نار هادئة تحافظ على إبقاءهِ مشتعلًا.
خرج الطبيب برفقة مساعدتهِ وعيناه نحو “هاشم”، حيث انتفض الأخير من مكانه وتحرك نحوه ليسأل :
– في إيه طمني؟.
ربت “فتحي” على ذراعهِ قائلًا :
– متقلقش الوضع مش خطير بالشكل اللي متخيله، لكن ممكن يتطور لحاجات مش لطيفة لو متمش العلاج.
تدخلت “جليلة” لتسأله في هلع :
– طمني يادكتور بنتي مالها ؟.
فأجابها الطبيب :
– ضغط واطي يا حجة، وكمان التحاليل مش أفضل حاجه في بعض القيم لازم نظبطها عشان حملها يمشي طبيعي وكويس.
تدحرجت نظرات “جليلة” للأسفل، وكأنها تحرّجت من ذكر الحقيقة – التي اعتقدت إنها مازالت مخفية – :
– أنيميا وضعف وكمان مفيش تغذية كويسة، ده غير إن الغدة الدرقية كسلانه وهنحتاج نعوض الهرمون المفقود ده بأقراص، وطبعًا هنتابع الضغط بصفة مستمرة.. هي متابعة مع مين؟.
تدخل “هاشم” على الفور ليمنع “جليلة” من التحدث :
– مع هدى سماحة يا دكتور.. احنا لسه هنروح نتابع معاها.
– طب حلو جدًا.. دكتورة هدى ممتازة وهتكون مطمن عليها أكتر، الف سلامة عليها وربنا يقومهالك بالسلامة.
أومأ “هاشم” رأسه بالإيجاب بينما مرّ الطبيب من أمامه، فسألته “جليلة” بفضول وقد بدأت عيناها تضطرب بوضوح :
– هدى مين اللي بتكلم عنها؟؟.. بنتي راحت لدكتـ……
قاطعها “هاشم” ليسأل سؤاله الذي تأجل لكل هذا الوقت :
– ليلى فين ياجليلة هانم؟؟.
ازدردت “جليلة” ريقها وهي تشيح بنظراتها المتوترة عنه، فأعاد “هاشم” سؤاله بنفاذ صبر :
– أكيد مش هستنى أكتر من كده عشان أعرف بنتي فين!.. كفايه أوي المدة اللي فاتت!
لم تكذب عليه أو تدس الأمر أكثر من ذلك، فهو أب ويحقّ له أن يعلم عن مكان ابنته :
– أطمن.. هي مع مامتها.
ابتسم “هاشم” من بين غيظه الذي تفاقم في هذه اللحظة، مانعًا نفسه من أي تهور أو إندفاع – على الأقل حاليًا – :
– عندك حق ياهانم.. أنا كده اطمنت فعلًا!.
نظر في ساعة يده قبل أن ينظر إليها من جديد :
– مراد مستنيكي تحت.. هيوصلك البيت تجيبي هدوم لبنتك عشان تخرج من المستشفى، أكيد مش هتطلع بالمنظر ده!.. ولما نروح نكمل كلامنا.
أومأت “جليلة” برأسها متفهمة حالة السكون – المؤقت – التي هو عليها الآن :
– ماشي.. بس أمانة عليك تـ……..
– لما نروح يا هانم نبقى نتكلم، ده مش مكانه ولا وقته..ولا إيه؟!.
– صح.
انسحبت “جليلة” لكي تنفذ أمرهِ، خاصة وإنها ترتعب من لحظة المواجهة الآتية، والتي ستكون بين ابنتها وبين “هاشم”، لذا عليها أن تتهيأ نفسيًا لكي تقف جوار ابنتها أمام “هاشم” وردّ فعله الغير متوقع.
راقبتها عيناه، مراقبة دقيقة متفحصة، حتى غابت عن الممر الطويل الذي يقف فيه، فمشى بالإتجاه الآخر حيث وجد طاقم التمريض الخاص بقسم الطوارئ، فأشار لإحداهن لتقترب منه فقال :
– من فضلك مراتي تعبانه جوا ومحتاج حد يخلص إجراءات الخروج عقبال ما اجيبها.. ممكن تقومي بالمهمة دي نيابة عني؟.
ووضع في جيب معطفها الطبي الأبيض حفنة من النقود لا بأس بها، أحست بملمسهم المغري فـ ابتسمت له وهي تقول :
– من عيوني.. ألف سلامة على الهانم.
وركضت لكي تلبّي طلبه مقابل سخائهِ اللامحدود، بينما دخل “هاشم” إليها وعلى وجهه تعابير الودّ الرحيم وهو يهتف بـ :
– سلامتك يا روحي.. ده انا قلبي واقع في رجلي لحد دلوقتي.. هاتلنا كرسي من فضلك.
نظرت إليه الممرضة بإبتسامة عذبة وهي تنزع المحلول الموصول بوريدها:
– حمدالله على السلامة.
فأخذت هي أيضًا نصيبًا من سخائهِ اللامتناهي، لتغادر وتتركهم بمفردهم، حينما كانت “رحيل” في حالة مائلة لعدم الإدراك، متأثرة بدوران الرأس الذي لم يفارقها بعد. نظرت إليه بعيون مشوشة، لكي تضرب ذاكرتها ذكرى سماعها للحقيقة المبرحة، فبدأت كسرات التجاعيد تنتشر على صفحة وجهها، واعتصرت عيناها تكافح ألم كتفيها ورقبتها أثر سقوطها المفاجئ، ثم تشنجت وهي تحاول النهوض من رقدتها :
– أنا عايزة أروح من هنا.
ثبتّ “هاشم” كتفيها بيديهِ لكي تعود للإسترخاء من جديد، ثم أشار للممرضة التي عادت بالمقعد المتحرك قائلًا :
– حالًا هنمشي يا حببتي.
تناول منها المقعد ومازالت ابتسامته المصطنعة على محياه :
– شكرًا.. أنا هنقلها عليه بنفسي تقدري تتفضلي.
بالفعل خرجت، فـ شرع “هاشم” في حملها بهدوء رزين بينما حاولت هي أن تقاومه بقوةٍ غير موجودة :
– لو سمحت نزلني.. سيبني أنا هقوم لوحدي.
أراح جسدها على المقعد وهو يمسح على شعرها قائلًا :
– وانا أقدر اسيبك برضو!.
ثم دفع مقعدها للخروج من هنا، وهو يشتت ذهنها بكلماتهِ لئلا تلاحظ غياب “جليلة” :
– حالًا هنروح وتاكلي وترتاحي متشيليش هم حاجه.
فركت “رحيل” وجهها ومازالت تشعر بإندمال فيه، ثم سألته بدون أن تسهو عن غياب والدتها :
– ماما فين؟.
– روحت البيت عشان تحضرلك أكل.. انتي محتاجة تغذية.
وقف عن دفع مقعدها ثم التفت نحوها وانحنى وهو يشير نحو بطنها التي تحمل قطعة منه، ليقول في خبثٍ :
– انتي دلوقتي اتنين في واحد.. يعني لازم تاكلي كويس ليكي ولأبني اللي جاي.
فهمت إنه علم بشأن حملها، فـ بدأ الإرتباك يختلط بملامح التعب الواضح على تعابيرها، وقبل أن تتفوه بكلمة أخرى كان يربت على كفها قائلًا :
– متقلقيش هنتكلم في كل حاجه.. بس لما يتقفل علينا باب الأول.
ثم تابع دفع مقعدها حتى خرج من المشفى نهائيًا، وإذ بسيارة تنتظره بالخارج والسائق جوارها، فأشار إليه لكي يذهب من هنا، حيث أجلسها بالأمام وأصر هو على القيادة، لكي يذهب بها بعيدًا عن هنا، وكأنه اختطاف مقنن، بدون أي مجهود يذكر، وبدون أن تشعر حتى بإنه يعدّ لها فخًا لا قـاع لـه.
**************************************
- لقراءة باقي فصول الرواية أضغط على (رواية ليلة في منزل طير جارح)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)