رواية لحن الأصفاد الفصل السادس 6 بقلم أسماء
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)
رواية لحن الأصفاد الفصل السادس 6 بقلم أسماء
البارت السادس (العقاب الذهبي)
❞لعنة بلعنة ألوثُكِ
بسمة ببسمة طهِّريني!❝
10
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈┈
نيڤادا|فيغاس|كوخ الصخور
…
بدأت روكسان تفقد زمام صبرها من شدة الضجر، لو أنه قام بتصفيتها لكان ذلك أهون من جلوسها المطول فوق السرير بعجز، إذا لم يكن الموت… فما الذي تنتظره بالتحديد في وضعيتها تلك؟ الرحمة محذوفة من لائحة توقعاتها بالطبع، فخاطفها منزوع القلب عديم الضمير، إذن ماذا الآن؟ ألم يتوعدها بمصير أسود حالما يستعيد المدعو والدها وعيه؟ كم ستدوم تلك الغيبوبة؟ لكم من أسبوع آخر سيتأجل الحكم بالعذاب يا تُرى؟ و لكم من ساعة ٱخرى ستمكث هنا تترقب ما الآتي؟!
3
كانت معاملة دارك ريغان لها طيلة الأسابيع الأربع المنصرمة غريبة، يغير ثيابها بقطع نظيفة و جيدة الخامة، بما يناسب الطقس الحار نهارًا و الصقيعي ليلاً في نيڤادا القاسية، يفك أغلالها للحظات وجيزة و يحملها بين ذراعيه مسيطرًا بٱعجوبة على صراعها المستميت للنجاة منه، حتى تكل و تفتر قواها، و تجد نفسها داخل حوض دافئ، و الأغرب أنه كان يبدي صبرًا و برودًا عجيبين بينما يقوم بدلك الصابون على جسدها و تنظيفه، أجل، بتلك الغرابة كان يحدث الأمر، يحممها بنفسه!
17
في البدء كانت تتقزز منه، و تمطره بوابل من الصراخ و الشتائم لأنه يلمس جسدها الطاهر بيديه الآثمتين، و بلغ بها الأمر إحدى المرات أن تلكمه و تخدش وجهه و عنقه بأظافرها، فاكتفى دارك بأن أطبق أصابعه الخشنة على عنقها الناعمة بحدة كرد فعل طبيعي لمجرم من طينته، لكنه توقف قبل أن يقدم على خنقها لسبب تجهله، و أرخى أصابعه بهدوء مدهش مشذبًا غضبه، مرتبًا أنفاسه القوية، و تابع شطف جسدها من بقايا الصابون السائل، ثثم طفق يجففها و هو يردد بلهجة قد تُؤوَّلُ على ألف وجه:
3
“وفِّري أطواركِ المتوحشة لوقت لاحق… لأنني قادرٌ على دفعكِ للصراخ و الخدش بشكل أقوى من هذا… لكن لم يحن الوقت بعد!”.
12
و كان يبقي العصابة خلال كل ذلك على عينيها، حتى باتت الرهينة تشعر في وعيها و لا وعيها أنها جزء من رأسها يستحيل التخلص منها، دون أن تجد تفسيرًا في عقلها الكامن لِمَ يفضل تغطية عينيها؟ إن كانت نهايتها الموت يوما ما على يده فما الهدف من عصب عينيها و حجب شكله عنها، في النهاية هو يعرف أنه سيقتلها أرأته أم لا!
9
أسئلة كثيرة كانت تغزو عقلها دون أن تجد لها جوابًا شافيًا، غذاؤها هو الآخر كان لغزًا، عند بكرة كل صباح… تسمعه يشحن بندقية صيد ما، و تدرك بأذنيها الماهرتين في إلتقاط أبعد الأصوات متى يخرج لجلب ما يؤكل، و متى يعود، كانت أصوات طلقات النار الهادرة على بعد أمتار من البيت تقلب معدتها، و ضربات الشفرة التي يقطع بها أجساد الحيوانات المصطادة من أول طلقة و هي تفِد من المطبخ ترجُّ رأسها رجًّا، و تسبب لها رعبًا دفينًا في روحها، كأن بها هي التي تتعرض للطلق الناري… و تتمزق تحت سطوة الشفرة الحادة، كأنها هي التي غدت سد مأرب لذلك السادي المريض!
في أولى محاولاته لإطعامها و كما هو متوقع لم يفك أصفادها، و أمرها بصوت جاف أن تفتح فمها المتشقق من الجوع و العطش و تتقبل رحمته الغريبة، لكنها عاندت و كابرت و أطبقت أسنانها و شفتيها رافضة، و حين جرب حشر الملعقة داخل فمها رفعت مرفقها الأيمن و دلقت على ركبته الحساء الساخن، مما لا شك فيه أنها نالت صفعة قوية كادت تفقد وعيها، لكن دارك عدل من رأسها سريعًا، و ملأ الملعقة مرة ٱخرى بالحساء، غير أنه هذه المرة لم يحاول حشره داخل فمها بل سكبه بمكر و ببطء على شفتيها لتتحسسا في لمح البصر و تطلق روكسان صرخة قصيرة، قبل أن يكتم دارك ذلك الصوت بقبلة عنيفة أدارت رأسها و جعلت شيئًا غامضًا ينتفض داخلها!
10
أفلتها و إرتد إلى الوراء لحظات يسترد نفسه، ما اللعنة التي ألمَّت به، يجب أن يؤلمها لا أن يريحها من الألم، يجب أن تتعفن هنا تحت مداس عذابه، لا أن يذيقها قبلة بهذه الرغبة! عليه أن يقتل هذه الرغبة المقيتة قبل أن ترى النور! لا رغبة في قلب معتم كقلبه! الألم… كل ما يجب ان تعيشه روكسان فارغاس هو الألم… و إن كان يطعمها الآن بيده… فهذا فقط كي تعيش و تختبر مزيدًا من الألم قبل أن يقرر كيف سيجهز عليها!
5
بعد ذلك اقتنعت روكسان أن التحدي لن ينفع معه، كانت بحاجة للحذر و الذكاء حتى تستطيع التخلص منه، لذا بدأت تتصرف بهدوء و خضوع كلما إقترب منها، لم تعد تصارعه كفريسة حين يتجه بها نحو حوض الإستحمام، أجبرت نفسها على تحمل لمساته و أنفاسه الحارة القريبة من جلدها المتوتر، و تخلت عن زم شفتيها و صر أسنانها كلما أقبل إلى غرفتها حاملاً الطعام!
2
و الحقيقة أنه لم يكن يجيد إعداد شيء غير حساء اللحم، و الذي كان مذاقه سيئًا إلى حد فظيع، بمجرد أن يقطع لحم الحيوانات التي يصطادها، يلقي به في قدر مزج داخلها شيئًا من الماء و الزيت و الملح، و فور غليانها و نضوج اللحم الغض، يسكب لها نصيبها في صحفة مقعرة، و يظن أنه أعدَّ شيئًا عظيما، لكنه فور تذوقه للحساء بعد ذلك، يشتم بين شفتيه و يردد لنفسه عاقد الحاجبين:
5
“اللعنة! يا لها من موهبة مذهلة في إعداد سم خاص!”.
17
كان يدهشه بحق أنها تتناول ذلك القرف المسمى حساء برضى تام، ثم تشكره لأنه رغم كل شيء يحترم حقها في الأكل و الشرب كإنسانة! كان يدهشه بل و يذهله حقا أنها تصالحت مع أجوائه المتوحشة، و استسلمت لحمامه اليومي، و تتلذذ ما يسقيها به من سم! لم تعد تشكو من قسوة الأصفاد، و لا من طيلة الجلوس و التمدد على السرير دون أي جديد يذكر في حياتها…
4
لكنها بعد خمسة أيام من الهدوء الغريب… و تحديدًا صباح يوم السبت… قررت أن تنتقل للمرحلة الثانية في خطتها، و قالت بينما كان دارك ينظف الغرفة كما يفعل في كل مرة ينتهي من إطعامها وجبة الفطور:
1
“هل يمكن أن تفك أصفادي اليوم؟ أعدكَ أنني سأكون فتاة طيبة، لن أسيء التصرف!”.
6
نظر إليها بتشكك، فشعرت بعدم إنطلاء الحيلة عليه، و تابعت بصوت عذب و إبتسامة مترددة:
“مضت أيام و أنا أحاول إستيعابك، لو كنت مكانك لربما كنت فعلت نفس الشيء برهينتي، أعتقد أنني أفهمك، و لأنني كذلك، أرجح أنك ستفهمني أيضا، و سترأف بيدي هاتين، لم أعد أشعر بهما و هما معلقتين بهذا الشكل، أنا ألتمس منك مزية أن تحررهما لبعض الوقت فقط!”.
4
كان دارك مثل الصخرة الجامدة و هو يسمع ذلك، و إنتهى به الأمر يواصل عمله بصمت، ثم يغادر الغرفة دون أدنى رد فعل، التجاهل البارد هو كل ما كان لديه حينها، لكنها كررت المحاولة خلال وجبة الغداء، و تمتمت بتوسل بعد أول لقمة وضعها في فمها:
2
“ألا يوجد أمل في أن تراجع قرارك بشأن طلبي هذا الصباح؟”.
2
تمنت لو أنها تستطيع لمس يده لتمارس عليه خدعة ٱنثوية تسحره، لكن مع الأسف الأصفاد منعتها، و هذا يضاف لأسباب جمة تشجعها على قول ما قالته:
1
“إشتقت لذلك الشعور الذي يخالجني حين أهتم بنفسي دون تدخل أحد، إفتح الأصفاد أرجوك، أريد أن أستعمل يدي، أستطيع تناول الحساء بمفردي، لأنني لم أعش الترف، و لم أتعود يومًا على أي نوع من الدلال!”.
4
مرت لحظات و هو جامد بمكانه، لم يغترف بالملعقة بعضًا من الحساء ليحشر في فمها اللقمة الثانية، بل فعل ما صعقها بشدة، إستسلم لإرادتها، و بواسطة مفتاح إستخرجه من مكان ما، فتح قفل الأصفاد، و عقد ذراعيه أمام صدره ينتظر ما ستفعله، كان من البديهي أن أول ما ستقوم لتشعر براحة أكبر هو أن تتخلص من العصابة اللعينة أيضا، و التي كانت تلتصق برأسها حد الإزعاج، لكن ما إن فركت رسغيها البنفسجيين، و مدت يديها خلف رأسها، لم تتعثر أصابعها بعقدة عادية كما توقعت، بل بشيء آخر أكثر إزعاجًا لها، كانت العصابة من نوع حديث، بحيث لا ضرورة لعقدها عند مؤخرة الرأس، بل يتطلب فتحها أو تثبيتها كبسة زر على برنامج تحكم خاص في هاتف دارك!
12
“لا جدوى من نزعها بالطرق التقليدية، إنها عصابة مطورة تكنولوجيًا، لا تستجيب سوى لي، و كلما حاولت إخراجها من رأسك كانت النتيجة مؤذية!”.
4
ذهبت روكسان أول الأمر إلى تكذيبه، و التأكد من زعمه بنفسها، لكن كان ذلك أسوء قرار تتخذه بحياتها، فور محاولتها نزع العصابة عن عينيها لأعلى، شعرت بصعقة كهربائية بدت و كأنها قادرة على تدمير خلايا دماغها بغمضة عين، صرخت فجأة منكسة رأسها، حتى أن جبينها إصطدم بصدره، غطت أذنيها شاعرة أن ذلك الطنين المفاجئ سيقضي عليها، و أجهشت مجفلة بغير حيلة، كل شيء تبخر من عقلها في تلك اللحظة، التحايل عليه و ملاطفته حتى تبلغ مرادها، كل شيء تلاشى، و أخذ منها الإستلقاء كجثة نصف ساعة، حتى إستجمعت شتاتها وعادت إلى طبيعتها، مدركة أن معاودة لمس تلك العصابة ضربٌ من جنون!
6
لكن لا ضير من المضي في الخطة بحذر…
“ماذا تعمل؟”.
7
أرادت أن تقول أي شيء لكسبه، و للتقدم نحوه خطوة، و الصدمة أن دارك كان صريحًا جدا… و أجاب كأنه يخضع لإستجواب ممنهج:
“قاتل!”.
5
كادت تغص بأكلها، تحولت قطعة اللحم في حلقها ككرة من الأشواك، لفت برودة قارسة جسدها، و مع ذلك إبتلعت ريقها، و سألت ثانيةً:
1
“مأجور؟!”.
“و هل هناك عمل لا يؤجر عليه مؤديه؟!”.
“لا أعرف! كثيرة هي الأشياء الغريبة التي تحدث مؤخرًا، ألا ترى من الغريب أن يطعم الخاطف رهينته بيده؟”.
3
أجاب دارك بدهاء خيب أملها في خداعه:
“ليس أغرب من رهينة تسأل خاطفها ماذا يعمل!”.
7
ألغى المسافة بينهما محاصرًا جسدها بجسده، فارضًا أنفاسه على خاصتها، طامسًا عطرها برائحته الرجولية و عطر ما بعد الحلاقة الذي وضعه حديثًا على ذقنه و خديه و نشره حتى عنقه، و همس بحدة تخالطها نشوة ما:
1
“يا لها من طريقة حمقاء لجمع المعلومات عن خاطفكِ روكسان!”.
2
أيقنت أنه يسبقها دائما بخطوة، غير أنها كانت شخصية مثابرة و لا تتقهقر بسهولة، لذا رفعت إحدى يديها الحرتين، و بحثت في الهواء عن رأسه، إلتقطت ذقنه المشبوبة بالعطر المثير، و استشعرت بأناملها وخزات خفيفة بسبب شعيرات ذقنه التي برزت بسرعة!
8
كانت تلعب بالنار، هي تعرف ذلك، لكنها مضطرة للمحاولة، مضت تتلمس وجهه ببطء و رقة، و كانت أنفاسها خلال ذلك تتردد بقوة، مرت بذقنه و شفتيه و أنفه المستقيم، معرجة إلى عينيه، آنذاك لوى دارك ذراعها خلفها ظهرها، و ألصقها بصدره معلقا بسخرية حادة:
6
“ما هذا يا روكسان؟ محاولة لإغوائي أم لحفظ ملامح وجهي؟!”.
5
سيطرت على ذعرها، و تذبذبها بسبب ذلك القرب الشديد منه، و همست بحذر:
“ربما أحاول فقط أن أعرف حقيقتك!”.
1
أفلت دارك ذراعها مقررا أن يترك عبارتها الأخيرة دون تعقيب، و وضع الصحفة بين يديها لتتناول بنفسها الوجبة، لكنه لم يغادر الغرفة، بل مكث عند رأسها عاقدًا ذراعيه يشاهد يدها المرتجفة و هي تتراوح ناقلة الملعقة بين فمها و الصحفة بغير شهية حقيقية، حسنا، من المجنون الذي يملك شهية أمام حساء بتلك الفظاعة؟!
3
لكن يبدو أن هذه الفتاة مختلفة عما توقعه…!!
3
“إذا تصرفتِ بخضوع مماثل حتى المساء، فسأسمح لكِ بالسير داخل البيت لتنشيط ساقيكِ!”.
3
ابتهجت روكسان لسماع ذلك، عظيم! جولة في أرجاء هذا المكان قد تسمح لها بالفرار أخيرًا، تركها دارك بعد ذلك لينظف أواني الغداء، و ظلت هي تعدد الدقائق بضجر و قلق، هل ستستطيع الخروج من البيت و هو حولها، لا سيما أنها لا ترى شيئًا، و لا تملك فكرة عن تصميم البيت و هندسته و عدد مخارجه، تركت السرير تتلمس الجدران باحثة عن النافذة، عثرت عليها، و كانت شبابيكها مفتوحة، لكنها للأسف مسيجة كالسجن، و فكرة الصراخ لطلب النجدة كانت غباء محض، فقد لا يكون هناك جيران لذلك المريض، ثم إن أصوات الطيور و الحيوانات البعيدة أوحت لها بأنها خارج المدينة، أرهفت السمع أكثر، فالتقطت صيحة أحد الجوارح، صيحة مميزة و قوية، تشبه صياح العُقبان الذهبية، لتلمع في ذهنها فكرة، و هي تواصل تلمس الجدران بحثًا عن الباب، و المذهل أنه تركه مفتوحًا و لم يُدِر المفتاح!
6
كان دارك يجلس في غرفة المعيشة باسترخاء، يشاهد برنامجًا وثائقيا على التلفاز، حين لمحها تفتح باب غرفتها و تخرج متلمسة الجدران كما كانت تفعل بالداخل، أمرها ببرود:
2
“إقتربي!”.
3
ترددت و هي تسحب يديها عن الجدار، فأضاف بصوت ظلامي:
“تعالي… لا يوجد ما تتعثرين به!”.
2
أطاعت ذلك، مذكرة نفسها أنها يجب أن تخضع له مؤقتا حتى تتحرر، سارت نحوه ببطء، يداها مرفوعتان في الهواء، باحثة عن أقرب شيء لتتمسك به، لكنها لم تدرك أنه كان قريبًا جدا من أي شيء آخر، و أن ما ستتعثر به هو ساقه، شهقت فاقدة توازنها، و هوت بين ذراعيه، فيما تمسكت يدها بكتفه و الأخرى بعنقه، مضت لحظة من الزمن و هما صامتان، و لا شيء غير الأنفاس يتردد في المكان، كان صدر روكسان يتصاعد بشدة في لهاث مسموع، و كانت يدا دارك تمسكان خصرها بقوة، حتى بدت أصابعه السمراء كأنها تغوص في جلدها الناعم، تحركت باضطراب في حجره، فرفعها بحدة، و أجلسها بطريقة غير لطيفة على الأريكة قربه، كأنه يرمي بوسادة لا ببشرية، حسنا، لماذا تنتظر أي لطف من جانبه؟ عنايته الغريبة بها لا تعني أنه سعيد بوجودها معه تحت سقف واحد، إنها رهينته و إبنة عدوه و هذا ما لا يجب أن تنساه!
9
توقعت روكسان أن يتقزز منها، و أن يبتعد عنها بسرعة، لكنه فاجأها ببسط ذراعه على كتفيها، جذبها نحوه كأنه لم يختطفها منذ أسابيع، كأنهما صديقان يجلسان بهدوء لمشاهدة شيء ممتع، و رفع صوت التلفاز قائلاً:
“لِمَ لا تشاهدين معي شيئًا مسليًّا؟”.
4
تمهل قليلاً، و استدرك بسخرية:
“أوه، نسيتُ أنني عصبتُ عينيكِ! لا بأس يا بلائي، ستكتفين بالسمع حاليًّا!”.
15
اللعنة عليه! هي التي ٱبتُلِيت به، و ها هو يتجرأ على تلقيبها بالبلاء، الصبر يا روكسان… الصبر! ستجد طريقة ما للسخرية منه و بشكل أقوى، و لجعله يدفع الثمن كما يستحق عليها أن تكون حذرة و ودودة الآن، فليقل ما يشاء، ستكتفي بالسمع كما قال، فتلك هي نقطة قوتها!
“ما الذي ستصطاده للعشاء؟”.
ترك دارك فاصلاً من الصمت قبل أن يجيبها بسؤال آخر:
“لماذا تهتمين لما أصطاده و أنتِ تتقبلين كل ما أعده برضى؟”.
“لست مهتمة بالفعل، ما يضايقني أن الصيد هنا محظور، و الحيوانات في هذه المنطقة شبه نادرة!”.
أدار وجهه إليها خالعًا بصره عن التلفاز، و ظل يطالعها باستغراب و حدة، ثم نبس:
“و كيف تعرفين في أي منطقة نحن؟”.
ابتسمت بهدوء مردفة:
“ليس صعبًا، نحن في منطقة محمية من طرف البلاد، و يستحيل أن يقربها أولئك اللذين هاجموكَ قبل أسابيع، أنت ذكي! لن يخطر ببال أحد أنك تختبئ في منزل معزول وسط نيڤادا!”.
تعجب دارك بحق لذلك، لا سيما و أن روكسان لم تبرح البيت، و لم تطأ حتى عتبة بابه، فأنى لها أن تحدد في أي مكان لعين من العالم هي؟ صرف أسنانه بحدة مردفًا:
“و ما أدراكِ أنها نيڤادا؟”.
كانت لا تزال رهن ذراعه مضمومة إليه حين أجابت بنفس الإبتسامة:
“صياح العُقاب الذهبي لا يُسمع سوى في المناطق البعيدة عن التجمعات البشرية، و أي مكان قريب من مدينة لاس فيغاس أكثر من صحراء نيڤادا؟ هذا النوع من الطيور عاشق للعزلة و الأراضي العارية من أي الأشجار، فذلك يسهل عليه تحديد أماكن فرائسه و الإنقضاض عليها بلمح البصر!”.
أخذ منه الأمر لحظات كان خلالها أسير الصمت، حلل كلماتها مليًّا، ثم فرك حاجبه بجهاز التحكم معلِّقًا:
“كان علي إدراك أن نطفة داجيو اللعينة ستحمل شيئًا من ذكائه الخبيث!”.
3
ازدردت روكسان ريقها تحسُّبًا لأي رد فعل عنيف منه، حتى أنها كتمت أنفاسها و تحولت لصخرة تحت ذراعه، لكنه إكتفى بإطفاء التلفاز، و بقي لبعض الوقت يتأمل إنعكاسهما على شاشته السوداء، منظرها و هي خاضعة تحت رحمته راق له و أرضى شيئا ما داخله، لكن منظره و هو يحتضنها تحت جناحه كأنها شيء ثمين بالنسبة له أثار حفيظته، و أطلق الوحش الكاسر الكامن فيه، لينتفض من مكانه بطريقة أفزعتها، و يهب نحو غرفة نومه، و حين عاد، لم تعرف روكسان ما الذي حمله بين يديه، لكنها أدركت بسمعها أنه خرج ليصطاد، و لا ريب أنه يشتعل غضبًا لسبب ما، فقد صفق الباب بعنف، و شحن البندقية و هو على بعد نصف متر فقط من المخرج!
قفز دارك عن المصطبة الخاصة بالكوخ، و سار على ممر رملي تحفه الصخور الضخمة، كان يعتمر قبعة رياضية تقيه لظى الشمس في تلك الصحراء القاسية، بينما كانت روكسان في الداخل تسير باضطراب نحو الباب الخارجي، لعنته بغيظ ما إن اكتشفت أنه أوصد الباب بالمفتاح، ثم قررت أن تبحث عن مفتاح إحتياطي قد يخفيه في زاوية ما، أو عن هاتف ما لطلب النجدة، لكن أملها خاب، و هلكت من البحث دون جدوى، فانهارت على الأرض خائرة القوة تتساءل بمرارة كيف سينتهي هذا الكابوس؟ قبل أن ينطلق صوت رصاصة مزقت كل شيء حولها، يبدو أنه وجد عشاء الليلة!
إنفتح الباب بعد ذلك بدقائق، وجد دارك رهينته جالسة بهدوء حيث تركها، على نفس الأريكة، و رغم أن شك في حقيقة كونها ربضت هناك كل ذلك الوقت، لكنه حول نظره عنها، و إهتم بمواصلة ما بدأه. كان من الواضح لها أنه يجر على الأرضية الخشبية شيئًا ثقيلاً، خمنت أنه إصطاد هذه المرة حيوانًا دسمًا يكفيهما لأيام!
في المطبخ… خلع دارك كفوف يديه الملطختين بالدم، و ألقاهما في الحوض تحت صنبور المياه، ثم علق قبعته بعيدًا، و إرتدى مئزرًا خاصًا ليباشر تنظيف ما اصطاده، تأكدت روكسان بينما كان يقطع اللحم أن جميع مخارج البيت مغلقة بإحكام، فأسرعت بالعودة إلى الأريكة قبل أن ينتبه خاطفها لما تفعله و تنويه!
1
لتبدأ لاحقًا في التفكير بخطة مغايرة، قبل أن تبحث عن مفتاح أو مخرج، عليها أن تتدبر أمر سلاح يحميها من بطشه أولا، لو أنها فقط تستطيع التسلل للمطبخ في غيابه و إلتقاط سكين حادة، ثم تخفيها تحت قميصها، فسيكون ذلك ممتازًا، مهلاً، لماذا تتسلل؟ و هي قادرة على الإدعاء بأنها تتمشى، و صدقًا ساقاها تعرضتا لضرر محسوس بسبب قلة الحركة و الإبتعاد عن ضوء الشمس، أجل، إنها حجة مقنعة للتحرك هنا و هناك!
كان دارك قد فرغ من سكب اللحم مع بقية المكونات في القدر حين سمع صوت خطوات بطيئة خلفه، فعلق دون أن يلتفت:
“فكرة جيدة أن تأتي بنفسكِ لتجربي تناول العشاء هنا!”.
رغم أن تلك لم تكن فكرتها، لكنها استرخت لأنه اقترح الأمر بنفسه، قادها بقبضة ضاغطة لتجلس إلى طاولة من الخشب الثقيل، و وضع أمامها ملعقة فضية و صحفة خاوية و منديلاً، ثم ما هي إلا عشرون دقيقة مرت مملة حتى نضج الحساء المقيت، و سكب لها نصيبها، تصاعدت الرائحة إلى أنفها، و ودت لو تستطيع أن تدير وجهها، لكنها بحثت عن الملعقة بأصابعها المتوترة، و حملتها مرغمة، لو لم تكن حذرة و راغبة في التودد إليه ريثما تتحرر من قبضته، لصرخت بوجهه قائلة أنه أسوء من يطهو! لكن المريع أنها اضطرت للإبتسام بينما تلتهم ما تحمله الملعقة من حساء بقرف داخلي.
“هل يمكن أن أحظى برشة ملح؟”.
“كُلي بصمت، لستِ في منتجع سياحي!”.
10
تألمت لذلك، لكنها لم تكشف له حقيقة مشاعرها، لقد سبق و سمعت عبارات مماثلة من عمتها طيلة سنوات، «لستُ مضطرة لإعالتكِ طوال حياتي، لِمَ لا تجدين رجلاً لعينًا يُنفِقُ على مصاريف دراستكِ؟ لستِ في فندق فخم هنا كي تنتظري مني طعامًا ملوكيًّا لحضرتِك! معاشي بالكاد يكفي لتوفير الطعام لشخص واحد، لذا يجبُ أن تجدي رجلاً أو عملاً!».
3
كان من العسير على روكسان أن تدرس و تعمل في نفس الوقت، لكن أن تجد رجلاً رخيصًا يُنفق عليها مقابل بيع جسدها… فذلك ما رفضته بشدة، و هو ما دفعها للميل إلى العمل مهما كان الأمر شاقًّا، و لأنها كانت فتاة مؤمنة، و محتشمة، و تصلي كل يوم أحد في الكنيسة رفقة صديقتها الوحيدة كايت، فقد تجاذبتا الحديث عن مشكلتها خلال طريقهما إلى هناك ذات مرة، و اقترحت عليها كايت أن تعمل في كنيسة سانت مارونيت الشهيرة!
“ماذا سأعمل هناك بالضبط؟”.
“عازفة؟”.
“لكنني لستُ ماهرة في ذلك إلى حد بعيد، لولا «غابريال» أستاذ الموسيقى في المعهد الذي علمني القليل، لما إستطعت وضع أناملي على المفاتيح يومًا!”.
أصرت كايت و هي تساعدها على النزول من السيارة و تغلق الباب:
“يمكنكِ التحسين من مستواكِ هنا!”.
تأملت كايت مبنى الكنيسة الضخم، و تابعت تتأبط ذراع روكسان:
“سمعتُ أن الأب «لوثر» يبحث منذ أيام عن عازف بيانو جديد من أجل العزف خلال الإجتماعات و المناسبات الدينية التي تُقام هنا، و أظن أن الأسقف ستوافق فورًا على توظيف فتاة مهذبة مثلك!”.
أشعر ذلك روكسان بالرضى و السرور، ليس لأن وظيفة كهذه ستكمم فم العمة مارغو و تمكنها من الإنفاق على نفسها بعيدًا عن أي كلام جارح، بل لأن التواجد في الكنيسة يريحها، الأب «لوثر» رجل طيب و دمث الأخلاق، و «سيث» عازف الأرغن اللطيف يردد دائما أنها ألطف شخص يدوس البلاط المقدس، و كثيرٌ من المصلين كانوا يرددون مثل تلك العبارات الودودة على مسامعها، و يعجبون بمحافظة شابة مثلها على صلاة الأحد، و على إرتداء الصليب، و الوقوف بخشوع أمام المسيح! كانت متدينة و طاهرة إلى أبعد حد، و رغم قسوة مارغو و عنف الطفولة التي عاشتها سابقًا، إلا أن روكسان حظيت بفترة مراهقة و شباب هادئة و جميلة، قبل أن تقع بين مخالب دارك ريغان المتوحش!
“لِمَ لا تنهين صحنكِ، أنا لا أحب التبذير، طالما سكبتُ لكِ الحساء فستتناولينه كله!”.
لم يعد صياح العُقاب الذهبي يفِدُ إليها من خارج البيت، و لم تعد روكسان ترغب بتناول المزيد، الطعم سيء، و الذكريات جعلتها تبدو و كأنها مريضة، لذا دفعت الصحفة بعيدًا، و تمتمت باقتضاب:
1
“شبعت!”.
“واصلي!”.
ذكرت نفسها أنها لا يجب أن تنفعل و تخسر حريتها الحالية من الأصفاد، لذلك تنفست بعمق، و أردفت:
“يبدو أنك اصطدتَ حيوانًا مختلفًا لم أتعود على تناول لحمه، لذا لم أستسغ طعم الحساء!”.
2
إبتسم دارك بطريقة مرعبة، و الشكر للسماء أنها لم ترَ ذلك، ثم سمعته يعقب بلهجة لا حياة فيها:
“ذلك صحيح إلى حد ما، فأنا أمقتُ أمرين… الجوع… و الوشاية!”.
2
في البداية لم تستوعب ما لفظه، و سمعت حركة ملعقته على الطرف المقابل من الطاولة بجمود و حيرة، لكنها فجأة و بعقلها الفطن… أدركت مفطورة القلب فحوى كلماته، و صرخت مجهشة بالبكاء:
“كلا! أنتَ لم تفعل ذلك… لم تقتل ذلك العُقاب المسكين!”.
3
“ذلك المسكين وشى لكِ شيئًا لم أرِدكِ أن تعرفيه، و ها قد حصل على جزائه المناسب!”.
إستطاعت أن تسمع ضحكة خافتة في صوته، بينما يضيف بغير إكتراث لما شعرت به:
“في مطلق الأحوال كان طعمه رائعا في الحساء! ثم إنه دسم، و سيكفينا لستة أيام تقريبًا!”.
هبَّت من مكانها متقززة ممزقة الروح كأنها ٱنثى ثكلى… و صرخت به بانتحاب أقوى و لهجة أقسى:
“أنت مجنون… مجنون!!”.
في لحظات كان مدركها قبل أن تلوذ بالفرار، أجلسها بالقوة على الكرسي، و حشر الطعام في فمها كما كان يفعل في الأيام الماضية، و بعد كر و فر، و صراع قصير، باتت روكسان محطمة بشكل لم تتوقعه، و عادت تتقبل الملعقة بصمت و قهر، و لا شيء يتردد بها سوى الأنفاس و الدموع و صوت الطائر في ذاكرتها!
كانت الطيور أحب شيء لقلبها، لطالما سمعت باستطراب و ابتسام رفرفة الأجنحة حول أجراس الكنيسة و على عتبات المعهد، حتى الجوارح القاسية التي كانت تعيش في البراري و الصحاري البعيدة، كانت تمثل بالنسبة لها الحياة و المثابرة و القوة، خاصة العُقاب الذهبي الذي سمعت الكثير عنه، كان غابريال أستاذ الموسيقى يربي أنواعًا كثيرة من الطيور في بيته الكبير الذي يبعد عن المعهد بأربعة أميال فقط، و حدثها ذات مرة عن كبرياء العُقاب الذهبي، و أنه يعيش حلمًا مستحيلاً باصطياده يومًا ما و تربيته، ذلك الطائر الشامخ الذي يلقب بملك السماء، لم يكن يأكل الجِيَف و لا الدم و لا الحشرات كغيره من الجوارح، و إذا لم يجد فريسة مناسبة، يظل على جوعه حتى يموت بشرف، كان العُقاب الذهبي كٱسطورة بالنسبة لها، و دارك ريغان حطم الٱسطورة ببساطة، لم يقتله فحسب، بل خدعها، و جعلها تأكل لحمه دون أن تدري، لقد ظنت أن السماء رحمتها، و أرسلت لها ذلك الطائر ليخبرها بأي مكان هي، لكن كل رحمة الآن تكسرت تحت أقدام خاطفها و جلادها عديم الشعور! يا للسموات! أي مسخ هو هذا الذي قبض على خناقها؟
2
أنهت روكسان وجبتها على مضض، جفف دارك دموعها بطريقة مستفزة، و راح يربت على شعرها الحريري الطويل كأن حزنها حقا يهمه، ثم نعتها بالفتاة الطيبة لأنها هدأت و اقتنعت بما حدث، لكنها كانت تقسم أن تنفذ خطتها أكثر مما سبق و مهما كلفها الأمر من مجازفات، و صممت أكثر على الوصول لسلاح ما من أواني المطبخ، إلا أن دارك كان عقبة كبيرة في طريقها، و حال بينها و بين ذلك، لذا إدعت أنها منهكة، و غادرت تلك الحجرة باستسلام، و عادت إلى الأريكة صامتة.
1
عقب إنتهائه من تلميع مطبخه كما يفضل، أودعها غرفتها، و لم يغلق عليها بالمفتاح، ربما لأن مخارج البيت كلها موصدة، و نفاذها من غرفتها لن يشكل مصيبة كبيرة. دخل غرفة نومه، و عرفت روكسان من صوت رقرقة المياه أنه يستحم، إستغلت ذلك الوقت، لتنهض عن سريرها بهدوء، و تتسلل إلى غرفته على رؤوس أصابعها، حاولت بجهد عدم إصدار أي صوت أثناء بحثها في جيوبه، لم تعثر على الهاتف لطلب النجدة، لكنها إبتسمت بغبطة و تأثر حين لمست أصابعها جسمًا صغيرًا باردًا، المفتاح! أخيرا عثرت على المفتاح الذي سينقذها من كل هذا! قبضت عليه جيدا، و شعرت بالرعب حين توقف تدفق المياه في الحمام، فتسللت مسرعة خارج الغرفة، و كادت تنكب على وجهها و هي في طريقها نحو مخدعها مجددا!
2
لم يكتشف دارك ما فعلته، و أن المفتاح صار بحوزتها، لأنها حافظت على هدوئها حتى يخلد للنوم، إكتفى بتجفيف جسده المبلل، و إرتدى سروالاً قصيرًا، و انتظرت أن يبدأ بالغطيط فورًا، لكنه إتجه للمطبخ ليسكب لنفسه كأسًا من الشراب، و هو يفكر بمجريات ذلك اليوم العجيب، ربما لم يكن هدوء روكسان على لائحة توقعاته بعدما يخبرها بأمر العُقاب، لكنه ٱعجب بفطنتها في قراءة ما بين السطور، و إعترف في أعماقه أنها لو لم تكن إبنة داجيو اللعين، لربما كانت له مخططات ٱخرى معها، أغمض عينيه و هو يدخن سيجارة و يسترجع ملامحها الشاحبة و شعرها القاتم و هو ينزلق مع المياه بين أصابعه، كانت بين يديه، كان يحممها بيديه، و يمرر أنامله على جلدها الناعم مكتشفًا أنه يستطيع أن يشعر بأشياء أخرى غير كرهه الأعمى لها، أشياء تنشر في جسده رعشة غريبة، و رغبة ملحة ليدفن رأسه بين ثنايا جسدها المغرية، لعنها، و تاق لها، و عاد للعنها، و عاوده التوق مجددا، حتى وجد نفسه محاصرًا، بين حقده و رغبته، فسحق السيجارة، و أشاح عما تبقى في الكأس، متجها نحو غرفتها.
تمددت روكسان أكثر و تجمدت كأنها نائمة بالفعل، في الوقت الذي دلف دارك إلى الغرفة، و دنا من السرير بدعسات خفيفة، لم تدرِ كم من الوقت أمضى و هو يتأملها على وقوف، ثم ها هو ينحني و يمرر أنفاسه الحارة على وجهها، قبل أن يضع شفاهه على شعرها، و يمسح عنقها و صدرها بلمسات يديه الخشنتين، زاده كونها نائمة متعة، فنقل شفاهه إلى وجهها، حتى بلغ فمها المكتنز، تذكر أنه أحرق بنفسه تلك الشفاه، و عالجها، و بدا له أن ذلك العلاج ليس كافٍ، و ليس صوابًا أيضا، و رغم أنه لعن ما يفعله، و رغم أنه أقنع عقله بكونه يتقزز منها، إلا أنه أغرق شفتيه بشفتيها، و عاش ما أرادته رغبته، و بينما كانت روكسان تناضل لتتحمل ذلك دون أن تركله أو تلوي وجهه بصفعة مدوية، أفلتت منها آنة صغيرة، و لم تعد تستطيع التمثيل أنها نائمة، لذا دفعت صدره عنها مستفهمة تدعي أنها استيقظت للتو:
3
“ما الذي تفعله؟”.
حقا! ما الذي يفعله؟ طرح على نفسه اللعينة السؤال ذاته، ما الجنون الذي ألم به الآن؟ رفع جسده عنها بقرف، ليس منها بقدر ما هو من تصرفاته الفصامية، هذا لا يُعقل! خرج من الغرفة هائجًا مائجًا، و داخل غرفته الخاصة، أخذ يضرب رأسه بالجدار ليمسح شيئًا إسمه فتنتها من عقله، حتى إنفجر دمه، و لكن ما لفت إنتباهه و جعله يتوقف ليس الدم، بل صوت مفتاح يدور في قفل ما!
4
كانت روكسان قد قررت عدم تضييع الفرصة كي تفر، من الواضح أن بزوغ الفحر قريب، و أن ذلك المسخ لن ينام الليلة، و هذا أنه سيرغب بالخروج، و سيدرك حينها أنها سرقت المفتاح، و هكذا ستبوء كل خطتها بالفشل! بينما يضرب رأسه كالمجانين فتحت الباب بسرعة، و لأنها لا ترى شيئًا فقد تعثرت بمصطبة الخشب الأمامية، و هوت على وجهها متأوهة، تألمت قليلاً، غير أن حلم الحرية لوح لها في الٱفق، لذا رفعت جسدها بسرعة، و بدأت بالفعل تركض على الممر الرملي قبالة الكوخ، و دارك في أثرها بكل ما ٱوتي من قوة، كان الركض على الرمال صعبًا، و ما زاد الأمر كارثية أنها لا تعرف التضاريس مثله هناك، و لم تتوقع وجود صخور ناتئة صغيرة ستجرح قدميها و ركبتها فور تعثرها للمرة الثانية، ٱصيبت بجراح عميقة، و نزفت كما كان ينزف رأسه، و مع الأسف، قبل أن تنهض ثانية و تواكب ركضها الأعمى، كان دارك ريغان قد بلغها، و قبض عليها بإحكام، صارعته بحدة هذه المرة، خدشت عنقه، و عضت كتفه ليفلتها، إلا أنه أحكم قبضتيه حولها، و أعادها إلى نقطة الصفر، إلى الغرفة و السرير… و الأصفاد! لتكتشف يائسة أنها لم تخسر فقط حريتها المطلقة… بل و خسرت معها حريتها المحدودة داخل البيت!
5
عالج دارك جراح قدميها و ركبتها بصمت، و كانت هي الٱخرى صامتة متباعدة، تكن له كرها أكبر، و لنفسها وابلاً من التوبيخ الضمني لأنها جازفت بورقة ثمينة فأحرقتها في ثوانٍ… و بتهور! لم يصدر عنها سوى أنين بسيط حين سكب كأس شرابه على الجراح كونه المعقم الوحيد الذي يملكه، ثم أفرغ بقية الزجاجة على رأسه متذكرا أنه جريح هو الآخر!
عند آخر ساعة من الفجر أجرى دارك إتصالاً غامضًا، سمعته روكسان بوضوح لأنها لم تغط في النوم بسبب بؤسها و آلام جراحها المتفاقمة:
“أريد صندوق إسعافات بأسرع ما يمكن، و عيارات بندقية إضافية من أجل الصيد، و مجموعة أكبر من الثياب النسائية! هل سيريا مشغولة بمهمة ما؟ ممتاز، إذن دعها تتولى أمر التسوق و جلب كل ما هو ضروري لشابة عشرينية! لا يهمني بحثهم عني! فليرفعوا ثمن رأسي كما يشاؤون، تستطيع أنت تولي تشتيت إنتباههم مؤقتا، أنت تعرف أنني أستطيع مواجهتهم و إنهاء تاريخهم بحركة واحدة، لكني حاليا لا أنتظر سوى ظهور إسمين على مسرح الأحداث… داجيو فارغاس… و إيسميراي تايغرز و سأجند كل تركيز لدي كي أثأر!”.
ظلت تلك المحادثة تجوب عقل روكسان حتى غفت من شدة تعبها، و حتى و هي غافية كانت تئن بسبب آلامها، سمعت خلال هذيانها صوت صياح العُقاب الذهبي، و زاد ذلك من عذابها بشكل لا يُحتَمل، في ذلك الوقت كان الشمس قد سطعت، و دارك قد تلقى رسالة على هاتفه، تفيد بأن إيسميراي تايغرز شوهِدَت منذ قليل في منتجع سياحي بالرياض، و الواضح أنها تستمتع بوقتها!
9
…
المملكة العربية السعودية|الرياض|منتجع بريرا
بعد أربع و عشرين ساعة…
22
كانت الشابة الشقراء قد ملت لعب التنس رفقة صديقها النمساوي الذي تعرفت عليه منذ أسبوعين هنا، و قررت أن تضع حدا للسهرة الآن، و تصعد إلى جناحها لتحظى بحمام جاكوزي كما تعودت كل ليلة، المنتجع مذهل، و الأجواء العربية هنا تجعلها تشعر و كأنها في حلم! جعدت أنفها بغنج لرجل أسمر كان يغمزها، ثم تمايلت بمشيتها الٱنثوية حتى بلغت المصعد، و كان شعرها الأشقر الطويل خلال ذلك يتمايل هو الآخر عكس حركات ردفيها المثيرين، كان قوامها الجميل أكثر ما يجذب الأنظار لها في ذلك المكان، لكنها امتلكت أيضا عينين زرقاوين جذابتين أجمل من أي أمريكية أخرى في العالم!
3
لفظها المصعد أخيرًا في الطابق الذي يتواجد به جناحها الفخم، ألقت مفتاحها على السرير، و للحظة بدا و كأن أحدهم كان هنا قبلها، لكنها لم تشك للحظة في كونها إحدى موظفات خدمة الغرف، فقد كانت فوجئت بكتابة على المرآة بأحمر الشفاه خاصتها «جاكوزي ممتع!» تساءلت كيف يعرف موظفوا بريرا أنها من محبي الجاكوزي، ثم أقنعت نفسها أنهم و لا بد لاحظوا ذلك خلال تنظيف الحمامات الخاصة بالجناح، فمنذ نزولها بالمنتجع و هي تستخدم حمام الجاكوزي أكثر من الساونا و الحمام التركي! أجل، ذلك هو المرجح! تفقدت هاتفها، لتجد رسالة بإسم غولدينا «متى ستنتهي عطلة نقاهتِك؟ مرت ستة أسابيع! إشتقتُ لنمرتي البيضاء؛ أحبك» إبتسمت مؤجلة الرد على رسالة أختها لوقت لاحق، و خلعت فستانها متلهفة للغطس في المياه البخارية بأسرع ما يمكن، برز وشم نمرين متناظرين على ظهرها زادها جمالاً و ٱنوثة، و باشرت تدليل نفسها، لكنها سمعت صوتًا غريبًا آت من غرفتها حين غطست تحت المياه، اضطربت متأكدة أنها متعقبة من شخص ما، و فكرت أن تنزل لسيارتها المستأجرة المركونة بالطابق السفلي للمبنى، إشتعل غضبها و بلغ قلقها أشده حين لاحظت إختفاء السلاح الناري الذي تحمي به نفسها من حقيبة يدها، العيارات، و جهاز الصدمات الكهربائي، هل تعرضت للسرقة وسط فندق مؤمن كهذا؟ لا، هذه ليست سرقة عادية، لو أنهم لصوص لسرقوا مجوهراتها الثمينة! لا ريب أنهم يعون جيدا من هي! لم يكن الوقت كافٍ لترتدي شيئًا، لأنها تعرف أن طبيعة عملها السري خطيرة، و أي طلب للأمن السعودي هنا سيزيد الأمر تعقيدًا، إلتقطت هاتفها، لفت جسدها بروب الحمام الأبيض، و ارتدت نظاراتها السوداء لتخفي هويتها قدر الإمكان، ثم استعملت الدرج بدل المصعد، لديها مسدس إحتياطي في السيارة، ستستخدمه في حال كان المتعقب ينوي قتلها!
حين أصبحت تحت الطابق الأرضي، بحثت عن سيارتها بعينيها لوقت قصير، ثم ضغطت على زر التحكم الخاص بها لفتح القفل، و قفزت نحوها كنمرة فعلية، فتحت إيسميراي باب سيارتها تنكس رأسها لتلجها لاعنةً ما يجري، كيف يتجرأ شخص ما على سرقة أغراضها؟ لم تتعرض لمثل هذه السخافة من قبل، لا لم يسبق لهذا الحدوث! كانت يداها ترتعشان من شدة الغضب… حتى انزلقت مفاتيح السيارة من بين أصابعها، إلتقطت عطرًا غريبًا بينما كانت منحنية تفتش بصبر نافذ على ضالتها، قبل أن تشعر بشيء حاد و بارد يلتصق بمؤخرة رأسها، استوت في جلستها بحذر بعدما التقطت المفاتيح أخيرًا، لكن الصدمة أنها التقطت أيضا وجهًا مرعبًا في المرآة العاكسة، اللعنة! ابتلعت ريقها بغصة تختبرها للمرة الأولى، و جل ما استطاعت التفكير فيه حينها… أن دارك ريغان هو الوحيد الذي قد يتجرأ على إقتحام سيارتها و وضع فوهة السلاح على رأسها دون أن يكترث قيد أنملة لواقع كونها من أصحاب الدماء البيضاء!
“العالم صغير جدا… سيدة تايلور!”.
تعود دارك في السابق على مناداتها بلقبها الحقيقي، كلما إتصلت به ليقوم بتصفية شخص ما يهمها موته، كان دارك يسابق الزمن لتنفيذ كل أمر تصدره مهما بدا قاسيا في حق من ستتم تصفيته و كيف، و ها هي نفس المرأة تسعى لتصفيته، و ترسل رجالها كي ينالوا منه!
1
“ريغان، ما هذا الذي تفعله؟ كيف تجرؤ على تصويب السلاح نحو رئيستِك!”.
“خطأ! لا رئيس لدارك ريغان”.
2
“هذا لا ينفي أنك تعمل في منظمة سفاحينا! أنت قاتلنا الخاص، و مأجور على كل عملياتِكَ حد الترف!”.
ضحك بسخرية مردفًا و هو يحدق بإنعكاسها على المرآة الصغيرة:
“ما نفع الترف الذي تغرقينني به بعدما حاولتِ إلقائي من الوادي؟!”.
عقدت حاجبيها منكرة:
“لم أقدم على شيء كهذا!”.
فكر قليلاً و رد:
“صحيح، لم ألمحكِ في مسرح الحدث، لكن ليس من الصعب عليكِ توكيل شيء كهذا لكلابِك، لكن كان يجب أن تخبريهم أن الهدف في النهاية ليس بتلك السهولة!”.
“قلتُ أنني لم أفعل! كيف تأكدت أنهم رجالي؟”.
“من يستعمل اللومبرغيني بذلك الجنون غيركِ أنتِ و كلابكِ؟”.
قهقهت بصوتها الجميل معلقة:
“إذن فأنتَ ترجح بأن كل سيارات اللومبرغيني في العالم تخصني و يتحرك سائقوها بأمري! أين ذهب ذكاء ريغان الذي أعرفه؟”.
حافظ على صمته، و لم يبعد السلاح عن رأسها، فتمتمت مضيفة:
“و لأوكد لك أنني في فترة نقاهة منذ زمن، إقرأ هذا…”.
أرته رسالة غولدينا قبل قليل، و تابعت مدركة بعقلها الحذق من يقف خلف مهاجمة دارك منتحلاً شخصيتها هي و فريقها:
1
“أنتَ تعرف أنني لو أردت التخلص منك لفعلت ذلك و أنا أنظر داخل عينيك ريغان، هل نسيت بسرعة من هي النمرة البيضاء؟!”.
كان دارك واثقًا أن إيسميراي مجنونة بما يكفي لتواجهه، و بدأ يصدق أنها ليست الفاعل، فيما أضافت إيسميراي و هي تضيق عينيها مكشرة:
“هل نسيت أيضا عداوتنا مع آل ليونز؟ لا شك عندي أن واحدًا منهم يريد التلاعب معنا، و يحاول إنعاش الحرب بيننا مجددا! حاولوا التخلص منك بإسمي فإذا فشلوا و ذلك المرجح يُلقى اللوم على التايغرز! خطة جيدة!”.
“و كيف تثقين أنهم الليونز و ليسوا الدراغونز أو الوولفز؟”.
إبتسمت إيسميراي بدهاء، و قالت:
“لا أحد يفهم كيف يفكر الوحش سوى وحش مثله!”.
غير دارك دفة الحديث:
“ماذا لو كنتِ هناك؟ ماذا لو إستلمتِ الظرف الأسود، و كان الأمر العلوي هو قتلي؟”.
لم تُجِب إيسميراي على سؤاله، و للمرة الأولى يشعر دارك بالعجز عن قراءة أفكار شخص ما، لكنه يعرف أهمية تطبيق القواعد بالنسبة لعشيرة المونسترز، فهم ليسوا كالبراتفا و الكامورا، إنهم يناضلون دائما لتلميع أسماءهم أمام الكونغرس السفلي و كبار الميغا، بسبب التاريخ الدموي و الخطايا التي إرتكبوها، و التي تسببت في ذلك الصدع، عليهم تطبيق أوامر قتل السفاحين التي تُسنَد إليهم، و لأنها كانت رئيسة مميزة بالنسبة إليه، و شبه صديقة نوعًا ما، و قبل أن تجيبه، فقد استطرد دارك مبعدًا السلاح عن رأسها:
1
“في مطلق الأحوال، و مهما كان جوابك سيدة تايلور، ما دمتِ لم تتحركي لتصفيتي، فلكِ وعدٌ مني، بعدما آخذ بثأري من داجيو فارغاس، سآتي بنفسي إليكِ، و لن أموت إلا بسلاحِك!”.
5
نهاية الفصل السادس.
هاللو أحبتي، إنتهى فصل اليوم، لكن بم تنته الإثارة، و لم ينتهِ الغموض، ما رأيكم بوعد دارك لإيسميراي، طبعا إيسميراي تايغرز واحدة من أقوى بطلات رواية العزف على اوتار الوحوش، و هي الكتاب الثاني في هذه السلسلة، و ستنزل بعد ٱنتهاء الكتاب الأول (هذه الرواية)
- لقراءة باقي فصول الرواية اضغط على (رواية لحن الأصفاد)
لو عاوز تقرأ الفصول الجديدة من الرواية دي بشكل حصري قبل صدورها
أنضم لقناتنا على تليجرام (من هنا)